المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

مريم - تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم - جـ ٥

[أبو السعود]

الفصل: مريم

مريم

ص: 281

‌83

- 87 {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين} تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما نطَقت به الآياتُ الكريمةُ السالفةُ وحكتْه عن هؤلاء الكفرة والغواة والمَرَدةِ العُتاةِ من فنون القبائِح من الأقاويل والأفاعيلِ والتمادي في الغي والانهماكِ في الضلال والإفراطِ في العِناد والتصميمِ على الكفر من غير صارف يلويهم ولا عاطفٍ يثنيهم والإجماعِ على مدافعة الحقّ بعد اتضاحِه وانتفاءِ الشك عنه بالكلية وتنبيهٌ على أن جميعَ ذلك منهم بإضلال الشياطينِ وإغوائِهم لا لأن له مسوِّغاً ما في الجملة ومعنى إرسالِ الشياطينِ عليهم إما تسليطُهم عليهم وتمكينُهم من إضلالهم وإما تقييضُهم لهم وليس المرادُ تعجيبَه عليه السلام من إرسالهم عليهم كما يوهمه تعليقُ الرؤية به بل مما ذُكر من أحوال الكفرةِ من حيث كونُها من آثار إغواءِ الشياطينِ كما ينبئ عنه قوله تعالى {تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} فإنه إمَّا حالٌ مقدّرةٌ منْ الشياطين أو استئنافٌ وقعَ جَواباً عما نشأ من صدر الكلام كأنه قيل ماذا يفعل الشياطينُ بهم حينئذ فقيل تؤزّهم أي تُغريهم وتُهيّجهم على المعاصي تهييجاً شديداً بأنواع الوساوسِ والتسويلات فإن الأزَّ والهزّ والاستفزازَ أخواتٌ معناها شدةُ الإزعاج

ص: 281

{فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} أي بأن يُهلَكوا حسبما تقتضيه جناياتُهم ويَبيدوا عن آخرهم وتطهُرَ الأرض من فساداتهم والفاء للإشعار بكون ما قبلها مظلة لوقوع المنهي عنه مُحوِجةً إلى النهي كما في قوله تعالى إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة وقوله تعالى {إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً} تعليلٌ لموجب النهي ببيان اقترابِ هلاكهم أي لا تستعجلْ بهلاكهم فإنه لم يبقَ لهم إلا أيامٌ وأنفاسٌ نعدّها عداً

ص: 281

{يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين} منصوبٌ على الظرفية بفعل مؤخّرٍ قد حُذف للإشعار بضيق العبارةِ عن حصره وشرحِه لكمال فظاعةِ ما يقع فيهِ من الطَّامةِ التَّامةِ والدواهي العامة كأنه قيل يوم نحشر المتقين أي نجمعهم {إِلَى الرحمن} إلى ربهم الذي يغمرُهم برحمته الواسعة {وَفْداً} وافدين عليه كما يفد الوفودُ على الملوك منتظِرين لكرامتهم وإنعامِهم

ص: 281

{وَنَسُوقُ المجرمين} كما تُساق البهائم {إلى جَهَنَّمَ وِرْداً} عِطاشاً فإن مَنْ يرد الماءَ لا يورِدُه إلا العطشُ أو كالدوابّ التي ترِد الماءَ نفعل بالفريقين من الأفعال مالا يفي ببيانه نطاقُ المقال وقيل منصوبٌ على المفعوليةِ بمضمرِ مقدمٍ خوطب به النبيُّ الله صلى الله عليه وسلم أي اذكر لهم بطريق الترغيبِ والترهيبِ يوم نحشر الخ وقيل على الظرفية لقوله تعالى

ص: 281

والذي يقتضيه مقامُ التهويلِ وتستدعيه جزالةُ التنزيل أن ينتصبَ بأحد الوجهين الأولَين ويكونُ هذا استئنافاً مبيناً لبعض ما فيه من الأمور الدالةِ على هوله وضميرُه عائداً إلى العباد المدلولِ عليهم بذكر الفريقين لانحصارهم فيهما وقيل إلى المتقين خاصة وقيل إلى المجرمين من الكفرة وأهلِ الإسلام والشفاعةُ على الأولين مصدرٌ من المبنيّ للفاعل وعلى الثالث ينبغي أن تكون مصدراً من المبنيّ للمفعول وقوله تعالى {إِلَاّ مِن اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} على الأولِ استثناءٌ متصلٌ مِن لا يملكون ومحلُّ المستثنى إما الرفعُ على البدل أو النصبُ على أصلِ الاستثناءِ والمَعْنى لا يملك العبادُ أن يشفعوا لغيرهم إلا من استعَدّ له بالتحلّي بالإيمان والتقوى أو من أُمر بذلك من قولهم عهدِ الأميرُ إلى فلان بكذا إذا أمرَه به فيكون ترغيباً للناس في تحصيل الإيمانِ والتقوى المؤدِّي إلى نيل هذه الرتبةِ وعلى الثاني استثناءٌ من الشفاعة على حذف المضافِ والمستثنى منصوبٌ على البدل أو على أصل الاستثناءِ أي لا يملك المتقون الشفاعةَ إلا شفاعةَ من اتخذ العهد بالإسلام فيكون ترغيباً في الإسلام وعلى الثالث استثناءٌ مِنْ لا يملكون أيضاً والمستثنى مرفوعٌ على البدل أو منصوبٌ على الأصل والمعنى لا يملك المجرمون أن يَشفع لهم إلا مَنْ كان منهم مسلماً

ص: 282

{وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً} حكايةٌ لجناية اليهودِ والنصارى ومن يزعُم من العرب أن الملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عن ذلكَ عُلواً كبيراً إثرَ حكاية عبَدةِ الأصنام بطريق عطفِ القصة على القصة وقوله تعالى

ص: 282

{لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدَا} ردٌّ لمقالتهم الباطلةِ وتهويلٌ لأمرها بطريق الالتفات المبني عن كمال السخطِ وشدةِ الغضب المُفصِح عن غاية التشنيعِ والتقبيحِ وتسجيلٌ عليهم بنهاية الوقاحةِ والجهل والجراءة والإدُّ بالكسر والفتح العظيمُ المنكر والإدّةُ الشدةُ وأدَني الأمرُ وآدَني أثقلني وعظُم عليّ أي فعلتم أمراً منكراً شديداً لا يقادَر قدره من جاء وأتى يستعملان في معنى فعل فيعديان تعديته وقوله تعالى

ص: 282

{تكاد السماوات} الخ صفةٌ لإدًّا أو استئناف ببيان عظيم شأنه في الشدة والهول وقرئ يكاد بالتذكير {يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} يتشقّقن مرةً بعد أخرى من عِظم ذلك الأمر وقرئ ينفطرْن والأولُ أبلغُ لأن تفعّل مطاوِعُ فعّل وانفعلَ مطاوعُ فَعَل ولأن أصل التفعّل التكلف {وَتَنشَقُّ الأرض} أي وتكاد تنشق الأرض {وَتَخِرُّ الجبال} أي تسقُط وتتهدم وقوله تعالى {هَدّاً} مصدرٌ مؤكّدٌ لمحذوف وهو حال من الجبال أي تُهدّ هدًّا أو مصدرٌ من المبنيِّ للمفعول مؤكّدٌ لتخِرُّ على غير الصدر لأنه حينئذ بمعنى التهدّم والخرُور كأنه قيل وتخِرّ الجبال خروراً أو مصدرٌ بمعنى المفعول منصوبٍ على الحالية أي مهدودةً أو مفعول له أي لأنها تُهَدّ وهذا تقريرٌ لكونه إدًّا والمعنى أن هَولَ تلك الشنعاءِ وعِظمَها بحيث لو تَصوّرتْ بصورة محسوسة لم تُطِقْ بها هاتيك الأجرامُ العظام وتفتت من شدتها أو أن فظاعتَها في استجلاب الغضَبِ واستيجابِ السَّخَط

ص: 282