المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الحجر - تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم - جـ ٥

[أبو السعود]

الفصل: الحجر

الحجر

ص: 80

‌46

- 5 (ادخلوها) على إرادة القول أمراً من الله تعالى لهُم بالدخول وقرىء أدخِلوها أمراً منه تعالى للملائكة بإدخالهم وقرأ الحسن أُدخِلوها مبنياً للمفعول على صيغة الماضي من الإدخال (بِسَلامٍ) ملتبسين بسلام أي سالمين أو مسلما عليكم (آمنين) من الآفات والزوال

ص: 80

(وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ) أي حقدٍ كان في الدنيا وعَنْ عليَ رضيَ الله تعالى عنه أرجو أن أكونَ أنا وعثمانُ وطلحةُ والزبيرُ منهم رضوانُ الله تعالَى عليهم أجمعين (إِخْوَانًا) حال من الضمير في قوله تعالى فِي جنات أو من فاعل ادخلوها أو من الضميرِ في آمنين أو الضمير المضاف إليه والعامل فيه معنى الإضافةِ وكذلك قوله تعالى (على سُرُرٍ متقابلين) ويجوز كونُهما صفتين لإخواناً أو حالين من ضميره لأنه بمعنى متصافِّين وكونُ الثاني حالا من المستكنِّ في الأول وعن مجاهد تدور بهم الأسرّةُ حيثما داروا فهم متقابلون في جميع أحوالهم

ص: 80

(لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ) أي تعب بأن لا يكونَ لهم فيها ما يوجبه من الكدّ في تحصيل مالا بُدّ لهم منه لحصول كل ما يريدونه من غير مزاولةِ عملٍ أصلاً أو بأن لا يعتريَهم ذلك وإن باشروا الحركاتِ العنيفة لكمال قوتِهم وهو استئنافٌ أو حالٌ بعد حال أو حال من الضمير في متقابلين (وَمَا هُمْ مّنْهَا بِمُخْرَجِينَ) أبدَ الآباد لأن تمام النعمة بالخلود

ص: 80

(نَبّىء عِبَادِى) وهم الذين عبر عنهم بالمتقين (أَنّى أَنَا الغفور الرحيم)(وَأَنَّ عذاب هُوَ العذاب الأليم) فذلكةٌ لما سلف من الوعد والوعيد وتقريرٌ له وفي ذكر المغفرة إشعارا بأن ليس المرادُ بالمتقين مَن يتقي جميعَ الذنوب كبيرَها وصغيرَها وفي وصف ذاتِه تعالى بها وبالرحمة على وجه القصر دون التعذيب إيذانٌ بأنهما مما يقتضيهما الذاتُ وأن العذاب إنما يتحقق بما يوجبه من خارج

ص: 80

(وَنَبّئْهُمْ) عطفٌ على نبىءْ عبادي والمقصود اعتبارُهم بما جرى على إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام مع أهله من البشرى في تضاعيف الخوفِ وبما حل بقوم لوطٍ من العذاب ونجاته عليه الصلاة والسلام مع أهله التابعين له في ضمن الخوف وتنبيهُهم بحلول انتقامِه تعالى من المجرمين وعلمُهم بأن عذاب الله هو العذاب الأليم (عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم جبريلُ عليه الصلاة والسلام وملكانِ معه وقالَ محمدُ بنُ كعبٍ وسبعةٌ معه وقيل جبريلُ وميكائيلُ وإسرافيلُ عليهم الصلاة والسلام وقال الضحاك كانوا تسعةً وعن السذى كانو أحد

ص: 80

الحجر 52 55 عشرَ على صور الغلمان الوضاء وجوههم وعن مقاتل أنهم كانوا اثني عشر ملَكاً وإنما لم يتعرض لعنوان رسالتِهم لأنهم لم يكونوا مرسَلين إلى إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام بل إلى قوم لوطٍ حسبما يأتي ذكرُه

ص: 81

(إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ) نُصب بفعلٍ مضمر معطوفٍ على نبىء أي واذكر وقت دخولِهم عليه أو خبر مقدر مضاف إلى ضيف أي خبر ضيف إبراهيمَ حين دخولهم عليه أو بنفس ضيف على أنه مصدرٌ في الأصل (فَقَالُواْ) عند ذلك (سَلَاماً) أي نسلّم سلاماً أو سلّمنا أو سَلِمْتَ سلاماً (قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ) أي خائفون فإن الوجلَ اضطرابُ النفس لتوقع مكروهٍ قالَه عليه الصلاة والسلام حين امتنعوا من أكل ما قرّبه إليهم من العجل الحنيذ لِما أن المعتاد عندهم أنه إذا نزلَ بهم ضيفٌ فلم يأكل من طعامهم ظنوا أنه لم يجىء بخير لا عند ابتداء دخولهم لقوله تعالى فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً فلا مجال لكون خوفه عليه الصلاة والسلام بسببِ دخولِهم بغير إذن ولا بغير وقت إذ لو كان كذلك لأجابوا حينئذ بما أجابوا حينئذ به وَلَمْ يتصدَّ عليه الصلاة والسلام لتقريب الطعام إليهم وإنَّما لَمْ يُذكِرْ هَهُنا اكتفاءً بما بيّن في غير هذا الموضع ألا يرى إلى أنه لم يذكر ههنا رده عليه الصلاة والسلام لسلامهم

ص: 81

(قَالُواْ لَا تَوْجَلْ) لا تخف وقرىء لا تاجل ولا تُوجِلْ من أوجله أي أخافه ولا تُواجِلْ من واجله بمعنى أوجله (إِنَّا نُبَشّرُكَ) استئنافٌ لتعليل النهي عن الوجل فإن المبشَّر به لا يكاد يحوم حول ساحته خوفٌ ولا حزن كيف لا وهو بشارةٌ ببقائه وبقاءِ أهله في عافية وسلامة زماناً طويلاً (بغلام) هو إسحق عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى فبشرناها بإسحق ولم يتعرض ههنا لبشارة يعقوب عليه الصلاة والسلام اكتفاء بما ذكر في سورة هود (عَلِيمٌ) إذا بلغ وفي موضع آخرَ بغلام حليم

ص: 81

(قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِى) بذلك (على أَن مَّسَّنِىَ الكبر) وأثر في تعجب عليه الصلاة والسلام من بشارتهم بالولد في حالة مباينة للولادة وزاد في ذلك فقال (فَبِمَ تُبَشّرُونَ) أي بأي أعجوبةٍ تبشرونني فإن البشارة بما لا يُتصور وقوعُه عادة بشارةٌ بغير شيء أو بأي طريقةٍ تبشرونني وقرىء بتشديد النون المكسورة على إدغام نون الجمع في نون الوقاية

ص: 81

(قَالُواْ بشرناك بالحق) أي بما يكون لا محالة أو باليقين الذي لا لَبْسَ فيه أو بطريقة هي حقٌّ وهو أمرُ الله تعالى وقوله (فَلَا تَكُن مّنَ القانطين) من الآيسين من ذلك فإن الله قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ بشراً بغير أبوين فكيف من شيخٍ فانٍ وعجوزٍ عاقر وقرىء من القنطين وكان مقصده عليه الصلاة والسلام استعظام نعمته تعالى في ضمن التعجب العادي المبنيِّ على سنة الله

ص: 81

الحجر 56 59 تعالى المسلوكةِ فيما بين عباده لا استبعادَ ذلك بالنسبة إلى قدرته سبحانه كما ينبىء عنه قولُ الملائكة فلا تكن من القانطين دون أن يقولوا من الممترين أو نحوه

ص: 82

(قَالَ وَمَن يَقْنَطُ) استفهامٌ إنكاريٌّ أي لا يَقْنَطُ (مِن رَّحْمَةِ رَبّهِ إِلَاّ الضآلون) المخطِئون طريقَ المعرفة والصوابِ فلا يعرِفون سعةَ رحمتِه وكمالَ علمه وقدرتِه كما قال يعقوب عليه الصلاة والسلام لا ييأس مِن رَّوْحِ الله إِلَاّ القوم الكافرون ومرادُه نفيُ القنوط عن نفسه على أبلغ وجهٍ أي ليس بي قنوطٌ من رحمته تعالى وإنما الذي أقول لبيان منافاةِ حالي لفيضان تلك النعمةِ الجليلة عليّ وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ والرحمة مالا يخفى من الجزالة وقرىء بضم النون وبكسرها من قنَط بالفتح ولَمْ تكُنْ هذهِ المفاوضةُ من الملائكة مع إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام خاصة بل مع سارَةَ أَيْضاً حسبَما شُرح في سورة هود ولم يُذكر ذلك هَهُنا اكتفاءً بما ذكر هناك كما أنه لم يُذكر هذه هناك اكتفاءً بما ذكر ههنا

ص: 82

(قَالَ) أيْ إبراهيمُ عليه الصلاة والسلام وتوسيطُه بين قوله السابقِ وبين قوله (فَمَا خَطْبُكُمْ) أي أمرُكم وشأنكم الخطيرُ الذَّي لأَجْلِه أُرسلتم سَوى البشارةِ (أَيُّهَا المرسلون) صريحٌ في أن بينهما مقالةً مطويةً لهم أشير به إلى مكانها كما في قوله تعالى قال أأسجد لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا قَالَ أرأيتك هذا الذى كَرَّمْتَ عَلَىَّ الآية فإن قوله الأخيرَ ليس موصولاً بقوله الأول بل هو مبنيٌّ على قوله تعالى فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ فإن توسيطَ قال بين قوليه للإيذان بعدم اتصال الثاني بالأول وعدم ابتنائه عليه بل غيره ثم خطابُه لهم عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ بعُنوانِ الرسالةِ بعد ما كان خطابُه السابقُ مجرداً عن ذلك مع تصديره بالفاء دليلٌ على أن مقالتهم المطويةَ كانت متضمنةً لبيان أن مجيئَهم ليس لمجرد البشارةِ بل لهم شأنٌ آخَرُ لأجله أُرسلوا فكأنه قال عليه الصلاة والسلام إن لم يكن شأنُكم مجردَ البشارة فماذا هو فلا حاجة إلى الالتجاء إلى أن علمه عليه الصلاة والسلام بأن كلَّ المقصود ليس البشارةَ بسبب أنهم كانوا ذوي عدد والبِشارةُ لا تحتاج إلى عدد وذلك اكتُفي بالواحد في زكريا عليه الصلاة والسلام ومريم ولا إلى أنهم بشروه في تضاعيف الحالِ لإزالة الوجل ولو كانت تمام المقصود لابتدءوا بها فتأمل

ص: 82

(قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قوم مجرمين) هم قوم لوط لكن وُصفوا بالإجرام وجيء بهم بطريق التنكيرِ ذمًّا لهم واستهانة بهم

ص: 82

(إلا آل لُوطٍ) استثناءٌ متصلٌ من الضمير في مجرمين أي إلى قوم أَجرموا جميعاً إلا آلَ لوط فالقومُ والإرسالُ شاملان للمجرمين وغيرِهم والمعنى إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ أجرَم كلُّهم إلا آلَ لوط لنُهلِك الأولين وننجِّيَ الآخرين ويدلُّ عليهِ قولُه تعالى (إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ) أي لوطاً وآلَه (أَجْمَعِينَ) أي مما يصيب القومَ فإنه

ص: 82

الحجر 60 63 استئنافٌ للإخبار بنجاتهم لعدم إجرامِهم أو لبيان ما فُهم من الاستثناء من مطلق عدمِ شمولِ العذاب لهم فإن ذلك قد يكون يكون حالهم بين بين أو لتعليله فإن مَنْ تعلّق بهم التنجية يمنجى من شمول العذاب أو منقطعٌ من قوم وقوله تعالى إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ متصلٌ بآلَ لوطٍ جارٍ مَجرى خير لكنّ وعلى هذا فقوله تعالى

ص: 83

(إِلَاّ امرأته) استثناءٌ من آلَ لوط أو من ضميرهم وعلى الأول من الضمير خاصة لاختلاف الحكمين اللهم إلا أن يُجعل إنا لمنجوهم اعتراضاً وقرىء بالتخفيف (قدرنا إنا لَمِنَ الغابرين) الباقين مع الكفرة لتُهلَك معهم وقرىء قدَرْنا بالتخفيف وإنما عُلّق فعلُ التقدير مع اختصاص ذلك بأفعال القلوبِ لتضمُّنه معنى العلم ويجوز حملُه على معنى قلنا لأنه بمعنى القضاء قولٌ وأصلُه جعلُ الشيء على مقدار غيرِه وإسنادُهم له إلى أنفسهم وهو فعلَ الله سبحانه لِما لهم من الزلفى والاختصاص

ص: 83

(فلما جاء آل لُوطٍ المرسلون) شروعٌ في بيانِ كيفيةِ إهلاكِ المجرمين وتنجيةِ آل لوط حسبما أُجمل في الاستثناء ثم فُصّل في التعليل نوعَ تفصيل ووضعُ المظهرِ موضعَ المضمرِ للإيذان بأن مجيئهم لتحقيق ما أرسلو به من الإهلاك والتنجية وليس المرادُ به ابتداءَ مجيئهم بل مطلقُ كينونتهم عند آل لوط فإن ما حكي عنه عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى

ص: 83

(قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ) إنما قالَه عليه الصلاة والسلام بعدا للتيا والتي حين ضاقت عليهِ الحيلُ وعيَّتْ بهِ العللُ لمّا لم يشاهِدْ من المرسلين عند مقاساته الشدائدَ ومعاناته المكايدَ من قومه الذين يريدون بهم ما يريدون ما هو المعهودُ والمعتاد من الإعانة والإمداد فيما يأتي ويذر عند تجشّمِه في تخليصهم إنكاراً لخذلانهم له وتركِ نصرته في مثل تلك المضايقة المعترية له بسببهم حيث لم يكونوا مباشرين معه لأسباب المدافعةِ والممانعة حتى ألجأتْه إلى أنْ قالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً أَوْ اوِى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ حسبما فُصِّل في سورة هود لا أنه قاله عند ابتداء ورودِهم له خوفاً أن يطرُقوه بشرَ كما قيل كيف لا وهم بجوابهم المحكيّ بقوله تعالى

ص: 83

(قَالُواْ بَلْ جئناك بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ) أي بالعذاب الذي كنت تتوعدهم به فيمترون فيه ويكذبونك قد قشَروا العصا وبينوا له عليه الصلاة والسلام جليةَ الأمر فأنى يمكن أن يعتريه بعذ ذلك المساءةُ وضيقُ الذَّرْع وليست كلمةُ بل إضراباً عن موجب الخوفِ المذكور على معنى ما جئناك بما تُنكِرنا لأجله بل بما يسرك وتقَرّ به عينيك بل هي إضرابٌ عما فهمه عليه الصلاة والسلام من ترك النصرةِ له والمعنى ما خذلناك وما خلّينا بينك وبينهم بل جئناك بما يدمّرهم من العذابِ الذي كانُوا يكذبونك حين كنت تتوعدهم به ولعل تقديمَ هذه المقاولة على ما جرى بينه وبين أهلِ المدينة من المجادلة للمسارعة إلى ذكر بشارة لوط عليه الصلاة والسلام بإهلاك

ص: 83

الحجر 64 66 قومِه وتنجيةِ آله عَقيبَ ذكر بشارة إبراهيمَ عليه الصلاة والسلام بهما وحيث كان مستدعياً لبيان كيفية النجاةِ وترتيبِ مباديها أُشير إلى ذلك إجمالاً ثم ذُكر ما فَعل القوم وما فُعل بهم ولم يُبالَ بتغيير الترتيب الوقوعيّ ثقةً بمراعاته في مواقعَ أُخَرَ ونسبةُ المجيء بالعذاب إليه عليه الصلاة والسلام مع أنه نازلٌ بالقوم بطريق تفويض أمرِه إليه لا بطريق نزوله عليه كأنهم جاءوه وفوّضوا أمره إليه ليرسله عليهم حسبما كان يتوعّدهم به

ص: 84

(واتيناك بالحق) أي باليقين الذي لا مجال فيه للامتراء والشك وهو عذابُهم عبر عنه بذلك تنصيصاً على نفي الامتراءِ عنه أو المرادُ بالحق الإخبارُ بمجيء العذابِ المذكور وقوله تعالى (وِإِنَّا لصادقون) تأكيدٌ له أي أتيناك فيما قلنا بالخبر الحقِّ أي المطابق للواقعِ وإنا لصادقون في ذلك الخبرِ أو في كل كلام فيكون كالدليل على صدقهم فيه وعلى الأول تأكيدٌ إثرَ تأكيدٍ وقوله تعالى

ص: 84

(فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ) شروعٌ في ترتيب مبادىء النجاةِ أي اذهبْ بهم في الليل وقرىء بالوصل وكلاهما من السرى وهو السيرُ في الليل وقرىء فسِرْ من السير (بِقِطْعٍ من الليل) بطائفة منه أو من آخره قال

افتحي الباب وانظُري في النجوم

كم علينا من قِطْع ليلٍ بهيم

وقيل هو بعد ما مضى منه شيءٌ صالح (واتبع أدبارهم) وكن على أثرهم تذودُهم وتسرع بهم وتطّلع على أحوالهم ولعل إيثارَ الاتباعِ على السَّوْق مع أنه المقصودُ بالأمر للمبالغة في ذلك إذ السَّوْقُ ربما يكون بالتقدم على بعض مع التأخر عن بعض ويلزَمه عادةً الغفلةُ عن حال المتأخر والالتفاتُ المنهيُّ عنه بقوله تعالى (وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ) أي منك ومنهم (أَحَدٌ) فيرى ما وراءه من الهول فلا يطيقه أو يصيبه ما أصابهم أو ولا ينصرفْ منكم أحدٌ ولا يتخلفْ لغرض فيصيبه العذاب وقيل نُهوا عن ذلك ليوطنوا أنفسهم على المهاجرة أو هو نهي عن ربط القلب بما خلّفوه أو هو للإسراع في السير فإن الملتفتَ قلما يخلو عن أدنى وقفة وعدمُ ذكر استثناء المرأةِ من الإسراء والالتفات لا يستدعي عدم وقوعِه فإن ذلك لما عرفت مراراً للاكتفاء بما ذكر في مواضع أخر (وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) إلى حيث أمركم الله تعالى بالمُضيّ إليه وهو الشام أو مصر وحذفُ الصلتين على الاتساع المشهور وإيثارُ المضيِّ إلى ما ذكر على الوصول إليه واللُّحوق به للإيذان بأهمية النجاةِ ولمراعاة المناسبةِ بينه وبين ما سلف من الغابرين

ص: 84

(وَقَضَيْنَا) أي أوحينا (إِلَيْهِ) مقْضيًّا ولذلك عُدِّيَ بإلى (ذَلِكَ الامر) مبهمٌ يفسره (أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ) على أنه بدلٌ منه وإيثار اسم الإشارة على الضمير للدلالة على اتصافهم بصفاتهم القبيحةِ التي هي مدارُ ثبوت الحكم أي دابرَ هؤلاء المجرمين وإيرادُ صيغة المفعول بدلَ صيغة المضارع لكونها أدخلَ في الدلالة على الوقوعِ وفي لفظ القضاءِ والتعبيرِ عن العذاب بالأمر والإشارة

ص: 84

الحجر 67 70 إليه بذلك وتأخيرِه عن الجارّ والمجرور وإبهامِه أولاً ثم تفسيره ثانياً من الدلالةِ عَلى فخامة الأمر وفظاعته مالا يخفى وقُرىء بالكسرِ على الاستئنافِ والمعنى أنهم يُستأصَلون عن آخرهم حتى لَا يَبْقَى منهُمْ أحدٌ (مُّصْبِحِينَ) داخِلين في الصُّبح وهو حال من هؤلاء أو من الضمير وفي مقطوعٌ وجمعه للحمل على المعنى فإن دابر هؤلاء بمعنى مدبري هؤلاء

ص: 85

(وَجَآء أَهْلُ المدينة) شروعٌ في حكاية ما صدر عن القوم عند وقوفِهم على مكان الأضيافِ من الفعل والقول وما ترتب عليه معد ما أشير إلى ذلك إجمالا حسبما نبه عليه أي جاء أهلُ سدومَ منزلَ لوط عليه الصلاة والسلام (يَسْتَبْشِرُونَ) أي مستبشرين بأضيافه عليه الصلاة والسلام طمعاً فيهم

ص: 85

(قَالَ إِنَّ هَؤُلآء ضَيْفِى) الضيفُ حيث كان مصدراً في الأصل أُطلق على الواحدُ والمتعددِ والمذكرِ والمؤنثُ وإطلاقُه على الملائكة بحسب اعتقاده عليه الصلاة والسلام لكونهم في زِيّ الضيف والتأكيدُ ليس لإنكارهم بذلك بل لتحقيق اتِّصافِهم به وإظهارِ اعتنائه بشأنهم وتشمُّره لمراعاة حقوقِهم وحمايتهم من السوء ولذلك قال (فَلَا تفضحون) أي عندهم بأن تتعرضوا لهم بسوء فيعلموا أنه ليس لي عندكم قدر وحرمة أولا تفضحونِ بفضيحة ضيفي فإن من أُسيء إلى ضيفه فقد أُسيءَ إليه يقال فضحَه فضحاً وفضيحةً إذا أظهر من أمره ما يلزمه العار

ص: 85

(واتقوا الله) في مباشرتكم لما يسؤوني (ولاتخزون) أي لا تُذِلوني ولا نهينوني بالتعرض لمن أجَرْتُهم بمثل تلك الفَعْلةِ الخبيثة وحيث كان التعرضُ لهم بعد أن نهاهم عليه الصلاة والسلام عن ذلك بقوله فلا تفضحونِ أكثرَ تأثيراً في جانبِهِ عليه الصلاة والسلام وأجلبَ للعار إليه إذِ التعرّضُ للجار قبل شعورِ المُجير بذلك ربما يُتسامَح فيه وأما بعد الشعورِ به والمناصبةِ لحمايته والذبِّ عنه فذاك أعظمُ العار عبر عليه الصلاة والسلام عمَّا يعتريه من جهتهم بعد النهي المذكورِ بسبب لَجاجِهم ومُجاهرتِهم بمخالفته بالخِزي وأمرَهم بتقوى الله تعالى في ذلك وإنما لم يصرَّحْ بالنهي عن نفس تلك الفاحشةِ لأنه كان يعرِف أنه لا يفيدهم ذلك وقيل المرادُ تقوى الله تعالى في ركوب الفاحشةِ ولا يساعده توسيطُه بين النهيَيْن عن أمرين متعلقين بنفسه عليه الصلاة والسلام وكذلك قوله تعالى

ص: 85

(قالوا أو لم نَنْهَكَ عَنِ العالمين) أي عن التعرض لهم بمنعهم عنا وضيافتِهم والهمزةُ للإنكارِ والواوُ للعطفِ على مقدَّرٍ أي ألم نتقدمْ إليك ولم ننْهَكَ عن ذلك فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحدٍ من الغرباء بالسوء وكانَ عليه الصلاة والسلام ينهاهم عن ذلك بقدر وُسعِه وكانوا قد نهَوْه عليه الصلاة والسلام عن أن يُجير أحداً فكأنهم قالوا ما ذكرتَ من الفضيحة والخِزي إنما جاءك من قِبَلك لا من قِبَلنا إذ لولا تعرضُك لما نتصدَّى له لما اعتراك

ص: 85

الحجر 71 77 تلك الحالةُ ولمّا رآهم لا يُقلِعون عما هم عليه

ص: 86

(قال هؤلاء بَنَاتِى) يعني نساءَ القومِ فإن نبيَّ كلِّ أمةٍ بمنزلة أبيهم أو بناتِه حقيقةً أي فتزوجوهن وقد كانوا من قبلُ يطلبُونهن ولا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتِهم لا لعدم مشروعية المُناكحةِ بين المسلمات والكفار وقد فُصِّل في سورة هود (إِن كُنتُمْ فاعلين) أي قضاءَ الوطر أو ما أقول لكم

ص: 86

(لَعَمْرُكَ) قسمٌ من الله تعالى بحياة النبيِّ صلى الله عليه وسلم أو من الملائكة بحياة لوط عليه الصلاة والسلام والتقديرُ لعَمرُك قسمي وهي لغة في العُمُر يختص به القسم إيثاراً للخِفة لكثرة دورَانِه على الألسنة (إِنَّهُمْ لَفِى سَكْرَتِهِمْ) غَوايتهم أو شدة غُلْمتهم التي أزالت عقولَهم وتمييزَهم بين الخطإ والصواب (يَعْمَهُونَ) يتحيّرون ويتمادَوْن فكيف يسمعون النصح وقيل الضميرُ لقريش والجملةُ اعتراض

ص: 86

(فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة) أي الصيحةُ العظيمة الهائلة وقيل صيحةُ جبريل عليه الصلاة والسلام (مُشْرِقِينَ) داخلينَ في وقتِ شروق الشمس

ص: 86

(فَجَعَلْنَا عاليها) عاليَ المدينة أو عاليَ قُراهم وهو المفعولُ الأول لجعلنا وقوله تعالى (سَافِلَهَا) مفعول ثانٍ له وهو أدخلُ في الهول والفظاعة من العكس كما مر (وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ) في تضاعيف ذلك قبل تمام الانقلابِ (حِجَارَةً) كائنة (مّن سِجّيلٍ) من طينٍ متحجرا أو طينٍ عليه كتاب وقد فصل ذلك في سُورة هود

ص: 86

(إِنَّ فِى ذَلِكَ) أي فيما ذكر من القصة (لَايَاتٍ) لعلاماتٍ يُستدل بها على حقيقة الحق (لِلْمُتَوَسّمِينَ) أي المتفكّرين المتفرّسين الذين يثبتون في نظرهم حتى يعرِفوا حقيقة الشيء بسَمْته

ص: 86

(وَإِنَّهَا) أي المدينة أو القرى (لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ) أي طريق ثابتٍ يسلُكه الناس ويرَوْن آثارها

ص: 86

(إِنَّ فِى ذَلِكَ) فيما ذكر من المدينة أو القرى أو في كونها بمر أي من الناس يشاهدونها في ذهابهم وإيابهم (لآيَةً) عظيمةً (لِلْمُؤْمِنِينَ) بالله ورسولِه فإنهم الذين يعرِفون أن ما حاق بهم العذاب الذي ترك ديارَهم بلا قع إنما حاق بهم لسوء صنيعهم وأما غيرُهم فيحمِلون ذلك على الاتفاق أو الأوضاع الفلكية وإفراده الآية بعد جمعها فيما سبق لما أن المشاهدَ ههنا بقيةُ الآثارِ لا كلُّ القصة كما فيما سلف

ص: 86