الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
- شجرة النور الزكية 106.
- معالم الإيمان 3/ 198.
- معجم المؤلفين 6/ 248.
- هدية العارفين 1/ 651.
- بلاد البربر الشرقية في عهد الزيريين (بالفرنسية) لهادي روجي إدريس 2/ 725.
* * *
75 - الترجمان (نحو 758 - 832 هـ)(1357 - 1430 م)
عبد الله الترجمان واسمه الأصلي أنسلم ترمودا (Anselmo di Turmeda) قسيس إسباني من مدينة ميورقة بالجزر الشرقية المعروفة بالباليار هاجر إلى تونس وأسلم في عهد السلطان أبي العباس أحمد ابن المستنصر الحفصي، وقيل إنه تظاهر بالإسلام وبقي على عقيدته.
ذكر في كتابه «تحفة الأريب» لمحة عن نشأته وهجرته إلى تونس فقال في (الفصل الأول منه) «اعلموا - رحمكم الله - أن أصلي من مدينة ميورقة - أعادها الله تعالى للإسلام - وهي مدينة كبيرة على البحر بين جبلين، يشقها واد صغيره وهي مدينة متجر ولها مرسيان اثنان ترسي بها السفن الكبيرة في المتاجر الجليلة، والمدينة تسمى باسم جزيرة ميورقة، وأكثر غلاتها زيتون وتين ويحمل منها في خصابة زيتونها أزيد من عشرين ألف بتيان لبلاد مصر والإسكندرية، وبجزيرة ميورقة المذكورة أزيد من مائة وعشرين حصنا مسورة عامرة.
وكان والدي محسوبا من أهل الحاضرة في ميورقة، ولم يكن له ولد غيري، ولما بلغت ست سنين من عمري سلمني إلى معلم من القسيسين، فقرأت عليه الإنجيل حتى حفظت أكثر من شطره في مدة سنتين، أخذت في تعلم لغة الإنجيل وعلم المنطق في مدة سنتين، ثم ارتحلت من بلدتي إلى مدينة لاردة من أرض القطلان، وهي مدينة علم عند النصارى في ذلك القطر، ولها واد كبير يشقها، ورأيت التين مخلوطا برمله إلاّ أنه صح عند جميع أهل ذلك القطر أن النفقة في تحصيله لا تفي نفقته فلذلك ترك. وبهذه المدينة فواكه كثيرة رأيت الفلاحين يقسمون الخوخة أربعة أفلاق ويمقرونها في الشمس، وكذلك يمقرون القرع والجزر فإذا أرادوا أكلها في الشتاء نقعوها في الليل بالماء وطبخوها كأنها طرية في أوانها.
وبهذه المدينة يجتمع طلبة العلم من النصارى وينتهون إلى ألف طالب أو ألف وخمسمائة ولا يحكم فيها إلاّ القسيس الذي يقرءون عليه، وأكثر نباتها الزعفران، فقرأت فيها الطبيات والنجامة مدة سنتين ثم تصدرت فيها لإقراء الإنجيل بلغته ملازما ذلك مدة أربع سنين، ثم
ارتحلت إلى مدينة تيونية من الأيزدية، وهي مدينة كبيرة جدا بنيانها بالآجر الأحمر الجيد لعدم معادن الحجر عندهم، ولكن لكل معلم من أهل صناعة الآجر طابع يخصه، وعليهم أمين مقدم يحتسب عليهم في طيب طين الأجر وطبخه فإذا تفلح أو تفرك منه شيء غرم الذي صنعه قيمته وعوقب بالضرب.
وهذه مدينة علم عند جميع ذلك القطر، ويجتمع بها كل عام من الآفاق أزيد من ألفي رجل يطلبون العلم، ولا يلبسون إلاّ الملف الذي هو صباغ الله، ولو يكون منهم طالب علم سلطانا أو ابن سلطان فلا يلبس الا ذلك ليمتاز الطلبة سن الغير، ولا يحكم فيها إلاّ القسيس الذي يقرءون عليه فسكنت بها كنيسة لقسيس كبير السن وعندهم كبير القدر اسمه «نقلا مرتيل» وكانت منزلته بينهم بالعلم والدين والزهد رفيعة جدا انفرد بها في زمنه عن جميع أهل دين النصرانية، فكانت الأسئلة مخصوصا في دينهم ترد عليه من الآفاق وصحبة الأسئلة من الهدايا الضخمة ما هو الغاية في بابه، ويرغبون في التبرك به وفي قبوله لهداياهم فيتشرفون بذلك، فقرأت على هذا القسيس علم أصول الدين النصرانية وأحكامه، ولم أزل أتقرب إليه بخدمته والقيام بكثير من وظائفه حتى صيرني أخص خواصه وانتهيت في خدمته وتقريبي إليه إلى أن دفع مفاتيح مسكنه وخزائن مأكله إليّ، ولم يستثن من ذلك سوى مفتاح بيت صغير بداخل مسكنه فكان يخلو فيه بنفسه، الظاهر انه بيت خزانة أمواله التي تهدى إليه، والله أعلم بحقيقته. فلازمته على ما ذكرت من القراءة عليه والخدمة له عشر سنين، ثمّ أصابه مرض يوما من الدهر فتخلّف عن القراءة وانتظره أهل المجلس وهم يتذاكرون فس مسائل من العلوم إلى أن أفضى بهم الكلام إلى قوله تعالى إلى نبيه عيسى عليه السلام أنه يأتي من بعدي نبي اسمه (البارقليط) فعظم ذلك بينهم في مقالهم وكثر جدالهم.
ثم انصرفوا عن غير تحصيل فائدة من تلك المسألة، فأتيت مسكن الشيخ صاحب الدرس المذكور فقال لي: ما الذي عندكم اليوم من البحث في غيبتي عنكم؟ فأخبرته اختلاف القوم في اسم (البارقليط) وان فلانا أجاب بكذا، وأجاب فلان بكذا، وسردت له أجوبتهم فقال لي: وبماذا أجبت أنت؟ فقلت بجواب القاضي فلان في تفسيره للإنجيل. فقال لي: ما قصرت وقربت، وفلان أخطأ، وكاد فلان يقارب الصواب، ولكن الحق خلاف هذا كله لأن تفسير هذا الاسم الشريف لا يعلمه إلاّ العلماء الراسخون في العلم، وأنتم لم يحصل لكم من العلم إلاّ القليل، فبادرت إلى قدميه أقبلها وقلت: يا سيدي، قد علمت أني ارتحلت إليك من بلد بعيدة، ولي في خدمتك عشر سنين حصلت عنك فيها من العلوم جملة لا أحصيها فلعل من جميل إحسانكم أن تتفضل عليّ بمعرفة هذا الاسم الشريف، فبكى الشيخ وقال: يا ولدي والله إنك لتعز عليّ كثيرا من أجل خدمتك لي وانقطاعك إليّ، وإن في معرفة هذا الاسم الشريف فائدة عظيمة، لكن أخاف عليك أن تظهره فتقتلك النصارى في الحين.
فقلت: يا سيدي والله العظيم وبحق الإنجيل ومن جاء به لا أتكلم بشيء مما تسره إليّ إلاّ
عن أمرك فقال: يا ولدي إني سألتك في أول قدومك عن بلدك وهل هو قريب من المسلمين وهل يغزونكم أو تغزونهم؟ لأستخبر به ما عندك من المنافرة للإسلام، فاعلم يا ولدي أن (البار قليط) هو اسم من أسماء نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم أنزل الكتاب الرابع المذكور على لسان دانيال عليه السلام واخبر انه سينزل هذا الكتاب عليه وإن دينه دين الحق، وملته هي الملة البيضاء والمذكورة في الإنجيل.
فقلت: يا سيدي وما تقول في دين النصارى؟
فقال: يا ولدي لو أن النصارى قاموا على دين عيسى عليه السلام لكانوا على دين الله - لأن عيسى وجميع النبيين دينهم دين الله تعالى.
فقلت: وكيف الخلاص؟
فقال: بالدخول في دين الإسلام.
فقلت: وهل ينجو الداخل فيه؟
قال لي: نعم ينجو في الدنيا والآخرة.
فقلت له: يا سيدي ان العاقل يختار لنفسه أفضل ما يعلم، فإذا علمت فضل دين الإسلام فما منعك من الدخول فيه؟
فقال لي: يا ولدي إن الله لم يطلعني على فضل دين الإسلام وشرف نبي الإسلام إلى بعد كبر سني وضعف جسمي، ولا عذر لنا فيه بل حجة الله علينا قائمة، ولو هداني الله لذلك وأنا في سنك لتركت كل شيء ودخلت في دين الحق، وحب الدنيا رأس كل خطيئة فأنت ترى ما أنا فيه عند النصارى من رفعة الجاه والعز والترقي وكثرة عرض الدنيا، ولو أني ظهر عليّ شيء من الميل إلى دين الإسلام لقتلني العامة في أسرع وقت، وهب أني نجوت منهم وخلصت إلى المسلمين فأقول: إني جئتكم مسلما فيقولون لي: قد نفعت نفسك بالدخول في دين الحق فلا تمنن علينا في دين خلصت به نفسك من عذاب الله، فأبقى بينهم شيخا فقيرا ابن تسعين سنة لا أفقه لسانهم ولا يعرفون حقي، فأموت بينهم بالجوع، وأنا والحمد لله على دين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى ما جاء به وإن كنت على دين عيسى ظاهرا يعلم الله ذلك مني.
فقلت له: يا سيدي أفتدلني أن أمشي إلى بلاد المسلمين أو أدخل في دينهم؟
فقال لي: إن كنت عاقلا طالبا للنجاة فبادر إلى ذلك تحصل لك الدنيا والآخرة، ولكن يا ولدي هذا أمر لم يحضره أحد معنا الآن فاكتمه بغاية جهدك، وإن ظهر عليك شيء منه يقتلك العامة لحينك ولا أقدر على نفعك، ولا ينفعك أن تنقل ذلك عني فأني وقولي مصدق عليك وقولك غير مصدق عليّ، وأنا بريء من دمك ان فهت بشيء من هذا.
فقلت له: يا سيدي أعوذ بالله من سريان الوهم إلى هذا الحد، وعاهدته بما أرضاه. ثم أخذت في أسباب الرحلة وودعته فدعا لي بخير وزودني بخمسين دينارا ذهبيا، وركبت البحر منصرفا إلى بلدي مدينة ميورقة فأقمت بها ستة اشهر، ثم سافرت منها إلى جزيرة صقلية وأقمت بها خمسة أشهر وأنا أنتظر مركبا يتوجه لأرض المسلمين فحضر مركب يسافر إلى مدينة تونس، فسافرت فيه من صقلية، وأقلعنا. عنها قرب مغيب الشقق، فوردنا مرسى تونس قرب الزوال بحكم الله تعالى، فلما أنزلنا بديوان تونس وسمع بي الذين بها من النصارى أتوا بمركوب حملوني معهم إلى ديارهم وصحبتهم بعض التجار الساكنين أيضا بتونس فأقمت عندهم في ضيافتهم على أرغد عيش أربعة أشهر، وبعد ذلك سألتهم هل بدار السلطنة أحد يحفظ لسان النصارى، وكان السلطان إذ ذاك مولانا أبو العباس أحمد رحمه الله فذكروا لي أن بدار السلطان المذكور رجلا فاضلا من كبار خواصه اسمه يوسف الطبيب وكان طبيبه ومن خواصه ففرحت بذلك فرحا شديدا وسألت عن مسكن هذا الرجل الطبيب فدللت عليه واجتمعت به وذكرت له شرح حالي وسبب قدومي للدخول في دين الإسلام وأني أرغب أن يكون ذلك على يديه فسر الرجل بذلك سرورا عظيما ثم ركب فرسه وأحتملني معه إلى دار السلطان، ودخل عليه فأخبره بحديثي. وأستأذنه عليّ فتمثلت بين يديه، فأول ما سألني السلطان عن عمري فقلت له خمسة وثلاثون سنة ثم سألني كذلك عما قرأت من العلوم فأخبرته، فقال لي: قدمت خير مقدم فأسلم على بركة الله تعالى فقلت للترجمان - هو الطبيب المرقوم -: إنه لا يخرج أحد من دين إلاّ ويكثر أهله القول فيه والطعن عليه فأرغب من إحسانكم إلى الذين بحضرتكم من تجار النصارى وأجنادهم وأختارهم وتسألوهم عني وتسمع ما يقولونه في حقي، وحينئذ أسلم.
فقال لي بواسطة الترجمان أنت طلبت كما طلب عبد الله بن سلام من النبي صلى الله عليه وسلم حين أسلم. ثم أرسل إلى أجناد النصارى وبعض تجارهم وأدخلني في بيت قريب من مجلسه فلما دخل النصارى عليه قال لهم: ما تقولون في هذا القسيس الجديد الذي قدم في هذا المركب قالوا: يا مولانا هو عالم كبير في ديننا، وقال شيوخنا أنهم ما رأوا أعلى منه درجة في العلم والدين في ديننا.
فقال لهم: وما تقولون فيه إذا أسلم؟
فقالوا: نعوذ بالله من ذلك وهو ما يفعل هذا أبدا.
فلما سمع ما عند النصارى بعث إليّ فحضرت بين يديه وتشهدت بشهادة الحق بمحضر النصارى فصلبوا على وجوههم وقالوا: ما محمله على هذا إلاّ حب التزويج فإن القسيس عندنا لا يتزوج فخرجوا مكروبين محزونين، فرتب لي السلطان رحمه الله كل يوم ربع دينار، وأسكنني في دار المختص وزوجني بنت الحاج محمد الصفار، فلما عزمت على البناء بها أعطاني مائة دينار ذهبا وكسوة جديدة كاملة فابتنيت بها وولد لي منها ولد سميته محمدا
على وجه التبرك باسم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
الفصل الثاني - فيما اتفق لي أيام مولانا أبي العباس أحمد وولده مولانا أبي فارس عبد العزيز.
وبعد خمسة أشهر من إسلامي قدمني السلطان لقيادة البحر بالديوان (1) فكان مراده بذلك أن أحفظ اللسان العربي فيه بكثرة ما يتكرر علي من ترجمة التراجمة بين النصارى والمسلمين فحفظت اللسان العربي في مدة عام، وحضرت لعمارة (2) الجنويز وللفرانسيس لمدينة المهدية وكنت أترجم للسلطان ما يرد من كتبهم، وانتقلت مع السلطان لحصار قابس وكنت على خزائنه، ثم إلى حصار قفصة، وفيه ابتدأ مرضه الذي مات فيه ثالث شهر شعبان عام ستة وتسعين وستمائة (3) ثم تولى الخلافة بعده مولانا أمير المؤمنين وناصر الدين أبو فارس عبد العزيز، فجدد لي جميع أوامر والده بمرتباتي ومنافعي كلها، ثم زادني ولاية دار المختص، فاتفق لي في أيامه بالديوان أن مركبا قدم موسوقا بسلاح المسلمين فلما أرسى دخل عليه مركبان من صقلية فأخذاه لحينه بعد أن هرب المسلمين منه برقابهم واستولى النصارى على أموالهم فأمر مولانا السلطان أبو فارس صاحب ولاية الديوان وشهوده أن يخرجوا إلى حلق الوادي ويتحدثوا مع النصارى في فداء أموال المسلمين فخرجوا وطلبوا الأمان لترجمان كان معهم فأمنوه فصعد إليهم لمراكبهم وتحدث معهم في الوزن، فقالوا في ذلك ولم يحصل منهم شيء، وكان قد ورد في هذا المركب قسيس كبير القدر في صقلية، وكان بيني وبينه صداقة كبيرة كأنها اخوة، إذ كنت أطلب العلم معه، وقد سمع بإسلامي فقدم في هذا المركب يستدعيني الرجوع إلى دين النصرانية، ويأخذني بالصداقة التي كانت بيننا فلما اجتمع بالترجمان الذي صعد إليهم للمركب قال له: ما اسمك؟ قال: علي. فقال له: يا علي خذ هذا الكتاب وبلغه للقائد عبد الله قائد البحر عندكم بالديوان، وهذا دينار فإذا رددت لي جوابه أعطيك دينارا آخر، فقبض منه الكتاب والدينار وجاء لحلق الوادي، فأخبر صاحب الديوان بكل ما قالوا له ثم أخبره بما قاله القسيس، وبالكتاب الذي أعطاه وبالدينار الذي استأجره به فأخذ صاحب الديوان الكتاب وترجمه له بعض التجار الجنونيّين، فبعت الأصل والنسخة لمولانا أبي فارس، فقرأه ثم بعث إليّ فحضرت بين يديه فقال لي: يا عبد الله هذا كتاب رجل من البحر فاقرأه وأخبرنا بما فيه فقرأته وضحكت، فقال لي: ما أضحكك؟
(1) الديوان في اصطلاح العصر الحفصي هو مصلحة الجمارك وبالناحية الجنوبية من صفاقس باب يسمى إلى الآن باب الديوان، وكان قديما يشرف على البحر على مقربة من مصلحة الجمارك.
(2)
جاء في ثمانين قطعة ونازلوا المهدية وأقاموا عليها نحو شهرين، ووجه إليهم السلطان أبو العباس أحمد جيشا مع أخيه الحاجب أبي زكريا ودارت بينهم معارك متعددة. ثم انجلوا عنها دون أن يظفروا بمرغوب. راجع اتحاف أهل الزمان 1/ 180 والمؤنس ص 153.
(3)
كذا في الأصل من طبعة مصر وهو تحريف ظاهر صوابه: سبعمائة (بتقديم السين 796).