الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإسراء
86
- 8 {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) من القرآن الذي هو شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين ومنبَعٌ للعلوم التي أوتيتموها وثبتّناك عليه حين كادوا يفتنونك عنه ولولاه لكدتَ تركن إليهم شيئا قليلا وإنما عبّر عنه بالموصول تفخيماً لشأنه ووصفاً له بما في حيز الصلة ابتداءً وإعلاماً بحاله من أول الأمرِ وبأنه ليس من قبيل كلامِ المخلوقِ واللامُ موطئةٌ للقسم ولنذهبن جوابُه النائبُ منابَ جزاءِ الشرطِ وبذلك حسُنَ حذفُ مفعولِ المشيئةِ والمرادُ من الذهاب به المحوُ من المصاحف والصدورِ وهو أبلغُ من الإذهاب عنِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه أن أولَ ما تفقِدون من دينكم الأمانةُ وآخرَ ما تفقِدون الصلاةُ وليُصَلّين قوم ولادين لهم وأن هذا القرآنَ تُصبحون يوماً وما فيكم منه شيءٌ فقال رجلٌ كيف ذلك وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتْناه في مصاحفنا نعلّمه أبناءَنا ويعلمه أبناؤُنا أبناءَهم فقال يسرى عليه ليلاً فيصبح الناسُ منه فقراءَ تُرفع المصاحفُ وينزَعُ ما في القلوب (ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ به) أي القران (عَلَيْنَا وَكِيلاً) من يتوكل علينا استردادَه مسطوراً محفوظاً
(إِلَاّ رَحْمَةً مّن رَّبّكَ) فإنها إن نالتْك لعلها تستردّه عليك ويجوز أن يكون الاستثناءُ منقطِعاً بمعنى ولكنْ رحمةٌ مّن رَّبِكَ تركَتْه غيرَ مذهوبٍ به فيكون امتناناً بإبقائه بعد المنة بتنزيله وترغيباً في المحافظه على أداء حقوقِه وتحذيراً من أن لا يُقدرَ قدرُه الجليلُ ويفرَّط في القيام بشكره وهو أجلُّ النعم وأعظمُها (إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا) كإرسالك وإنزالِ الكتابِ عليك وإبقائِه في حفظك وغير ذلك
(قُلْ) للذين لا يعرِفون جلالةَ قدرِ التنزيل ولا يفهمون فخامةَ شأنه الجليل بل يزعُمون أنه من كلام البشر (لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن) أي اتفقوا (على أن يأتو بمثل هذا القران) المنعوتِ بما لا تدركه العقولُ من النعوت الجليلةِ في البلاغة وحسن النظم وكمالِ المعنى وتخصيصُ الثقلين بالذكر لأن المنكِرَ لكونه من عند الله تعالى منهما لا من غيرهما لا لأن غيرَهما قادرٌ على المعارضة (لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) أوثر الإظهارُ على إيراد الضميرِ الراجع إلى المِثْل المذكورِ احترازاً عن أن يُتوَّهم أن له مِثْلاً معيناً وإيذاناً بأن المرادَ نفيُ الإتيانِ بمثْلٍ ما أي لا يأتون بكلام مماثلٍ له فيما ذُكر من الصفات البديعةِ وفيهم العربُ العاربة أربابُ البراعةِ والبيانِ وهو جوابٌ للقسم الذي ينبئ عنه اللامُ الموطئةُ وسادٌّ مسدَّ جزاءِ الشرطِ ولولاها لكان جواباً له بغير جزمٍ لكون الشرط ماضياً كما في قولِ زُهيرٍ
…
وَإِنْ أَتَاهُ خَليلٌ يَوْمَ مَسْأَلة
…
يقُولُ لا غائبٌ مالي ولا حرِمُ
…
وحيث كان المرادُ بالاجتماع على الإتيان بمثل القرآنِ مطلقَ الاتفاق عل ذلك سواءٌ كان التصدِّي للمعارضة من كلِّ واحدٍ منهم على الانفراد أو من المجموع بأن يتألّبوا على تلفيق كلامٍ واحد بتلاحق الأفكار وتعاضد الانظالر قيل وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لبعض ظهيرا
الإسراء 89 92 أي في تحقيق ما يتوخَّوْنه من الإتيان بمثله وهو عطفٌ على مقدرٍ أي لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضُهم ظهيراً لبعض ولو كان الخ وقد حُذف المعطوفُ عليه حذفاً مطّرداً لدِلالة المعطوفِ عليه دِلالةً واضحةً فإن الاتيان بمثله حيث انتفى عند التظاهرِ فلأَنْ ينتفيَ عند عدِمه أولى وعلى هذه النكتةِ يدورُ ما في إنْ ولو الوصليتين من التأكيد كما مر غيرَ مرة ومحلُّه النصبُ عَلى الحاليّةِ حسبما عُطف عليه أي لا يأتون بمثله على كل حالٍ مفروضٍ ولو في هذه الحال المنافيةِ لعدم الإتيانِ به فضلاً عن غيرها وفيه حسمٌ لأطماعِهم الفارغةِ في رَوْم تبديل بعض آياتِه ببعض ولا مساغَ لكون الآية تقريراً لما قبلها من قوله تعالى ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً كما قيل لكن لا لِما قيلَ من أن الإتيانَ بمثله أصعبُ من استرداد عينِه ونفيُ الشيء إنما يقرره نفي مادونه لانفي مافوقه فإن أصعبيةَ الاستردادِ بغير أمرِه تعالى من الإتيان بمثله مما لا شُبهةَ فيه بل لأن الجملةَ القسميةَ ليست مَسوقةً إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم بل إلى المكابرين من قبله صلى الله عليه وسلم
(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا) كررنا وردّدنا على أنحاءٍ مختلفةٍ توجب زيادةَ تقريرٍ وبيان ووَكادةِ رسوخٍ واطمئنان (لِلنَّاسِ فِى هذا القرآن) المنعوتُ بما ذُكِرَ من النعوتِ الفاضلة (مِن كُلّ مَثَلٍ) من كل معنى بديع هو في الحسنُ والغرابةُ واستجلابُ النفسِ كالمَثَل ليتلقَّوْه بالقبول (فأبى أَكْثَرُ الناس (أوثر الإظهارُ على الإضمار تأكيداً وتوضيحاً (إِلَاّ كُفُورًا) أي إلا جُحوداً وإنما صح الاستثناءُ من الموجبُ مع أنه لا يصِح ضربتُ إلا زيداً لأنه متأوّل بالنفي كأنه قيل ما قَبِل أكثرُهم إلا كفوراً وفيه من المبالغة ما ليس في أبو الإيمانَ لأن فيه دِلالةً على أنهم لم يرضَوا بخَصلة سوى الكفورِ من الإيمان والتوقفِ في الأمر ونحو ذلك وأنهم بالغوا في عدم الرضا حتى بلغوا مرتبةَ الإباءِ
(وَقَالُواْ) عند ظهور عجزهم ووضوحِ مغلوبيّتِهم بالإعجاز التنزيليّ وغيرِه من المعجزات الباهرةِ متعللين بما لا يمكن في العادة وجودُه ولا تقتضي الحكمةُ وقوعَه من الأمور كما هو دَيدَنُ المبهوتِ المحجوج (لَن نُّؤْمِنَ لك حتى تفجر) وقرئ بالتشديد (لَنَا مِنَ الأرض) أرضِ مكة (يَنْبُوعًا) عيناً لا ينضب ماؤها بفعول من نبع الماءُ كيعْبوب من عبّ الماءَ إذا زخر
(أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ) أي بستانٌ تسترُ أشجارُه ما تحتها من العَرْصة (مّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجّرَ الأنهار) أي تجريها بقوة (خلالها تفجيرا) كثرا والمرادُ إما إجراءُ الأنهارِ خلالها عند سقْيها أو إدامة إجرائها كما ينبئ عنه الفاءُ لا ابتداؤه
(أَوْ تُسْقِطَ السماء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا) جمع كِسْفة كقطعة وقِطَع لفظاً ومعنى وقرىء بالسكون كسِدْرة وسِدْر وهي حالٌ من السماء والكاف في كما في محل النصبُ على أنَّه صفةُ مصدرٍ محذوفٍ أي إسقاطاً مماثلاً لما زعمت
الإسراء 93 94 يعنُون بذلك قولَه تعالى أو تسقط عَلَيْهِمْ كِسَفاً مّنَ السماء (أو تأتي بالله والملائكة قَبِيلاً) أي مقابلاً كالعشير والمعاشِر أو كفيلاً يشهد بصِحة ما تدعيه وهو حالٌ من الجلالة وحالُ الملائكةِ محذوفةٌ لدِلالتها عليها أي والملائكة قبلاء كما حذف الخبرُ في قوله فإني وقيارٌ بها الغريب أو جماعةً فيكون حالاً من الملائكة
(أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مّن زُخْرُفٍ) من ذهب وقد قرئ به وأصلُه الزينة (أَوْ ترقى فِى السماء) أي في معارجها فحُذف المضافُ يقال رقيَ في السُّلّم وفي الدرجة (وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيّكَ) أي لأجل رُقيِّك فيها وحده أو لن نصدق رقيَّك فيها (حَتَّى تتنزل) منها (عَلَيْنَا كِتَابًا) فيه تصديقك (نقرؤه) نحن من غير أن يُتلقّى من قِبلك عن ابن عباس رضي الله عنهما قال عبدُ اللَّه بنُ أبي أمية لن نؤمن لك حتى تتخذ إلى السماء سُلّماً ثم ترقى فيه وأنا أنظُر حتى تأتيَها وتأتَي معك بصك منشورٍ معه أربعةٌ من الملائكة يشهدون أنك كما تقول وما كانوا يقصِدون بهاتيك الاقتراحاتِ الباطلة إلا العنادَ واللجاج ولو أنهم أوتو أضعافَ ما اقترحوا من الآيات ما زادهم ذلك إلا مكابرةً وإلا فقد كما يكفيهم بعضُ ما شاهدوا من المعجزات التي تخِرُّ لها صُمُّ الجبال (قُلْ) تعجباً من شدة شكيمتِهم وتنزيهاً لساحة السُّبحات عما لا يكاد يليق بها من مثل هذه الاقتراحاتِ الشنيعة التي تكاد السمواتُ يتفطّرن منها أو عن طلبك ذلك وتنبيهاً على بطلان ما قالوه (سبحان ربي) وقرئ قال سبحان ربي (هَلْ كُنتُ إَلَاّ بَشَرًا) لا ملَكاً حتى يُتصور مني الرقي في السماء ونحوه (رَسُولاً) مأموراً من قبل ربي بتبليغ الرسالةِ من غير أن يكون لي خِيَرةٌ في الأمر كسائر الرسلِ وكانوا لا يأتون قومَهم إلا بما يظهره الله على أيديهم حسبما يلائم حالَ قومِهم ولم يكن أمرُ الآياتِ إليهم ولا لهم أن يتحكموا على الله سبحانه بشيء منها وقولُه بشراً خبرٌ لكنت ورسولاً صفتُه
(وَمَا مَنَعَ الناس) أي الذين حُكيت أباطيلُهم (أَن يُؤْمِنُواْ) مفعولٌ ثانٍ لمنع وقوله (إذا جَاءهُمُ الهدى) أي الوحيُ ظرفٌ لمنع أو يؤمنوا أي وما منعهم وقت مجئ الوحي المقرونِ بالمعجزاتِ المستدعيةِ للإيمان أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوّتك أو ما منعهم أن يؤمنوا بذلك وقت مجئ ما ذكر (إِلَاّ أَن قَالُواْ) في محلِ الرفعِ على أنه فاعلُ منع أي إلا قولُهم (أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولاً) منكِرين أن يكون رسولُ الله تعالى من جنس البشرِ وليس المرادُ أن هذا القولَ صدر عن بعضهم فمنع بعضاً آخرَ منهم بل المانعُ هو الاعتقادُ الشاملُ للكل المستتبعُ لهذا القول منهم وإنما عبرّ عنه بالقول إيذاناً بأنه مجردُ قولٍ يقولونه بأفواههم من غير أن يكون له مفهومٌ ومِصْداقٌ وحصرُ المانعِ من الإيمان فيما ذكر مع أن لهم موانعَ شتّى لِما أنه معظمُها أو لأنه هو المانعُ بحسب الحال أعني عند سماعِ الجواب بقوله تعالى هَلْ كُنتُ إَلَاّ بَشَرًا رَّسُولاً إذ هو الذي يتشبّثون به حينئذ من غيرِ أنْ يخطُر ببالِهم شبهةً أخرى من شبههم الواهيةِ وفيه إيذانٌ بكمال عنادِهم حيث يشير إلى أن الجوابَ المذكورَ مع كونه حاسماً لموادّ
الإسراء 95 97 شُبَهِهم ملجئاً إلى الإيمان يعكُسون الأمرَ ويجعلونه مانعاً منه
(قُلْ) لهم أولاً من قبلها تبييناً للحكمة وتحقيقاً للحق المُزيحِ للرَّيب (لَّوْ كَانَ) أي ولو وجد واستقر (فِى الأرض) بدل البشر (ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ) قارّين فيها من غير أن يعرُجوا في السماء ويعلموا ما يجب أن يُعلم (لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً) يهديهم إلى الحق ويُرشِدُهم إلى الخير لتمَكُّنهم من الاجتماع والتلقي منه وأما عامة البشر فهم بمعزل من استحقاق المفاوضةِ الملكية فكيف لا وهي منوطةٌ بالتناسب والتجانس فبعثُ الملَكِ إليهم مزاحِمٌ للحكمة التي عليها مبْنى التكوينِ والتشريع وإنما يُبعث الملَك من بينهم إلى الخواصّ المختصّين بالنفوس الزكية لمؤيدين بالقوة القدسية المتعلّقين بكلا العالَمَين الروحانيِّ والجُسماني ليتلقَّوا من جانب ويُلْقوا إلى جانب وقوله تعالى مَلَكًا يحتمل أنْ يكونَ حالاً من رسولاً وأن يكون موصوفاً به وكذلك بشراً في قوله تعالى أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولاً والأولُ أولى
(قُلْ) لهم ثانياً من جهتك بعد ما قلت لهم من قِبلنا ما قلتَ وبينتَ لهم ما تقتضيه الحكمةُ في البعثة ولم يرفعوا إليهِ رأساً 0 كفى بالله) وحده (شَهِيداً) على أني أدّيتُ ما عليّ من مواجب الرسالةِ أكملَ أداءٍ وأنكم فعلتم ما فعلتم من التكذيب والعِناد وتوجيهُ الشهادةِ إلى كونه صلى الله عليه وسلم رسولاً بإظهار المعجزةِ على وفق دعواه كما اختير لا يساعده قوله تعالى (بين وَبَيْنَكُمْ) وما بعده من التعليل وإنما لم يقل بيننا تحقيقاً للمفارقة وإبانةً للمباينة وشهيداً إما حالٌ أو تميير (إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ) من الرسل والمرسَلِ إليهم (خَبِيرَا بَصِيرًا) محيطاً بظواهر أحوالِهم وبواطنها فيجازيهم على ذلك وهو تعليل الكفاية وفيه تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديدٌ للكفار
(وَمَن يَهْدِ الله) كلامٌ مبتدأٌ يفصل ما أشار إليه الكلامُ السابق من مجازاة العبادِ إشارةً إجماليةً أي من يهدِه الله إلى الحق بما جاء من قبله من الهدى (فَهُوَ المهتد) إليه وإلى ما يُؤدِّي إليه من الثواب أو المهتدِ إلى كل مطلوب (وَمَن يُضْلِلِ) أي يخلق فيه الضلال بسوء اختيارِه كهؤلاء المعاندين (فَلَن تَجِدَ لَهُمْ) أوثر ضميرُ الجماعة اعتباراً لمعنى مَنْ غِبّ ما أوثر في مقابله الإفرادُ نظراً إلى لفظها تلويحاً بوَحدة طريقِ الحقِّ وقلةِ سالكيه وتعددِ سبلِ الضلال وكثرةِ الضلال (أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ) من دونِ الله تعالَى أي أنصاراً يهدونهم إلى طريقِ الحقِّ أو إلى طريق يوصلهم إلى مطالبهم الدنيويةِ والأخروية أو إلى طريق النجاة من العذاب الذي يستدعيه ضلالُهم على معنى أن تجدَ لأحد منهم وليًّا على ما تقتضيه قضيةُ مقابلة بالجمع من انقسام الآحادِ إلى الآحاد (وَنَحْشُرُهُمْ) التفاتٌ من الغَيبةِ إلى التَّكلمِ إيذاناً بكمال الاعتناءِ بأمر الحشرِ (يَوْمَ القيامة عَلَى وُجُوهِهِمْ) حالٌ من الضمير المنصوبِ أي
الإسراء 98 100 كائنين عليها سحبا كقوله تعالى يوم يسحبون فِى النار على وُجُوهِهِمْ أو مشياً فقد روي أنَّه قيلَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم كيف يمشون على وجوههم قال إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادرٌ على أن يُمشِيَهم على وجوههم (عُمْيًا) حالٌ منَ الضميرِ المجرورِ في الحال السابقة (وَبُكْمًا وَصُمّا) لا يُبصِرون ما يُقِرّ أعينَهم ولا ينطِقون ما يُقبل منهم ولا يسمعون ما يُلذّ مسامعَهم لما قد كانوا في الدنيا لا يستبصرون بالآيات والعبرِ ولا ينطِقون بالحق ولا يستمعونه ويجوز أن يُحشَروا بعد الحسابِ من الموقفِ إلى النَّارِ مُوفَيْ القُوى والحواسّ وأن يحشروا كذلك ثم يعاد إليهم قواهم وحواسُّهم فإن إدراكاتِهم بهذه المشاعرِ في بعض المواطنِ مما لا ريبَ فيه (مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ) إما حالٌ أو استئنافً وكذا قوله تعالى {كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} أي كلما سكن لهبُها بأن أكلت جلودَهم ولحومَهم ولم يبق فيهم ما تتعلق به النارُ وتحرِقه زدناهم توقداً بأن بدّلناهم جلوداً غيرَها فعادت ملتهبةً ومستعرةً ولعل ذلك عقوبةٌ لهم على إنكارهم الإعادةَ بعد الفناءِ بتكريرها مرةً بعد أخرى ليروها عينا حيث لم يعلموها برهاناً كما يفصحُ عنه قولُه تعالى
(ذلك) أي ذلك العذابُ (جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ) أي بسببِ أنَّهم {كفروا بآياتنا} العقليةِ والنقليةِ الدالةِ على صحة الإعادةِ دَلالةً واضحةً فذلك مبتدأٌ وجزاؤُهم خبرُه ويجوز أن يكون مبتدأً ثانياً وبأنهم خبرُه والجملةُ خبراً لذلك وأن يكون جزاؤهم بدلاً من ذلك أو بياناً له والخبرُ هو الظرف (وَقَالُواْ) منكرِين أشد الانكار {أئذا كنا عظاما ورفاتا أئنا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} إما مصدرٌ مؤكدٌ من غير لفظِه أي لمبعوثون بعثاً جديداً وإما حالٌ أي مخلوقين مستأنفين
(أَوَ لَمْ يَرَوْاْ) أيْ ألم يتفكَّروا ولم يعلموا {أَنَّ الله خلق السماوات والأرض} من غير مادةٍ مع عظمهما {قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم} في الصغر على أن المِثْلَ مُقحَمٌ والمرادُ بالخلق الإعادةُ كما عبر عنها بذلك حيث قيل خلقاً جديداً {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لَاّ رَيْبَ فِيهِ} ) عطف على أولم يروا فإنه في قوة قدر أو واو المعنى قد علموا أن من قدَر على خلق السموات والأرضِ فهو قادرٌ على خلق أمثالِهم من الإنس وجعل لهم ولبعثهم أجلاً محققاً لا ريبَ فيهِ هو يومُ القيامة {فأبى الظالمون} وُضع موضعَ الضميرِ تسجيلاً عليهم بالظُّلم وتجاوزِ الحدِّ بالمرة {إِلَاّ كُفُورًا} أي جحوداً
{قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبّى} خزائنَ رزقِه التي أفاضها على كافة الموجوداتِ وأنتم مرتفعٌ بفعل يفسّره المذكورُ كقول حاتم لو ذاتُ سِوارٍ لَطَمتْني وفائدة ذلك المبالغةُ والدلالة على الاختصاص (إذن لأمسكتم) لبخليم (خشية الانفاق) مخالفة النفاد
الإسراء 101 102 بالإنفاق إذ ليس في الدنيا أحدٌ إلا وهو يختار النفعَ لنفسه ولو آثر غيرَه بشيء فإنما يُؤثره لِعَوض يفوقه فإذن هو بخيلٌ بالإضافة إلى جودِ الله سبحانه {وَكَانَ الإنسان قَتُورًا} مبالغاً في البخل لأن مبْنى أمرِه على الحاجة والضِّنّة بما يحتاج إليه وملاحظةِ العِوضِ بما يبذله
{ولقد آتينا موسى تسع آيات بَيّنَاتٍ} واضحاتِ الدِلالة على نبوته وصِحّةِ ما جَاء بهِ من عند الله وهي العَصا واليدُ والجَرادُ والقُمّل والضفادعُ والدمُ والطوفانُ والسّنونَ ونقصُ الثمرات وقيل انفجارُ الماء من الحجر ونتْقُ الطورِ على بني إسرائيلَ وانفلاقُ البحرِ بدل الثلاث الأخيرة ويأباه أن هذه الثلاثَ لم تكن منزلةً إذ ذاك وأن الأولَين لا تعلقَ لهما بفرعون وإنما أوتيهما بنو اسرائيل عن صفوانَ بن عسّال أن يهوديا سأل النبيِّ صلى الله عليه وسلم عنها فقال أَن لا تُشْرِكُواْ بِهِ شيئاً ولا تسرِقوا ولا تزنوا ولا تقتُلوا النفس التى حَرَّمَ الله إلا بالحق ولا تسحرَوا ولا تأكُلوا الربا ولا تمشوا ببرئ إلى ذي سلطان ليقتُله ولا تقذِفوا مُحصنةً ولا تفِرّوا من الزحف وعليكم خاصّةَ اليهودِ أن لا تعْدوا في السبت فقبّل اليهودي يده ورجله صلى الله عليه وسلم ولا يساعده أيضاً ما ذكر ولعل جوابه صلى الله عليه وسلم بذلك لما أنه المُهم للسائل وقبولُه لما أنه كان في التوارة مسطوراً وقد علِم أنه ما علمه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلا من جهة الوحي {فاسأل بني إسرائيل} وقرئ فسَلْ أي فقلنا له سلْهم من فرعون وقل له أرسلْ معيَ بني إسرائيلَ أو سلهم عن إيمانهم أو عن حال دينِهم أو سلْهم أن يعاضدوك ويؤيده قراءةُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على صيغة الماضي وقيل الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أي فاسألهم عن تلك الآياتِ لتزدادَ يقيناً وطُمَأْنينةً أو ليظهر صِدقُك {إِذْ جَاءهُمُ} متعلق بقلنا وبسأل على القراءة المذكورة وبآياتنا أو بمضمر هو يخبروك أو اذكر على تقدير كونِ الخطابِ للرسول صلى الله عليه وسلم (فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ) الفاءُ فصيحةٌ أي فأظهرَ عند فرعون ما آتيناه من الآيات البيناتِ وبلّغه ما أُرسل به فقال له فرعون
{إني لأظنك يا موسى مَّسْحُورًا} سُحرْت فتخبّط عقلك {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء} يعني الآياتِ التي أظهرها {إِلَاّ رَبُّ السماوات والأرض} ) خالقُهما ومدبرُهما والتعرّضُ لربوبيته تعالى لهما للإيذان بأنه لا يقدِر على إيتاء مثلِ هاتيك الآياتِ العظامِ إلا خالقُهما ومدبّرهما {بَصَائِرَ} حالٌ من الآيات أي بيناتٍ مكشوفاتٍ تُبصّرك صدقي ولكنك تعاند وتكابر نحوُ وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتها أَنفُسُهُمْ ومن ضرورة ذلك العلم العلم بأنه صلى الله عليه وسلم على كمال رصانةِ العقلِ فضلاً عن توهم المسحورية وقرئ علمتُ على صيغة التكلمِ أي لقد علمتُ بيقين أن هذه الآياتِ الباهرةَ أنزلها الله عز سلطانه فكيف يُتوهم أن يحومَ حولي سحر {وَإِنّى لاظُنُّكَ يا فرعون مَثْبُورًا} ) مصروفاً عن الخير مطبوعاً على الشر من قولهم ما ثبَرك عن هذا أي ما صرفك أو هالكاً ولقد قارع صلى الله عليه وسلم ظنَّه بظنه وشتان بينهما كيف لا وظنُّ فرعونَ
الإسراء 103 107 إنك مبين وظنه صلى الله عليه وسلم يتاخم اليقين
(فَأَرَادَ) أي فرعون (أَن يَسْتَفِزَّهُم) أي يستخِفَّهم ويُزعجَهم {مّنَ الأرض} أرضِ مصرَ أو من الأرض مطلقاً بالقتل كقوله سَنُقَتّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِى نِسَاءهُمْ {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا} فعكسنا عليه مكرَه واستفززناه وقومَه بالإغراق
{وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ} من بعد إغراقهم {لبني إسرائيل اسكنوا الأرض} التي أراد أن يستفزّكم منها {فَإِذَا جَاء وَعْدُ الأخرة} الكرةُ الآخرةُ أو الحياةُ أو الساعةُ والدارُ الآخرة أي قيامُ القيامة {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} مختلطين إياكم وإياهم ثم نحكُم بينكم ونميز سعداءكم من أشقيائكم اللفيف الجماعاتُ من قبائلَ شتى
{وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} ) أي وما أنزلنا القرآنَ إلا ملتبساً بالحق المقتضي لإنزاله وما نزل إلا ملتبساً بالحق الذي اشتمل عليه أو ما أنزلناه من السماء إلا محفوظاً وما نزل على الرسول إلا محفوظاً من تخليط الشياطينِ ولعل المرادَ بيانُ عدم اعتراءِ البطلان له أولَ الأمرَ وآخرَه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَاّ مُبَشّرًا} للمطيع بالثواب {وَنَذِيرًا} للعاصي من العقاب وهو تحقيقٌ لحقية بعثته صلى الله عليه وسلم إثرَ تحقيقِ حقية إنزالِ القرآن
{وقرآنا} منصوب بمضمر يفسره قوله تعالى {فرقناه} وقرئ بالتشديد دَلالةً على كثرة نجومِه {لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ} على مَهل وتثبُّتٍ فإنه أيسرُ للحفظ وأعون على الفهم وقرئ بالفتح وهو لغة فيه {ونزلناه تَنْزِيلاً} حسبما تقتضيه الحكمةُ والمصلحة ويقع من الحوادث والواقعات
{قل} للذين كفروا {آمنوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُواْ} فإن إيمانَكم به لا يزيده كمالاً وامتناعَكم لا يورثه نقصاً {إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ} أي العلماء الذين قرءوا الكتبَ السالفةَ من قبل تنزيلِه وعرَفوا حقيقةَ الوحي وأماراتِ النبوةِ وتمكّنوا من التمييز بين الحقِّ والباطلِ والمُحقِّ والمبطلِ ورأوا فيها نعتَك ونعتَ ما أنزل إليك (إِذَا يتلى) أي القرآنُ {عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} أي يسقطون على وجوههم {سُجَّدًا} تعظيماً لأمر الله تعالى أو شكراً لإنجاز ما وعد به في تلك الكتبِ من بعثتك وتخصيصُ الأذقانِ بالذكر للدِلالة على كمال التذللِ إذ حينئذ يتحقق الخُرور عليها وإيثارُ اللام للدِلالة على اختصاص الخُرور بها كما في قوله [فخرَّ صريعاً لليدين وللفمِ] وهو تعليلٌ لما يُفهم من قولِه تعالَى آمنوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُواْ من عدم المبالاة بذلك أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن به أحسنَ إيمانٍ مَنْ هو خيرٌ منكم ويجوز أن يكون تعليلاً لقُلْ على سبيل التسليةِ لرسول الله صلى الله عليه وسلم كأنه قيل تسلَّ بإيمان العلماءِ عن إيمان الجهلةِ ولا تكترث بإيمانهم وإعراضِهم