الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحجر
21
- 2 (وَإِن مّن شَىْء) إن للنفي ومن مزيدة للتأكيد وشيءٍ في محلِ الرفعِ على الابتداء أي ما مِن شَىْء من الأشياءِ الممكنةِ فيدخُل فيه ما ذُكر دخولا أوليا (إلا عِندَنَا خَزَائِنُهُ) الظرفُ خبرٌ للمبتدأ وخزائنُه مرتفعٌ به على أنه فاعله لاعتماده أو خبر له والجملةُ خبرٌ للمبتدأ الأولِ والخزائنُ جمع الخِزانة وهي ما يحفظ فيه نفائسُ الأموال لا غيرُ غلَب في العرف على ما للملوك والسلاطينِ من خزائن أرزاقِ الناس شُبِّهت مقدوراتُه تعالى الفائتةُ للحصر المندرجةُ تحت قدرتِه الشاملة في كونها مستورةً عن علوم العالمين ومصونةً عن وصول أيديهم مع كمال افتقارِهم إليها ورغبتِهم فيها وكونِها مهيأةً متأتّيةً لإيجاده وتكوينه بحيث متى تعلقت الإرادةُ بوجودها وُجدت بلا تأخر بنفائس الأموالِ المخزونةِ في الخزائن السلطانيةِ فذكرُ الخزائن على طريقة الاستعارةِ التخييلية (وَمَا نُنَزّلُهُ) أي ما نُوجِد وما نكوّن شيئاً من تلك الأشياء ملتبساً بشيءٍ من الأشياءِ (إِلَاّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ) أي إلا ملتبساً بمقدار معينٍ تقتضيه الحِكمةُ وتستدعيه المشيئةُ التابعة لها لا بما تقتضيه القدرةُ فإن ذلك غيرُ متناهٍ فإن تخصيصَ كل شيء بصفة معينةٍ وقدرٍ معين ووقتٍ محدود دون ما عدا ذلك مع استواء الكلِّ في الإمكان واستحقاقِ تعلّقِ القدرة به لا بد له من حكمة تقتضي اختصاصَ كلَ من ذلك بما اختص به وهذا البيانُ سرُّ عدمِ تكوينِ الأشياء على وجه الكثرة حسبما هو في خزائن القدرة وهو إما عطفٌ على مقدرٍ أي ننزله وما ننزله الخ أو حالٌ مما سبق أي عندنا خزائنُ كل شيءٍ والحال أنا ما ننزِّله إلا بقدر معلوم فالأول لبيان سعةِ القدرةِ والثاني لبيان بالغِ الحِكمة وحيث كان إنشاءُ ذلك بطريق التفضّل من العالم العلوى إلى العلم السفلي كما في قوله تعالى وَأَنزَلَ لَكُمْ مّنَ الأنعامِ ثمانية أزواج وكان ذلك بطريق التدريج عبّر عنه بالتنزيل وصيغةُ المضارع للدلالة على الاستمرار
(وَأَرْسَلْنَا الرياح) عطفٌ على جعلنا لكم فيها معايشَ وما بينهما اعتراضٌ لتحقيق ما سبق وترشيح مالحق أي أرسلنا الرياح (لَوَاقِحَ) أي حواملَ شُبّهت الريحُ التي تجيء بالخير من إنشاء سحابٍ ماطرٍ بالحامل كما شبه بالعقيم مالا يكون كذلك أو ملقِّحاتٍ بالشجر والسحابِ ونظيره الطوائحُ بمعنى المُطيحات في قوله [ومختبطٍ مما تُطيح الطوائحُ] أي المهلِكات وقرىء وأرسلنا الريحَ على إرادةِ الجنسِ (فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء) بعد ما أنشأنا بتلك الرياحِ سحابا ماطرا (ماء فأسقيناه كموه) أي جعلناه لكم سُقياً وهو أبلغ من سقينا كموه لما فيهِ منَ الدلالةِ على جعل الماءِ معداً لهم ينتفعون به متى شاءوا (وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بخازنين) نفى عنهم ما أثبته لجنابه بقوله وَإِن مّن شَىْء إِلَاّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ كأنه قيل نحن القادرون على إيجاده وخزْنِه في السحاب وإنزاله وما أنتم على ذلك بقادرين وقيل ما أنتم بخازنين له بعد ما أنزلناه في الغُدران والآبارِ والعيون بل نحن نخزنُه فيها ليجعلها سقياً لكم مع أن طبيعةَ الماء تقتضي الغَوْر
(وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْىِ) بإيجاد الحياةِ في بعض الأجسام القابلة لها
الحجر 24 26 (وَنُمِيتُ) بإزالتها عنها وقد يُعمِّم الإحياءُ والإماتة لما يشمل الحيوانَ والنباتَ وتقديمُ الضميرِ للحصر وهو إما تأكيدٌ للأول أو مبتدأٌ خبرُه الفعلُ والجملةُ خبرٌ لإنا ولا يجوز كونُه ضميرَ الفصل لا لأن اللام مانعةٌ من ذلك كما قيل فإن النجاة جوزوا دخولَ لام التأكيدِ على ضمير الفصل كما في قوله تعالى أن هذا لَهُوَ القصص الحق بل لأنه لم يقع بين اسمين (وَنَحْنُ الوارثون) أي الباقون بعد فناءِ الخلقِ قاطبةً المالكون للملك عند انقضاءِ زمان المُلك المجازى الحاكمون في الكلَّ أولاً وآخراً وليس لهم إلا التصرفُ الصُّوريُّ والملكُ المجازي وفيه تنبيهٌ على أن المتأخّرَ ليس بوارث للمتقدم كما يتراءى من ظاهر الحال
(وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ) مَنْ تقدّم منكم ولادةً وموتا (ولقد علمنا المستأخرين) من تأخر ولادةً وموتاً أو من خرج من أصلاب الآباءِ ومن لم يخرُجْ بعدُ أو مَنْ تقدم في الإسلام والجهاد وسبق إلى الطاعة ومن تأخر في ذلك لا يخفى علينا شيء من أحوالكم وهو بيانٌ لكمال علمِه بعد الاحتجاج على كمال قدرتِه فإن ما يدل عليها دليلٌ عليه وفي تكرير قوله تعالى ولقد علمنا مالا يَخفْى من الدلالةِ على كمال التأكيدِ وقيل رغّب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصف الأول فازدحموا عليه فنزلت وقيل إن امرأةً حسناءَ كانت تصلي خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدم بعضُ الناس لئلا يراها وتأخر آخرون ليرَوْها فنزلت والأول هو المناسب لما سبَقَ وما لَحِق من قوله تعالى
(وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ) أي للجزاء وتوسيطُ ضميرِ العظمةِ للدلالة على أنه هو القادرُ على حشرهم والمتولِّي له لا غيرُ لأنهم كانوا يستبعدون ذلك ويستنكرونه ويقولون مَن يُحىِ العظام وَهِىَ رميم أي هو يحشرهم لا غير وفي الالتفات والتعرض لعنوان الربوبية إشعارا بعلة الحكم وفي الإضافة إلى ضميره صلى الله عليه وسلم دَلالةٌ على اللطف به عليه الصلاة والسلام (إِنَّهُ حَكِيمٌ) بالغُ الحكمة متقِنٌ في أفعاله فإنها عبارةٌ عن العلم بحقائق الأشياء على ما هي عليه والإتيانِ بالأفعال على ما ينبغي (عَلِيمٌ) وسِع علمُه كلَّ شيء ولعل تقديمَ صفةِ الحكمة للإيذان باقتضائها للحشر والجزاء
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان) أي هذا النوع بأن خلقنا أصله وأول فرد من أفراده خلقاً بديعاً منطوياً على خلق سائر أفراده انطواء إجماليَّاً كما مرَّ تحقيقُه في سورة الأنعام (مِن صَلْصَالٍ) من طين يابس غير مطبوخ يصلصل أي يصوت عند نقرة قيل اذا توهمت في صوته مدا فهو صليل وإن توهمت فيه ترجيعاً فهو صلصلة وقيل هو تضعيف صل إذا أنتن (مِّنْ حَمَإٍ) من طين تغير وأسود بطول مجاورة الماء وهو صفة لصلصال أي من صلصال كائن من حمأ (مَّسْنُونٍ) أي مصور من سنة الوجه وهي صورته أو مصبوب من سن الماء صبه أي مفرغ على هيئة الآنسان كما يفرغ الصور من الجواهر المذابة في القوالب وقيل منتن فهو صفة لحما وعلى الأولين حقه أن يكون صفة لصلصال وإنما أخر عن حمأ تنبيها على أن ابتداء
الحجر 27 29 مسنونيته ليس في حال كونه صلصالاً بل في حال كونه حمأ كأنه سبحانه أفرغ الحمأ فصور من ذلك تمثال إنسان أجوف فيبس حتى اذا نقر صوت ثم غيره الى جوهر آخر فتبارك الله أحسن الخالقين
(والجآن) أبا الجن وقيل إبليس ويجوزُ أن يرادَ بهِ الجنس كما هو الظاهر من الإنسان لأن تشعب الجنس لما كان من فرد واحد مخلوق من مادة واحدة كان الجنس بأسره مخلوقاً منها وقرىء بالهمزة وانتصابه بفعل يفسره (خَلَقْنَاهُ) وهو أقوى من الرفع للعطف على الجملة الفعلية (مِن قَبْلُ) من قبلِ خلق الانسان ومن هذا يظهر جواز كون المراد بالمستقدمين أحد الثقلين وبالمستأخرين الآخر والخطاب بقوله منكم للكل (مِن نَّارِ السموم) من نار الحر الشديد النافذ في المسام ولا امتناع من خلق الحياة من الأجرام البسيطة كما لا امتناع من خلقها في الجواهر المجردة فضلاً عن الأجسام المؤلفة التي غالب أجزائها الجزء الناري فانها أقبل لها من التي غالب أجزائها الجزء الأرضي وقوله تعالى من نار باعتبار الغالب كقوله تعالى خلقكم من تراب ومساق الآية الكريمة كما هو للدِّلالة على كمال قدرة الله تعالى وبيان بدء خلق الثقلين فهو للتنبيه على المقدمة الثانية التي يتوقف عليها إمكان الحشر وهو قبول المواد للجمع والاحياء
(وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ) نصب بإضمار اذكر وتذكير الوقت لما مر مرارا من أنه أدخل في تذكير ما وقع فيه من الحوادث وفي التعرُّض لوصفِ الربوبيةِ المنبئةِ عن تبليغُ الشيءِ إلى كماله اللائق به شيئا فشيئا مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام إشعارا بعلة الحكم وتشريف له عليه الصلاة والسلام أي اذكر وقت قوله تعالى (لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ) فيما سيأتي وفيه ماليس في صيغة المضارعِ من الدِّلالةِ على أنَّه تعالى فاعل له اُلبتةَ منْ غيرِ صارفٍ يَثْنيه ولا عاطفٍ يلويه (بَشَراً) أي انساناً قيل ليس هذا عين العبارة الجارية وقت الخطاب بل الظاهر أن يكون قد قيل لهم اني خالقٌ خلقاً من صفته كيتَ وكيتَ ولكن اقتصر عند الحكاية على الاسم وقيل جسماً كثيفاً يلاقى ويُباشر وقيل خلقاً بادى البشر بلا صوف ولا شعرة (مِّن صَلْصَالٍ) متعلق بخالق أو بمحذوف وقع صفة لمفعوله أي بشراً كائناً من صلصال كائن (مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ) تقدم تفسيره ولا ينافي هذا ما في قوله تعالى في سورة ص من قوله بشراً من طين فإن عدم التعرض عند الحكاية لوصف الطين من التغير والأسود ولما ورد عليه من آثار التكوين لا يستلزم عدم التعرض لذلك عند وقوع المحكى غايته أنه لم يتعرض له هناك اكتفاء بما شرح ههنا
(فَإِذَا سَوَّيْتُهُ) أي صوَّرته بالصُّورةِ الإنسانيَّةِ والخِلقةِ البشريَّةِ أو سوَّيتُ أجزاءَ بدنِه بتعديل طبائعهِ (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى) النَّفخُ إجراءُ الرِّيح إلى تجويفِ جسمٍ صالح لإمساكها والامتلاءبها وليس ثَّمةَ نفخٌ ولا منفوخٌ وإنَّما هو تمثيلٌ لإفاضة ما به الحياةُ بالفعل على المادَّةِ القابلة لها أي فإذا كمَّلتُ استعدادَه وأفضت عليه ما يحيا به من الرُّوحِ التي هي من أمري
الحجر 30 3 (فقعوا له) من وقع يقع وفيه دليلٌ على أنَّ ليس المأمور به مجرَّدَ الانحناءِ كما قيل أي اسقُطوا له (سَاجِدِينَ) تحية له وتعظيماً أو اسجدوا لله تعالى على أنَّه عليه الصلاة والسلام بمنزلة القبلة حيث ظهر فيه تعاجيب آثارِ قُدرته تعالى وحكمتِه كقول حسان رضي الله تعالى عنه
…
أليس أولَ من صلَّى قبلتكم
…
وأعلم الناس بالقرآن والسنن
…
(فَسَجَدَ الملائكة) أي فخلقه فسوَّاه فنفخ فيه الرُّوحَ فسجد الملائكةُ (كُلُّهُمْ) بحيث لم يشذ منهم أحد (أَجْمَعُونَ) بحيثُ لم يتأخَّر في ذلك أحدٌ منهم عن أحدٍ ولا اختصاص لإفادة هذا المعنى بالحالية بل يفيده التأكيد أيضاً فإن الاشتقاق الواضح يرشد الى أن فيه معنى الجمع والمعية بحسب الوضع والأصل في الخطاب التنزيل على أكمل أحوال الشيء ولا ريب في أن السجود معاً أكمل أصناف السجود لكن شاع استعماله تأكيداً وأقيم مقام كل من افادة معنى الاحاطة من غير نظر الى الكمال فإذا فهمت الاحاطة من لفظ آخر لم يكنْ بدٌّ من مراعاة الأصل صونا للكلام عن الالغاء وقيل أُكِّد بتأكيدينِ مبالغةً في التَّعميمِ هذا وأمَّا أنَّ سجودَهم هذا هل ترتَّبَ عَلى ما حُكي من الأمر التَّعليقيِّ كما تقتضيهِ هذه الآيةُ الكريمةُ والتي في سورة ص أو على الأمرِ التَّنجيزيِّ كما يستدعيه ما في غيرهما فقد خرجنا بفضل الله عز وجل عن عهدة تحقيقُه في تفسير سورة البقرة
(إِلَاّ إِبْلِيسَ) استثناءٌ متَّصل إما لأنه كانَ جنِّياً مفرَداً مغموراً بألوف من الملائكة فعد منهم تغليباً واما لأنَّ من الملائكةِ جنساً يتوالدون وهو منهم وقوله تعالى (أبى أَن يَكُونَ من الساجدين) استئناف مبين لكيفية عدم السّجودِ المفهومِ من الاستثناءِ فإن مطلق عدم السجود قد يكون مع التردد وبه علم أنه مع الاباء والاستكبار أو منقطع فيتصل به ما بعده أي لكن ابليس أبى ان يكون معهم وفيه دلالةٌ على كمالِ ركاكة رأيه حيث أدمج في معصية واحدة ثلاث معاص مخالفة الأمر والاستكبار مع تحقير آدم عليه الصلاة والسلام ومفارقة الجماعة والإباء عن الانتظامِ في سلكِ أولئك المقربين الكرام
(قال) استئناف مبني على سؤال من قال فماذَا قالَ الله تعالَى عنذ ذلك فقيل قال (يا إبليس مالك) أي أي سبب لا أي غرض لك كما قيل لقوله تعالى ما منعك (ألا تكون) في أو لا تكون (مَعَ الساجدين) لآدم مع أنهم هم ومنزلتهم في الشرف منزلتهم وما كان التوبيخ عند وقوعه لمجرد تخلفه عنهم بل لكل من المعاصي الثلاث المذكورة قال تعالى في سورةِ الأعرافِ قَالَ ما منعك أن لا تسجد اذ أمرتك وفي سورة ص قَالَ يا إِبْلِيسَ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ ولكن اقتصر عند الحكاية في كل موطن على ما ذكر فيه اجتزاء بما ذكر في موطن آخرَ وإشعاراً بأنَّ كلَّ واحدةٍ من تلك المعاصي الثلاث كافية في التوبيخ وإظهارِ بطلانِ ما ارتكبه وقد تركت حكاية التوبيخ رأساً في سُورةِ البقرةِ وسُورة بني إسرائيلَ وسورة الكهف وسورة طه