الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
2 -
بيني وبين المعرّي: مجموعة أحاديث ألقاها بالإذاعة. هي عبارة عن حوار تتبع فيه «رسالة الغفران» وأبدى نقده لها.
المراجع:
- أدباء تونسيون، رشيد الذوادي (طبع تونس 1972) ص 9 - 27.
- الأدب التونسي في القرن الرابع عشر، زين العابدين السنوسي (ط أولى) 2/ 3 - 15.
- الشعر التونسي المعاصر، محمد الصالح الجابري (ط تونس 1974) ص 181 - 206.
- الحركة الأدبية والفكرية في تونس، محمد الفاضل بن عاشور ص 145 - 147.
- مجمل تاريخ الأدب التونسي، حسن حسني عبد الوهاب (ط تونس) ص 310 - 316.
- الأعلام 7/ 245 وفيه مصطفى بن محمد بن مصطفى وترجمته أملاها عليه الأستاذ عثمان الكعّاك.
Sadok Zmerli: Figures tunisiennes: les successeurs، pp .181 - 881 .
* * *
2 - ابن الأبّار (658 هـ1280/ م)
محمد بن عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن أحمد المعروف بابن الأبّار القضاعي البلنسي، نزيل تونس، أبو عبد الله الحافظ المحدث الأديب الكاتب الشاعر المؤرخ صاحب التآليف الكثيرة. أصل والده من أندة (1).
ولد ببلنسية من بلدان شرق الأندلس، المدينة الجميلة ذات الخصب والهواء المعتدل (2).
وكان والد ابن الأبّار من أهل العلم، ديّنا تقيا، قرأ على طائفة من العلماء وأجازوه. قرأ عليه ابنه صاحب الترجمة القرآن بحرف نافع، وسمع منه أخبارا وأشعارا، ووجّهه وامتحن حفظه أيام الطلب وناوله جميع كتبه. قال ابن الأبّار في ترجمة والده (3): «وكان رحمه الله ولا أزكيه - مقبلا على ما يعنيه، شديد الانقباض، بعيدا عن التصنع، حريصا على التخلص، مقدّما في حملة القرآن، كثير التلاوة له والتهجد به، صاحب ورع لا يكاد يهمله، ذاكرا للقراءات مشاركا لأخذ المسائل، آخذا فيما يستحسن من الأدب، معدّلا عند الحكام، وكان
(1) مدينة من كور بلنسية (الروض المعطار ص 31) واندة (Onde) اليوم مدينة صغيرة في مديرية قسطليون وتقع على 20 كيلومترا غربي قسطليون قاعدة المديرية. وكانت أندة على أيام المسلمين تابعة لكورة بلنسية (د. حسين مؤنس مقدمة الحلة السيراء، ص 14). وتحرّف اسم أندة إلى أيردة عند الغبريني في (عنوان الدراية).
(2)
انظر الروض المعطار للحميري، تحقيق ليفي بروفنسال، ص 47.
(3)
التكملة لكتاب الصلة رقم 1441.
القاضي أبو الحسن بن واجب يستخلفه على الصلاة بمسجد السيدة داخل بلنسية، قرأت عليه القرآن بقراءة نافع مرارا، وسمعت منه أخبارا وأشعارا، واستظهرت عليه مرارا أيام أخذي على الشيوخ يمتحن بذلك حفظي وناولني جميع كتبه، وشاركته في أكثر من روى عنه
…
».
ويتضح من هذا إن ابن الأبّار نشأ في وسط علمي، ووجّهه والده لطلب العلم. ومن أشهر أعلام بلنسية بل أعلام الأندلس الذين أخذ عنهم وتخرّج بهم في علوم الحديث التي منها معرفة أسماء الرجال وأنسابهم وتواريخهم، وتخرّج به في الكتابة أيضا الحافظ المحدّث الحافل الأديب صاحب الرواية الواسعة والتصانيف أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الحميري الكلاعي، لازمه عشرين سنة. ولم يكتف ابن الأبّار بالأخذ عن أعلام بلنسية بل جال في بلدان الأندلس للأخذ عن رجالها والرواية عنهم. وفي شيوخه كثرة ذكرهم ابن عبد الملك المراكشي في «الذيل والتكملة» .وتوفي والده في ربيع الأول سنة 619/ 21 مارس 1222 ولم يحضر جنازته لأنه كان غائبا عن مسقط رأسه في ثغر بطليوس، فقد جاء في أواخر ترجمته لوالده «وتوفي ببلنسية - وأنا حينئذ بثغر بطليوس - عند الظهر يوم الثلاثاء الخامس شهر ربيع الأول سنة 619 ودفن لصلاة العصر من يوم الأربعاء بعده بمقبرة باب بيطالة وهو ابن ثمان وأربعين سنة، وحضر غسله أبو الحسن بن واجب وجماعته وكانت جنازته مشهودة، وأثنوا عليه جميلا نفعه الله بذلك» .
وابن الأبّار حريص على الرواية عمن تقدمت سنهم وعلا إسنادهم حتى بعد استكمال تحصيله وتجاوز طور الشباب، اتباعا لتقليد شاع في أوساط المحدثين، فقد لقي بتونس المقرئ الراوية أبا زكريا يحيى بن محمد بن عبد الرحمن البرقي المهدوي مصروفا عن قضاء المهدية (ت. سنة 647/ 1251). وقد اجتمع البرقي في تونس بالحافظ أبي الخطاب عمر بن حسن الكلبي المعروف بابن دحية، وروى عنه، وروى عنه عبد المنعم بن عبد الرحيم الخزرجي المعروف بابن الفرس (1). ويبدو أن ابن الأبّار كان عارفا بمكانته قبل لقائه.
وبعد استكمال تحصيله وإشباع نهمه من لقاء الشيوخ بالقطر الأندلسي رجع إلى مسقط رأسه بلنسية فتولى الكتابة لواليها أبي عبد الله بن أبي حفص عمر بن عبد المؤمن المعروف بالبياسي وقد نشأ هو وأخوه أبو زيد عبد الرحمن في بياسة، فعرفوا من أجل ذلك بالبياسيين.
ولما خرج من بلنسية والتجأ إلى حلفائه القشتاليين خلفه على إمارة بلنسية أخوه أبو زيد عبد الرحمن، واستمر ابن الأبّار على خطته في الكتابة حتى إذا ضيق على هذا الأمير أبو جميل زيان بن أبى الحملات مدافع بن يوسف بن سعد بن مردنيش في بلنسية التجأ إلى حليفه جايم أو خايمة الأول ملك أراغون وصحبه كاتبه ابن الأبّار ثم رجع ابن الأبّار إلى بلنسية عند ما رآه يفضل الإقامة في بلاد ملك أراغون وعمل كاتبا لأبي جميل زيان بن مردنيش الوالي الجديد على بلنسية. وكان القطر الأندلسي في هذا العصر مختل الأوضاع تعصف به الحروب
(1) المعجم في أصحاب القاضي أبي علي الصدفي ص 211 عرضا في ترجمة عبد الله بن محمد بن أيوب الفهري.
الداخلية والحروب الخارجية من الإسبان بقيادة ملك قشتالة وملك أرغوان بحيث أن حركة الاسترداد الإسبانية سجلت انتصارات متعددة واحتلت مدنا عديدة، وكانت الدولة الموحدية في طورها الأخير من الضعف والانحلال، وأفراد بيتها منقسمون على أنفسهم متعطشون إلى السلطة تعطشا محموما بدون إقامة وزن للظروف الحرجة والمصلحة العامة، وأمراء الطوائف من الأندلسيين يتحاربون ويستعينون بهذا وذاك من ملوك الاسبان للتغلب على خصومهم ويرضون في مقابل ذلك بأداء إتاوة سنوية وهي نوع من الحماية بعدها الاحتلال في الفرصة المؤاتية، ويظهر للمتأمل أن مصير الأندلس تقرر منذ العقود الأولى من القرن السادس الهجري.
وكان شرقي البلاد الأندلسية هدفا لهجومات ملك أراغون خايما الأول فاستولى على كثير من القلاع حول بلنسية وشقر سنة 633/ 1236 وبنى حصن أنيشة قرب بلنسية ليعسكر فيه جنده استعدادا لحصار بلنسية، وقد حاول ابن مردنيش أن يبذل آخر جهوده فاستنفر أهل شاطبة وشقر، فانضموا إلى جند بلنسية، وهاجموا حصن أنيشة في العشرين من ذي الحجة سنة 634/ 13 أوت 1237 ولكنهم هزموا وقتل في المعركة كثير من الفقهاء والعلماء، ومن بينهم العلاّمة المحدّث أبو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي شيخ ابن الأبّار (1) وهو مقبل غير مدبر يحرض الفارين على القتال.
وكانت هزيمة المسلمين أمام حصن أنيشة دليلا على قرب سقوط بلنسية فأخذ الناس في الانتقال منها. وفي رمضان سنة 635/ 1238 هاجم ملك أراغون بلنسية وضرب حولها حصارا قويا وأدرك المسلمون فيها أن لا طاقة لهم بصد المحاصرين وعزموا على الاستعانة بسلطان الدولة الحفصية في تونس وعند ذلك أرسل ابن مردنيش وفدا من أهل بلنسية إلى سلطان تونس أبي زكريا يحيى الحفصي وعيّن كاتبه ابن الأبّار من بين أعضاء الوفد في رجب سنة /636 ديسمبر 1238 وطالب الوفد السلطان أبا زكريا الحفصي بنجدتهم وأدى ابن الأبّار مهمته خير تأدية وأنشد بين يدي أبي زكريا الحفصي (2) قصيدته السينية الطويلة وعدد أبياتها 67 بيتا من البحر البسيط طالعها:
أدرك بخيلك خيل الله أندلسا
…
إن السبيل إلى منجاتها درسا
«وفيها من التكلف ما يكاد يصرف قارئها عن الحال المحزن الذي قيلت فيه (3)» . «وهو فيها شاعر مملوء النفس بالعاطفة مغمور الفؤاد بالأسى بين وطن مغلوب، وملك بالرجاء مطلوب، فالمعاني متوفرة، ومجال القول ذو سعة، من أجل ذلك أطال وأجاد ووجد وجوه الكلام مختلفة، فصال وجال لكنه كان فيها الواصف الناقل ينتقل من هذا كله ولم يكن الخائل الذي يملك تلوين هذه الأوصاف المنقولة وترويقها لتروق حينا وتهول حينا آخر، فهذا
(1) انظر: صالح الأشتر، مقدمة إعتاب الكتّاب ص 9.
(2)
المرجع السالف ص 10 - 11.
(3)
حسين مؤنس مقدمة «الحلة السيراء» ص 35.
الخطب تفزع له النفوس وتجزع، وهو في حاجة إلى من يصوره فيحسن تصويره لا من يسرده فيحسن سرده.
وإنك إذ تحس جزعا وهلعا عند سماعك هذه القصيدة أو قراءتها فليس شعر الشاعر مبعثه أو مأتاه ولكن ما انطوت عليه الأبيات من تلك الحقائق المتراصة التي أحسن الشاعر جمعها ولم يحسن وصفها» (1).
ولكن القصيدة على أي حال حققت الهدف من إنشادها، وكان لها تأثير في نفس السلطان أبي زكريا فتحمّس وأرسل أسطولا إلى بلنسية مشحونا بالسلاح والقوت والمال.
وكان الملك خايمة الأول قد ضيّق الحصار على بلنسية وراقب ميناءها، وحاول الأسطول الحفصي النزول في موضع جراو قرب بلنسية في 4 محرّم 636/ 18 أوت 1238 فلم يستطع النزول لوجود الجنود النصارى «فأرسل قائد الحملة أبو يحيى بن أبي حفص عمر الهنتاتي المعروف بالشهيد إلى أبي زكريا الحفصي يعلمه بالحال، واتجه هو بالسفن إلى دانية وهي تابعة لابن مردنيش وأرسى فيها في 12 محرّم 636/ 26 أوت 1238 وترك لأهلها الطعام والسلاح اللذين كان يحملهما أما المال فقد عاد به إذ لم يجد من يتسلمه منه» (2).
وكان الحصار محكما شديدا حول بلنسية، والقتال ضاريا عنيفا وأعداد جند النصارى تتزايد يوما بعد يوم «حتى أصبح معسكر ملك أراغون كأنه مدينة كبيرة، خفّ إليها التجار من كل صوب» (3).
وفي الوضع المتأزم اليائس استقر رأي زيان بن مردنيش على مفاوضة الأعداء لتسليم مدينة بلنسية، وتم التسليم في 17 صفر /636 سبتمبر 1238 وقد اشترك ابن الأبّار في المفاوضات وكتب العقد.
وقد وصف ابن الأبّار موكب التسليم، وبعض ما تضمنه اتفاق التسليم وانتقال الناس من بلنسية وخروج ابن مردنيش من قصر الإمارة. قال: «ثم ملكها الروم ثانية بعد أن حاصرها الطاغية جاقم البرشلوني من يوم الخميس الخامس من شهر رمضان سنة خمس وثلاثين وستمائة إلى يوم الثلاثاء السابع عشر من صفر سنة ست وثلاثين وفي هذا اليوم خرج أبو جميل زيان بن مدافع بن يوسف بن سعد الجذامي من المدينة، فهو - يومئذ - أميرها في أهل بيته ووجوه
(1) إبراهيم الأبياري، مقدمة «المقتضب من تحفة القادم» ص. ع. وأثارت هذه القصيدة نقدا ودفاعا في تونس، فقد انتقدها بعضهم ورد على هؤلاء المنتقدين إبراهيم بن محمد بن أبي القاسم التجاني (ت في حدود 660/ 1262) بتأليفه «مؤازرة الوافد ومبارزة الناقد في الانتصار لابن الأبّار» ، انظر مقدمة رحلة التجاني للمرحوم حسن حسني عبد الوهاب ص 9، 10.
(2)
مقدمة الحلة السيراء ص 35.
(3)
المرجع السالف.
الطلبة والجند وأقبل الطاغية وقد تزيّا بأحسن زي في عظماء قومه من حيث نزل بالرصافة أول هذه النازلة فتلاقيا بالولجة (1) واتفقا على أن يتسلم الطاغية البلد سلما لعشرين يوما ينتقل أهله أثناءها بأموالهم وأسبابهم وحضرت ذلك كله وتوليت العقد عن أبي جميل في ذلك وابتدئ بضعفة الناس وسيروا في البحر إلى نواحي دانية، واتصل انتقال سائرهم برا وبحرا وصبيحة يوم الجمعة السابع والعشرين من صفر المذكور كان خروج أبي جميل بأهله من القصر في طائفة يسيرة أقامت معه وعند ذلك استولى عليها الروم» (2).
وكان حزن المسلمين على سقوط بلنسية عظيما، وبكى ابن الأبّار مسقط رأسه بدمع غزير (3) قال من رسالة له: «أما الأوطان المحبب عهدها بحكم الشباب، المشبب فيها بمحاسن الأحباب فقد ودعنا معاهدها وداع الأبد، وأخنى عليها الذي أخنى لبد أسلمها الإسلام.
وانتظمها الانتثار والاصطلام، حين وقعت أنسرها الطائرة، وطلعت أنحسها الغائرة فغلب على الجذل الحزن، وذهب مع المسكن السكن (بسيط):
كزعزع الريح صك الدوح عاصفها
…
فلم يدع من جنى فيها ولا غصن
واها وواها يموت الصبر بينهما
…
موت المجاهد بين البخل والجبن
أين بلنسية ومغانيها وأغاريد ورقها وأغانيها، وأين حلى رصافتها وجسرها، ومنزلا عطائها ونصرها، أين أفناؤها تندى غضارة وذكاؤها تبدو من خضارة، أين جداولها المنساحة وذمائلها، أين جناتها النفاحة وشمائلها، شد ما عطل من قلائد أزهى نحرها، وخلعت شعشعانية الضحى بحيرتها وبحرها، فأية حيلة لا حيلة في صرفها مع صرف الزمان، وهل كانت حتى بانت إلا رونق الحق وبشاشة الإيمان، ثم لم يلبث داء عقرها أن دب إلى جزيرة شقر فأمرّ عذبها النمير وذوى غصنها النضير، وخرست حمائم أدواحها وركدت نواسم أرواحها» (4).
وقد عدّد ابن الأبّار المدن الأندلسية التي سقطت بأيدي الاسبان، والتي يتوقع سقوطها «
…
وتلك البيرة بصدد البوار، ورية في مثل حلقة السوار، ولا مرية في المرية وخفقها على الجوار إلى بنيات لواحق بالأمهات، ونواطق بهاك لأول ناطق بهات».
وذهب ابن مردنيش إلى دانية ومعه ابن الأبّار، ثم رأى ابن الأبّار الانتقال إلى تونس
(1) الولجة بالاسبانية (Huelga) وهي الرحبة الواسعة التي تستعمل للنزهة واستعمال ابن الأبّار لهذا اللفظ هنا يدل على أنه كان جاريا في استعمال الأندلسيين. وقد وجدت ولجات كثيرة قرب مدن أخرى ولكني لم أعثر على ولجة بلنسية (د. حسين مؤنس: تعليق رقم (1) على الحلة السيراء 2/ 126).
(2)
الحلة السيراء 2/ 127.
(3)
مقدمة «إعتاب الكتّاب» ص 12.
(4)
الرسالة أورد قسما كبيرا منها الحميري في الروض المعطار ص 52 - 54. [ص 100 من طبعة احسان عبّاس].
والاستقرار بها ليأسه من الوضع السيئ بالأندلس، ولحسن استقباله بتونس عند زيارته الأولى وتقديره وذيوع صيته (1) وأكرم أبو زكريا الحفصي وفادته وولاه كتابة العلامة، وهي عبارة عن التواقيع التي تضاف إلى المكاتبات السلطانية وترفع إلى السلطان ليضع عليها خاتمة (2).
تولّى ابن الأبّار هذه الخطة بعد وفاة أبي عبد الله محمد بن الجلاء البجائي (3) سنة 1240/ 638 صاحب خطة الإنشاء والعلامة.
وكان من المنتظر أن يلاقي النجاح والتوفيق لسابق تجربته في الخدمة بقصر الإمارة ببلنسية ولكنه لسوء أخلاقه وعدم احترازه من فلتات لسانه لم ينجح في الاضطلاع بهذه المهمة السامية وأخر وبعد تأخيره وتولية غيره كتابة العلامة لم يتقيد بدقة بما أعطي له من أوامر ولعل ذلك مبعثه الغرور.
قال الزركشي (4): «ثم أخر لسوء خلقه وإقدامه على التعليم (أي كتابة العلامة) في كتب لم يؤمر بالتعليم فيها» .
ومثل هذا التفصي من القيود والسير بما تمليه الشهوة والرغبة، وبعبارة أخرى عدم التقيد بأي رسم من رسوم الإجراءات والأنظمة الديوانية، ومثل هذا ربما نجد له مبررا إذا كان القائم بهذه الوظيفة غرا عديم التجربة، أما ابن الأبّار ذو التجربة السابقة فلا تفسير لسلوكه إلا الغرور وإذا كان هكذا فما له والاتصال بقصر له نظمه وتقاليده ويتقلد فيه وظيفة أخرى؟
وآل الأمر إلى تأخير السلطان أبي زكريا الحفصي لابن الأبّار عن كتابة العلامة وتقديم
(1) ذهب الغبريني في «عنوان الدراية» ص 206 إلى أنه نزل بجاية أولا (بالقطر الجزائري) واستدعاه إلى تونس المستنصر «وقضى رسالة عند ملك أفريقية في حديث طويل، ثم رجع إلى العدوة قاصدا استيطانها فتخير سكنى بجاية ثم استدعاه أمير المؤمنين المستنصر إلى حضرته فدخلها
…
» والذي ذكر غيره أنه نزل تونس في عهد أبي زكريا والد المستنصر وتولى كتابة العلامة له. ثم غضب عليه فاستجار بولي العهد أبي يحيى الذي مات قبل أن تتم المهمة فاستجار بولي العهد الجديد المستنصر وكان ولي العهد يقيم ببجاية والظاهر من سياق الأحداث أن ابن الأبّار دخل بجاية مرتين مرة في عهد أبي زكريا ومرة في عهد المستنصر حين غضب عليه.
(2)
مقدمة الحلة السيراء ص 39. الأوامر الصادرة من الخليفة يكتب عليها العلامة الكبرى «الحمد لله والشكر لله» في أول الكتاب بعد البسملة والعلامة الصغرى في آخر الكتاب إذا كان الأمر يكبر قدر الخليفة عنه وأول من ابتدع تقسيم العلامة إلى كبرى وصغرى شيخ الدولة أبو سعيد عثمان المعروف بالعود الرطب حوالى سنة 650/ 1261 في عهد المستنصر (راجع تاريخ الدولتين للزركشي ص 25 - 26). والعلامة هي شعار الدولة وصيغتها التي تدرج بها الأوامر السلطانية، وتعتبر مقرراتها نافذة (محمد التركي مقدمة مستودع العلامة لابن الأحمر ص 8). وصاحب العلامة هو كاتب السر (رئيس ديوان الإنشاء).
(3)
تاريخ الدولتين 21.
(4)
تاريخ الدولتين 21.
أحمد بن إبراهيم بن عبد الحق الغساني التونسي المولد الأندلسي الأصل (1) وكان يكتب العلامة بالخط المشرقي (2) بما نصه: «من الأمير أبي زكريا ابن الشيخ أبي حفص» (3) وطلب من ابن الأبّار أن يقتصر على إنشاء الرسائل وكتابتها وأن يدع كتابة العلامة فيها لأحمد بن ابراهيم الغساني فلم يمتثل ما أمر به فبقي يكتب العلامة فعوتب في ذلك وروجع فاستشاط غضبا ورمى بالقلم من يده وأنشد متمثلا ببيت المتنبي:
أطلب العز في لظى وذر الذل
…
ولو كان في جنان الخلود
وحمل الخبر إلى السلطان فصرفه عن العمل وأمره بلزوم بيته.
وقد عزا بعض الباحثين (4) نكتبه إلى أن سعاية بعض حساد ابن الأبّار من أهل تونس ممن ساءهم أن يروا المهاجرين الأندلسيين يحتلون أرفع المناصب في الدولة الحفصية ويزاحمونهم عليها بما يملكون من ثقافات ومواهب، أي أن هناك نزعة بلدية ضيقة لا تنظر بارتياح إلى تسنم الوافدين الغرباء من الأندلسيين أعلى المناصب وأن في هؤلاء غرورا واعتدادا بأنفسهم وثقافتهم وكونهم أهلها وأحق بها من غيرهم.
وليس هذا صحيحا من كل وجه لأن ابن الغماز البلنسي ابن بلدة ابن الأبّار وتلميذ أبي الربيع الكلاعي مثل ابن الأبّار تولى قضاء الجماعة بتونس (ما يعادل بعض اختصاصات وزير العدل الآن) مرات وكتابة العلامة الكبرى، ولم تحدث له مشاكل أو سعايات لأن ابن الغماز كان رجلا هادئا عاقلا رزينا رضي الأخلاق، بعيدا عن مزالق فلتات اللسان والغرور والادعاء.
وكان محل تقدير من جميع الأوساط، ولما مات تأسف الناس لفقده فرثوه بقصائد كثيرة جمعت في تأليفين لرجلين.
إن إخفاق ابن الأبّار مردّه إلى حدة طباعه وسوء أخلاقه وغروره وعدم تحرزه من فلتات لسانه ومما يدل على عدم تحرزه من فلتات لسانه وعدم تقديره لما ينجرّ عنها من نتائج غير سارة، أنه لما قدم من بلنسية في الأسطول نزل ببنزرت وخاطب الوزير ابن أبي الحسين بغرض رسالته ووصف أباه في عنوان مكتوبه «بالمرحوم» ونبّه على ذلك فضحك وقال:«إن أبا لا تعرف حياته من موته لأب خامل» ونمي ذلك إلى الوزير فأسرّها في نفسه وراح يكيد له، وابن
(1) انظر مستودع العلامة ص 29.
(2)
كان الخط في العصر الحفصي قريبا جدا من الخط المشرقي النسخي إلا في بعض الفروق اليسيرة. ومن الوثائق الباقية المكتوبة في أوائل هذا العصر نسخة من الموطأ كتبت في عصر السلطان أبي زكريا الأول، وعليها خط الشيخ محمد بن عبد الجبار الرعيني السوسي (ولعلها الوثيقة الوحيدة التي بها خطه) للمصادقة على المقابلة والتصحيح، والنسخة موجودة بالمكتبة الوطنية بتونس، وأصلها من مكتبة الشيخ علي النوري بصفاقس.
(3)
تاريخ الدولتين 21.
(4)
صالح الأشتر مقدمة «إعتاب الكتّاب» ص 14. د. حسين مؤنس مقدمة «الحلة السيراء» ص 14.
الأبّار يؤذي بلسانه ويتهكم في سخرية من لا يروق له «ويبدو أنه (1) كان ممن ينبزون الآخرين بالكلام القارص أو النقد المهين في خفية وتستر حاسبين أن أمرهم لا يفتضح وأمرهم في الحقيقة لا يخفى على أحد، ومن هنا لقبه خصومه بالفأر ويغلب على الظن أن وجهه كان صغيرا نحيلا، ومن هناك قال فيه أحد خصومه وهو أبو الحسن علي بن شلبون المعافري البلنسي [كامل]:
لا تعجبوا لمضرة نالت جمي
…
ع الخلق صادرة من الآبار
أوليس فأرا خلقة وخليقة
…
والفأر مجبول على الأضرار
وبعد صرف ابن الأبّار عن خطته انتقل إلى بجاية لملاقاة ولي العهد أبي يحيى زكريا «وكان في أيام أبيه شابا مستضعفا دائم الخوف من إخوته محمد وابراهيم وعمر وأبي بكر (وكلهم ولي بعده) ومن أبناء عمه محمد بن عبد الواحد المعروف باللحياني لعظيم لحيته، ولهذا كان حريصا على أن يكسب لنفسه أنصارا يشدون أزره، فسره أن يتشفع به ابن الأبّار فكلّم أباه في أمره فأعاده إلى الرضا» (2).
وفي فترة الابتعاد عن الخدمة نظم القصائد الضارعة معتذرا وراجيا عفو السلطان أبي زكريا من زلقة:
لمبشري برضاك أن يتحكما
…
لا المال استثني عليه ولا الدما
ندمي على ما ندّ مني دائم
…
وعلامة الأوّاب أن يتندما
وفي هذه الفترة ألف ابن الأبّار «إعتاب الكتّاب» «برسم السلطان أبي زكريا، وتذلل في فاتحته فأسرف في التذلل، وقصّ فيه حكايات كتّاب غضب عليهم الملوك والأمراء ثم عفوا عنهم وقبلوا أعذارهم واعتبوهم.
أين هذا من تمثله منشدا:
أطلب العز في لظى وذر الذل
…
ولو كان في جنان الخلود
بل ها هو ذا متضرع ذليل في الدنيا لا في دار الخلود!
إن ابن الأبّار تحمله الحدة وسوء الخلق على عدم الانسجام بين مواقفه وأقواله وما كان أغناه عن التذلل والركوع لو أحسن ضبط نفسه ولم يكرع من ماء الغرور العكر.
وتوفي السلطان أبو زكريا سنة 647/ 1248 وتولى بعده أبو عبد الله محمد الملقب بالمستنصر ثاني أولاده وقد رتب جماعة من العلماء والأدباء لمجالسته وكثير منهم أندلسيون
(1) مقدمة الحلة السيراء ص 41، مقدمة المقتضب من تحفة القادم ص (ي).
(2)
مقدمة الحلة السيراء ص 42.
كابن عصفور وابن الأبّار وأبي بكر ابن سيد الناس وأبي المطرّف بن عميرة وغيرهم.
وابن الأبّار لم يستفد من تجاربه في خدمته الديوانية مع ما فيه من خفة وطيش فألب الأعداء حوله لسلاطة لسانه وإيذائه به وغروره فلم يقصّر هؤلاء في نسج الدسائس له حتى أودوا بحياته ومنهم الوزير أحمد بن أبي الحسين، والكاتب أحمد بن إبراهيم الغساني، هذا زيادة عما في حياة القصر من رسوم تضيق بالفضول والغرور.
وقد تمكّن خصوم ابن الأبّار وأضداده وفي مقدمتهم الوزير ابن أبي الحسين من إيغار صدر المستنصر عليه، فنفاه إلى بجاية سنة 655/ 1257.
وفي مدة نفية ببجاية لقيه أبو الحسن علي بن سعيد الأندلسي وقال بعد أن أشار إلى قصيدته السينية وتوفيقه فيها وإعجاب الناس بها: «إلا أن أخلاقه لم تعنه على الوفاء بأسباب الخدمة، فقلصت عند ذلك النعمة، وأخر من تلك العناية، وارتحل إلى بجاية، وهو الآن عاطل من الرتب، خال من حلى الادب مشتغل بالتصنيف في فنونه، مثقل منه بواجبه ومسنونه، ولي معه مجالسات آنق من الشباب، وأبهج من الروض عند نزول السحاب (1).
وفي هذه الفترة نقّح وزاد في كتابة «التكملة لكتاب الصلة» وأتم كتابه «الحلة السيراء» واستطاع ابن الأبّار أن يسترضي السلطان المستنصر فعاد إلى تونس. ولم تطل مدة إقامته بها حتى قتل.
وذكروا في سبب قتله أنه جرى بالمجلس يوما ذكر مولد الواثق ابن السلطان المستنصر فلما كان من الغد جلب ابن الأبّار بطاقة يعرف فيها بساعة المولد والطالع (2) فلما وقف عليه المستنصر قال: «هذا فضول ودخول فيما لا يعنيه من أمرنا» وأمر بتثقيفه بسقيفة القصبة، وبعث إلى داره أحمد بن إبراهيم الغساني وبينهما من العداوة ما يكون بين صاحب خطة أخذها أحدهما من الآخر فوجد في تقاييده أبياتا منها:
طغى بتونس خلف
…
سمّوه ظلما خليفة (3)
وحكى المرادي أن البيت الذي وجد له يقتضي هجاء الخليفة هو قوله:
عق أباه وجفا أمه
…
ولم يقل من عثرة عمه
فلما قرأها السلطان أمر بضربه ضربا شديدا ثم قتل مرشوقا بالرماح، وأخذت كتبه
(1) نفح الطيب 4/ 282 وينظر اختصار القدح المعلى 191.
(2)
يبدو أنه كان عارفا بالتنجيم.
(3)
بعد سقوط الخلافة العباسية ببغداد بسنوات تلقب المستنصر الحفصي بلقب الخليفة وأمير المؤمنين وجاءت البيعة من الآفاق. وإذا ثبت هذا البيت فإن ابن الأبّار لا يراه أهلا للخلافة.