المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌2 - من الناحية الفقهية - تحفة الترك فيما يجب أن يعمل في الملك

[نجم الدين الطرسوسي]

فهرس الكتاب

- ‌تحفة الترك

- ‌النسخ المعتمدة

- ‌منهج التحقيق

- ‌ القسم الدراسي

- ‌مدخل إلى عصر المؤلف

- ‌تمهيد

- ‌فترة الرشد السياسي لدى المسلمين

- ‌فترة الفتنة السياسية

- ‌عصر المؤلف

- ‌الشام ومصر

- ‌الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية

- ‌في عهد المماليك

- ‌الغرب الإسلامي

- ‌ الأندلس

- ‌الشمال الإفريقي

- ‌بنو مرين (55)

- ‌بنو عبد الواد (65)

- ‌بنو حفص (65)

- ‌الشرق الإسلامي

- ‌خاتمة

- ‌المؤلف

- ‌مضامين تحفة الترك وقيمتها

- ‌1 - من الناحية

- ‌2 - من الناحية الفقهية

- ‌3 - من

- ‌أهم القضايا التي تثيرها التحفة

- ‌هذا الموضوع، تحدث عنه

- ‌ العقيدة

- ‌الخلاف المذهبي

- ‌فقه الأحكام السلطانية

- ‌فقه البغاة والخوارج

- ‌ النص المحقق

- ‌فيما يجب أن يعمل في الملك

- ‌كتاب النور اللامع فيما يعمل به في الجامع

- ‌نجم الدين إبراهيم بن علي الحنفي الطرَسوسي

- ‌720هـ - 758 ه

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌الفصل الأول

- ‌الفصل الثاني

- ‌في جواز التقليد

- ‌الفصل الثالث

- ‌في الجواب عن

- ‌النوع الأول: في إزالة المظالم، وكف يد

- ‌النوع الثاني: أن تكون القصة لطلب ولاية

- ‌النوع الثالث: في [ولاية]

- ‌الفصل الرابع

- ‌في كشف أحوال الولاة والدواوين

- ‌وما يجب أن يفعل [بواحد منهم إذا ظهر عليه خيانة]

- ‌الفصل الخامس

- ‌ في الكشف عن القضاة

- ‌وبيان ما يستحقه الخائن منهم:

- ‌الفصل السادس

- ‌في النظر في أحوال بقية الرعية

- ‌الفصل السابع

- ‌ الحصون والجسور [

- ‌الفصل الثامن

- ‌في صرف أموال بيت المال

- ‌ الفصل التاسع

- ‌الفصل العاشر

- ‌في هدايا أهل الحرب للسلطان والأمراء

- ‌وهدايا السلطان لأهل الحرب

- ‌الفصل الحادي عشر

- ‌[في ذكر أحكام]

- ‌الأول: في تفسير

- ‌الثالث: في بيان، متى يجوز أن يقاتلوا

- ‌الرابع: في بيان حكم من

- ‌الخامس: في بيان ما يمنع من قتل المأخوذ

- ‌ السادس: في بيان

- ‌السابع: في بيان [

- ‌الثامن: في بيان حكم من يقتل [من أهل

- ‌العاشر: في بيان حكم العادل إذا قتل [

- ‌الفصل الثاني عشر

- ‌في الجهاد وقسمة

- ‌الثاني: / في الجعائل

- ‌الأول:

- ‌الثالث: في الفرار من الزحف:

- ‌الرابع: فيمن يجوز قتله من المشركين ومن لا يجوز [قتله]

- ‌السادس: فيما يجب من طاعة الإمام، وما لا يجب:

- ‌العاشر: في الشهيد وما يصنع به:

- ‌الثاني عشر: في الغنائم [

- ‌هوامش التعليق على القسم الدراسي

- ‌الفهارس العلمية

- ‌فهرس الآيات القرآنية

- ‌فهرس أطراف الأحاديث النبوية الشريفة

- ‌ثبت لأهم المراجع

الفصل: ‌2 - من الناحية الفقهية

كما أن المظالم التي أوقعوها ببعضهم أثناء توليهم السلطة، وبأرحامهم وذرية نبيهم وصحابته، تراكمت وشكلت سلاحاً شاكياً في أيدى الأجناس الأخرى، قضى على كل ولاء لهم أو عطف عليهم أو تشوف لعودة عهودهم، لا سيما لدى الفقهاء الذين كانوا أول من أدى ضريبة سقوط الخلافة الراشدة اضطهاداً وترهيباً وتعذيباً. وقد حولهم ملوك بني أمية وبني العباس والفاطميين العرب أدوات رخيصة لإصدار الفتاوى السياسية، وتبرير الأحكام التعسفية، والتمويه على جرائم القصور، والتشريع لبيعة القصر والرضع والعتهاء والمجرمين. ويكفينا مثلاً لطريقة ترقية العلماء في هذه العصور، أن أبا يوسف (62) عين في منصب قاضي القضاة بعد أن أفتى للخليفة بعدم استحقاق ولده الحد، وقد شاهده بنفسه يرتكب الفاحشة. كما أن من أوضح الشواهد على وضع العلماء الصادقين، أن الأئمة الأربعة لمذاهب أهل السنة كلهم نالهم الأذى من قبل الحكام؛ فالإمام أبو حنيفة جلد وسجن ومات في السجن كما ورد في إحدى الروايات لأنه رفض القضاء، وجلد الإمام مالك لأنه أفتى بأن طلاق المكره لايجوز، واعتقل الشافعي وكاد يقتل وفرضت عليه الإقامة الجبرية لأنه يوالي آل البيت، وجلد الإمام ابن حنبل لأنه رفض القول بخلق القرآن. هذه الأسباب - وغيرها كثير - كانت كافية لإقصاء الأسر العربية عن السلطة وحجب نصرة الفقهاء عنهم، لاسيما وهم جهاز التوجيه المعنوي والفكري والعقدي في الأمة. أما في عصر المؤلف فإن سلاطين الترك لم يكونوا محتاجين إلى شرعية فقهية، لاستغنائهم عنها بشرعية سيوفهم. ولذلك أعفي الفقهاء من هذه المهمة ونيطت بهم مهمة أخرى أكثر يسراً وأحفظ لماء وجوههم، هي الإشراف التشريعي والتطبيقي لأحكام الدين على العامة باستقلالية تكاد تكون تامة، في ميادين القضاء والحكم والفتوى والحدود والتعازير والأنكحة والمواريث والأوقاف والحسبة والتدريس والوعظ والإرشاد. وبهذا صارت السلطة مقسمة بين طائفة المماليك في شؤون السلطنة سياسة ومالاً وإقطاعاً وجيشاً وحروباً، وطائفة الفقهاء في أمر ضبط العامة وتسيير شؤونها الدينية والتعليمية. وقد نال الفقهاء نتيجة هذا الوضع من الحظوة والتكريم والمنزلة الرفيعة والتقدير الجم والاحترام التام، ما لم ينالوه من قبل أو من بعد؛ وكانوا بحق شركاء في السلطة وركائز للنظام، نصرة وولاء، على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، وإن ظلت فقهيات كثير منهم تتحدث عن شروط الإمامة قرشية واجتهاداً وعدالة في الميدان التعليمي المحض، وللضغط على الحكام وتليين جانبهم وتلطيف غلوائهم. ثم بعد حين ظهرت بينهم نزعة جديدة في متأخري الحنفية خاصة، تنحو نحو تجاوز هذه الشروط وتناور فقهياً لأهداف استراتيجية غايتها إخضاع الحكام لأَحكام الدين، واستدراجهم لقبول التحاكم إليه، فكانت تحفة الترك باكورة الإنتاج الفقهي في هذا الاتجاه، ممهدة الطريق لقيام أول خلافة إسلامية غير عربية، هي مملكة آل عثمان التركية ذات الشوكة والمنعة.

‌2 - من الناحية الفقهية

السياسية:

الجمهور على أن الإِمامة واجبة بالعقل والنقل، وخالفهم جماعة من القدرية والخوارج، كأبي بكر الأصم الذي ذهب إلى إمكان الاستغناء عنها إذا كف الناس عن التظالم، وهشام الفوطي الذي زعم أن الأمة إذا فجرت وقتلت الإمام لم يجب حينئذ على أهل الحل والعقد إقامة إمام. والبحث في موضوع الإِمامة يعتوره محظوران عند ذوي العقول كما قال إمام الحرمين رحمه الله أحدهما: ميل كل فئة إلى التعصب وتعدي الحق، والثاني: كونه من المجتهدات المحتملات التي لا مجال للقطع فيها. والشروط المعتبرة في الإمام تتسع عند بعض الفقهاء إلى الحد الذي يجعل استجماعها في شخص واحد من قبيل المتعذر، وتتقلص عند البعض إلى حد يعتبر فيه الغاصب والفاسق عملاً ومعتقداً، والظالم والمعتدي، أهلا لانعقادها واستدامتها؛ وما ذلك إلا لأن لهم في اعتبارها شروطاً، مرجعين اثنين، أحدهما النص من صاحب الشرع، ولم يرد النص في شئ من ذلك إلا في النسب إذ قال:" الأَئِمَةُ مِنْ قُرَيْشٍ "، أما ما عدا ذلك فإنما أخذ بالضرورة والحاجة الماسة لينتظم أمر الإمامة. وعلى ذلك نجد شروط الإمامة عند أبي بكر الباقلاني المالكي هي: القرشية والعلم الذي يصلح معه أن يكون قاضياً، البصيرة في الحرب والسياسة، الصلابة بحيث لا تلحقه رقة في إقامة الحدود وضرب الرقاب والأبشار. أما أبو الحسن الماوردي الشافعي فشروطها عنده سبعة: العدالة، والعلم المؤدي إلى الاجتهاد، وسلامة الحواس، وسلامة الأعضاء، والرأي المفضي إلى سياسة الرعية، والشجاعة، والقرشية. أما أبو يعلى الحنبلي فشروطها عنده: القرشية،وشروط تولية القضاء، والبصر بأمور الحرب والسياسة وإقامة الحدود، والعلم. وعند عبد القاهر البغدادي: العلم المؤدي إلى الاجتهاد، والعدالة، وأقلها قبول شهادته تحملاً وأداءً، والقرشية، والاهتداء إِلى أوجه السياسة وحسن التدبير. أما أبو حامد الغزالي فالشروط عنده عشرة: البلوغ، العقل، الحرية، الذكورية، النسب القرشي، سلامة حاستي السمع والبصر، النجدة، الكفاية، العلم، الورع. كما إن من الفقهاء من أجاز إمامة الجاهل والفاسق بالعمل أو المعتقد، وإمامة الاستيلاء والقهر والغصب انعقاداً واستدامة. وعلى رأس هؤلاء أبو يعلى الحنبلي الذي نسب هذا الرأي للإِمام أحمد بن حنبل. لكن سيرة هذا الإِمام المجاهد لا تحتمل أن ينسب إليه هذا الرأي. أما القرشية فقد اشترطها المالكية والشافعية والحنبلية والحنفية. وذهبت الخوارج إلى أن الإمامة صالحة في كل صنف من الناس، وإنما هي للصالح الذي يحسن القيام بها. وقال ضرار: إذا استوى الحال في القرشي والأعجمي، فالأعجمي أولى بها، والمولى أولى بها في الصميم، وما ذلك إلا لضعف العصبية لدى الأعجمي والمولى، مما ييسر للأمة عزله متى حاد عن الطريق المستقيم. وذهب الزيدية إلى أنها في علي رضي الله عنه، ومن خرج من ولد الحسن والحسين شاهراً سيفه وفيه شروط الإِمامة فهو الإمام. وقالت الإمامية: إنها في ولد علي وذريته إلى الإمام الثاني عشر، وفي الذي ينتظرون خروجه منهم، أي الإمام المهدي المنتظر. وإذا كان أئمة المذاهب السنية مجمعين على اشتراط القرشية فإنهم استندوا في ذلك الى حديث " الأَئِمَةُ مِنْ قُرَيْشٍ " الذي أخذ به مالك والشافعي وابن حنبل، ورواية لزرقان عن أبي حنيفة؛ وإلى تطبيقات الحديث في الفترة الراشدية وعهد بني أمية وبني العباس. إلا أنهم أقروا كذلك إمامة الغصب والاستيلاء والجور. وإمامة غير القرشي للضرورة واتقاء الفتنة. والأمر كذلك بالنسبة لشرطي الاجتهاد والعدالة، ذلك أن هذه الشروط، الاجتهاد والعدالة والقرشية، تعتبر في ثلاث مراحل: عند التولية، وفي استدامة الإمامة، وعند ممارسة الإمام مهام تقليد الولاة والقضاة وغيرهم. أَما الاجتهاد مطلقاً أو مقيداً فإن بعض الحنفية يرون أنه ليس ضرورياً، ويغني الخليفة معرفة كافية بالشرع. فإذا عرضت له مسالة تقتضي الاجتهاد استعان بمجتهدي رعيته.

ص: 17

وأَما العدالة فصغرى، هي تجنب فسق الأعمال، وكبرى هي تجنب فسق الأعمال والمعتقد. وقد رأى بعض الحنفية أنها ليست بشرط ضروري لصحة الخلافة، وأن اختيار الفسقة والظلمة لها جائز مع الكراهة، سواء عند التولية، أَو للاستدامة، أَو ممارسة مهام تقليد الولاة والقضاة وغيرهم. وقد شرح هذا الرأي كثير من متأخري الحنفية على رأسهم السرخسي، والكمال بن أبي شريف في " المسامرة " بشرح " المسايرة " للكمال بن الهمام. فقد نص السرخسي في المبسوط (5/22) على أن " الفسق لا يخرجه عن أن يكون أهلاً للإِمامة والسلطنة فإن الأئمة بعد الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم قل ما يخلو واحد منهم عن فسق. فالقول بخروجه من أن يكون إماماً، بالفسق، يؤدي إِلى فساد عظيم. ومن ضرورة كونه أَهلاً للإمامة كونه أهلاً للقضاء، لأَن تقلد القضاء يكون من الإمام، ومن ضرورة كونه أهلاً لولاية القضاء، أن يكون أهلاً للشهادة؟ ".كما قال السرخسي أَيضاً (المبسوط 5/31) : " الفاسق عندنا من أهل الشهادة. وإنما لا تقبل شهادته لتمكن تهمة الكذب، وفي الحضور والسماع (أي لعقد النكاح) لا تمكن هذه التهمة، فكان بمنزلة العدل. وعند الشافعي رحمه الله: الفاسق ليس من أهل الشهادة أصلاً، لنقص حاله بسبب الفسق. وهو يبنى أيضا على أَنَّ أصل الفسق لا ينقص من إِيمانه عندنا، فإن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، والأعمال شرائع الإيمان لا من نفسه. وعنده - أي الشافعي: الشرائع من نفس الإيمان. ويزداد الإيمان بالطاعة وينقص بالمعصية ". كما أن الكمال بن أبي شريف قال في " المسامرة "(290 292) : " وعند الحنفية ليست العدالة شرطاً للصحة أى صحة الولاية فيصح تقليد الفاسق مع الكراهة. وإذا قلد عدلاً ثم جار وفسق لا ينعزل، ويستحق العزل إِن لم يستلزم فتنة. ويجب أن يدعى له بالصلاح ونحوه.كذا نقل الحنفية عن أبي حنيفة وكلمتهم قاطبة متفقة ". إلا أن هذا الرأي غير صحيح عند أئمة الحنفية المعتبرين، فالإمام أبو حنيفة امتنع عن تولي القضاء للأمويين والعباسيين وحرض عليهم، وامتحن من أجل ذلك وجلد وسجن وبقي على رأيه وموقفه إلى أن توفي رضي الله عنه. كما أن ابن الهمام، وهو من كبار محققي " الحنفية " في " المسايرة "، وصدر الشريعة في "تعديل العلوم " صرحا بأن العدالة شرط جوهري لصحة الخلافة. أما النسب القرشي، فإن بعض فقهاء الحنفية شأنهم في ذلك شأن فقهاء المذاهب الأخرى -، رأوا أنه في حالة الضرورة يمكن تعيين غير القرشي (تقريب المرام للتفتازاني323) . وفي " المسامرة على المسايرة ". (290 292) نص الكمال بن أبي شريف على ذلك بقوله:"؟ وصار الحال عند التغلب كما لم يوجد قرشي عدل، أو وجد قرشي عدل ولم يقدر على توليته لغلبة الجورة على الأمر. إذ يحكم في كل من الصورتين بصحة ولاية من ليس بقرشي، ومن ليس بعدل للضرورة. وإلا لتعطل أمر الأمة في فصل الخصومات، ونكاح من لا ولي لها وجهاد الكفار وغير ذلك ". والواقع أن اعتبار حديث " الأَئِمَةُ مِنْ قُرَيْشٍ " صحيحاً وغير منسوخ، قد أربك الاجتهاد الفقهي في الموضوع طيلة التاريخ السياسي منذ سقوط الخلافة إلى الآن. فهذا الإمام النووي نفسه في روضة الطالبين يقول:" فإن لم يوجد قرشي مستجمع الشروط فكناني، فإن لم يوجد فرجل من ولد إسماعيل، فإن لم يكن فيهم مستجمع الشرائط ففي " التهذيب " أنه يولى رجل من العجم. وفي " التتمة " أنه يولى جرهمي، وجرهم هم أصل العرب ". وفي العصر الحديث وجد من يجمع بين متناقضين، صحة الحديث وعدم وجوب العمل به، مثل الشيخ محمود شاكر، الذي يقول في كتابه " الخلافة والإمارة " ص 140:" أما وقد توزعت قريش في الأمصار، وكثر الأدعياء، وكل أهمل ما عليه، وتراخى في دينه، وتهاون في مقتضى أوامره، فالأمر عام بين المسلمين، يتفاضلون بالتقوى ". وهذا الاجتهاد من الشيخ محمود شاكر غير مبني على أي دليل فقهي أو أصولي معتبر، سوى دليل المصلحة المرسلة التي لا ترد بها الأحاديث الصحيحة، وهو من أوهن الأدلة وأضعفها، كما أنه بذلك يتبنى رأي الخوارج بدون دليل. وهو نفس موقف نجم الدين الطرسوسي من قبله في مؤلفه " تحفة الترك "؛ لم يشترط القرشية، ولم يبين أن عدم اشتراطها للضرورة، ولم يبين لماذا أجاز التحلل من مقتضيات الحديث " الأَئِمَةُ مِنْ قُرَيْشٍ ". ونحن إذا ما أعدنا دراسة الحديث سنداً ومتناً، نجد أن الظنية تحيط به من كل جانب - برغم كون سنده صحيحاً -: ظنية كونه من الآحاد، وظنية مخالفته للقرآن الكريم في قوله تعالى:) إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ (، ومخالفته لأحاديث آحاد مثله، ترفعها موافقتها للقرآن عن درجته، تتعلق بمساواة المسلمين ذمما ودماء، كالتي أخرجها أحمد في مسنده، وأبو داود والنسائي في سننهما، والمسند الجامع (9/260 - 11/139 - 13/ 181) ، والزيلعي في نصب الراية (3/ 3930) . كما أن ما ذكر من استشهاد أبي بكر به يوم السقيفة غير صحيح، ولا تؤيده الروايات الثابتة، بل لم يقع ذكر الحديث في أي مرة انتخب فيها خليفة راشد، كما هو الصحيح. وما ادعي كذلك من إجماع الصحابة على اشتراط القرشية غير صحيح، ينقضه رفض سعد بن عبادة، الصحابي الجليل، مبايعة أبى بكر وعمر. وإصراره على ذلك إلى أن توفي، وليس في عنقه بيعة لأحد من الخلفاء الراشدين (63) . ثم إن غضب معاوية في حديث الزهري، الذي أخرجه البخاري - كتاب الأحكام -، عندما ذكر له أن ملكاً سيكون في قحطان، وتهديده من يقول ذلك بقوله:(وأولئك جهالكم، فإياكم والأماني التي تضل أهلها) ، يعتبر شبهة توظيف سياسي لهوى قرشي أموي. كما أن للحديث مطعناً آخر من حيث مدلوله، ذلك أن الإمامة إن كانت لقريش، فإنها في بني هاشم من قريش من باب أولى، وفي آل البيت من بنى هاشم من قريش من باب أولى الأولى؛ اعتماداً على حديث صحيح آخر هو قول الرسول (ص) (64) -:" إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم ". وهذا قول الشيعة في إطار الاطراد العقلي المنطقي، الذي تؤيده النصوص الآحادية الصحيحة، وفضل آل البيت المنصوص عليه بالأدلة القطعية في القرآن الكريم. كما أن نصوصاً نبوية أخرى صحيحة تعارض حديث " الأَئِمَةُ مِنْ قُرَيْش "، وردت متأَخرة عليه في حجة الوداع، مثل حديث الأمر بالسمع والطاعة ولو لحبشي، وما ورد في خطبة حجة الوداع عن مساواة المسلمين لبعضهم؛ فيكون بذلك اشتراط القرشية في الإِمامة منسوخاً على أقل تقدير.

ص: 18