الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اتجاه المعطلة بجميع مللهم ونحلهم المتأثرة بالفكر الاعتزالي المغرق في الاعتداد بالعقل وجعله فوق النص. كان أهم حدث في هذه المسيرة العقدية هو ظهور علم الكلام المبني على المنطق الصوري، والذي استحدثه علماء المسلمين لإثبات العقائد الدينية على الغير بواسطة إيراد الحجج ودفع الشبهات، وقمع فتن الفلسفات الوافدة. وقد ساهم هذا العلم في حينه، مساهمة حقيقية في المحافظة على نقاء العقيدة وصفائها، ورد كيد الكائدين في نحورهم. إلا أن نجم هذا العلم قد أفل في العصر الحديث، بظهور مناهج في التفكير أقوى وأكثر اتزاناً ومصداقية من منهج المنطق الصوري الذي بني عليه علم الكلام، وبالانفجار المعاصر الهائل في ميدان الاختراعات والاكتشافات والعلوم المادية، بانفتاح آفاق الآيات الكونية على مصراعيها، والثورة المعلوماتية والاتصالاتية، وظهور مناهج للبحث والاستقراء والتجريب والمحاجة مبنية على مبادئ العلم، رياضيات وفيزياء وهندسة؛ مما غير استراتيجية التعامل في ميدان العقائد، وجعل الكرة الأرضية قرية واحدة يحاول كل فرد فيها معرفة جاره عقيدة وسلوكاً وأعرافاً. وهذا يلقي على عاتق علماء المسلمين مسؤولية استحداث علم جديد للإقناع والاقتناع، مبني على أحدث طرق الاستدلال وأكثرها دقة. والاستفادة من الآيات الكونية التي فتح الله آفاقها للناس، وبين الحكمة من ذلك بقوله:) سَنُرِيْهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيْدٍ (فصلت 53. ذلك أنه بالتجربة المشاهدة حالياً، كلما اتسع أفق العلم والاكتشاف ازدادت قوة الحجة في القرآن الكريم، وانفسحت بالتقدم العلمي أسراره المعجزة، واتضح مدى ارتباطه بخالق الكون، وانكشف في الوقت نفسه، زيف ما سواه من الأديان، وانبناؤها على الخرافة والشعوذة والأوهام. بل إن العلم الحديث، الذي يسير دفته حاليا غير المسلمين، يساهم عمليا في شرح بعض آيات القرآن الكونية، وتفسير بعض ما عجز المؤمنون به عن فهمه منها، وحسبنا من ذلك مثلا قوله تعالى عن توجيهات إبليس لعنه الله للبشر) وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ وَمَنْ يَتَخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيَّاً مِنْ دُوْنِ اللهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانَاً مُبِيْناً (النساء 119. فقد فسرتها حالياً مكتشفات العلماء غير المسلمين في ميدان علم الأجنة والوراثة والاستنساخ. ثم لما عارضهم المجتمع الإنساني لأسباب أخلاقية، أجابوا بأنهم يأملون أن ينفعوا البشرية بهذا الاكتشاف ويسخروه لعلاج الأمراض المستعصية. وجوابهم هذا أخبر به القرآن الكريم تعقيباً منه على الآية السابقة. قال الله تعالى:) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيْهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُوراً (النساء 120. وما دام الإنسان قد فتح الله له باب الاستخدام الجيني والوراثي وكشف له بعض أسراره، فلم يعد مستبعداً مادياً وعلمياً على الأقل، ظهور الدابة المذكورة في القرآن، التي تكلم الناس. ذلك أنه بأدنى خلل أو خطأٍ أو تلاعب بالمورثات، قد تخرج من مختبرات الأجنة والاستنساخ. يقول تعالى) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (النمل 82. إن مسؤولية استحداث علم جديد للدعوة والمحاجة والإقناع واجب، على القادرين القيام به. لا سيما في هذا العصر الذي يتعرض فيه أبناء المسلمين لمختلف الفتن والضلالات، وتتعرض فيه الأمة للانهيار في كافة الميادين. والواقع حجة واضحة وضوح الشمس، فأمامنا شواهد الأمم ذات الديانات الباطلة التي تقدمت مادياً بتخليها عن خرافات أديانها، والأمة الإسلامية قد تأخرت مادياً وروحياً بتخليها عن دينها الحق، الذي ينظم شؤون المادة والعقيدة تنظيماً ربانياً لا شبهة فيه.
الخلاف المذهبي
موضوع الخلاف في الأحكام الشرعية العملية واسع الأكناف متشعب الأطراف له صلة بعدة علوم، علوم القرآن، وعلوم الحديث، والفقه وأصوله وقواعده، والتعارض والترجيح، والمنطق والبحث والمناظرة، كما أن له ارتباطا بواقع الأمة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً. لذلك لا تفي هذه الفذلكة بحقه من الدرس والبحث والتحليل؛ وإنما نكتفي فيها بالإشارات الموجزة التي لا تخل بالمعنى، وتفسح المجال لفهم مغاليق التحفة ومسارها ونهج صاحبها فيها. ذلك أن الخلاف الفقهي نشأ بعد وفاة الرسول (ص) واضطرار المسلمين لاستنباط أحكام قضايا من نصوص يوهم بعضها بالتعارض، أو أحكام حوادث توهم بأن ليس لها في الكتاب والسنة حكم معين. فالخلاف في هذا العهد كان مبنيا على فهم النصوص والحمل عليها حملاً عفوياً تلقائياً، ثم أضيف إلى ذلك إجماع الصحابة المستند إلى النصوص. ثم بعد جيل الصحابة تتابعت أدوار التشريع واحدا تلو الآخر، فنشأ علم الفقه واتسع الاستنباط بكثرة الحوادث. ذلك أن النصوص متناهية والحوادث متجددة غير متناهية؛ فعكف طائفة من التابعين على الفتوى كسعيد بن المسيب في المدينة وعلقمة وإبراهيم النخعي بالعراق، معتمدين في استنباطاتهم على الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وفتاواهم، ينهج بعضهم نهج القياس، وينهج آخرون نهج المصلحة إن لم يكن نص. ثم بزغ عصر الأئمة المجتهدين، فاتضحت مناهج الاستنباط وتميزت طرق الاستدلال واتسع الخلاف بين الأئمة تبعاً لمناهجهم. فكان أبو حنيفة رضي الله عنه مثلاً يلتزم بالكتاب والسنة وما أجمع عليه الصحابة، فإن لم يجمعوا تخير من آرائهم لا يخرج عنها، ولا يأخذ برأي التابعين وتابعي التابعين لأنه منهم وهم رجال مثله؛ كما كان له منهجه في اعتبار العام قطعياً لا يخصصه إلا قطعي أو خبر مشهور، فإن خصص بأحدهما صار ظنياً، ومنهجه في الأخذ بالقياس والاستحسان. ثم كان مالك رضي الله عنه فسار على منهج خاص به في الأخذ من الكتاب والسنة وعمل أهل المدينة والإجماع، وعلى ما اشترطه في رواية الحديث ونقده، وما تقتضيه ظروف المصلحة وسد الذرائع والاستحسان، وغير ذلك من دلائل وأمارات. ثم جاء الشافعي رضي الله عنه فجمع مقاصد العلم ومناهجه في الرسالة، وكان بذلك أول من صنف قواعد الاستنباط ورتبها ورسم معالمها، وجمع فيها بين منهجي النعمان ومالك؛ وهذا ليس بغريب منه، فهو تلميذهما ووارث سرهما وابنهما البر، ولا اعتبار لما اختلف فيه الأتباع وشجر بينهم بعنف تجاوز حده، وتوتر عصف بأسباب الود. ثم تتابع تطور هذا العلم من قبل مدرستي المتكلمين والفروعيين، وارتقى الحوار والتأليف والتصنيف فيه إلى نشوء علم جديد هو " علم الخلاف " المبني على المنطق والمناظرة، وهو علم يعرف به كيفية إيراد الحجج الشرعية، ودفع الشبه وقوادح الأدلة بإيراد البراهين القطعية. فدارت بين الفقهاء الخلافيين مناظرات في أعيان المسائل الفقهية المنسوبة إلى أئمتهم، مما شحذ العقول ووسع المدارك وفتح آفاقاً للتشريع والتنظير، وفهم دقائق المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فهماً لم يتيسر لغير الفقه الإسلامي على مدار تاريخ الإنسانية.
ولو لم تعترض طريق الأمة، محنة انهيار نظم الحكم والمجتمع، وتوقف حركة العلم والفكر والاجتهاد، لكان للفقه الإسلامي شأن في حياة البشرية المعاصرة على اختلاف أديانها واتجاهاتها ومللها ونحلها. ومع ذلك، بأدنى مراجعة لتشريعات الغرب الحالية يتضح أن معظمها - قوانين ومساطر إجرائية -، متأثر بالفقه الإسلامي أصولاً وفروعاً قواعد ومناهج. ونحن إذا ما استعرضنا مجالات الخلاف في الأحكام الشرعية العملية المستنبطة وأسبابه، على مدار مراحل التشريع المتعاقبة، ألفينا أنها لا تكاد تخرج عن صنفين من الأحكام: صنف راجع إلى نصوص هي الأدلة النقلية كتاباً وسنةً وإجماعاً، أو حملاً عليها بالقياس. صنف راجع إلى أمارات هي ما سوى الكتاب والسنة والإجماع والقياس، مثل الاستحسان والاستصحاب وسد الذرائع وفتحها والمصلحة المرسلة والعرف، والعدول عن القياس الجلي الضعيف إلى القياس الخفي القوي، وما سوى ذلك من أمارات تكاد تصل الخمسين. أما الصنف الأول فمن أهم أسباب الخلاف فيه: قطعية دلالة النصوص وظنيتها. فالنص قطعي الدلالة هو ما دل على معنى متعين فهمه منه، ولا يحتمل تأويلاً، ولا مجال لفهم غيره منه. والنص ظني الدلالة هو ما يكون محتملاً لأكثر من معنى واحد. النصوص الموهمة بالتعارض مثل أن يحكم الرسول (ص) حكماً في حالة، وحكماً آخر بالنسبة للمسألة ذاتها في حالة أخرى. فيتوهم المجتهد التعارض، ولا تعارض لاختلاف الحكمين باختلاف الحالتين. منهج الفقيه في قبول أخبار الآحاد وسبرها ونقدها. فابن حنبل مثلاً يستغني بخبر الآحاد ولو ضعيفاً عن القياس والرأي، ومالك يشترط موافقة الصحيح لعمل أهل المدينة، والظاهرية يعتبرون الآحاد قطعية توجب العلم اليقين في العقيدة والعمل. قد يبين الشرع طريقتين أو طرقاً لبعض التصرفات الشرعية، والأخذ بأيّ منها جائز. فيتوهم بعض المجتهدين تعارضاً بين هذه الطرق. قد يكون الخلاف بسبب وقوع نسخ لم يعلم به الفقيه. قد يرد في الكتاب والسنة لفظ عام يراد به العموم، وآخر عام يراد به الخصوص، وقد يرد بصيغة الخصوص فيبدو من ظاهر الألفاظ التعارض ولا تعارض. كيفية تناول ألفاظ النصوص كتاباً وسنةً، وتأويلها، وتمييز نصها من ظاهرها ومحكمها من مفسرها، وخفيها من مشكلها،ومجملها من مبينها. الاختلاف في تعيين دلالات الألفاظ وهل هي بإشارة النص أو مفهوم الموافقة أو الأولى أو الاقتضاء، أو المخالفة، أو مفهوم اللقب، أو الوصف، أو الشرط، أو الغاية، أو من حيث دلالة الشمول في اللفظ عاما وخاصا، مطلقا ومقيدا، وكيفية تخصيص العام بالمتواتر أو الآحاد أو القياس أو المصلحة. وهذه الشمولية في مجال الاختلاف ليست عيبا في الفقه الإسلامي. بل هي من مميزات كماله ومرونته وصلاحيته لكل زمان ومكان وحال. ومن خصائص شريعته الربانية ودينه الذي نسخ ما سبقه من أديان، ونبيه الذي ختمت به النبوة، وأحكامه التي هي حجة للناس أو عليهم إلى يوم القيامة. أما الصنف الثاني: من الاستنباطات الفقهية الراجعة إلى ما سوى الأدلة الأصلية، كتاباً وسنةً وإجماعاً وقياساً، وهي التي ركز عليها صاحب التحفة في خلافاته مع فقهاء غير مذهبه، فلابد أن نشير أولا إلى منهجي المذهبين الحنبلي والظاهري فيه. ذلك أن المذهب الحنبلي هو أشد المذاهب الأربعة حرفية في تناول الكتاب والسنة والإجماع، وفراراً من الرأي والحيل الشرعية والاستحسان؛ حتى إن فقهاءه لا يقيسون إلا عند الضرورة، ويفضلون على القياس خبر الآحاد أو الخبر الضعيف. وأدلة الشرع عندهم ثلاثة أضرب: أصل، ومفهوم أصل، واستصحاب حال. والأصل عندهم ثلاثة: الكتاب، والسنة، وإجماع الأمة. والكتاب عندهم ضربان: مجمل ومفصل. والسنة ضربان: مسموعة من النبي (ص)، ومنقولة عنه. والمنقول عنه (ص) : متواتر وآحاد، قول وفعل. أما المذهب الظاهري فهو أكثر تشدداً من الحنابلة في هذا الصنف من الاستدلال؛ لأنه لا يعترف إلا بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة، وينكر القياس والتقليد والاستحسان، وسد الذرائع، وعمل أهل المدينة، والمصالح المرسلة، وما في حكم ذلك من الأمارات؟ ؛ وفقهاؤه يستندون في رفضهم لهذه الأدلة على ما فهموه من الكتاب والسنة وإجماع الصحابة والمعقول. فمن الكتاب قوله تعالى:) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكِ بِهِ عِلْمٌ (الإسراء 36. وقوله تعالى:) يا أَيُّها الَّذِيْنَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللهِ وَرَسُوْلِهِ (الحجرات 1. وقوله تعالى) وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لا تَعْلَمُوْنَ (الأعراف 33. ومن السنة: قوله (ص) : " إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدوداً فلا تعتدوها، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ". وقوله (ص) : " ذروني ما تركتكم، فإنما هلك الذين من قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم. ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فاتوا منه ما استطعتم ". الحديث الأول عن أبي ثعلبة الخشني - (جامع المسانيد والسنن 13/454) . والحديث الثاني رواه البخاري ومسلم. ومن الإجماع أن كثيراً من الصحابة قد ذم الرأي وسكت الباقون، فاعتبر هذا إجماعاً. وقد نقل عن أبي بكر رضي الله عنه قوله:(أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله برأيي) . وقال عمر رضي الله عنه: (إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها، فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا) .