الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إبراهيم
4
- (وَمَا أَرْسَلْنَا) أي في الأمم الخاليةِ من قبلك كما سيذكر إجمالاً (مِن رَّسُولٍ إِلَاّ) ملتبساً (بِلِسَانِ قَوْمِهِ) متكلماً بلغة من أُرسل إليهم من الأمم المتفقة على لغة سواءٌ بعث فيهم أولا وقرىء بلِسْنِ وهو لغة فيه كريش ورياش وبلُسُنْ بضمتين وضمة وسكون كعُمُد وعُمْد (لِيُبَيّنَ لَهُمُ) ما أمروا به فيلتقوا منه بيُسر وسُرعة ويعملوا بموجبه منْ غيرِ حاجةٍ إلى الترجمة ممن لم يُؤمر به وحيث لم يمكن مراعاةُ هذه القاعدة في شأن سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين لعموم بعثتِه للثقلين كافةً على اختلاف لغاتِهم وكان تعددُ نظمِ الكتاب المنزل إليه حسب تعددِ ألسنة الأممِ أدعى إلى التنازع واختلافِ الكلمة وتطرّقِ أيدي التحريف مع أن استقلال بعضٍ من ذلك بالإعجاز دون غيره مثنة لقدح القادحين واتفاقَ الجميع فيه أمرٌ قريب من الإلجاء وحصرِ البيانِ بالترجمة والتفسير اقتضت الحكمةُ اتحادَ النظمِ المنبىء عن العزة وجلالةِ الشأن المستتبعِ لفوائدَ غنيةٍ عن البيان على أن الحاجة إلى الترجمة تتضاعف عند التعددِ إذ لا بد لكل أمةٍ من معرفة توافق الكلِّ وتحاذيه حذوَ القُذّة بالقذة من غير مخالفة ولو في خَصلة فذّة وإنما يتم ذلك بمن يترجم عن الكل واحداً أو متعدداً وفيه من التعذر ما يتاخم الامتناعَ ثم لما كان أشرفَ الأقوام وأولاهم بدعوته عليه الصلاة والسلام قومُه الذين بعث فيهم ولغتُهم أفضلَ اللغات نزل الكتابُ المتين بلسان عربي مبين وانتشرت أحكامُه فيما بين الأمم أجمعين وقيل الضمير في قومه لمحمد صلى الله عليه وسلم فإنه تعالى أنزل الكتب كلَّها عربيةً ثم ترجمها جبريل عليه الصلاة والسلام أو كلُّ من نزل عليه من الأنبياءِ عليهم السلام بلغة من نزل عليهم ويرده قولِه تعالى لِيُبَيّنَ لَهُمُ فإنه ضميرُ القوم وظاهرٌ أن جميع الكتب لم ينزل لتبيين العرب وفي رَجْعه إلى قوم كل نبي كأنه قيل وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلا بلسان قوم محمدٍ صلى الله عليه وسلم ليبين الرسولُ لقومه الذين أرسل إليهم مالا يخفى من التكلف (فَيُضِلُّ الله مَن يَشَاء) إضلالَه أي يخلق فيه الضلال لمباشرة أسبابِه المؤدية إليه أو يخذله ولا يلطُف به لما يعلم أنه لا ينجع فيه الإلطاف (وَيَهْدِى) بالتوفيق ومنح الإلطاف (مَن يَشَآء) هدايتَه لما فيه من الإنابة والإقبال إلى الحق والالتفاتُ بإسناد الفعلين إلى الاسم الجليل المنطوي على الصفات لتفخيم شأنِهما وترشيح مناطِ كلَ منهما والفاء فصيحة مثلُها في قولِه تعالَى فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ البحر فانفلق كأنه قيل فبيّنوه لهم فأضل الله منهم من شاء إضلالَه لما لا يليق إلا به وهدى من شاء هدايتَه لاستحقاقه لها والحذفُ للإيذان بأن مسارعة كلِّ رسول إلى مَا أُمر بهِ وجريانَ كلَ من أهل الخذلان والهدايةِ على سنته أمرٌ محققٌ غنيٌّ عن الذكر والبيانِ والعدولُ إلى صيغة الاستقبالِ لاستحضار الصورةِ أو للدِّلالةِ على التَّجددِ والاستمرارِ حسب تجدد البيانِ من الرسل المتعاقبةِ عليهم السلام وتقديمُ الإضلال على الهداية إما لأنه إبقاءُ ما كان على من كان والهدايةُ إنشاءُ ما لم يكن أو للمبالغة في بيانِ أن لا تأثيرَ للتبيين والتذكير من قبل الرسلِ وأن مدارَ الأمر إنما هو مشيئتُه تعالى بإيهام أن ترتبَ الضلالةِ على ذلك أسرعُ من
إبراهيم 5 ترتب الاهتداءِ وهذا محقِّقٌ لما سلف من تقييد الإخراجِ مّنَ الظلمات إِلَى النور بإذن الله تعالى (وَهُوَ العزيز) فلا يغالَب في مشيئته (الحكيم) الذي لا يفعلُ شيئاً من الإضلال والهداية إلا لحكمة بالغةٍ وفيه أن ما فُوِّض إلى الرسل إنما هو تبليغُ الرسالة وتبيينُ طريقِ الحقِّ وأما الهدايةُ والإرشادُ إليه فذلك بيد الله سبحانه يفعلُ مَا يشاءُ ويحكُم ما يريد
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى) شروعٌ في تفصيل ما أجمل في قولِه عز وجل وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَاّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيّنَ لهم الآية (بآياتنا) أي ملتبساً بها وهي معجزاتُه التي أظهرها لبني إسرائيلَ (أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ) بمعنى أي أخرِجْ لأن الإرسالَ فيه معنى القول أو بأن أخرِجْ كما في قوله تعالى وأن أَقِمْ وَجْهَكَ فإن صيغ الأفعال في الدلالةِ على المصدرِ سواءٌ وهو المدارُ في صحة الوصل والمرادُ بذلك إخراجُ بني إسرائيلَ بعد مهلِك فرعون (مِنَ الظلمات) من الكفر والجهالاتِ التي أدتهم إلى أن يقولوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة (إِلَى النور) إلى الإيمان بالله وتوحيده وسائرِ ما أُمروا به (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله) أي بنعمائه وبلائِه كما ينبىء عنه قوله اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ لكن لا بما جرى عليهم فقط بل عليهم وعلى مِن قَبْلِهِم من الأممِ في الأيام الخالية حسبما ينبى عنه قولُه تعالَى أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ الآيات أو بأيامه المنطوية على ذلك كَما يلوحُ بهِ قولُه تعالى إِذْ أَنجَاكُمْ والالتفاتُ من التكلم إلى الغبية بإضافة الأيام إلى الاسم الجليل للإيذان بفخامة شأنِها والإشعارِ بعدم اختصاصِ ما فيها من المعاملة بالمخاطب وقومِه كما تُوهمه الإضافةُ إلى ضمير المتكلم أي عظْهم بالترغيب والترهيب والوعدِ والوعيد وقيل أيامُ الله وقائعُه التي وقعت على الأمم قبلهم وأيامُ العرب وقائعُها وحروبُها وملاحمها أي أنذرهم وقائعَه التي دهمت الأممَ الدارجة ويردّه ما تصدى له صلى الله عليه وسلم بصدد الامتثالِ من التذكير بكل من السراء والضراء مما جرى عليهم وعلى غيرهم حسبما يتلى عليك (إِنَّ فِي ذَلِكَ) أي في التذكير بها أو في مجموع تلك النعماءِ والبلاءِ أو في أيامها (لآيات) عظيمة أو كثيرة دالةً على وحدانية الله تعالى وقدرتِه وعلمه وحكمته فهي على الأول عبارةٌ عن الأيام سواءٌ أريد بها أنفسُها أو ما فيها من النعماء والبلاءِ ومعنى ظرفية التذكيرِ لها كونُه مناطاً لظهورها وعلى الثالث عن تلك النعماء والبلاء ومعنى الظرفية ظاهر وأما على الثاني وهو كونُه إشارةً إلى مجموع النعماءِ فعن كل واحدةٍ من تلك النعماء والبلاء والمشارُ إليه المجموعُ المشتمل عليها من حيثُ هو مجموعٌ أو كلمة في تجريديةٌ مثلُها في قولِه تعالَى لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ (لّكُلّ صَبَّارٍ) على بلائه (شَكُورٍ) لنعمائه وقيل مؤمنٍ والتعبيرُ عنهم بذلك للإشعار بأن الصبرَ والشكرَ عنوانُ المؤمن أي لكل مَن يليق بكمال الصبرِ والشكر أو الإيمان ويصير أمرَه إليها لا لمن اتصف بها بالفعل لأنه تعليلٌ للأمر بالتذكير المذكور السابق على التذكير المؤدّي إلى تلك المرتبة فإن من تذكّر ما فاض أو نزل عليه أو على مَنْ قبله من النعماء والبلاءِ وتنبّه لعاقبة الشكر والصبر أو الإيمان لا يكاد يفارقها وتخصيصُ الآيات بهم لأنهم المنتفعون بها لا لأنها خافية
إبراهيم 6 7 عن غيرهم فإن النبيين حاصلٌ بالنسبة إلى الكل وتقديمُ الصبار على الشكور لتقدم متعلَّقِ الصبر أعني البلاء على متعلّق الشكر أعني النعماء وكون الشكر عافية الصبر
(وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ) شروعٌ في بيان تصدّيه عليه الصلاة والسلام لما أُمر به من التذكير للإخراج المذكورِ وإذْ منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ خوطبَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلم وتعليقُ الذكر بالوقت مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيه من الحوادث قد مرَّ سرُّه غيرَ مرة أي أذكُر لهم وقت قوله عليه الصلاة والسلام لقومه (اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ) بدأ عليه الصلاة والسلام بالترغيب لأنه عند النفس أقبلُ وهي إليه أميلُ والظرفُ متعلّقٌ بنفس النعمة إن جُعلت مصدراً أو بمحذوفٍ وقعَ حالاً منها إنْ جُعلت اسماً أي اذكروا إنعامه عليكم واذكروا نعمته كائنةً عليكم وكذلك كلمةُ إذْ في قوله تعالى (إِذْ أنجاكم من آل فرعون) أي اذكروا إنعامه عليكم وقت إنجائِه إياكم من آلِ فرعونَ أو اذكروا نعمةَ الله مستقرةً عليكم وقت إنجائِه إياكم منهم أو بدلُ اشتمالٍ من نعمةَ الله مراداً بها الإنعامُ أو العطية (يَسُومُونَكُمْ) يبغونكم مِنْ سامه خَسفاً إذا أولاه ظلماً وأصلُ السَّوم الذهابُ في طلب الشيء (سُوء العذاب) السوءُ مصدر ساء يسوء والمرادُ به جنس العذاب السيء أو استبعادهم واستعمالُهم في الأعمال الشاقة والاستهانةُ بهم وغيرُ ذلك مما لا تحصرو نصبه على أنه مفعولٌ ليسومونكم (وَيُذَبّحُونَ أَبْنَاءكُمْ) المولودين وإنما عطفه على يسومونكم إخراجاً له عن مرتبة العذاب المعتاد وإنما فعلوا ذلك لأن فرعونَ رأى في المنام أو قال له الكهنةُ أنه سيولد منهم مَنْ يذهب بملكه فاجتهدوا في ذلك فلن يُغن عنهم من قضاء الله شيئاً (وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ) أي يُبقونهن في الحياة مع الذل والصَّغار ولذلك عد من جملة البلاء والجملُ أحوالٌ من آلِ فرعونَ أو من ضمير المخاطبين أو منهما جميعاً لأن فيها ضميرَ كلَ منهما (وَفِى ذلكم) أي فيما ذكر من أفعالهم الفظيعة (بَلاء مِّن رَّبّكُمْ) أي ابتلاء منه لا أن البلاء عينُ تلك الأفعال اللهمَّ إلَاّ أنْ تجعلَ في تجريديةً فنسبتُه إلى الله تعالى إما من حيث الخلقُ أو الإقدارُ والتمكين (عظِيمٌ) لا يطاق ويجوز أن يكون المشارُ إليه الإنجاء من ذلك والبلاءُ الابتلاءُ بالنعمة وهو الأنسب كما يلوحُ به التعرضُ لوصف الربوبية وعلى الأول يكون ذلك باعتبار المآل الذي هو الإنجاءُ أو باعتبار أن بلاء المؤمن تربيةٌ له
(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ) من جملة موسى عليه الصلاة والسلام لقومه معطوفٌ على نعمةَ الله أي اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ واذكروا حين تأذّن ربكم أي آذن إيذاناً بليغاً لا تبقى معه شائبةٌ لِما في صيغة التفعّل من معنى التكلف المحمول في حقه سبحانه على غايته التي هي الكمالُ وقيل هو معطوفٌ على قوله تعالى إِذْ أَنجَاكُمْ أي اذكروا نعمتَه تعالى في هذين الوقتين فإن هذا التأذنَ أيضاً نعمةٍ من الله تعالَى عليهم ينالون بها خيري الدنيا والآخرة وفي قراءةُ ابن مسعودٍ رضي الله تعالى عنه وإذ قال ربكم ولقد ذكّرهم عليه الصلاة والسلام أوَّلاً بنعمائه تعالى
إبراهيم 8 9 عليهم صريحاً وضمنّه تذكيرَ ما أصابهم قبل ذلك من الضراء ثم أمرهم ثانياً بذكر ما جرى من الله سبحانه من الوعد بالزيادة على تقدير الشكر والوعيدِ بالعذاب على تقدير الكفر والمرادُ بتذكير الأوقات تذكيرُ ما وقع فيها من الحوادث مفصلةً إذ هي محيطةٌ بذلك فإذا ذُكرت ذكر ما فيها كأنه مشاهَدٌ معايَن (لَئِن شَكَرْتُمْ) يا بني إسرائيلَ ما خوّلتُكم من نعمة الإنجاء وإهلاكِ العدوّ وغير ذلك من النعم والآلاءِ الفائتة للحصر وقابلتموه بالإيمان والطاعة (لازِيدَنَّكُمْ) نعمةً إلى نعمة (وَلَئِن كَفَرْتُمْ) ذلك وغمِصتموه (إِنَّ عَذَابِى لَشَدِيدٌ) فعسى يصيبكم منه ما يصيبكم ومن عادة الكرام التصريحُ بالوعد والتعريضُ الوعيد فما ظنُّك بأكرمِ الأكرمين ويجوز أن يكون المذكورُ تعليلاً للجواب المحذوفِ أي لأعذبنكم واللام في الموضعين موطئةٌ للقسم وكلٌّ من الجوابين سادٌّ مسدَّ جوابي الشرط والقسم والجملةُ إما مفعولٌ لتأذن لأنه ضرْبٌ من القول أو لقول مقدر بعده كأنه قيل وإذ تأذن ربكم فقال الخ
(وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ) نِعمَه تعالى ولم تشكروها (أَنتُمْ) يا بني إسرائيلَ (وَمَن فِى الأرض) من الخلائق (جَمِيعًا فَإِنَّ الله لَغَنِىٌّ) عن شكركم وشكرِ غيرِكم (حَمِيدٌ) مستوجِبٌ للحمد بذاته لكثرة ما يوجبه من أياديه وإنْ لم يحمَدْه أحدٌ أو محمودٌ يحمَده الملائكةُ بل كلُّ ذرةٍ من ذرات العالم ناطقةٌ بحمده والحمدُ حيث كان بمقابلة النعمة وغيرها من الفضائل كان أدلَّ على كماله سبحانه وهو تعليلٌ لما حُذف من جواب إن أي إن تكفروا لم يرجِعْ وبالُه إلا عليكم فإن الله تعالى لغنيٌّ عن شكر الشاكرين ولعلَّه عليه الصلاة والسلام إنما قاله عند ما عاين منهم دلائلَ العِناد ومخايلَ الإصرار على الكفر والفساد وتيقن أنه لا ينفعهم الترغيبُ ولا التعريضُ بالترهيب أو قاله غِبَّ تذكيرهم من قولُ اللَّهِ عزَّ سلطانه وتحقيقا لمضمونه وتحذيراً لهم من الكفران ثم شرَع في الترهيب بتذكير ما جرى على الأمم الخالية فقال
(الم يأتيكم نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ) ليتدبروا ما أصاب كلَّ واحد من حزبي المؤمن والكافر فيقلعوا عماهم عليه من الشر ويُنيبوا إلى الله تعالى وقيل هو ابتداءُ كلامٍ من الله تعالى خطاباً للكفرة في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم فيختص تذكير موسى عليه الصلاة والسلام بمَا اختص ببني إسرائيلَ من السراء والضراء والأيامُ بالأيام الجاريةِ عليهم فقط وفيه مالا يخفى من البعد وأيضاً لا يظهر حينئذ وجهُ تخصيص تذكير الكفرة الذين في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلم بما أصاب أولئك المعدودين مع أن غيرهم أسوةٌ لهم في الخلوّ قبل هؤلاء (قَوْمُ نُوحٍ) بدل من الموصول أو عطف بيان (وَعَادٌ) معطوفٌ على قوم نوح (وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ) أي من هؤلاء المذكورين عطفٌ عامٌ على قوم نوح وما عطف
إبراهيم 10 عليه وقوله تعالى (لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَاّ الله) اعتراضٌ أو الموصولُ مبتدأٌ ولا يعلمهم إلى آخره خبرُه والجملةُ اعتراضٌ والمعنى أنهم من الكثرة بحيث لا يعلمُ عددَهم إلا الله سبحانه وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بين عدنان وإسمعيل ثلاثون أباً لا يُعرفون وكان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إذا قرأ هذه الآيةَ قال كذَب النسّابون يعني أنهم يدّعون علم الأنساب وقد نفى الله تعالى علمَها عن العباد (جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم) استئنافٌ لبيان نَبئِهم (بالبينات) بالمعجزات الظاهرةِ والبيناتِ الباهرة فبيّن كلُّ رسول لأمته طريقَ الحق وهداهم إليه ليخرجهم مّنَ الظلمات إِلَى النور (فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِى أَفْوَاهِهِمْ) مشيرين بذلك إلى ألسنتهم وما يصدُر عنها من المقالة اعتناءً منهم بشأنها وتنبيهاً للرسل على تلقّيها والمحافظةِ عليها وإقناطاً لهم عن التصديق والإيمان بإعلام أن لا جوابَ لهم سواه (وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ) أي على زعمكم وهي البيناتُ التي أظهروها حجةً على صحة رسالاتِهم كقوله تعالى ولقد أرسلنا موسى بآياتنا ومرادُهم بالكفر بها الكفرُ بدِلالتها على صحة رسالاتِهم أو فعضوها غيضا وضجراً مما جاءت به الرسل كقوله تعالى عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الانامل مِنَ الغيض أو وضعوها عليها تعجباً منه واستهزاءً به كمن غلبه الضحك أو إسكانا للأنبياء عليهم السلام وأمراً لهم بإطباق الأفواه أو رَدّوها في أفواه الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام يمنعونهم من التكلم تحقيقاً أو تمثيلاً أو جعلوا أيديَ الأنبياء في أفواههم تعجباً من عُتوّهم وعِنادهم كما ينبىء عنه تعجّبهم بقولهم أفي الله شك الخ وقيل الأيدي بمعنى الأيادي عبر بها عن مواعظهم ونصائحهم وشرائعهم التي مدار النعم الدينية والدنياوية لأنهم لما كذّبوها فلم يقبلوها فكأنهم ردّوها إلى حيث جاءت منه (وَإِنَّا لَفِى شَكّ) عظيم (مّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ) من الإيمانِ بالله والتوحيد فلا ينافي شكُّهم في ذلك كفرَهم القطعيَّ بما أرسل به الرسل من البينات فإنهم كفروا بها قطعاً حيث لم يعتدوا بها ولم يجعلوها من جنس المعجزات ولذلك قالوا فأتونا بسلطان مبين وقرىء تدّعون بالإدغام (مريب) موقع في الريبة من أرابه أو ذي ريبة من أراب الرجلُ وهي قلقُ النفس وعدم اطمئنانها بالشيء
(قَالَتْ رُسُلُهُمْ) استئنافٌ مبنىٌّ على سؤال ينساق إليه المقالُ كأنَّه قيلَ فماذا قالتْ لهم رسلُهم فأجيب بأنهم قالوا منكرِين عليهم ومتعجّبين من مقالتهم الحمقاءِ (أَفِى الله شَكٌّ) بإدخال الهمزةِ على الظرف للإيذان بأن مدارَ الإنكار ليس نفسَ الشك بل وقوعُه فيما لا يكادُ يتوهّم فيه الشكّ أصلاً منقادين عن تطبيقِ الجوابِ على كلام الكفرةِ بأن يقولوا أأنتم في شكَ مُريبٍ من الله تعالى مبالغةً في تنزيه ساحة السبحان عن شائبة الشك وتسجيلاً عليهم بسخافة العقول أي أفي شأنه سبحانه من وجوده ووحدتِه ووجوبِ الإيمان به وحده شك ما وهو أظهرُ من كل ظاهر وأجلى من كل جلي حتى تكونوا من قِبله في شك مريب وحيث كان مقصِدُهم الأقصى الدعوةَ إلى الإيمان والتوحيد
إبراهيم 11 وكان إظهارُ البينات وسيلةً إلى ذلك لم يتعرضوا للجواب عن قول الكفرةِ إنا كفرنا بما أرسلتم به واقتصروا علي بيان ما هو الغايةُ القصوى ثم عقّبوا ذلك الإنكارَ بما يوجبه من الشواهد الدالّةِ على انتفاء المنكَر فقالوا (فَاطِرِ السموات والأرض) أي مبدعهما وما فيهما من المصنوعات على نظام أنيقٍ شاهد بتحقق ما أنتم منه في شك وهو صفةٌ للاسم الجليل أو بدلٌ منه وشكٌّ مرتفعٌ بالظرف لاعتماده على الاستفهام وجعلُه مبتدأً على أن الظرف خبرُه يُفضي إلى الفصلُ بين الموصوفِ والصفةِ بالأجنبي أعني المبتدأَ والفاعلَ ليس بأجنبي مِنْ رافعه وقد جوز ذلك أيضاً (يَدْعُوكُمْ) إلى الإيمان بإرساله إبانا لا أنا ندعوكم إليه من تلقاء أنفسِنا كما يوهمه قولُكم مما تدعوننا إليه (لِيَغْفِرَ لَكُمْ) بسببه أو يدعوكم لأجل المغفرة كقولك دعوتُه ليأكلَ معي (مّن ذُنُوبِكُمْ) أي بعضَها وهو ما عدا المظالمَ مما بينهم وبينه تعالى فإن الإسلام بحبه قيل هكذا وقع في جميع القرآنِ في وعد الكفرةِ دون وعد المؤمنين تفرقة بين الوعد ولعل ذلك لما أن المغفرة حيث جاءت في خطاب الكفرةِ مرتبةً على محض الإيمان وفي شأن المؤمنين مشفوعةً بالطاعة والتجنب عن المعاصي ونحو ذلك فيتناول الخروجَ من المظالم وقيل المعنى ليغفرَ لكم بدلاً من ذنوبكم (وَيُؤَخّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى) إلى وقت سماه الله تعالى وجعله منتهى أعمارِكم على تقدير الإيمان (قَالُواْ) استئنافٌ كما سبق (إِنْ أَنتُمْ) أي مَا أَنتُمْ (إِلَاّ بَشَرٌ مّثْلُنَا) من غيرِ فضلٍ يؤهّلكم لما تدّعونه من النبوة (تُرِيدُونَ) صفةٌ ثانية لبشرٌ حملاً على المعنى كقوله تعالى أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا أو كلامٌ مستأنفٌ أي تريدون بما تتصدَّوْن له من الدعوة والأرشاد (أَن تَصُدُّونَا) بتخصيص العبادةِ بالله سبحانه (عَمَّا كَانَ يعبد آباؤنا) أي عن عبادة ما استمر آباؤُنا على عبادته من غير شيءٍ يوجبه وإلا (فَأْتُونَا) أي وإن لم يكن الأمرُ كما قلنا بل كنتم رسلاً من جهة الله تعالى كما تدّعونه فأتونا (بسلطان مُّبِينٍ) يدل على فضلكم واستحقاقِكم لتلك الرتبة أو على صحة ما تدّعونه من النبوة حتى نترُك ما لم نزل نعبُده أباً عن جد ولقد كانوا آتَوهم من الآيات الظاهرةِ والبينات الباهرة ما تخر له صم الجبال ولكنهم إنما يقولونَ ما يقولونَ من العظائم مكابرةً وعِناداً وإراءةً لمن وراءهم أن ذلك ليس من جنس ما ينطلق عليه السلطانُ المبين
(قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ) مجاراةً معهم في أول مقالتِهم وإنما قيل لهم لاختصاص الكلامِ بهم حيث أريد إلزامُهم بخلاف ما سلف من إنكار وقوعِ الشكِّ في الله سبحانه فإن ذلك عامٌ وإن اختص بهم ما يعقُبه (إِن نَّحْنُ إِلَاّ بَشَرٌ مّثْلُكُمْ) كما تقولون (ولكن الله يَمُنُّ) بالنبوة (على مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ) يعنون أن ذلك عطيةٌ من الله تعالى يعطيها من يشآء من عباده بمحض الفضلِ والامتنان من غير داعيةٍ توجبه قالوه تواضعاً وهضماً للنفس أو ما نحن من الملائكة بل نحن بشرٌ مثلُكم في الصورة أو في الدخول تحت الجنس ولكن الله يمن بالفضائل والكمالاتِ والاستعدادات على من يشاء المنَّ وما يشاء ذلك إلا لعلمه باستحقاقه لها وتلك الفضائلُ والكمالاتُ والاستعدادات هي التي يدور عليها فلَكُ الاصطفاء للنبوة (وَمَا كَانَ) وما صحَّ وما استقامَ (لنا أن نأتيكم
إبراهيم 12 14 بسلطان) أي بحجة من الحجيج فضلاً عن السلطان المبين بشيء من الأشياء وسببٍ من الأسباب (إِلَاّ بِإِذْنِ الله) فإنه أمرٌ يتعلق بمشيئته تعالى إن شاء كان وإلا فلا (وَعَلَى الله) وحده دون ما عداه مطلقاً (فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون) أمرٌ منهم للمؤمنين بالتوكل ومقصود هم حملُ أنفسِهم عليه آثرَ ذي أثيرٍ ألا يُرى إلى قوله عز وجل
(ومالنا) أي أيُّ عذرٍ لنا (أَن لا نَتَوَكَّلَ عَلَى الله) أي في أن لا نتوكل عليه والإظهار لإظهار النشاطِ بالتوكل عليه والاستلذاذِ بذكر اسمِه تعالى وتعليلِ التوكل (وَقَدْ هَدَانَا) أي والحالُ أنه قد فعل بنا ما يوجبه ويستدعيه حيث هدانا (سُبُلَنَا) أي أرشد كلاًّ منا سبيله ومنهاجَه الذي شرَع له وأوجب عليه سلوكهَ في الدين وحيث كانت أذيةُ الكفار مما يوجب القلقَ والاضطرابَ القادح في التوكل قالوا على سبيل التوكد القسميِّ مظهرين لكمال العزيمة (وَلَنَصْبِرَنَّ على مَا اذَيْتُمُونَا) بالعِناد واقتراحِ الآيات وغير ذلك مما لا خير فيه (وَعَلَى الله) خاصة (فليتوكل المتوكلون) أي فليثبُت المتوكلون على ما أحدثوه من التوكل والمرادُ هو المرادُ مما سبق من إيجاب التوكلِ على أنفسهم والمرادُ بالمتوكّلين المؤمنون والتعبيرُ عنهم بذلك لسبق ذكرِ اتصافِهم بهِ ويجوزُ أنْ يُرادَ وعليه فليتوكل مَنْ توكل دون غيره
(وَقَالَ الذين كَفَرُواْ) لعل هؤلاء القائلين بعضُ المتمردين العاتين الغالين في الكفر من أولئك الأممِ الكافرة التي نُقِلت مقالاتُهم الشنيعة دون جميعهم كقوم شعيبٍ وأضرابِهم ولذلك لم يُقل وقالوا (لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى ملننا) لم يقنَعوا بعصيانهم الرسلَ ومعاندتهم الحق بعد مار أو البيناتِ الفائتةَ للحصر حتى اجترءوا على مثل هاتيك العظيمةِ التي لا يكاد يحيط بها دائرة الإمكان فخلفوا على أن يكون أحدُ المُحالَيْن والعَودُ إما بمعنى مطلق الصيرورة أو باعتبار تغليبِ المؤمنين على الرسل وقد مر في الأعراف وسيأتي في الكهف (فأوحى إِلَيْهِمْ) أي إلى الرسل (رَّبُّهُمْ) مالكِ أمرهم عند تناهي كفرِ الكفرة وبلوغِهم من العتو إلى غاية لا مطمَعَ بعدها في إيمانهم (لَنُهْلِكَنَّ الظالمين) على إضمار القولِ أو على إجراء الإيحاءِ مُجراه لكونه ضرباً منه
(وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض) أي أرضَهم وديارَهم عقوبةً لهم بقولهم لنُخرجَنّكم من أرضنا كقوله تعالى وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الارض ومغاربها (مِن بَعْدِهِمْ) أي من بعد إهلاكِهم وقرىء ليُهلكَن وليُسكِنَنّكم بالياء اعتباراً لأوحى كقولهم حلف زيد ليخرُجَنّ غداً (ذلك) إشارةٌ إلى الموحى به وهو إهلاكُ الظالمين وإسكانُ المؤمنين ديارَهم أي ذلك الأمرُ محققٌ ثابت (لِمَنْ خَافَ
إبراهيم 15 17 مَقَامِى) موقفي وهو الموقفُ الذي يقفُ فيه العبادُ يوم يقوم الناس لرب العالمين أو قيامي عليه وحفظي لأعماله وقيل لفظُ المقام مُقحَمٌ (وَخَافَ وَعِيدِ) وعيدي بالعذاب أو عذابيَ الموعودَ للكفار والمعنى أن ذلك حقٌّ للمتقين كقوله والعافية لِلْمُتَّقِينَ
(واستفتحوا) أي استنصروا الله على أعدائهم كقوله تعالى إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح أو استحكموا وسألوه القضاءَ بينهم من الفتاحة وهي الحكومةُ كقوله تعالى رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق فالضميرُ للرسل وقيل للكفرة وقيل للفريقين فإنهم سألوا أن يُنصَر المحِقُّ ويهلَك المبطل وهو معطوفٌ على أوحى إليهم وقرىء بلفظ الأمر عطفا على لتهلكن الظالمين أي أوحى إليهم ربهم لنُهلِكَنّ وقال لهم استفتِحوا (وَخَابَ) أي خسِر وهلك (كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) متّصفٍ بضد ما اتصف به المتقون أي فنُصروا عند استفتاحهم وظفرا بما سألوا وأفلحوا وخاب كلُّ جبارٍ عنيد وهم قومُهم المعاندون فالخيبةُ بمعنى مطلق الحرمان دون الحِرمان عن المطلوب أو ذلك باعتبار أنهم كانوا يزعُمون أنهم على الحق أو استفتح الكفارُ على الرسل وخابوا ولم يُفلحوا وإنما قيل وخاب كلُّ جبا عنيد ذماً لهم وتسجيلاً عليهم بالتجبّر والعِناد لا أنَّ بعضَهم ليسُوا كذلك وأنه لم يُصبْهم الخيبةُ أو استفتحوا جميعاً فنُصر الرسلُ وأُنجِز لهم الوعدُ وخاب كلّ عاتٍ متمردٍ فالخيبةُ بمعنى الحرمان غِبَّ الطلب وفي إسناد الخيبةِ إلى كل منهم مالا يخفى من المبالغة
(مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ) أي بين يديه فإنه مُرصَدٌ لها واقفٌ على شفيرها في الدنيا مبعوثٌ إليها في الآخرة وقيل من وراء حياتِه وحقيقتِه ما توارى عنك (ويسقى) معطوف على مقدر جواباً عن سؤال سائلٍ كأنَّه قيلَ فماذا يكونُ إذن فقيل يلقى فيها ويُسقى (مِن مَّاء) مخصوصٍ لا كالمياه المعهودة (صَدِيدٍ) وهو قيحٌ أو دمٌ مختلط بمِدّة يسيل من الجرح قال مجاهد وغيره هو ما يسيل من أجساد أهلِ النار وهو عطفُ بيانٍ لما أُبهم أولاً ثم بُيّن بالصديد تهويلاً لأمره وتخصيصُه بالذكر من بين عذابها يدل على أنه من أشدّ أنواعِه
(يَتَجَرَّعُهُ) قيل هو صفةٌ لماءٍ أو حالٌ منه والأظهر أنه استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذا يفعلُ به فقيل يتجرعه أي يتكلف جَرْعه مرة بعد أخرى لغلبة العطشِ واستيلاء الحرارة عليه (وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ) أي لا يقارب أن يسيغه فضلاً عن الإساغة بل يغَصّ به فيشربُه بعد اللتيا والتي جرعة غب جرعةً فيطول عذابُه تارةً بالحرارة والعطش وأخرى بشربه على تلك الحالِ فإن السواغ انحدارُ الشراب في الحلق بسهولة وقَبولِ نفس ونفيُه لا يوجب نفيَ ما ذكر جميعاً وقيل لا يكاد يدخُله في جوفه وعبّر عنه بالإساغة لما أنها المعهودةُ في الأشربة وهو حالٌ من فاعلِ يتجرعه أو من
إبراهيم 18 19 مفعوله أو منهما جميعاً (وَيَأْتِيهِ الموت) أي أسبابُه من الشدائد (مّن كُلّ مَكَانٍ) ويُحيط به من جميع الجهات أو من كل مكان من جسده حتى من أصول شعرِه وإبهامِ رجله (وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ) أي والحالُ أنه ليس بميت حقيقة كما هو الظاهر من مجيء أسبابِه لا سيما من جميع الجهاتِ حتى لا يتألمُ بما غشِيه من أصناف المُوبقات (وَمِن وَرَائِهِ) من بين يديه (عَذَابٍ غَلِيظٍ) يستقبل كلَّ وقت عذاباً أشدَّ وأشق مما كان قبله ففيه دفعُ ما يُتوهم من الخِفّة بحسب الاعتيادِ كما في عذاب الدنيا وقيل هو الخلودُ في النار وقيل هو حبسُ الأنفاس وقيل المرادُ بالاستفتاح والخيبةِ استسقاءُ أهلِ مكةَ في سِنيهم التي أرسلها الله تعالى عليهم بدعوته عليه الصلاة والسلام وخيبتهم في ذلك وقد وعد لهم بدل صديدَ أهل النار
(مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ) أي صفتُهم وحالُهم العجيبةُ الشأنِ التي هي كالمثل في الغرابة وهو مبتدأٌ خبرُه قولُه تعالى (أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ) كقولك صفةُ زيدٍ عرضُه مهتوكٌ ومالُه منهوب وهو استئنافٌ مبني على سؤال من قال ما بالُ أعمالُهم التي عمِلوها في وجوه البرِّ من صلة الأرحام وإعتاق الرقاب وفداءِ الأسارى وإغاثةِ الملهُوفين وقِرى الأضيافِ وغير ذلك ممَّا هو من باب المكارم حتى آل أمرُهم إلى هذا المآل فأجيب بأن ذلك كرماد (اشتدت بِهِ الريح) حملتْه وأسرعتْ الذهاب به (فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ) العصْفُ اشتدادُ الريحِ وصف به زمانُها مبالغةً كقولك ليلةٌ ساكرةٌ وإنما السكورُ لريحها شُبّهت صنائعُهم المعدودةُ لابتنائها على غير أساسٍ من معرفة الله تعالى والإيمان به والتوجّه بها إليه تعالى برماد طيّرته الريحُ العاصفةُ أو استئنافٌ مسوقٌ لبيان أعمالِهم للأصنام أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ كما هُو رأيُ سيبويهِ أي فيما يتلى عليك مَثلُهم وقوله أعمالُهم جملة مستأنَفةٌ مبنيّةٌ على سؤال من يقول كيف مثلهم فقيل أعمالهم كيت وكيت سواء أريد بها صنائعهم أو أعمالهم لأصنامهم وقيل أعمالُهم بدلٌ من مَثَلُ الذين وقوله كرماد خبرُه (لَاّ يَقْدِرُونَ) أي يوم القيامة (مِمَّا كَسَبُواْ) من تلك الأعمال (على شَىْء) ما أي لا يرَوْن له أثراً من ثواب أو تخفيفِ عذابٍ كدأب الرماد المذكور وهو فذلكةُ التمثيل والاكتفاءُ ببيان عدمِ رؤيةِ الأثر لأعمالهم للأصنام مع أن لها عقوباتٍ هائلةً للتصريح ببطلان اعتقادِهم وزعمِهم أنها شفعاءُ لهم عند الله تعالى وفيه تهكّمٌ بهم (ذلك) أي ما دل عليه التمثل دَلالةً واضحةً من ضلالهم مع حُسبانهم أنهم على شيء (هُوَ الضلال البعيد) عن طريق الصواب أو عن نيل الثواب
(أَلَمْ تَرَ) خطابٌ للرسول عليه الصلاة والسلام والمرادُ به أمتُه وقيل لكل أحد من الكفرة لقوله تعالى يُذْهِبْكُمْ والرؤيةُ رؤيةُ القلب وقوله تعالى {إِنَّ الله خلق السماوات والأرض} سادٌّ مسدَّ مفعوليها أي ألم تعلمْ أنه تعالى خلقهما (بالحق) ملتبسةً بالحكمة والوجهِ الصحيح الذي يحِق أن تخلَقَ عليه وقرىء خالقُ السموات والأرض (إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) يُعدمْكم بالمرة (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) أي يخلُق بدلكم خلقاً مستأنفا لا علاقة
إبراهيم 20 21 بينكم وبينهم رتب قدرتَه تعالى على ذلك على قدرتِهِ تعالَى على خلقِ السمواتِ والأرضِ على هذا النمط البديعِ إرشاداً إلى طريق الاستدلالِ فإن من قدَر على خلق مثلِ هاتيك الأجرامِ العظيمةِ كان على تبديل خلق آخرَ بهم أقدر ولذلك قال
(وَمَا ذلك) أي إذهابُكم والإتيانُ بخلق جديد مكانكم (عَلَى الله بِعَزِيزٍ) بمتعذرٍ أو متعسر فإنه قادر لذاته على جميع الممكِنات لا اختصاصَ له بمقدور دون مقدورٍ ومَنْ هذا شأنُه حقيقٌ بأن يؤمَنَ به ويرجى ثوابُه ويخشى عقابه
(وبرزوا الله جَمِيعًا) أي يبرُزون يوم القيامة وإيثارُ صيغةِ الماضي للدَلالة على تحقيق وقوعِه كما في قوله سبحانه وَنَادَى أصحاب الجنة أصحاب النار أو لأنه لا مُضِيَّ ولا استقبالَ بالنسبة إليه سبحانه والمرادُ بروزُهم من قبورهم لأمر الله تعالى ومحاسبته أو لله على ظنهم فإنهم كانوا يظنون عند ارتكابِهم الفواحشَ سراً أنها تخفى على الله سبحانه فإذا كانَ يومُ القيامةِ انكشفوا الله عند أنفسِهم (فَقَالَ الضعفاء) الأتباعُ جمع ضعيف والمرادُ ضعفُ الرأي وإنما كتب بالواو وعلى لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة (لِلَّذِينَ استكبروا) لرؤسائهم الذين استتبعوهم واستغفووهم (إِنَّا كُنَّا) في الدنيا (لَكُمْ تَبَعًا) في تكذيب الرسل عليهم السلام والإعراضِ عن نصائحهم وهو جمعُ تابع كغيب في جمع غائب أو مصدرٌ نُعت به مبالغةً أو على إضمار أي ذوي تبع (فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ) دافعون (عنا) والفاء للدالة على سببية الاتباعِ للإغناء والمرادُ التوبيخُ والعتابُ والتقريعُ والتبكيت (مِنْ عَذَابِ الله مِن شَىْء) من الأولى للبيان واقعةٌ موقعَ الحال والثانية للتبعيض واقعةٌ موقعَ المفعول أي بعضُ الشيء الذي هو عذابُ الله تعالى ويجوز كونُهما للتبعيض أي بعضَ شيءٍ هو بعضُ عذاب الله والإعراب كما سبق ويجوز أن تكون الأولى مفعولاً والثانية مصدراً أي فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا بعضَ العذاب بعضَ الإغناء ويعضُد الأولَ قولُه تعالى فَهَلْ أَنْتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مّنَ النار (قَالُواْ) أي المستكبرون جواباً عن معاتبة الأتباعِ واعتذاراً عما فعلوا بهم (لَوْ هَدَانَا الله) أي للإيماء ووفّقنا له (لَهَدَيْنَاكُمْ) ولكن ضَلَلْنا فأضللناكم أي اخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا أو لو هدانا الله طريق النجاة من العذاب لهديناكم وأغنينا عنكم كما عرضنا له ولكن سددوننا طريقُ الخلاص ولاتَ حينَ مناص (سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا) مما لقِينا (أَمْ صَبَرْنَا) على ذلك أي مستوٍ علينا الجزَعُ والصبرُ في عدم الإنجاء والهمزةُ وأم لتأكيد التسويةِ كما في قوله تعالى سَوَاء عَلَيْهِمْ أأنذرتهم أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ وإنما أسندوهما ونسبوا استواءَهما إلى ضمير المتكلم المنتظِمِ للمخاطبين أيضاً مبالغةً في النهي عن
إبراهيم 22 التوبيخ بإعلام أنهم شركاءُ لهم فيما ابتُلوا به وتسليةً لهم ويجوز أن يكون قوله سَوَاء عَلَيْنَا الخ من كلام الفريقين على مِنوال قوله تعالى ذلك لِيَعْلَمَ أَنّى لَمْ أَخُنْهُ ويؤيده ما روي أنهم يقولون تعالَوا نجزَعْ فيجزعون خمسَمائة عام فلا ينفعهم فيقولون تعالَوا نصبِرْ فيصبِرون كذلك فلا ينفعهم فعند ذلك يقولون ذلك ولما كان عتابُ الأتباع من باب الجزَعِ ذيّلوا جوابَهم ببيان أن لا جدوى في ذلك فقالوا (مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ) من منجى ومهربٍ من العذاب من حاص الحمارُ إذا عدل بالفرار وهو إما اسمُ مكان كالمبيت والمَصيف أو مصدرٌ كالمغيب والمشيب وهي جملةٌ مفسِّرة لإجمال ما فيه الاستواءُ فلا محلَّ لها من الإعرابِ أو حالٌ مؤكِّدة أو بدلٌ منه
(وَقَالَ الشيطان) الذي أضل كلا الفريقين واستتبعهما عند ما عتَباه بما قاله الأتباعُ للمستكبرين (لَمَّا قُضِىَ الأمر) أي أُحكم وفُرغ منه وهو الحسابُ ودخل أهلُ الجنةِ الجنةَ وأهلُ النار النارَ خطيباً في محفِل الأشقياء من الثقلين (إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق) أي وعداً من حقه أن يُنجَز فأنجزه أو وعداً أنجزه وهو الوعدُ بالبعث والجزاء (وَوَعَدتُّكُمْ) أي وعد الباطل وهوان لا بعثَ ولا جزاء ولئن كان فالأصنامُ شفعاؤُكم ولم يصرِّح ببطلانه لما دلَّ عليه قولُه (فَأَخْلَفْتُكُمْ) أي موعدي على حذف المفعولِ الثاني أي نقضتُه جعل وعده كالإخلاف منه كأنه كان قادراً على إنجازه وأنى له ذلك (وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان) أي تسلّطٍ أو حجةٍ تدل على صدقي (إِلَاّ أَن دَعَوْتُكُمْ) إلا دعائي إياكم إليه وتسويلُه وهو وإن لم يكن من باب السلطان لكنه أبرزه في مبروزه على طريقة [تحيةٌ بينِهم ضربٌ وجيعُ] مبالغةً في نفي السلطان عن نفسه كأنه قال إنما يكون لي عليكم سلطانٌ إذا كان مجردُ الدعاء من بابه ويجوز كونُ الاستثناء منقطعاً (فاستجبتم لِى) فأسرعتم إجابتي (فَلَا تَلُومُونِى) بوعدي إياكم حيثُ لم يكن ذلكَ على طريقة القسر والإلجاءِ كما يدل عليه الفاء وقرىء بالياء على وجه الالتفاتِ كما في قوله تعالى حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِى الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم (وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ) حيث استجبتم لي باختياركم حين دعوتُكم بلا حجةٍ ولا دليل بمجرد تزيينٍ وتسويل ولم تستجيبوا ربكم إذا دعاكم دعوةَ الحق المقرونةَ بالبينات والحجج وليس مرادُه التنصّلَ عن توجه اللائمةِ إليه بالمرة بل بيانُ أنهم أحقُّ بها منه وليس فيه دلالةٌ على استقلالِ العبدِ في أفعاله كما زعمت المعتزلة بل يكفي في ذلك أن يكون لقدرته الكاسبةِ التي عليها يدورُ فلكُ التكليف مدخلٌ فيه فإنه سبحانه إنما يخلُق أفعالَه حسبما يختاره وعليه تترتب السعادةُ والشقاوة وما قيل من أنَّه يستدعي أن يقال فلا تلوموني ولا أنفسَكم فإن الله قضى عليكم الكفرَ وأجبركم عليه مبنيٌّ على عدم الفرق بين مذهب أهلِ الحقِّ وبين مسلك الجبرية (مَّا أَنَاْ بمصرحكم) أي بمُغيثكم مما أنتم فيه من العذاب (وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ) مما أنا فيه وإنما تعرّض لذلك مع أنه لم يكن في حيز الاحتمالِ مبالغةً في بيان عدمِ إصراخِه إياهم وإيذانا بأنه
إبراهيم 23 24 أيضا مبتلى بمثل ما ابتُلوا به ومحتاجٌ إلى الإصراخ فكيف من إصراخِ الغير ولذلك آثرَ الجملةَ الاسميةَ فكأن ما مضى كان جواباً منه عن توبيخهم وتقريعِهم وهذا جوابٌ عن استغاثتهم واستعانِتهم به في استدفاع ما دهِمهم من العذاب وقرىء بكسر الياء (إِنّى كَفَرْتُ) اليوم (بما أشركتموني مِن قَبْلُ) أي بإشراككم إياي بمعنى تبرأتُ منه واستنكرتُه كقوله تعالى وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ يعني أن إشراكَكم لي بالله سبحانه هو الذي يَطمِعكم في نُصرتي لكم بأن كان لكم عليّ حقٌّ حيث جعلتموني معبوداً وكنت أوَد ذلك وأرغب فيه فاليوم كفرتُ بذلك ولم أحمَدُه ولم أقبله منكم بل تبرأتُ منه ومنكم فلم يبقى بيني وبينكم علاقةٌ أو كفرتُ من قبل حين أبيتُ السجودَ لآدمَ بالذي أشركتمونيه وهو الله تعالى كما في قوله سبحان ما سخر كن لنا فيكون تعليلاً لعدم إصراخِه فإن الكافرَ بالله سبحانه بمعزل من الإغاثة والإعانة سواء كان بالمدافعة أو الشفاعة وأما جعلُه تعليلاً لعدم إصراخِهم إياه فلا وجهَ له إذ لا احتمالَ له حتى يُحتاج إلى التعليل ولأن تعليلَ عدم إصراخِهم بكفره يوهم أنهم بسبيل من ذلك لولا المانعُ من جهته (إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) تتمةُ كلامه أو ابتداء كلامٍ من جهةِ الله عز وجل وفي حكاية أمثالِه لطفٌ للسامعين وإيقاظٌ لهم حتى يحاسبوا أنفسهم ويتدبّروا عواقبَهم
(وأدخل الذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا بِإِذْنِ رَبّهِمْ) أيْ بأمرِه أو بتوفيقه وهدايته وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِهم إظهارُ مزيدِ من اللطفِ بهم والمُدْخِلون هم الملائكةُ عليهم السلام وقرىء على صيغة التكلم فيكون قوله تعالى بِإِذْنِ رَبّهِمْ متعلقاً بقوله تعالى (تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام) أي يحيهم الملائكةُ بالسلام بإذن ربهم
(أَلَمْ تَرَ) الخطابُ للرسولِ عليه الصلاة والسلام وقد عُلّق بما بعدَهُ من قولِه تعالى (كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً) أي كيف اعتمده ووضعه في موضعه اللائق به (كَلِمَةً طَيّبَةً) منصوبٌ بمضمر أي جعل كلمةً طيبة هي كلمةُ التوحيد أو كلَّ كلمة حسنةٍ كالتسبيحة والتحميدة والاستغفارِ والتوبة والدعوة (كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ) أي حكَم بأنها مثلُها لا أنه تعالى صيّرها مثلَها في الخارج وهو تفسير لقوله ضَرَبَ الله مَثَلاً كقولك شرّف الأميرُ زيداً كساه حُلةً وحمله على فرس ويجوز أن يكون كلمة بدلاً من مثلاً وكشجرة صفتُها أو خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أي هي كشجرة وأن يكون أو مفعوليْ ضرب إجراءً له مُجرى جعل قد أُخّر عن ثانيهما أعني مثلاً لئلا يبعُد عن صفته التي هي كشجرة وقد قرئت بالرفع على الابتداء (أَصْلُهَا ثَابِتٌ) أي ضارب بعُروقه في الأرض وقرأ أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه كشجرة طيبة ثاتب أصلُها وقراءةُ الجماعة أقوى سبكاً وأنسبُ بقرينته أعني قوله تعالى (وَفَرْعُهَا) أي أعلاها (فِى السماء) في جهة العلو ويجوز أن يراد وفروعُها على الاكتفاء بلفظ الجنس عن الجمع