الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مريم
30
- 34 {قال} استئناف مبني على سؤال نشأ من سياق النظمُ الكريمُ كأنه قيل فماذا كان بعد ذلك فقيل قال عيسى عليه السلام {إِنّى عَبْدُ الله} أنطقه الله عز وجل بذلك آثرَ ذي أثيرٍ تحقيقاً للحق وردًّا على من يزعُم ربوبيته قيل كان المستنطِقُ لعيسى زكريا عليهما الصلاة والسلام وعن السدي رضي الله عنه لما أشارت إليه غضِبوا وقالوا لَسُخرَيتُها بنا أشدُّ علينا مما فعلت وروي أنه عليه السلام كان يرضَع فلما سمع ذلك ترك الرَّضاعَ وأقبل عليهم بوجهه واتكأ على يساره وأشار إليهم بسبابته فقال ما قال الخ وقيل كلمهم بذلك ثم لم يتكلم حتى بلغ مبلغاً يتكلم فيه الصبيان {آتاني الكتاب} أي الإنجيلَ {وَجَعَلَنِى نَبِيّاً}
{وَجَعَلَنِى} مع ذلك {مُبَارَكاً} نفّاعاً معلِّماً للخير والتعبيرُ بلفظ الماضي في الأفعال الثلاثة إما باعتبار ما سبق في القضاء المحتومِ أو بجعل ما في شرَفِ الوقوعِ لا محالة واقعاً وقيل أكمله الله عقلا واستنباه طفلا {أين ما كُنتُ} أي حيثما كنت {واوصانى بالصلاة} أي أمرني بها أمرا مؤكدا {والزكاة} زكاةِ المال إن ملكتُه أو بتطهير النفسِ عن الرذائل {مَا دُمْتُ حَيّاً} في الدنيا
{وَبَرّاً بِوَالِدَتِى} عطفٌ على مباركاً أي جعلني بارًّا بها وقرئ بالكسرِ على أنهُ مصدرٌ وُصف به مبالغةً أو منصوبٌ بمضمر دل عليه أوصاني أي وكلفني بَرًّا ويؤيده القراءةُ بالكسر والجر عطفاً على الصلاة والزكاة والتنكيرُ للتفخيم {وَلَمْ يَجْعَلْنِى جَبَّاراً شَقِيّاً} عنيداً لله تعالى لفَرْط تكبّره
{والسلام عَلَىَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} كما هو على يحيى على أن التعريفَ للعهد والأظهرُ أنه للجنس والتعريضِ باللعن على أعدائه فإن إثباتَ جنسِ السلام لنفسه تعريضٌ بإثبات ضدِّه لأضداده كما في قوله تعالى والسلام على مَنِ اتبع الهدى فإنه تعريضٌ بأن العذابَ على من كذّب وتولى
{ذلك} إشارةٌ إلى من فُصّلت نعوتُه الجليلةُ وما فيه من معنى البعد للدِلالة على علو مرتبتِه وبُعد منزلتِه وامتيازِه بتلك المناقبِ الحميدةِ عن غيره ونزولِه منزلةَ المشاهَد المحسوس {عِيسَى ابن مَرْيَمَ} لا ما يصفه النصارى وهو تكذيبٌ لهم فيما يزعُمونه على الوجه الأبلغِ والمنهاج البرهانيِّ حيث جعله موصوفاً بأضداد ما يصفونه {قَوْلَ الحق} بالنصب على أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ لقال إني عبد الله الخ وقولُه تعالَى ذلك {عِيسَى ابن مَرْيَمَ} اعتراضٌ مقرِّرٌ لمضمونِ ما قبله وقرئ بالرفع على أنه خبرُ مبتدأٍ محذوفٍ أيْ هُو قولُ الحق الذي لا ريب فيه والإضافةُ للبيان والضمير للكلام السابق أو لتمام القصة وقيل صفةُ عيسى أو بدلُه أو خبر ثان
مريم 35 38 ومعناه كلمة الله وقرئ قالَ الحقِّ وقول الحق فإن القولَ والقال في معنى واحد {الذى فِيهِ يَمْتُرُونَ} أي يشكون أو يتنازعون فيقول اليهودُ ساحرٌ والنصارى ابن الله وقرئ بتاء الخطاب
{مَا كَانَ للَّهِ} أي ما صح وما استقام له تعالى {أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سبحانه} تكذيبٌ للنصارى وتنزيهٌ له تعالى عما بَهتوه وقوله تعالى {إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} تبكيتٌ لهم ببيان أن شأنه تعالى إِذَا قَضَى أَمْرًا من الأمور أن يعلِّق به إرادتَه فيكونَ حينئذ بلا تأخير فَمْن هذا شأنُه كيف يُتوهّم أن يكون له ولد وقرئ فيكونَ بالنصب على الجواب وقوله تعالى
{وَإِنَّ الله رَبّى وَرَبُّكُمْ فاعبدوه} من تمام كلامِ عيسى عليه السلام قيلَ هُو عطفٌ على قوله إِنّى عَبْدُ الله داخلٌ تحت القول وقد قرئ بغير واو وقرئ بفتح الهمزة على حذف اللام أي ولأنه تعالى ربي وربُّكم فاعبُدوه كقوله تعالى وَأَنَّ المساجدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً وقيل معطوفٌ على الصلاة {هذا} أي الذي ذكرتُه من التوحيد {صراط مُّسْتَقِيمٍ} لا يضِلُّ سالكه والفاء في قوله تعالى
{فاختلف الأحزاب مِن بَيْنَهُمْ} لترتيب ما بعدها على ما قبلها تنبيهاً على سوء صنيعِهم بجعلهم ما يوجب الاتفاقَ منشأً للاختلاف فإن ما حُكي من مقالات عيسى عليه السلام مع كونها نصوصاً قاطعةً في كونه عبدَه تعالى ورسولَه قد اختلفت اليهودُ والنصارى بالتفريط والإفراط أو فرّق النصارى فقالت النُّسطوريةُ هو ابنُ الله وقالت اليعقوبيةُ هو الله هبط إلى الأرض ثم صعِدَ إلى السماء تعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً وقالت الملكانية هو عبدُ الله ونبيُّه {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} وهم المختلفون عبّر عنهم بالموصول إيذاناً بكفرهم جميعاً وإشعاراً بعلة الحُكم {مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي من شهود يومٍ عظيمِ الهول والحساب والجزاء وهو يومُ القيامة أو من وقت شهودِه أو من مكان الشهود فيه أو من شهادة ذلك اليوم عليهم وهو أن يشهد عليهم الملائكةُ والأنبياءُ عليهم السلام وألسنتُهم وآذانُهم وأيديهم وأرجلُهم وسائرُ آرابِهم بالكفر والفسوق أو من وقت الشهادة أو من مكانها وقيل هو ما شِهدوا به في حق عيسى وأمِّه عليهما السلام {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} تعجّبٌ من حِدّة سمعِهم وأبصارِهم يومئذ ومعناه أن أسماعَهم وأبصارهم
{يَوْمَ يَأْتُونَنَا} للحساب والجزاء أي يوم القيامة جديرٌ بأن يُتعجَّب منها بعد أن كانوا في الدنيا صُمًّا عُمياً أو تهديدٌ بما سيسمعون ويُبصرون يومئذ وقيل أُمر بأن يُسمِعَهم ويُبصرهم مواعيدَ ذلك اليوم وما يحيق بهم فيه والجار والمجرور على الأول في موقع الرفعِ وعلى الثاني في حيز النصب {لكن الظالمون اليوم} أي في الدنيا
مريم 39 42 {فِى ضلال مُّبِينٍ} لا تُدرك غايتُه حيث أغفلوا الاستماعَ والنظرَ بالكلية ووضعُ الظالمين موضعَ الضمير للإيذان بأنهم في ذلك ظالمون لأنفسهم
{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة} أي يوم يتحسر الناسُ قاطبةً أما المسيءُ فعلى إساءته وأما المحسنُ فعلى قلة إحسانِه {إِذْ قُضِىَ الأمر} أي فُرغ من الحساب وتصادر الفريقان إلى الجنة والنار روي أن النبيِّ صلى الله عليه وسلم سُئلَ عنْ ذلِكَ فقالَ حين يجاء بالموت على صورة كبشٍ أملحَ فيذبح والفريقان ينظرون فينادي المنادي يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلود فلا موت فيزداد أهلُ الجنة فرحاً إلى فرح وأهلُ النار غمًّا إلى غم وإذ بدلٌ من يومَ الحسرة أو ظرفٌ للحسرة فإن المصدرَ المعرّفَ باللام يعمل في المفعول الصريح عند بعضِهم فكيف بالظرف {وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ} أي عما يُفعل بهم في الآخرة {وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وهما جملتان حاليتان من الضمير المستتر في قولِه تعالى فِى ضلال مُّبِينٍ أي مستقرون في ذلك وهم في تينك الحالتين وما بينهما اعتراضٌ أو من مفعول أنذِرْهم أي أنذرهم غافلين غيرَ مؤمنين فيكون حال متضمنةً لمعنى التعليل
{إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا} لا يبقى لأحد غيرِنا عليها وعليهم مُلكٌ ولا مَلِك أو نتوفى الأرضَ ومن عليها بالإفناء والإهلاك توَفيَ الوارثِ لإرثه {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} أي يُردّون للجزاء لا إلى غيرنا استقلالاً أو اشتراكاً
{واذكر} عطف على أنذِرْهم {فِى الكتاب} أي في السورة أو في القرآن {إِبْرَاهِيمَ} أي اتلُ على الناس قصته وبلِّغها إياهم كقوله تعالى واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ إبراهيم فإنهم ينتمون إليه عليه السلام فعساهم باستماع قصته يُقلِعون عما هم في من القبائح {إِنَّهُ كَانَ صِدّيقاً} ملازماً للصدق في كلِّ ما يأتي ويذر أو كثيرَ التصديق لكثرة ما صدق به من غيوبَ الله تعالى وآياتِه وكتبَه ورسلَه والجملةُ استئنافٌ مَسوقٌ لتعليل موجبِ الأمر فإن وصفه عليه السلام بذلك من دواعي ذكرِه {نَبِيّاً} خبرٌ آخرُ لكان مقيدٌ للأول مخصِّصٌ له كما ينبئ عَنْهُ قولِهِ تَعَالى مَن البيين والصديقين الآية أي كان جامعاً بين الصدّيقية والنبوة ولعل هذا الترتيبَ للمبالغة في الاحتراز عن توهم تخصيص الصديقية بالنوبة فإن كلَّ نبيَ صديقٌ
{إِذْ قَالَ} بدلُ اشتمالٍ من إبراهيمَ وما بينهما اعتراض مقرر لما قبله أو متعلق بكان أو بنبياً وتعليقُ الذكر بالأوقات مع أن المقصودَ تذكيرُ ما وقع فيها من الحوادث قد مر سرُّه مرارا أي كان جامعاً بين الأثَرتين حين قال {لأبيه} آزر متطلفا في الدعوة مستميلاً له {يا أبت} أي يا أبي فإن التاء عوضٌ عن ياء الإضافة ولذلك لا يجتمعان وقد قيل يا أبتا لكون الألف بدلاً من الياء {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ} ثناءَك عليه عند عبادتِك له وجؤارِك إليه {وَلَا يَبْصِرُ} خضوعَك وخشوعَك بين يديه أولا يسمع ولا يبصر شيئاً من المسموعات والمُبصَرات فيدخُل في ذلك
مريم 43 45 ما ذكر دخولا أولياء {وَلَا يُغْنِى} أي لا يقدرُ على أنْ يغنيَ {عَنكَ شَيْئاً} في جلب نفعٍ أو دفعِ ضرَ ولقد سلك عليه السلام في دعوته أحسنَ منهاجٍ وأقوم سبيل واحتج عليه أبدع احتجاج بحسن أدبٍ وخلقٍ جميل لئلا يركبَ متنَ المكابرة والعناد ولا يُنكّبَ بالكلية عن مَحَجّة الرشاد حيث طَلب منه علةَ عبادتِه لِما يستخفّ به عقلُ كل عاقل من عالم وجاهل ويأبى الركون غليه فضلاً عن عبادته التي هي الغاية القاصية من التعظيم مع أنها لا تحِقُّ إلا لمَنْ له الاستغناءُ التامُّ والإنعامُ العام الخالقِ الرازقِ المحيي المميتِ المثيبِ المعاقب ونبّه على أن العاقل يجب أن يفعلُ كلَّ ما يفعلُ لداعيةٍ صحيحة وغرضٍ صحيح والشيءُ لو كان حياً مميّزاً سميعاً بصيراً قادراً على النفع والضرِّ مطيقاً بإيصال الخير والشر لكن كان ممكِناً لاستنكف العقلُ السليمُ عن عبادته وإن كان أشرفَ الخلائق لما يراه مِثْلَه في الحاجة والانقيادِ للقدرة القاهرةِ الواجبة فما ظنُّك بجماد مصنوع من حجر أو شجر ليس له من أوصاف الإحياءِ عينٌ ولا أثرٌ ثم دعاه إلى أن يتبعه ليهديَه إلى الحق المبين لِما أنه لم يكن محظوظا من العلم الإلهي مستقلاً بالنظر السويّ مصدّراً لدعوته بما مر من الاستمالة والاستعطاف حيث قال
{يا أبت إِنّى قَدْ جَاءنِى مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ} ولم يسِمْ أباه بالجهل المُفرِط وإن كان في أقصاه ولا نفسَه بالعلم الفائق وإن كان كذلك بل أبرز نفسه في صورة رفيقٍ له أعرفَ بأحوال ما سلكاه من الطريق فاستماله برفق حيث قال {فاتبعنى أَهْدِكَ صراطا سَوِيّاً} أي مستقيماً موصلاً إلى أسنى المطالب منجياً عن الضلال المؤدّي إلى مهاوي الردى والمعاطب ثم ثبّطه عما كان عليه بتصويره بصورة يستنكرها كلُّ عاقل ببيانِ أنه مع عرائه عن النفع بالمرة مستجلبٌ لضرر عظيم فإنه في الحقيقة عبادةُ الشيطان لِما أنه الآمرُ به فقال
{يا أبت لَا تَعْبُدِ الشيطان} فإن عبادتك للأصنام عبادةٌ له إذ هو الذي يسو لهالك ويغريك عليها وقوله {إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً} تعليلٌ لموجب النهي وتأكيدٌ له ببيان أنه مستعصٍ على ربك الذي أنعم عليك بفنون النعم ولا ريب أن المطيعَ للعاصي عاصٍ وكلُّ مَن هو عاصٍ حقيقٌ بأن يسترد منه النعم وينتقم منه والإظهارُ في موضعِ الإضمارِ لزيادة التقرير والإقتصاد على ذكر عصيانه من بين سائر جناياتِه لأنه مَلاكُها أو لأنه نتيجةُ معاداتِه لآدمَ عليه السلام وذريته فتذكيرُه داعٍ لأبيه إلى الاحتراز عن موالاته وطاعته والتعرضُ لعنوان الرحمانية لإظهار كمالِ شناعة عصيانِه وقوله
{يا أبت إِنّى أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مّنَ الرحمن} تحذيرٌ من سوء عاقبةِ ما كان عليه من عبادة الشيطان وهو ابتلاؤُه بما ابتُليَ به معبودُه من العذاب الفظيع وكلمةُ مِن متعلقةٌ بمضمر وقع صفةً للعذاب مؤكدةٌ لما أفاده التنكيرُ من الفخامةِ الذاتيةِ بالفخامةِ الإضافية وإظهارُ الرحمن للإشعار بأن وصفَ الرحمانية لا يدفع حلولَ العذاب كما في قوله عز وجل مَا غَرَّكَ بِرَبّكَ الكريم {فَتَكُونَ للشيطان وَلِيّاً} أي قريناً له في اللعن المخلّد وذكرُ الخوف للمجاملة
مريم 46 47 وإبرازِ الاعتناء بأمره
{قَالَ} استئناف مبني على سؤال نشأ من صدر الكلام كأنَّه قيلَ فماذَا قالَ أبوه عندما سمِع منه عليه السلام هذه النصائحَ الواجبةَ القَبولِ فقيل قال مُصرًّا على عِناده {أَرَاغِبٌ أنت عن آلهتي يا إبراهيم} أي أمُعرضٌ ومنصرفٌ أنت عنها بتوجيه الإنكار إلى نفس الرغبة مع ضرب من التعجب كأن الرغبةَ عنها مما لا يصدُر عن العاقل فضلاً عن ترغيب الغير عنها وقوله {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} تهديدٌ وتحذير عما كان عليه من العِظة والتذكير أي والله لئِن لَمْ تنته عما كنت عليه من النهي عن عبادتها لأرجُمنك بالحجارة وقيل باللسان {واهجرنى} أي فاحذَرْني واتركني {مَلِيّاً} أي زماناً طويلاً أو ملياً بالذهاب مطيقاً به
{قال} استئناف كما سلف {سلام عَلَيْكَ} توديعٌ ومُتارَكةٌ على طريقة مقابلة السيئة بالحسنة أي لا أصيبك بمكروه بعدُ ولا أشافهك بما يؤذيك ولكن {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِي} أي أستدعيه أن يغفر لك بأن يوفقك للتوبة ويهديَك إلى الإيمان كما يلوح به تعليلُ قوله تعالى واغفر لاِبِى بقولِه تعالَى إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضالين والاستغفارُ بهذا المعنى للكافر قبل تبين أنه يموت على الكفر مما لا ريب في جوازه وإنما المحظورُ استدعاءُ المغفرة له مع بقائه على الكفر فإنه مما لا مساغَ له عقلاً ولا نقلاً وأما الاستغفارُ له بعد موته على الكفر فلا تأباه قضيةُ العقل وإنما الذي يمنعه السمعُ ألا يرى إلى أنه صلى الله عليه وسلم قال لعمه أبي طالب لا أزال أستغفرُ لك ما لم أُنُهَ عنه فنزل قوله تعالى {مَا كَانَ لِلنَّبِىّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} الآية والاشتباه في أن هذا الوعدَ من إبراهيمَ عليه السلام وكذا قولُه لأستغفرن لك وما ترتب عليهما من قوله واغفر لاِبِى الآية إنما كان قبل انقطاعِ رجائِه عن إيمانه لعدم تبيّن أمرِه لقوله تعالى فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ كما مر في تفسير سورة التوبة واستثناؤه عما يؤتسى به في قوله تعالى إِلَاّ قَوْلَ إبراهيم لأَبِيهِ لَاسْتَغْفِرَنَّ لَكَ لا يقدح في جوازه لكن لا لأن ذلك كان قبل ورودِ النَّهيِ أو لموعِدة وعَدَهَا إياه كما قيل لما أن النهيَ إنما ورد في شأن الاستغفارِ بعد تبيّن الأمرِ وقد كان استغفارُه عليه السلام قبل التبيُّن فلم يتناولْه النهيُ أصلاً وأن الوعدَ بالمحظور لا يرفع خطره بل لأن المرادَ بما يُؤْتَسَى به ما يجبُ الائتساءُ بهِ حتماً لورودِ الوعيدِ على الإعراضِ عنه بقوله تعالى لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الاخر وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد فاستثناؤهُ عن ذلك إنما يفيدُ عدمَ وجوبِ استدعاء الإيمان للكافر المرجو إيمانُه لا سيما وقد انقطع ذلك عند ورودِ الاستثناء وذلك مما لا يتردد فيه أحدٌ من العقلاء وأما عدمُ جوازه قبل تبيّن الأمرِ فلا دِلالةَ للاستثناءِ عليهِ قطعاً وتوجيهُ الاستثناءِ إلى العِدَة بالاستغفارِ لا إلى نفسِ الاستغفارِ بقولِهِ واغفِر لاِبِى الآيةَ لأنها كانَتْ هي الحاملةَ له عليه السلام عليه وتخصيصُ تلك العِدَة بالذكر دون ما وقع ههنا لورودها على نهج التأكيدِ القسَميّ وأما جعلُ الاستغفارِ دائرة عليها وترتيبُ التبرُّؤ على تبين الأمرِ فقد مَرَّ تحقيقُه في تفسير سورة التوبة وقوله {إِنَّهُ كَانَ بِى حَفِيّاً} أي بليغاً في البِرّ والإلطاف تعليلٌ لمضمون ما قبله