الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كل واحدٍ منهم، فضلًا عن اضطرابه اضطرابًا شديدًا في هذه الألفاظ وعدم التزامه الدِّقة، تارةً يُطلق لفظة "صدوق" على من هو ثقة، وتارة يطلقها على من هو حسنُ الحديث، وتارة يطلقها على مَنْ هو دُونَ ذلك. أما قولُه "صدوق يهم"، أو "صدوق يُخطئ" ونحوها، فهي عبارات غالبًا ما يطْلِقُها على المختلَفِ فيهم من غير دراسة وتدبرٍ لأقوال أئمة الجرح والتعديل، أو دراسةٍ لحديث الراوي.
إن هذا التباينَ الشديدَ في الألفاظ والعبارات وكثرتها، واختلاف مدلولاتها بينَ عالمٍ وآخر، ومِن عصرٍ لآخر يقتضي عملًا علميًّا من أهلِ عصرنا لِوضع ضوابط لها وتصنيفها إلى مجموعات تَدُلُّ كُل مجموعة على رُتبة معينة يُوصَفُ بها الراوي، ويتبعه وصفُ إسناد الحديث عند تفرده به، وليتمكن الباحثون في السنة النبوية إدخالَ هذه الألفاظ في "الحاسوب" تمهيدًا لجمع السُّنة وغربلتها وتصنيفها.
عملنا في الكتاب:
ينقسِم عملُنا في هذا الكتاب إلى قسمين:
القسم الأولُ: خاصٌّ بضبطِ نصِّ كتاب "التقريب"، والتعليق عليه بما يفيد ذلك:
1 -
قابلنا الكتابَ على النُّسخة التي كتبها المصنفُ بخطه، وعلى النسخة التي كتبها العلامةُ محمَّد أمين بن حسن الميرغني الحسيني الحنفي المكي، من علماء القرن الثاني عشر الهجري، أحد تلامذة المحدث الكبير عبد الله بن سالم البصري، الشافعي، المتوفى سنة 1134 هـ، وهي التي تفضّل بإهدائها إلينا العلامة الشيخ محمود ميرة حفظه الله تعالى.
2 -
ثم قابلنا الكتابَ على "تهذيب الكمال" بعد أن انتهى تحقيقُه وتدقيقُه والتعليق عليه، وتصحيح ما وقع في طبعته الأولى من أخطاء طبعية وغيرها بإعادة مقابلته على مجموعة النسخ الخطية التي تحصلت عندنا، ومنها سبعة وسبعون جزءًا بخط المؤلف المزي، ونسخة ابن المهندس المتقنة، ونسخة التبريزي، وما وجد من نسخة الشيخ نصيف الجدي، وغيرها من النسخ (1).
3 -
ضبطنا بالشكْلِ كثيرًا من الأسماء، والكُنى والأنساب.
4 -
عُنِينا بإصلاح الرقوم التي وقع فيها خطأ في الطبعات السابقة.
5 -
علقنا في الهامش على بعض الأوهام التي وقع فيها المؤلفُ في ضبط الاسم، أو ذكر الوفيات، أو الطبقات، أو نحوها مما هو ظاهر فيها.
أما القسم الثاني: فهو خاصٌّ بتتبع أحكام الحافظ ابن حجر في هذا الكتاب وإعادة تحريرها، وسمينا عملنا هذا "تحرير أحكام التقريب"، وهو القسمُ الأكثرُ أهمية، بل هو الغاية المرجوةُ من إعادة طباعة الكتاب، واتبعنا فيه المنهج الآتي:
1 -
التحقيقُ في الرُّتبة التي انتهى إليها الحافظ ابنُ حجر في حقِّ كل راوٍ، فإذا وافقناه في حُكمه لم نُعَلِّقْ على الترجمة بشيءٍ: وإن خالفناه، بَيَّنَّا الحكم الذي ارتأيناه مُدعمًا بالأدلةِ بعبارةٍ وجيزة وافية، وألحقناه في المتن مسبوقًا بدائرة مطموسة بالسواد (•) ليتميز "تحرير أحكام التقريب" عن "التقريب".
(1) صدرت طبعة جديدة متقنة عن "مؤسسة الرسالة"، كما أعددنا ضميمة بالأخطاء لمن اقتنى الطبعة الأولى.
2 -
لقد قُمنا بدراسة وافيةٍ لِكل ترجمة من تراجم "التقريب" استنادًا إلى أقوالِ أئمة الجرحِ والتعديل التي ذكرها المزي في "تهذيب الكمال"، والزيادات الكثيرة التي استُدْرِكَتْ عليه عندَ تحقيقه، ولذلك لم نُشِر إلى مصادر أدلتنا والأقوال التي سُقناها في "التحرير" لِوجودها في أصل "التهذيب" أو التعليق عليه، وكلها مخرجة وموثقة على أصول كتب الجرح والتعديل، فمن أراد التأكدَ من نص فلْيَعُدْ إليه. أما الأقوالُ التي لم تذكر في "تهذيب الكمال" فقد أشرنا إلى مصدرها باختصارٍ خوفًا من أن يرجع إليها القاريء في "التهذيب" فلا يجدُها فيه.
3 -
لقد اجتهدنا في المُخْتَلَفِ فيهم، فدرسنا ما أثِرَ عن الأئمة في حقهم من جرح أو تعديل، ووازنا بين تلك الأقوال، واطَّلعنا في بعضِ الأحيان على مروياتهم، إن كانت قليلة، ثم أصدرنا الحُكْمَ الخاص بهم تعديلًا أو تضعيفًا، وهؤلاء منهم مَنْ هو في نظرنا صدوق حسن الحديث، ومنهم من هو ضعيفٌ ضعفًا خفيفًا عبرنا عنه بقولنا:"ضعيف يُعتبر به" يعني في المتابعات والشواهد، ويندرِجُ في هذا النوع من الضعيف من وصَفه الأئمة بما يأتي:
أ - لين الحديث.
ب - سيئ الحفظ.
جـ - ليس بالقوي.
هـ - يُكتب حديثه وإن كان فيه ضعف.
و- يُعتبر به.
ز - ومنه قول ابن حجر في "التقريب": "مقبول". وما بقي من قوله: "صدوق يهم" ولم نعلق عليه، فهو من هذه البابة.
وقد قمنا أيضًا بدراسةِ مَنْ قالَ فيه: "ضعيف"، فمن كان منهم يَصْلُحُ للمتابعات والشواهد، ألحقنا به عبارة "يُعتبر به" وما سكتنا عنه أو قُلنا "ضعيف" فهو لا يَصْلُحُ للمتابعاتِ ولا للشواهد.
وهذا الذي يُقال فيه "ضعيف يُعتبر به" لا يُحْتَج به إذا انفرد بالرواية، فهذا وُجِدَ له متابع من درجته أو أعلى منه تَحسَّنَ حديثُه فصار حسنًا لغيره.
4 -
وقد صرفنا عناية خاصة لمن أخرج لهم الشيخان، وتكلَّم فيهم بعضُ مَنْ تكلَّم، فَبَيَّنَّا إن كانا قد أخرجا لهم احتجاجا، أم متابعة، أم استشهادا، وهي مسألة غاية في الأهمية.
5 -
وأضفنا أمورًا لم تَرِدْ عند ابن حجر مثل بيان درجة الراوي المدلس، وبيان حال الراوي الذي وصف بالاختلاط، ومحاولة تحديدِ من روى عنه قبلَ الاختلاط أو بعدَ الاختلاط، وغير ذلك من الأمور التي تُهِمُّ طلبةَ العلم.
6 -
واتخذنا قاعدة في أن من وصفه أحد الأئمة بالإغراب ثبتنا ذلك، وإن لم يقل بها سوى ناقد واحد، فإن المؤلف قد اضطرب في ذلك، لا سيما في أقوال ابن حبان، وهو من أكثر المعنيين بتثبيت حالة الإغراب. على أننا لم نعتد بكُلِّ ما قال فيه ابنُ حبان وتابعه المؤلف عليه: ربما أغرب؛ لأن ربما تفيد التقليل، وكل ثقة أو صدوق لا يعرى عن ذلك.
7 -
أما موقفُنا من توثيق ابن حبان، والحكم بجهالة العين أو بجهالة الحال، فقد بينا منهجنا في ذلك مفصلًا عند كلامنا على "ابن حبان والجرح والتعديل" في هذه المقدمة. وكذلك الموقف ممن رُمِيَ ببدعة من البدع أو جُرح بجرح غير معتبر، كما بيناه مفصلًا قبل قليل في هذه المقدمة، فليرجع إليها.
8 -
لقد حاولنا إيجاد مصطلحاتٍ موحدة في "التحرير" تشير إلى درجة الإسناد عند التفرد والمتابعة:
أ - فمن قلنا فيه: ثقة، فحديثه صحيحٌ في الجملة إلا ما توهم فيه أو شذ.
ب - ومن قلنا فيه: "صدوق، أو "حسن الحديث" فحديثه حسن لذاته، فإن تُوبِعَ، صار حديثه صحيحًا لغيره.
جـ - ومن قلنا فيه: "ضعيفٌ يُعتبر به" أو "مقبول" ونحوها مما بيناه قبلَ قليل، فحديثُه ضعيف عند التفرد، حسن لغيره عند المتابعة.
د - ومن قلنا فيه: "ضعيف" فحديثه ضعيف لا يصلح للمتابعات ولا لِلشواهد.
هـ - ومن قلنا فيه: "متروك" أو "منكر الحديث" فحديثه ضعيف جدًّا، لا يقوى بالمتابعات ولا بالشواهد.
و- أما الكذابون والوضاعون والهلكى فحديثهم موضوع ساقط.
9 -
ومع إيماننا بضرورة وجودِ المصطلحات الموحدة وأهميتها، فإن بعضَ الزيادات والأوصاف الزائدة على هذه المصطلحات لا بُد منها لتقييد حالِ الراوي بذلك نحو قولنا مثلا: ثقة فيما عدا الزهريّ، أو ثقة يُدلس، أو ثقة يُغرب ونحو ذلك، فَكُلُّ هذه الألفاظ نافعة في بيان حال الراوي، فالأول ضعيف في روايته عن الزهريّ خاصة، والثاني ضعيف إذا عنعن، والثالث ضعيف إذا أغرب، وهلم جرًا.
10 -
لقد كان عملُنا يعتمدُ في جملته على أقوالِ مَنْ تقدمنا مِن أهل العلم وتمحيصِ آرائهم والموازنةِ بينها، واختيارِ ما هو الصوابُ منها،
فأحكامنا هذه التي توصَّلْنا إليها تُعد من الأحكام الاجتهادية التي يغلِب على الظن صحتُها، وهي خاضعةٌ للنقد، ويُمكن أن يقع فيها خطأ ككل الأمورِ الاجتهادية.
أما الطريقة المُثلى التي تنتهي بنا إلى اليقين في هذا المطلب، فهي استقراء مرويات كل راوٍ استقراءً تامًا، والحكم عليه بمقتضى مروياته، ونحن وإن حاولنا تحقيقَه هنا أو هناك، فهو أمرُ عَسِرُ المنالِ بالنسبة إلينا الآن، ولا يتم إلا باستخدام الحاسوب للإحصاء الدقيق، ثم الدراسة الجادة على ضوءِ ذلك، مما سَيعطي نتائج فاصلة، ونرجو المولى سبحانه أن يتيح لنا أو لغيرنا ممن يتعاطى هذه الصناعة القيام بهذا العمل العظيم الذي تتحقق به الفائدة الكبرى الموصلة إلى شبه اليقين.
ولا يظنن ظان بأننا في مخالفتنا واحدًا من أبرز علماء الحديث في عصره قد قمنا ببدع من العمل لم نسْبَقْ إليه، ففي تاريخِ السلَفِ الصالح مِن أئمة الجرح والتعديل الأسوة في ذلك، فقد اختلفوا في توثيقِ الرجال وتضعيفهم بحسب ما تبيَّنَ لهم وأدى إليه اجتهادهم، وما وراءَ ذلك - بحمد الله ومَنّه - إلا حسن إسلام وغيرة على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وردّ بعضهم على بعض وغَلَّطوهم، ولم يُثلم أحدٌ بسبب ذلك، فكل إنسان يُؤخذ مِن قوله ويُترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والذين يقرؤون هذا الكتاب للانتفاع به نوعانِ كانا قصدَ تأليفه:
الأول: الباحث المتخصِّص الذي سينظر إلى هذه الأحكام بعينٍ ناقدة فيقبلُها أو يَرُدُّها. ونرى من الواجب علينا التأكيدَ لإخوتنا من أهلِ العلم المتخصصين به، العاملين على حفظِ سنة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، وصيانتها ورعايتها ونشرها أننا قد بذلنا الطاقة، واستفرغنا الجهد، واستنفدنا الوسعَ في التدقيق والتمحيص، وأن عقلَنا للنصح مفتوح والصدر
رحبٌ إن شاء الله تعالى، وأن ملاحظاتِهم ونقداتِهم العلمية ستجِدُ كُل عناية واهتمام، بل ستُذكر لأصحابها عندَ إعادةِ طبع الكتاب وتعديله إن كانت تهدفُ إلى خدمة الكتاب.
والثاني: طالب علم ناشئ قد شَدَا شيئًا من هذا الفن وهو يُريد أن يتخصصَ فيه، ولا سيما طلبة الحديث في أقسام الماجستير والدكتوراه، فهذا الكتاب سيكون عونًا لهم في الحصول على حالِ الرواة بأيسرِ طريق، ولا يَسَعُهُم إلا أن يأخذوا بما فيه؛ لأنهم لما يزالوا في بدايةِ الطريق، ولم يتأهلوا بعد للاجتهاد في هذا العلم.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وينفع طلبة العلم والباحثين بهذا الكتاب، ويتقبَّلَ منا عملَنا فيه، ويُجنبنا مواطنَ الزَّللِ، وأن يَهَبَ لنا مِنْ لدُنْهُ رحمة إنه هو الوهاب، وآخرُ دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
بشار معروف - شعيب الأرنؤوط
عمَّان في الأول من جمادى الآخرة
1416 هـ
الموافق 25/ 1995/10 م