الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
62 - بيرم الخامس (1255 - 1307 هـ)(1840 - 1889 م)
حمد بيرم الخامس بن مصطفى بن محمد بيرم الثالث، الفقيه الرحالة المؤرخ الصحفي من نبغاء خريجي جامع الزيتونة.
ولد بتونس في محرم /1255 مارس 1840 وأشرف والده على تربيته وكذلك عمه بيرم الرابع، وهما اللذان وجهاه إلى طلب العلم بجامع الزيتونة وبعد اجتيازه لمرحلة التعليم الابتدائي دخل جامع الزيتونة، وقرأ على أعلامه أمثال المشايخ سالم بو حاجب، والشاذلي بن صالح، وعلي العفيف، ومحمد الطاهر بن عاشور. وفي هذا الطور كان الشيخ محمود قابادو يزور والد المترجم له في بيته لأنه كان صديقا له، كما كان يزور عمه محمد بيرم الرابع في بيته أيضا وكان المترجم له يحضر المجالس التي فيها قابادو بدار أبيه أو دار عمه، ويستمع إلى حديثه فتكون له إعجاب به واحترام له ما زادتهما الأيام إلاّ رسوخا، وكان يستنير بتوجيهاته، وظل على هذه الحال بعد تخرجه من جامع الزيتونة واشتغاله بالتدريس، وقال الأستاذ عمر بن سالم:«وتأثر بأفكار قابادو التقدمية ونظرياته الإصلاحية تأثرا كبيرا، فقد أخذ عنه رأيه في إحياء العلوم الصحيحة والاعتماد عليها لنهضة البلاد» .
واستكمل تعلمه بجامع الزيتونة ولم يتجاوز سنه سبعة عشر عاما، وتخرج منه محرزا على شهادة التطويع، ثم اجتاز بنجاح مناظرة التدريس من الطبقة الثانية في سنة 1278/ 1861 وتولى مشيخة المدرسة العنقية في 6 جمادي الاولى 1278/ 1861 وهذه الخطة كانت وراثية في أسرتهم، ثم اجتاز بنجاح مناظرة التدريس من الطبقة الاولى في 15 رجب 1284.
وفي مطلع شبابه اشتغل بالمسائل السياسية والاجتماعية لأنّ ميوله سياسية وأدبية ك أكثر منها فقهية وعلمية، وكان همه تتبع ماجريات الأحداث وانتقادها، ولما كان ابن ملاك أراض فقد شاهد الوضعية الاجتماعية للعمال الفلاحيّين والخماسة، ومسك دفترا سجل فيه القرارت والأوامر الترتيبية على عهد محمد بأي لأنه التزم بالدفاع عن هذه الطبقة الريفية.
وبعد ثورة 1281/ 1864 وتعطيل دستور عهد الأمان رحل إلى أوروبا بعلة التداوي وملاقاة أصدقائه المغتربين الجنرال حسين في إيطاليا وخير الدين في فرنسا، ومات والده فورث عنه قسطا هاما من العقارات، وأراد مبارحة تونس نهائيا ولكن الظروف الصعبة القاسية التي تجتازها البلاد منعته من تحقيق رغبته.
ولما عزل مصطفى خزنه دار عن الوزارة الكبرى (رئاسة الحكومة) في سنة 1291/ 1873 وخلفه في المنصب خير الدين جاهر المترجم له بنصرته في آرائه الإصلاحية وصرح بآرائه السياسية على صفحات جريدة «الرائد التونسي» وهو أول من تجاسر على ذلك في تونس.
ولاحظ الأستاذ رشيد الذوادي: «إنه المنشئ الأول لفن النشر الصحفي باختلاف
أغراضه في تونس. فقد تحدى القيود المتبعة في أساليب الكتابة في عصره فأضناه هذا العمل ولم يسلم من العثرات وتستطيع أن تلاحظ هنا جليا في تفكك بعض تراكيبه خاصة في افتتاحياته المنشورة في صحيفة «الإعلام» .وقال أيضا: «فكتب في الرائد التونسي (1290 هـ 1874) مقالات كثيرة أيد فيها عزل مصطفى خزنه دار وآزر الوزير خير الدين باشا صاحب الاتجاه التقدمي في البلاد وتعتبر مقالاته السياسية أول مقالات ظهرت في النثر السياسي في البلاد، ذلك إن الاتجاه السياسي لم تعرفه صحافة تونس قبل هذا التاريخ، إذ معظم ما كان ينشر فيها يتنازل النواحي الأخلاقية والاجتماعية والأدبية» .
كما نشر بعض إنتاجه في جريدة «الجوائب» الصادرة في إستانبول لصاحبها أحمد فارس الشدياق، وذلك أيام حرب تركيا مع اليونان.
وأعجب الوزير خير الدين بنشاطه وتعلقه ومؤازرته له في منهجه الإصلاحي فعهد إليه بتنظيم إدارة جمعية الأوقاف التي ابتكرها المصلحون، يعنيه موظف وعدلان يختارهم التجار وأصحاب الأراضي الموقوفة. وفي بضعة أشهر وبعد مجهودات خارقة توصل إلى تنظيم هذه المؤسسة وجعلها قوية، وهذا مما أثر على صحته وأجبره مرضه العصبي على قطع عمله والذهاب إلى باريس لمداواة مرضه، واغتنم هذه الفرصة لتدوين القسم الأول من تأليفه «صفوة الاعتبار» .
وكان نحيف البنية مصابا بمرض في الأعصاب الموصلة بين المعدة والقلب مع فقر في الدم يستعمل المورفين لتسكين آلامه فأثر ذلك في صحته مع ما يقوم به من أعمال مرهقة.
وفي مدة رئاسته لجمعية الأوقاف وقع نزاع بين الكونت دوسانسي المغامر الفرنسي الذي له علاقات قرابة مع كثير من وزراء فرنسا وقع نزاع بينه وبين الحكومة التونسية على قطعة أرض بسيدي ثابت منحها له الوزير خير الدين لتربية الخيل على شروط أخل بها، فأرادت الحكومة التونسية استرجاعها منه فأبى وأنقلب خصما لخير الدين.
ومن الملاحظ أن خير الدين كان يجامل الفرنسيين. وكان قسم من الصحافة الفرنسية يشن الحملات ضده بتأثير من عملاء خزنه دار الموجودين في باريس وقد عين صاحب الترجمة عضوا في لجنة التحكيم التي شكلتها الحكومة التونسية للنظر في هذه القضية واستمر النزاع بين الطرفين إلى عهد الوزير مصطفى بن إسماعيل.
كما عينه الوزير خير الدين سنة 1292/ 1874 ناظرا على المطبعة الرسمية ومشرفا على تحرير جريدة «الرائد» .وهذا النشاط أثر على صحته التي تدهورت فسافر إلى باريس للمعالجة.
وفي سنة 1292/ 1875 سمي عضوا في لجنة برنامج التعليم للمدرسة الصادقية ولترغيب الأسر التونسية لإرسال أبنائهم إلى هذه المدرسة سجل فيها ابنه الأكبر مصطفى الذي أصبح فيما بعد رئيسا لمجلس الاستئناف بالقاهرة.
كما اسندت إليه إدارة تأسيس المكتبة الصادقية (العبدلية) الزيتونية المؤسسة حديثا.
وفي سنة 1294/ 1877 عزم على التخلي عن وظائفه أسوة بأصدقائه جماعة الإصلاح الذين اضطروا لمغادرة مراكز السلطة، على أن تدخل الباي الزمه الاحتفاظ بوظائفه لكن المعرض العالمي المنعقد في باريس سنة 1878 هيأ له مبررا لمغادرة البلاد فزار باريس ولندرة ثم الجزائر وسمحت له هذه الرحلة باثراء ملاحظة لإكمال تحرير الأجزاء الباقية من مؤلفه «صفوة الاعتبار» .
وعند ما رجع إلى تونس أصبح عضوا في اللجنة التي كلفت بتنظيم مستشفى العاصمة التونسية - الذي دشّنه الأمير محمد الصادق باي رسميا في 10 فيفري 1894، وأصبح يعرف بالمستشفى الصارقيّ، على غرار المؤسسات الصحية العصرية الأوروبية، لكن الذين لا يروق لهم الإصلاح ولا تفكير الإصلاحيين كالقنصل الفرنسي روسطان فكان رد الفعل عنيفا والتهجم قاسيا، وكان المترجم له على صلة ببعض أفراد من السفارة الإيطالية بتونس ممن ينشر الدعاية ضد السياسة الفرنسية، وبلغت المعركة الدعائية بين السياسة الفرنسية والإيطالية حدا مضطرما ملتهبا، ففرنسا تهيئ الوسائل والحجج لتبرير الاحتلال، وإيطاليا تشهر بمطامع فرنسا وتحاول حشد الرأي العام ضدها سواء في الداخل أو في الخارج وهي لم تكن بريئة في هذه الحملة، وإنها هي تسعى جاهدة لتحل محل فرنسا وتحتل البلاد فيما بعد، ولا ندري كيف غاب هذا عن ذهن المترجم له حتى اغتر بالدعايات الإيطالية وسار في طريق يثير العواصف الهوجاء من النقد والتهجم والاتهام.
وكان الوزير مصطفى بن إسماعيل خلف خير الدين في رئاسة الحكومة يضيق بآرائه الإصلاحية ثم أنه يرى أنه لا يصفو له الجو إلاّ إذا أقصى جماعة الإصلاح عن مباشرة أية مهمة سامية في الحكومة والمترجم له لا يتحمل الضغط على حريته والسكوت على آرائه لذلك عزم على مبارحة تونس وقرر أن يطلب أولا من الباي الاذن في السفر لاداء فريضة الحج، ولم يتحصل على هذا الاذن إلاّ بعد تداخلات عديدة من أصدقائه العلماء، وتحصل على هذا الاذن وبارح تونس سنة 1296/ 1879 ومر بمصر في طريقه إلى الحرمين الشريفين وبعدهما زار سوريا، ثم سافر إلى إستانبول حيث كان في انتظاره صديقة الصدر الأعظم خير الدين، وأحسنت الدولة وفادته وعزم أن يقيم بها نهائيا، لكن الوزير مصطفى بن إسماعيل كتب إلى الباب العالي وطالب بإرجاع المترجم له، واتهمه باختلاس أموال جمعية الأوقاف وجرده من عناوينه الجامعية لكن خير الدين انتصر له ولم يخذله ولم يسلمه.
وفي انتظار وصول أسرته إلى إستانبول قام برحلة إلى فيينا وبودابست وبلغراد. وعند رجوعه إلى إستانبول حيكت ضده دسائس لإزالة مكانته عند السلطان فقد اتهم بالمشاركة في ثورة عرابي عند مروره بمصر، واضطر لأجل تجنب الخصومات وإنجاز الجزء الثاني من تأليفه «صفوة الاعتبار» إلى مغادرة إستانبول وتوجه إلى مصر، وفي القاهرة احتفل بقدومه احتفالا حارا الخديوي والعلماء.