الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خامسًا: ابن حبان والجرح والتعديل:
للحافظ أبي حاتم محمد بن حبان التميمي البستي "280 - 354 هـ" كتابان شهيران في الجرح والتعديل، أولهما:"الثقات"، والثاني:"المجروحين"، وهما مطبوعان منتشران.
وقد أدرج في كتابه "الثقات" الرواة الصادقين الذين يجوز الاحتجاجُ بخبرهم عنده من الثقات وما شابههم وقارَبَهُم، والمسكوتُ عنهم، وهم على أربعة أقسام:
1 -
الثقات الذين وثقهم وسبقه في ذلك التوثيق آخرون، ولم يُذكروا بجرح.
2 -
الثقات الذين تكلَّم الكثيرُ أو البعض فيهم، وهم عنده ثقات باجتهاده وخبرته بحديثهم، وقد ينتقي من أحاديثهم ما يشبه أحاديث الثقات.
3 -
من لم يُذْكَرْ بجرحٍ أو تعديلٍ، وروى عنه أكثر من واحد.
4 -
من لم يذكر بجرح أو تعديل، وتفرَّدَ بالرواية عنه راوٍ واحد.
أما كتابُه "المجروحين" فقد أطلق عليه "الضعفاء بالعلل" إشارةٌ منه إلى أنه ذكر العلة، أو العلل التي من أجلها ذكره في الضعفاء، وقال في مقدمته:"وإني ذاكرٌ ضعفاء المحدثين، وأضداد العدولِ من الماضين ممن أطلق عليهم أئِمَّتُنا القَدحَ، وصحَّ عندنا فيهم الجرحُ، وأذكر السبب الذي من أجله جُرح، والعلة التي بها قُدح".
وبقَدَرِ ما عُرِفَ عن ابن حبان من تساهل في التوثيق، وذكره للمجاهيل في كتابه "الثقات"، فإنَّ كتابه "المجروحين" من الكتب التي أجادَ فيها كُلَّ الإجادة، فذكر الجَرح مفسرًا معللًا، وهو يُعد من أجود ما كتب في بابه، ويرتقي به مؤلفه إلى مصافِّ كبار النقاد.
وقد اضطرب الحافظ ابن حجر اضطرابًا شديدًا في "التقريب" في موقفه من توثيق ابن حبان، أو ذكره لِشخصٍ ما في كتابه "الثقات"، فهو تارةً يَعْتَدُّ به، ولا يعتدُّ به تارة أخرى.
فقد حكم بجهالة عددٍ ممن تفرَّد بالرواية عنهم واحد ووثقهم ابن حبان (1)، وحكم بجهالةِ حال من روى عنه اثنان ووثقه ابن حبان (2)، في حين أطلق على مثل هذا في مواضع أخرى لفظ "مستور"(3). وتوسع في إطلاق لفظ "مقبول" على من روى عنه واحد، ووثقه ابن حبان، لكنه أطلق اللفظة عينها على من روى عنه اثنان ووثقه ابن حبان (4)، ومن روى عنه ثلاثة ووثقه ابن حبان (5)، ومن روى عنه أربعة (6)، أو خمسة (7)، أو ستة (8)، أو حتى أربعة عشر راويًا وروى عنه أبو داود وهو لا يروي إلا عن ثقة (9). وفي الوقت نفسه أطلق لفظ "ثقة" على من روى عنه واحد فقط ووثقه ابن حبان (10)، أو روى عنه اثنان ووثقه ابن حبان (11)، أو أكثر من ذلك ووثقه ابن حبان وحده (12).
(1) انظر مثلًا لا حصرًا التراجم (1000)، (1181)، (1351)، (1393)، (1461)، (1475)، (1685)، (1775)، (1843).
(2)
انظر (1047).
(3)
انظر (981)، (1474)، (1511)، (1795).
(4)
انظر (1023)، (1032)، (1189) ووثقه العجلي أيضًا.
(5)
انظر (986)، (1085).
(6)
انظر (1211).
(7)
انظر (1112)، وأخرج له مسلم (1205).
(8)
انظر (1094)، وصحح له الترمذي.
(9)
انظر (1327).
(10)
انظر (1201).
(11)
انظر (1221).
(12)
انظر (1002).
ويشعر القارئ مع كل هذا في بعض الأحيان أن ابنَ حجر لا يُقيم وزنًا البتة لتوثيق ابن حبان، فقد قال في ترجمة عامر بن مصعب من "التقريب": "شيخ لابن جريج لا يُعرف
…
وقد وثقه ابن حبان على عادته" (1)، وعامر هذا أخرج له البخاري في "الصحيح" مقرونًا، فلماذا لم يَتَّبِعْ هذه القاعدة في كتابه؟
وتَدَبَّرْ بعد ذلك إهماله لِتوثيق ابن حبان في عدد من التراجم حينما صَرَّح بتوثيقٍ واحدٍ من الأئمة حسب، فقال في ترجمة عامر بن عبدة العجلي:"وثقه ابن معين"(2)، ولم يقل "ثقة" مع أن العجلي وابن حبان قد وثقاه أيضًا. وقال في ترجمة عبد الله بن السائب الكندي:"وثقه النسائي"(3) مع أن ابن حبان وابن سعد قد وثقاه في أصل "تهذيب الكمال". وقال في ترجمة عبد الله بن أبي نهيك: "وثَّقه النسائي"(4)، ولم يُطْلِقْ توثيقَه مع كون العجلي وابن حبان قد وثقاه، وقوله في ترجمة عبد الرحمن بن سعد القرشي العدوي:"وثقه النسائي"(5) مع علمه أن ابن حبان وثقه أيضًا.
وهذا الموقفُ المضطربُ مِن توثيق ابن حبان والعجلي وابن سعد وأضرابهم، والذي يُمكن تقديمُ عشراتِ الأمثلة عليه، لا يُمكن إحالته على سبب من الأسباب، سوى الابتعادِ عن المنهج وخُلُوِّ الكِتَابِ منه، ومثله مثلُ مئات التراجم التي لم يُحررها تحريرًا جيدًا، بحيث ضَعَّف
(1) الترجمة 3110.
(2)
الترجمة 3104.
(3)
الترجمة 3338.
(4)
الترجمة 3669.
(5)
الترجمة 3877.
ثقاتٍ، ووثق ضعفاء، وقَبِل مجاهيل، واستعمل عباراتٍ غير دقيقة في المُخْتَلَفِ فيهم مما سيجده القارئ الباحث في مئاتِ الانتقادات والتعقبات التي أثبتناها في "تحرير أحكام التقريب".
أما القاعدةُ الصحيحة في الموقفِ من توثيقِ ابن حبان، فهي كما يلي:
1 -
ما ذكره في كتابه "الثقات" وتفرَّد بالرواية عنه واحد - سواء أكان ثقة أم غيرَ ثقة -، ولم يذكر لفظًا يُفهم منه توثيقُه، ولم يُوثقه غيره، فهو يُعَدُّ مجهولَ العين، وهي القاعدة التي صار عليها ابن القطان الفاسي، وشمسُ الدين الذهبي، ولهما فيها سَلَفٌ عند الجهابذة، فقد قال علي بن المديني في جري بن كليب السدوسي البصري:"مجهول لا أعلم روى عنه غير قتادة"(1)، وقال في جعفر بن يحيى بن ثوبان:"شيخ مجهول لم يرو عنه غير أبي عاصم (2) (الضحاك بن مخلد النبيل) "، وقال أبو حاتم الرازي في حاضر بن المهاجر الباهلي:"مجهول" مع أن شعبة بن الحجاج روى عنه (3).
2 -
إذا ذكره ابن حبان وحده في "الثقات" وروى عنه اثنان، فهو مجهولُ الحال.
3 -
إذا ذكره ابنُ حبان وحدَه في "الثقات" وروى عنه ثلاثة، فهو مقبول في المتابعات والشواهد.
4 -
إذا ذكره ابنُ حبان وحده في "الثقات" وروى عنه أربعة فأكثر، فهو
(1)"تهذيب الكمال": 4/ 544.
(2)
"تهذيب الكمال": 5/ 116، وانظر 11/ 42.
(3)
"تهذيب الكمال": 5/ 321.