المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

النحل - تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم - جـ ٥

[أبو السعود]

الفصل: النحل

النحل

ص: 134

‌83

- 86 {يعرفون نعمة الله} استئنافٌ لبيان أن تولّيَهم وإعراضَهم عن الإسلام ليس لعدم معرفتهم بما عُدد من نعمِ الله تعالَى أصلاً فإنهم يعرِفونها ويعترفون أنها من الله تعالى {ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} بأفعالهم حيث يعبدون غيرَ مُنعمها أو بقولهم إنها بشفاعة آلهتنا أو بسب كذا وقيل نعمةُ الله تعالى نبوة محمدٍ صلى الله عليه وسلم عرفوها بالمعجزات كما يعرفون أبناءَهم ثم أنكروها عِناداً ومعنى ثم لاستبعاد الإنكار بعد المعرفة لأن حق مَنْ عرف النعمة الاعترافُ بها لا الإنكارُ وإسنادُ المعرفة والإنكارِ المتفرِّعِ عليها إلى ضمير المشركين على الإطلاقِ من باب إسنادِ حالِ البعض إلى الكل كقولهم بنُو فلان قتلُوا فلاناً وإنما القاتلُ واحدٌ منهم فإن بعضهم ليسوا كذلك لقوله سبحانه {وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون} أي المنكرون بقلوبهم غيرُ المعترفين بما ذكر والحُكم عليهم بمطلق الكفر المؤذِن بالكمال من حيث الكميةُ لا ينافي كمالَ الفِرقة الأولى من حيث الكيفية هذا وقد قيل ذكرُ الأكثر إما لأن بعضهم لم يَعرِفوا لنقصان العقل أو التفريطِ في النظر أو لم يقُم عليه الحجةُ لأنه لم يبلغ حد التكليف فتدبر

ص: 134

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا} يشهد لهم بالإيمان والطاعةِ وعليهم بالكفر والعصيان وهو نبيها {ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} في الاعتذار إذ لا عذرَ لهم وثمَّ للدَّلالة على أنَّ ابتلاءهم بالمنع عن الاعتذار المنيء عن الإقناط الكليِّ وهو عند ما يقال لهم اخسئوا فِيهَا وَلَا تُكَلّمُونِ أشدُّ من ابتلائهم بشهادة الأنبياء عليهم السلام عليهم وأطمُّ {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} يُسترضَون أي لا يقال لهم ارضُوا ربكم إذ الآخرةُ دارُ الجزاء لا دارُ العمل وانتصابُ الظرف بمحذوف تقديرُه اذكرْ أو خوِّفْهم يوم نبعث الخ أو يوم نبعث يحيق بهم ما يحيق مما لا يوصف وكذا قوله تعالى

ص: 134

{وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب} الذي يستوجبونه بظلمهم وهو عذابُ جهنم {فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ} ذلك {وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ} أي يُمهلون كقوله تعالى بَلْ تَأْتِيهِم بغتة فتبهتهم

ص: 134

{وإذا رأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءهُمْ} الذين كانوا يدعونهم في الدنيا وهم الأوثانُ أو الشياطينُ الذين شاركوهم في الكفر بالحمل عليه وقارنوهم في الغيّ والضلال {قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا ندعو مِن دُونِكَ} أي نعبدهم أو نطيعهم ولعلهم قالوا ذلك طمعاً في توزيع العذاب بينهم كما ينبئ عنه قوله سبحانه {فَأَلْقَوُاْ} أي شركاؤهم {إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لكاذبون} فإن تكذيبهم إياهم فيما قالوا ليس إلا للمدافعة والتخلص عن غائلة مضمونه وإنما كذبوهم وقد كانوا يعذبونهم ويطيعونهم لأن الأوثانَ ما كانوا راضين بعبادتهم لهم فكأن عبادتهم لم تكن عبادة لهم كما قالت الملائكةُ عليهم

ص: 134

النحل 87 89 السلام بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن يعنون أن الجنَّ هم الذين كانوا راضين بعبادتهم لا نحن أو كذبوهم في تسميتهم شركاءَ وآلهةً تنزيهاً لله سبحانه عن الشريك والشياطينُ وإن كانوا راضين بعبادتهم لهم لكنهم لم يكونوا حاملين لهم على وجه القسر والإلجاءِ كما قال إبليسُ وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلَاّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى فكأنهم قالوا ما عبدتمونا حقيقة بل إنما عبدتم أهواءكم

ص: 135

{وَأَلْقَوْاْ} أي الذين أشركوا {إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم} الاستسلامَ والانقيادَ لحُكمه العزيز الغالب عبد الاستكبار عنه في الدنيا {وَضَلَّ عَنْهُم} أي ضاع وبطل {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} من أن لله سبحانه شركاءَ وأنهم ينصُرون ويشفعون لهم وذلك حين كذبوهم وتبرءوا منهم

ص: 135

{الذين كَفَرُواْ} في أنفسهم {وَصُدُّواْ} غيرهم {عَن سَبِيلِ الله} بالمنع عن الإسلام والحمل على الكفر {زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب} الذي كانوا يتسحقونه بكفرهم قيل في زيادة عذابهم حياتٌ أمثالُ البُخْت وعقاربُ أمثالُ البغال تلسَع إحداهن فيجد صاحبها حُمَتَها أربعين خريفاً وقيل يُخرجون من النار إلى الزمهرير فيبادرون من شدة البرد إلى النار {بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ} متعلق بقوله زدناهم أي زدنا عذابهم بسب استمرارِهم على الإفساد وهو الصدّ المذكور

ص: 135

{وَيَوْمَ نَبْعَثُ} تكريرٌ لما سبق تثنيةً للتهديد {فِى كُلّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ} أي نبياً {مّنْ أَنفُسِهِمْ} من جنسهم قطعاً لمعذرتهم وفي قوله تعالى عَلَيْهِمْ إشعارٌ بأن شهادةَ أنبيائِهم على الأمم تكون بمحضر منهم {وَجِئْنَا بِكَ} إيثارُ لفظ المجيء على البعث لكمال العنايةِ بشأنه عليه السلام وصيغةُ الماضِي للدِلالة على تحقق الوقوع {شَهِيدًا على هَؤُلآء} الأممِ وشهدائِهم كقولِه تعالى فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هَؤُلاء شَهِيداً وقيل على أمتك والعاملُ في الظرف محذوفٌ كما مر والمراد به يوم القيامة {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب} الكاملَ في الكتابية الحقيقَ بأن يُخَص باسم الجنس وهو إما استئنافٌ أو حال بتقدير قد {تِبْيَانًا} بياناً بليغاً {لّكُلّ شَىْء} يتعلق بأمور الدين ومن جملة ذلك أحوالُ الأممِ مع أنبيائهم عليهم السلام فيكون كالدليل على كونه عليه السلام شهيداً عليهم وكذا من جملته ما أخبر به هذه الآيةُ الكريمة من بعث الشهداءِ وبعثِه عليه السلام شهيداً عليهم عليهم الصلاة والسلام والتبيانُ كالتِلقاء في كسر أوله وكونُه تبياناً لكل شيء من أمور الدين باعتبار أن فيه نصاً على بعضها وإحالةً لبعضها على السنة حيث أمر باتباع النبيِّ صلى الله عليه وسلم وطاعته وقيل فيه وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى وحثًّا على الإجماع وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته باتباع أصحابه حيث قال أصحابي كالنّجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم وقد اجتهدوا وقاسوا ووطئوا طرقَ الاجتهاد فكانت السنة والإجماعُ والقياسُ مستندةً إلى تبيان

ص: 135

النحل 90 91 الكتاب ولم يضُرَّ ما في البعض من الخفاء في كونه تبياناً فإن المبالغةَ باعتبار الكمية دون الكيفية كما قيل في قوله تعالى {وَمَا أَنَاْ بظلام لّلْعَبِيدِ} إنه من قولك فلان ظالم لعبيده وظلام لعبيده ومنه قوله سبحانه وَمَا للظالمين مِنْ أَنصَارٍ {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} للعالمين فإن حرمان الكفر من مغانم آثارِه من تفريطهم لا من جهة الكتاب {وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ} خاصة أو يكون كلُّ ذلك خاصاً بهم لأنهم المنتفِعون بذلك

ص: 136

{إِنَّ الله يَأْمُرُ} أي فيما نزّله تبياناً لكل شيء وهدًى ورحمةً وبشرى للمسلمين وإيثارُ صيغةِ الاستقبال فيه وفيما بعده لإفادة التجددِ والاستمرار {بالعدل} بمراعاة التوسطِ بين طرفي الإفراطِ والتفريطِ وهو رأسُ الفضائل كلِّها يندرج تحته فضيلةُ القوةِ العقلية المَلَكية من الحكمة المتوسطة بين الحر مزة والبَلادة وفضيلةُ القوةِ الشهوية البهيمية من العِفة المتوسّطة بين الخلاعة والخمود وفضيلةُ القوة الغضبية السبعية من الشجاعة المتوسطة بين التهوُّرِ والجُبن فمن الحِكم الاعتقادية التوحيدُ المتوسطُ بين التعطيل والتشريك نُقلَ عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما أنَّ العدلَ هو التوحيدُ والقولُ بالكسب المتوسّطِ بين الجبر والقدَر ومن الحِكم العملية التبعد بأداء الواجبات المتوسطِ بين البَطالة والترهب ومن الحِكم الخليقية الجودُ المتوسط بين البخل والتبذير {والإحسان} أي الإتيانِ بما أمر به على الوجه اللائقِ وهو إما بحسب الكمية كالتطوع بالنوافل أو بحسب الكيفيةِ كما يشير إليه قوله عليه الصلاة والسلام الإحسانُ أنْ تعبدَ الله كأنَّك تراهُ فإنْ لم تكنْ تراه فإنه يراك {وَإِيتَآء ذِى القربى} أي إعطاءِ الأقارب ما يحتاجون إليه وهو تخصيصٌ إثرَ تعميمٍ اهتماماً بشأنه {وينهى عَنِ الفحشاء} الإفراط في مشايعة القوة الشهوية كالزنا مثلاً {والمنكر} ما يُنكَر شرعاً أو عقلاً من الإفراط في إظهار آثار القوةِ الغضبية {والبغى} الاستعلاءُ والاستيلاءُ على الناس والتجبرُ عليهم وهو من آثار القوة الوهمية الشيطانيةِ التي هي حاصلةٌ من رذيلتَيْ القوتين المذكورتين الشهويةِ والغضبية وليس في البشر شرٌّ إلا وهو مندرجٌ في هذه الأقسام صادرٌ عنه بواسطة هذه القُوى الثلاث ولذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه هي أجمعُ آيةٍ في القرآن للخير والشر ولو لم يكن فيه غيرُ هذه الآية الكريمة لكفَتْ في كونه تبياناً لكل شيءٍ وهدى {يَعِظُكُمُ} بما يأمر وينهى وهو إما استئنافٌ وإما حالٌ من الضميرين في الفعلين {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} طلباً لأن تتعظوا بذلك

ص: 136

{وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله} هو البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها مبايعةٌ لله سبحانه لقولِه تعالى إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله {إِذَا عاهدتم} أي حافظوا على حدود ما عاهدتم الله عليه وبايعتم به رسول الله صلى الله عليه وسلم

ص: 136

انحل 92 93 {وَلَا تَنقُضُواْ الأيمان} التي تحلِفون بها عند المعاهدة {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} حسبما هو المعهودُ في أثناء العهودِ لا على أنْ يكونَ النهيُ مقيداً بالتوكيد مختصاً به {وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} شاهداً رقيباً فإن الكفيلَ مُراعٍ لحال المكفول به محافظٌ عليه {أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} من نقض الأيمان والعهودِ فيجازيكم على ذلك

ص: 137

{وَلَا تَكُونُواْ} فيما تصنعون من النقض {كالتى نَقَضَتْ غَزْلَهَا} أي ما غزلتْه مصدرٌ بمعنى المفعول {مِن بَعْدِ قُوَّةٍ} متعلق بنقضت أي كالمرأة التي نقضت غزلها من بعد إبرامه وإحكامِه {أنكاثا} طاقاتٍ نكثتْ فتلَها جمع نِكْث وانتصابُه عَلى الحاليةِ من غزْلَها أو على أنَّه مفعولٌ ثانٍ لنقضت فإنه بمعنى صيّرت والمرادُ تقبيحُ حالِ النقض بتشبيه الناقض بمثل هذه الخرقاءِ المعتوهةِ قيل هي رَيْطةُ بنتُ سعد بن تيم وكانت خرقاءَ اتخذت مِغزلاً قدرَ ذراعٍ وصَنّارةً مثلَ أصبع وفلكةً عظيمةً على قدرها فكانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقُضْن ما غزَلْن {تَتَّخِذُونَ أيمانكم دَخَلاً بَيْنَكُمْ} حالٌ من الضمير في لا تكونوا أو في الجار والمجرور الواقعِ موقعَ الخبر أي مشابهين لا مرأة شأنُها هذا حالَ كونِكم متَّخذين أيمانَكم مفسدةً ودخَلاً بينكم وأصلُ الدخَل ما يدخُل الشيء ولم يكن منه {أَن تَكُونَ أُمَّةٌ} أي بأن تكون جماعة {هِىَ أَرْبَى} أي أزيد عدداً وأوفر مالاً {مِنْ أُمَّةٍ} من جماعة أخرى أي لا تغدُروا بقوم لكثرتكم وقلتهم أو لكثرة مُنابذيهم وقوتهم كقريش فإنهم كانوا إذا رأوا شوكةً في أعادي حلفائِهم نقضوا عهدَهم وحالفوا أعداءهم {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ} أي بأن تكون أمةٌ أربى من أمة أي يعاملكم بذلك معاملةَ من يختبركم لينظر أتتمسكون بحبل الوفاءِ بعهد الله وبَيعةِ رسولِه صلى الله عليه وسلم أم تغترّون بكثرة قريشٍ وشوكتِهم وقلةِ المؤمنين وضعفهم بحسب ظاهر الحال {وَلَيُبَيّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} حين جازاكم بأعمالكم ثواباً وعقاباً

ص: 137

{وَلَوْ شَاء الله} مشيئةَ قسرٍ وإلجاءٍ {لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحدةً} متفقةٌ على الإسلام {ولكن} لا يشاء ذلك لكونه مزاحِماً لقضية الحِكمة بل {يُضِلُّ مَن يَشَاء} إضلالَه أي يخلق فيه الضلالَ حسبما يصرِفُ اختيارَه الجزئيَّ إليه {وَيَهْدِى مَن يَشَاء} هدايته حسبما يصرِف اختياره إلى تحصيلها {ولتسألن} جميعاً يوم القيامة {عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} في الدُنيا وهذا إشارةٌ إلى ما لُوِّح به من الكسب الذي عليه يدورُ أمرُ الهداية والضلال

ص: 137