المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

إبراهيم - تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم - جـ ٥

[أبو السعود]

الفصل: إبراهيم

إبراهيم

ص: 44

‌25

- 27 (تُؤْتِى أُكُلَهَا) تعطي ثمرَها (كُلَّ حِينٍ) وقّته الله تعالى لإثمارها (بِإِذْنِ رَبّهَا) بإرادة خالفها والمرادُ بالشجرة المنعوتةِ إما النخلةُ كما روي مرفوعاً أو شجرة في الجنة (وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لأن في ضربها زيادةَ إفهامٍ وتذكير فإنه تصويرٌ للمعاني بصور المحسوسات

ص: 44

(وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ) هي كلمةُ الكفر والدعاءِ إليه أو تكذيبُ الحق أو ما يعم الكل أو كلُّ كلمةٍ قبيحة (كَشَجَرَةٍ خبيثة) أي كمثل شجرة خبيثةٍ قيل هي كلُّ شجرةٍ لا يطيب ثمرُها كالحنظل والكشوث ونحوهما وتغييرُ الأسلوب للإيذان بأن ذلك غيرُ مقصود الضرب والبيان وإنما ذلك أمرٌ ظاهرٌ يعرفه كل أحد (اجتثت) استُؤصِلت وأُخذت جثّتُها بالكلية (مِن فَوْقِ الأرض) لكون عروقها قريبةً منه (مالها مِن قَرَارٍ) استقرارٍ عليها

ص: 44

(يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت) الذي ثبت بالحجة عندهم وتمكّن في قلوبهم وهو الكلمةُ الطيبةُ التي ذُكرت صفتُها العجيبة (فِى الْحَياة الدُنيا) فلا يُزالون عنه إذا افتُتِنوا في دينهم كزكريا ويحيى وجرجيس وشمسون والذين فتنهم أصحابُ الأخدود (وَفِي الأخرة) فلا يتلعثمون إذا سُئلوا عن معتقدهم في الموقف ولا تُدهشُهم أهوالُ القيامة أو عند سؤال القبر روى أنه صلى الله عليه وسلم ذكَر قبضَ روحِ المؤمن فقال ثم يُعاد روحُه في جسده فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره فيقولون من ربك وما دينك ومن نبيُّك فيقول ربي الله وديني الإسلام ونبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم فينادي منادٍ من السماء أنه صدق عبدي فذلك قوله تعالى يُثَبّتُ الله الذين آمنوا وهذا مثالُ إيتاءِ الشجرةِ المذكورة أُكُلَها كل حين قال الثعلبي في تفسيره أخبرني أبو القاسم بن حبيب في سنة وست وثمانين وثلثمائة قال سمعت أبا الطيب محمدَ بنَ علي الخياطَ يقول سمعت سهلَ بنَ عمار العملي يقول رأيت يزيد بن هرون في منامي بعد موته فقلت ما فعل الله بك قال أتاني في قبري ملكان فظّان فقالا من ربك وما دينك ومن نبيك فأخذتُ بلحيتي البيضاءِ فقلت لهما ألمِثلي يقال هذا وقد علّمتُ الناسَ جوابَكما ثمانين سنة فذهبا (وَيُضِلُّ الله الظالمين) أي يخلق فيهما الضلالَ عن الحق الذي ثبّت المؤمنين عليه حسب إرادتهم واختيارِهم والمرادُ بهم الكفرةُ بدليل ما يقابله ووصفُهم بالظلم إما باعتبار وضعهم للشيء في غير موضعِه وإما باعتبار ظلِمهم لأنفسهم حيث بدلوا فطرةَ الله التي فطرَ الناسَ عليها فلم يهتدوا إلى القول الثابتِ أو كلُ من ظلم نفسه بالاقتصار على التقليد والإعراضِ عن البينات الواضحة فلا يثبت في موقف الفتن ولا يهتدي إلى الحق فالمرادُ بالذين آمنوا حينئذ المخلصون في الإيمان الراسخون في الإيقان كما ينبىء عنه التثبيتُ لكنه يوهم كونَ كلمة التوحيد إذا كانت لا عن إيقان داخله تحت مالا قرارَ له من الشجرة المضروبة مثلا (ويفعل

ص: 44

إبراهيم 28 30 الله مَا يَشَاء) من تثبيت بعضٍ وإضلالِ آخرين حسبما توجبه مشيئتُه التابعةُ للحِكم البالغة المقتضيةِ لذلك وفي إظهارُ الاسمِ الجليلِ في الموضعين من الفخامة وتربية المهابة مالا يخفى مع ما فيه من الإيذان بالتفاوت في مبدأ التثبيتِ والإضلال فإن مبدأ صدورِ كلَ منهما عنه سبحانه وتعالى من صفاته العُلا غيرُ ما هو مبدإ صدور الآخر

ص: 45

(أَلَمْ تَرَ) تعجيبٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل أحد مما صنع الكفرةُ من الأباطيل التي لا تكاد تصدُر عمن له أدنى إدراك أيْ ألمْ تنظرُ (إِلَى الذين بذلوا نعمة الله) أي شكرَ نعمته تعالى بأن وضعوا موضعَه (كُفْراً) عظيماً وغمْطاً لها أو بدلوا نفسَ النعمة كفراً فإنهم لما كفروها سُلبوها فصاروا مستبدلين بها كفراً كأهل مكةَ حيث خلقهم الله سبحانه وأسكنهم حرمَه الآمن الذي يجيىء إليه ثمراتُ كُلّ شَىْء وجعلهم قِوامَ بيته وشرّفهم بمحمد صلى الله عليه وسلم فكفروا ذلك فقُحطوا سبع سنين وقُتلوا وأُسروا يوم بدر فصاروا أذلاء مسلوبي النعمة باقين بالكفر بدلها وعن عمر وعلي رضي الله عنهما هُم الأفجران من قريش بنو المغيرةِ وبنو أمية أما بنو المغيرة فكُفيتموهم يوم بدر وأما بنو أمية فَمُتِّعوا إلى حين كأنهما يتأولان ما سيتلى من قولهِ عز وجل قُلْ تَمَتَّعُواْ الآية (وَأَحَلُّواْ) أي أنزلوا (قَوْمَهُمْ) بإرشادهم إياهم إلى طريقة الشرك والضلالِ وعدمُ التعرض لحلولهم لدلالة الإحلالِ عليه إذ هو فرْعُ الحلول كقوله تعالى يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار (دَارَ البوار) دارَ الهلاك الذي لإهلاك وراءه

ص: 45

(جَهَنَّمَ) عطفُ بيان لها وفي الإبهام ثم البيان مالا يخفى من التهويل (يَصْلَوْنَهَا) حالٌ منَها أو من قومهم أي داخلين فيها مُقاسِين لحرّها أو استئنافٌ لبيان كيفيةِ الحلولِ أو مفسر لفعل يقدر ناصباً لجهنم فالمرادُ بالإحلال المذكورِ حينئذ تعريضُهم للهلاك بالقتل والأسرِ لكن قوله تعالى قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار أنسبُ بالتفسير الأول (وَبِئْسَ القرار) على حذف المخصوصِ بالذم أي بئس المقرُّ جهنمُّ أو بئس القرار قرارُهم فيها وفيه أن حلولهم وصلبهم على وجه الدوام والاستمرار

ص: 45

(وَجَعَلُواْ) عطفٌ على أحلوا وما عطف عليه داخلٌ معهما في حيز الصلة وحكمِ التعجيب أي جعلوا في اعتقادهم وحكمهم {الله} الفردِ الصمدِ الذي ليسَ كمثلِه شيءٌ هو في الواحد القهار (أندادا) أشبها في العبادة (لِيُضِلُّواْ) قومَهم الذين يشايعونهم حسبما ضلوا (عَن سَبِيلِهِ) القويمِ الذي هو التوحيدُ ويوقعوهم في ورطة الكفرِ والضلال ولعل تغييرَ الترتيب مع أن مقتضى ظاهرِ النظمِ أن يُذكر كفرانُهم نعمةَ الله تعالى ثم كفرُهم بذاته تعالى باتخاذ الأنداد ثم إضلالهم لقومهم المؤدي إلى إحلالهم دار البوار لتثنية التعجيبِ وتكريرِه والإيذانِ بأنَّ كلَّ واحدٍ من وضع الكفر موضعَ الشكر وإحلالِ القوم دارَ البوار واتخاذِ الأنداد للإضلال أمرٌ يقضي منه العجبَ ولو سيق النظمُ على نسق الوجود لربما فُهم التعجيب من مجموع الهَنات الثلاثِ كما في قصة البقرة وقرىء ليضلوا بالفتح

ص: 45

إبراهيم 31 وأياما كان فليس ذلك غرضاً حقيقياً لهم من اتخاذ الأندادِ لكنْ لما كان ذلك نتيجةً له شُبّه بالغرض وأدخل عليه اللام بطريق الاستعارة التبعية (قُلْ) تهديداً لأولئك الضالين المُضلين ونعياً عليهم وإيذاناً بأنهم لشدة إبائِهم قبولَ الحق وفرط انهما كهم في الباطل وعدمِ ارعوائهم عن ذلك بحال أحقاءُ بأن يُضرب عنهم صفحاً ويُعطَفَ عنهم عِنانُ العِظة ويُخَلّوا وشأنَهم ولا يُنهَوْا عنه بل يؤمَروا بمباشرته مبالغةً في التخلية والخِذلان ومسارعةً إلى بيان عاقبته الوخيمة ويقال لهم (تَمَتَّعُواْ) بما أنتُم عليهِ من الشهواتِ التي من جملتها كفرانُ النعم العظامِ واستتباعُ الناسِ في عبادة الأصنام (فإن مصيركم إلى النار) ليس إلا فلا بد لكم من تعاطي ما يوجب ذلك ويقتضيه من أحوالكم بل هي في الحقيقة صورةٌ لدخولها ومثالٌ له حسبما يلوحُ به قولُه سبحانه وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار الخ فهو تعليلٌ للأمر المأمورِ وفيه من التهديد الشديد الوعيد الأكيد مالا يوصف أو قل لهم تصوير الحالهم وتعبيراً عما يُلجئهم إلى ذلك تمتعوا إيذاناً بأنهم لفرْط انغماسِهم في التمتع بما هُم فيه من غير صارف يلويهم ولا عاطفٍ يَثنيهم مأمورون بذلك من قِبل آمر الشهوة مذعِنون لحكمه منقادون لأمره كدأب مأمورٍ ساعٍ في خدمة آمرٍ مُطاع فليس قوله تعالى فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار حينئذٍ تعليلاً للأمر بل هو جوابُ شرطٍ ينسحبُ عليه الكلامُ كأنَّه قيل هذه حالُكم فإن دمتم عليه فإن مصيركم إلى النار وفيه التهديدُ والوعيد لا في الأمر

ص: 46

(قل لعبادي الذين آمنوا) خصهم بالإضافة إليه تنويهاً لهم وتنبيهاً على أنهم المقيمون لوظائفِ العبودية الموفون بحقوقها وتركُ العاطف بين الأمرين للإيذان بتباين حالِهما باعتبار المقول تهديداً وتشريفاً والمقول ههنا محذوفٌ دل عليه الجوابُ أي قل لهم أقيموا وأنفقوا (يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) أي يداوموا على ذلك وفيه إيذانٌ بكمال مطاوعتهم الرسول صلى الله عليه وسلم وغاية مسارعتهم إلى الامنثال بأوامره وقد جوّزوا أن يكون المقولُ يقيموا وينفقوا بحذف لام الأمرِ عنهما وإنما حسُن ذلك دون الحذف في قوله

محمدُ تَفدِ نفسَك كلُّ نفس

إذا ما خِلفْتَ من أمر تَبالا

لدلالة قل عليه وقيل هما جوابا أقيموا وأنفقوا قد أقيما مُقامهما وليس بذاك (سِرّا وَعَلَانِيَةً) منتصبان على المصدرية من الأمر المقدرِ لا من جواب الأمر المذكور أي أنفقوا إنفاق سرَ وعلانية والأحبُّ في الإنفاق إخفاءُ المتطوَّع به وإعلانُ الواجب والمرادُ حث المؤمنين على الشكر لنعم الله سبحانه بالعبادة البدنية والماليةِ وتركِ التمتعِ بمتاع الدنيا والركونِ إليها كما هو صنيع الكفر (مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لَاّ بَيْعٌ فِيهِ) فيبتاعَ المقصِّر ما يتلافى به تقصيره أو تفتدي به نفسَه والمقصودُ نفيُ عقد المعاوضة بالمرة وتخصيصُ البيعِ بالذكر للإيجاز مع المبالغة في نفي العقدِ إذ انتفاءُ البيع المستلزم انتفاءَ الشراء على أبلغ وجه وانتفاؤه بما يتصور مع تحقق الإيجابِ من قبل البائع (وَلَا خلال) ولا مخالّةٌ فيشفعَ له خليلٌ أو يسامحَه بمال يفتدي به نفسه أو مِنْ قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يو لا أثرَ فيه لما لهَجوا بتعاطيه من البيع

ص: 46

إبراهيم 22 والمخالّة ولا انتفاعَ بذلك وإنما الانتفاعُ والارتفاقُ فيه بالإنفاق لوجه الله سبحانه والظاهر أن مت متعلقة بأنفِقوا وتذكيرُ إتيانِ ذلك اليوم لتأكيد مضمونِه كما في سورةِ البقرةِ من حيثُ إنَّ كلاًّ من فقدان الشفاعةِ وما يُتدارك به التقصير معاوضةً وتبرعاً وانقطاعُ آثار البيع والخِلالِ الواقعَيْن في الدنيا وعدمُ الانتفاع بهما من أَقْوى الدَّواعي إلى الإتيان بما تبقى عوائدُه وتدوم فوائدُه من الإنفاقِ في سبيلِ الله عز وجل أو من حيث إن ادخارَ المال وتركَ إنفاقِه إنما يقع غالباً للتجارات والمُهاداة فحيث لا يمكن ذلك في الآخرة فلا وجهَ لادّخاره إلى وقت الموت وتخصيصُ التأكيد بذلك لميل الطباعِ إلى المال وكونها مجبولةً على حبه والضَّنةِ به ولا يبعُد أن يكون تأكيداً لمضمون الأمرِ بإقامة الصلاة أيضاً من حيث إن تركَها كثيراً ما يكون بالاشتغال بالبياعات والمُخالاّت كما في قوله تعالى وإذار أو اتجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وقرىء بالفتح فيهما على إرادة النفي العام ودَلالةِ الرفعِ على ذلك باعتبار خطابيَ هو وقوعُه في جوابُ هل فيه بيعٌ أو خلال

ص: 47

(الله) مبتدأٌ خبرُه (الذى خَلَقَ السموات) وما فيها من الأجرام العلوية (والأرض) وما فيها من أنواع المخلوقاتِ لمّا ذكر أحوالَ الكافرين لنعم الله تعالى وأمرَ المؤمنين بإقامة مراسم الطاعةِ شكراً لنعمه شرَع في تفصيل ما يستوجب على كافة الأنام المثابرة على الشكر والطاعة من النعم العِظام والمنن الجِسام حثاً للمؤمنين عليها وتقريعاً للكفرة المُخلّين بها الواضعين موضعَها الكفرَ والمعاصيَ وفي جعل المبتدإ الاسمَ الجليلَ والخبرَ الاسمَ الموصولَ بتلك الأفاعيلِ العظيمة من خلق هذه الأجرامِ العظام وإنزال الأمطارِ وإخراجِ الثمرات وما يتلوها من الآثار العجيبةِ مالا يخفى من تربية المهابةِ والدِلالة على قوة السلطان (وَأَنزَلَ مِنَ السماء) أي السحابِ فإن كلَّ ما علاك سماءٌ أو من الفَلَك فإن المطر منه يبتدىء إلى السحاب ومنه إلى الأرضِ على ما دلت عليه ظواهرُ النصوص أو من أسباب سماويةٍ تثير الأجزاءَ الرطبةَ من أعماق الأرض إلى الجو فينعقد سحاباً ماطراً وأياً ما كان فمن ابتدائيةٌ (مَاء) أي نوعاً منه هو المطر وتقديم المجرور على المنصوب إما باعتبار كونِه مبدأ لنزوله أو لتشريفه كما في قولك أعطاه السلطانُ من خزانته مالاً أو لما مر مرارا من التشويق إلى المؤخّر (فَأَخْرَجَ بِهِ) بذلك الماء (مِنَ الثمرات) الفائتة للحصر إما لأن صيغَ الجموعِ يتعاور بعضُها موضعَ بعض وإما لأنه أريد بمفردها جماعةُ الثمرة التي في قولك أدركتْ ثمرةُ بستانِ فلان (رِزْقاً لَّكُمْ) تعيشون له وهو بمعنى المرزوق شاملٌ للمطعوم والملبوس مفعولا لأخراج ومن للتبيين كقولك أنفقت من الدراهم ألفاً ويجوزُ أنْ يكونَ مَنْ الثمرات مفعولاً ورزقاً حالاً منه أو مصدراً من أخرج بمعنى رزَق أو للتبعيض بدليل قوله تعالى فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ كأنه قيل أنزل من السماء بعضَ الماء فأخرج به بعضَ الثمرات ليكون بعضَ رزقكم إذ لم ينزل من السماء كلُّ الماء ولا أخرج بالمطر كلَّ الثمار ولا جعل كلَّ الرزق ثمراً وخروجُ الثمرات وإن كان بمشيئته عز وجل وقدرتِه لكن جرت عادتُه تعالى

ص: 47

إبراهيم 23 24 بإضافة صورِها وكيفياتها على المواد الممتزجةِ من الماء والتراب أو أوْدَعَ في الماء قوةً فاعلةً وفي الأرض قوةً قابلةً يتولد من اجتماعهما أنواعُ الثمار وهو قادرٌ على إيجاد الأشياء بلا أسباب وموادَّ كما أبدع نفوسَ الأسباب كذلك لما أن له تعالى في إنشائها مدرّجاً من طَور إلى طور صنائعَ وحِكماً يجدّد فيها الأولى الأبصار عِبَراً وسكوناً إلى عظيم قدرتِه ليس ذلك في إبداعها دفعةً وقوله لكم صفةٌ لقوله رزقاً إن أريد به المرزوقُ ومفعولٌ به إن أريد به المصدرُ كأنه قيل رزقاٍ إياكم (وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك) بأن أقدركم على صنعتها واستعمالِها بما ألهمكم كيفيةَ ذلك (لِتَجْرِىَ فِى البحر) جرياً تابعاً لإرادتكم (بأمره) بمشيئة التي نيط بها كلُّ شيء وتخصيصُه بالذكر للتنصيص على أن ذلك ليس بمزاولة الأعمالِ واستعمالِ الآلاتِ كما يتراءى من ظاهر الحال (وَسَخَّرَ لَكُمُ الانهار) إن أريد بها المياهُ العظيمة الجاريةُ في الأنهار العظامِ كما يومىء إليه ذكرُها عند البحر فتسخيرُها جعلُها مُعدّةً لانتفاع الناس حيث يتخذون منها جداولَ يسقون بها زروعَهم وجِنانَهم وما أشبه ذلك وإن أريد بها نفسُ الأنهار فتسخيرُها تيسيرُها لهم

ص: 48

(وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَائِبَينَ) يدأبان في سيرهما وإنارتهما أصالةً وخلافةً وإصلاحِهما لما نيط بهما صلاحُه من المكوّنات (وَسَخَّر لَكُمُ الليل والنهار) يتعاقبان خِلْفةً لمنامكم ومعاشكم ولعقد الثمار وإنضاجها ذكر سبحانه وتعالى أنواعَ النعم الفائضةِ عليهم وأبرز كلَّ واحدة منها في جملة مستقلةٍ تنويهاً لشأنها وتنبيهاً على رفعة مكانِها وتنصيصاً على كون كل منهانعمة جليلةً مستوجبةً للشكر وفي التعبير عن التصريف المتعلّق بما ذُكر من الفلك والأنهارِ والشمسِ والقمر والليل والنهار بالتسخير من الإشعار بما فيها من صعوبة المأخذ وعزةِ المنال والدِلالة على عِظَم السلطان وشدّة المحال مالا يخفى وتأخيرُ تسخيرِ الشمس والقمرِ عن تسخير ما تقدمه من الأمور المعدودةِ مع ما بينه وبين خلقِ السموات من المناسبة الظاهرةِ لاستتباع ذكرِها لذكر الأرض المستدعي لذكر إنزالِ الماءِ منها إليها الموجبِ لذكر إخراجِ الرزقِ الذي من جملته ما يحصُل بواسطة الفَلَك والأنهار أو للتفادي عن توهم كون الكل أعني خلقَ السمواتِ والأرض وتسخيرَ الشمس والقمر نعمةً واحدةً كمَا مرَّ في قصَّةِ البقرة

ص: 48

(وآتاكم من كا مَا سَأَلْتُمُوهُ) أي أعطاكم بعضَ جميع ما سألتموه حسبما تقتضيه مشيئتُه التابعةُ للحكمة والمصلحة كقوله سبحانه مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ أو آتاكم من كل ذلك ما احتجتم إليه ونيط به انتظامُ أحوالِكم على الوجه المقدّرِ فكأنكم سألتموه أو كلَّ ما طلبتموه بلسان الاستعدادِ أو كلَّ ما سألتموه على أن من للبيان وكلمةُ كل للتكثير كقولك فلان يعلم كلَّ شيء وأتاه كلُّ الناس وعليه قوله عز وجل فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلّ شَىْء وقيل الأصلُ وآتاكم من كل ما سألتموه وما لم تسألوه فحُذف الثاني لِدلالة ما أُبقيَ على ما أُلقيَ وقرىء بتنوين كلِّ على أنَّ ما نافيةٌ ومحل ما سألتموه النصبُ على الحالية أي آتاكم من كلَ غيرَ سائليه (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله)

ص: 48

التي أنعم بها عليكم (لَا تُحْصُوهَا) لا تُطيقوا بحصرها ولو إجمالاً فإنها غيرُ متناهيةٍ وأصل الإحصاءِ أنَّ الحاسبَ إذا بلغ عَقداً معيناً من عقود الأعدادِ وضعَ حصاةً ليحفظَ بها ففيه إيذانٌ بعدم بلوغِ مرتبةٍ معتدَ بها من مراتبها فضلاً عن بلوغ غايتِها كيف لا وما من فرد من أفراد الناسِ وإن كان في أقصى مراتبِ الفقرِ والإفلاس مَمنوًّا بأصناف العنايا مبتلىً بأنواع الرزايا فهو بحيث لو تأملتَه ألفيتَه متقلّباً في نِعمَ لا تحدّ ومننٍ لا تحصى ولا تعدّ كأنه قد أعطيَ كلَّ ساعة وآنٍ من النعماء ما حواه حِيطةُ الإمكان وإن كنت في ريب من ذلك فقدِّرْ أنه ملَك مِلكٌ أقطارَ العالم ودانت له كافةُ الأمم وأذعنت لطاعته السَّراةُ وخضعت لهيبته رُقابُ العُتاة وفاز بكل مرام ونال كل منالٍ وحاز جميعَ ما في الدُّنيا من أصناف الأموالِ من غير نِدّ يزاحمه ولا شريك يساهمُه بل قدِّرْ أن جميع ما فيها من حجر ومدَرٍ يواقيتُ غاليةٌ ونفائسُ دُررٍ ثم قدِّر أنه قد وقع مِنْ فقْد مشروبٍ أو مطعوم في حالة بلغت نفسُه الحلقومَ فهل يشتري وهو في تلك الحال بجميع مالِه من الملك والمال لُقمةً تنجّيه عن رِواه أو شربةً ترويه من ظَماه أم يختار الهلاك فتذهبَ الأموال والأملاك بغير بدل يبقى عليه ولا نفعٍ يعود إليه كلا بل يبذُل لذلك كلَّ ما تحويه اليدان كائناً ما كان وليس في صفقته شائبةُ الخُسران فإذن تلك اللقمةُ والشَّرْبةُ خيرٌ مما في الدنيا بألف رتبةٍ مع أنهما في طرف الثمام ينالهما متى شاء من الليالي والأيام أو قدّر أنه قد احتبس عليه النفَسُ فلا دخلَ منه ما خرَج ولا خرج منه ما ولح والحينُ قد حان وأتاه الموتُ من كل مكان أما يعطي ذلك كلَّه بمقابلة نفس واحد بل يعطيه وهو لرأيه حامدٌ فإذن هو خير من أموال الدنيا بحملتها ومطالبها برُمّتها مع أنه أبيح له كل آنٍ من آنات الليالي والأيام حالَ اليقظة والمنام هذا من الظهور والجلاء بحيث لا يكاد يحفى على أحد من العقلاء وإن رمت العثورَ على حقيقة الحقِّ والوقوفَ على كل ماجل من السرودق فاعلم أن الإنسانَ بمقتضى حقيقتِه الممكنةِ بمعزل عن استحقاق الوجودِ وما يتبعه من الكمالات اللائقةِ والملكاتِ الرائقةِ بحيثُ لو انقطعَ ما بينه وبين العنايةِ الإلهية من العلاقة لما استقر له القَرار ولا اطمأنت به الدار إلا في مطمورة العدم والبوار ومهاوي الهلاك والدمار لكن يُفيضُ عليه من الجناب الأقدس تعالى شأنُه ونقدس في كل زمانٍ يمضي وكل آن يمر وينقض من أنواع الفيوضِ المتعلقةِ بذاته ووجودِه وسائرِ صفاتِه الروحانية والنفسانية والجسمانية مالا يحيط به نطاقُ التعبير ولايعلمه الاالعليم الخبير وتوضيحه أنه كمالا يستحق الوجود ابتداء لايستحقه بقاءً وإنما ذلك من جناب المُبدأ الأول عز وجل فكما لا يُتصور وجودُه ابتداء مالم ينسدَّ عليه جميعُ أنحاءِ عدمِه الأصلي لا يتصور بقاؤُه على الوجود بعد تحققِه بعِلَّته ما لم ينسدَّ عليه جميعُ أنحاءِ عدمه الطارىء لأن الاستمرار والدوامَ من خصائص الوجودِ الواجبي وأنت خبير بأن ما يتوقف عليه وجودُه من الأمور الوجودية التي هي عِلَلُهُ وشرائِطُه وإن وجب كونُها متناهيةً لوجوب تناهي ما دخلَ تحتَ الوجود لكنِ الأمورُ العدميةُ التي لها دخلٌ في وجوده ليست كذلك إذْ لا استحالةَ في أن يكون لشيءٍ واحدٍ موانعُ غيرُ متناهية وإنما الاستحالة في دخولها تحت الوجود فارتفاعُ تلك الموانِع التي لا تتناهى أعني بقاءَها على العدم مع إمكان وجودِها في أنفسها في كلِّ آنٍ من آنات وجودِه نعمٌ غيرُ متناهية حقيقة

ص: 49

إبراهيم 35 لا ادعاءً وكذا الحال في وجودات علله وشرائطِه القريبة والبعيدة ابتداءً وبقاءً وكذا في كمالاته التابعةِ لوجوده فاتضح أنه يَفيض عليه كلَّ آن نعمٌ لا تتناهى من وجوه شتى فسبحانك سبحانك ما أعظم سلطانك لا تلاحظ العيونُ بأنظارها ولا تطالعك العقولُ بأفكارها شأنُك لا يضاهى وإحسانُك لا يتناهى ونحن في مغرفتك حائِرون وفي إقامة مراسمِ شكرِك قاصرون نسألك الهدايةَ إلى مناهج معرفتِك والتوفيقَ لأداء حقوقِ نعمتك لا نحصى تناء عليك لا إله إلا أنت نستغفرُك ونتوب إليك (إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ) يظلِم النعمةَ بإغفال شكرِها أو بوضعه إياها في غير موضِعِها أو يظلم نفسَه بتعريضها للحرمان (كَفَّارٌ) شديدُ الكفران وقيل ظلومٌ في الشدة يشكو ويجزع كفّارٌ في النعمة يجمع ويمنع واللام في الإنسان للجنس ومصداقُ الحكمِ بالظلم والكفران بعض من وجدا فيه من أفراده ويدخُل في ذلك الذين بدلوا نعمة الله كفراً الخ دخولاً أولياً

ص: 50

(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمَ) أي واذكر وقت قوله عليه الصلاة والسلام والمقصودُ من تذكيره تذكيرُ ما وقع فيه من مقالاته عليه السلام على نهج التفصيل والمرادُ به تأكيدُ ما سلف من تعجيبه عليه السلام ببيان فنٍ آخرَ من جناياتهم حيث كفروا بالنعم الخاصة بهم بعد ما كفروا بالنعم العامة وعصَوا أباهم إبراهيمَ عليه السلام حيث أسكنهم مكةَ شرَّفها الله تعَالَى فإقامة الصلاةِ والاجتنابِ عن عبادة الأصنام والشكر لنعم الله تعالى وسأله تعالى أن يجعله بلداً آمناً ويرزقَهم من الثمرات وتهويَ قلوبُ الناس إليهم من كل أَوب سحيقٍ فاستجاب الله تعالى دعاءَه وجعله حرماً آمنا يجيىء إليه ثمراتُ كُلّ شَىْء فكفروا بتلك النعم العظامِ واستبدلوا بالبلد الحرام دار البوار وجعلوا لله أنداداً وفعلوا ما فعلوا (رَبّ اجعل هذا البلد) يعني مكةَ شرفها الله سبحانه (آمنا) أي ذا أمنِ أو آمناً أهلُه بحيث لا يُخاف فيه على ما مرَّ في سورةِ البقرة والفرق بينه وبين ما فيها من قوله رَبِّ اجعل هذا بَلَدًا آمِنًا أن المسئول هناك البلدية والأمن معا وههنا الأمنُ فقط حيث جُعل هو المفعولَ الثانيَ للجعل وجُعل البلدَ صفةً للمفعول الأول فإن حُمل على تعدد السؤال فلعله عليه السلام سأَلَ أولاً كِلا الأمرين فاسْتُجيبَ له في أحدِهما وتأخرَ الآخرُ إلى وقته المقدّر لما يقتضيه من الحكمة الداعيةِ إليه ثم كَرّر السؤالَ كما هو المعتادُ في الدعاءِ والإبتهال أو كان المسئول أولاً مجردَ الأمنِ المصحِّح للسكن كما في سائرِ البلاد وقد أجيب إليه وثانيا الأمن المعهود لأو أوكله هو المسئول فيهما وقد أجيب إليه أيضاً لكن السؤالَ الثانيَ للاستدامة والاقتصارُ على ذلك لأنه المقصودُ الأصليُّ أو لأنَّ المعتادَ في البلدية الاستمرارُ بعد التحقق بخلافِ الأمنِ وإن حمل على وحدةِ السؤالِ وتكرُرِ الحكايةِ كما هو المتبادرُ فالظاهرُ أن المسئول كِلا الأمرين وقد حُكي أولا واقتصر ههنا على حكايةِ سؤالِ الأمنِ لا لمجرد أن نعمةَ الأمن أدخلُ في استيجاب الشكر فذِكرُه أنسبُ بمقام تقريعِ الكفرة على إغفاله كما قيل بل لأن سؤال البلدية قد حكي بقوله تعالى فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس تَهْوِى إِلَيْهِمْ إذا لمسئول هُوِيّتُها إليهم للمساكنة معهم لا للحج فقط وهو عين سؤال قد حكي بعبارة أخرى وكان ذلك أولَ ما قَدِمَ عليه السلام مكةَ كما روى سعيدُ بنُ جُبيرٍ عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّه عليه الصَّلاةُ

ص: 50

إبراهيم 36 37 والسلام لما أسكنَ إسمعيلَ وهاجَر هناك وعادَ متوجهاً إلى الشام تبِعتْه هاجرُ وجعلت تقول إلى من تَكِلُنا في هذا البلقَعِ وهو لا يَرُدُّ عليها جواباً حتى قالت آلله أمرك بهذا فقال نعمْ قالت إذاً لا يُضيِّعُنا فرضِيَتْ ومضى حتى إذا استوى على ثَنِيّةِ كَداءٍ أقبل على الوادي فقال رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ الآية وإنما فصل ما بينهما تثنية للامتنان وإيذاناً بأن كلاًّ منهما نعمةٌ جليلةٌ مستتبعة لشكر كثير كما في قصة البقرة (وجنبني وَبَنِىَّ) بعِّدني وإياهم (أَن نَّعْبُدَ الأصنام) واجعلنا منها في جانب بعيد أي ثبتنا على ما كُنَّا عليه من التوحيد وملة الإسلام والبعد عن عبادة الأصنام وقرىء وأجنبْني من الإفعال وهما لغةُ أهلِ نجد يقولون جنّبني شرَّه وأجنبْني شرَّه وأما أهلُ الحجاز فيقولون جنّبني شره وفيه دليلٌ على أنَّ عصمةِ الأنبياءِ عليهم السلام بتوفيق الله تعالى والظاهرُ أن المراد ببنيه أولاده الصلبية فلا احتجاجَ به لا بن عيينة رضى الله عنه على أن أحداً من أولاد إسمعيل عليه السلام لم يعبُد الصنم وإنما كان لكل قومٍ حجرٌ نصبوه وقالوا هو حجرٌ والبيتُ حجر فكانوا يدورون به ويسمونه الدوار فاستُحب أن يقال طاف بالبيت ولا يقال دار بالبيت وليت شعري كيف ذهب عليه ما في القرآن العظيم من قوارعَ تنعي على قريش عبادةَ الأصنام على أن فيما ذكره كرا على ما فر منه

ص: 51

(رَبّ إِنَّهُنَّ) أي الأصنامَ (أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مّنَ الناس) أي تسبّبن له كقوله تعالى وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا وهو تعليلٌ لدعائه وإنما صدّره بالنداء إظهاراً لاعتنائه به ورغبةً في استجابته (فَمَن تَبِعَنِى) منهم فيما أدعو إليه من التوحيد وملةِ الإسلام (فَإِنَّهُ مِنّى) أي بعضي قاله عليه السلام مبالغةً في بيان اختصاصِه به أو متصلٌ بي لا ينفك عني في أمر الدين (وَمَنْ عَصَانِى) أي لم يتبعْني والتعبيرُ عنه بالعصيان للإيذان بأنه عليه السلام مستمر على الدعوة وأن عدم اتباعِ من لم يتبعْه إنما هو لعصيانه لا لأنه لم يبلُغْه الدعوة (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) قادر على أن تغفِرَ له وترحَمه ابتداءً أو بعد توبتِه وفيه أن كل ذنبٍ فلَّله تعالى أن يغفرَه حتى الشركُ خلا أن الوعيدَ قضى بالفرق بينه وبين غيره

ص: 51

(رَبَّنَا) آثر عليه السلام ضمير الجماعةِ لا لما قيلَ من تقدم ذكرِه وذكرِ بنيه وإلا لراعاه في قوله ربَّ إنهن الخ بل لأن الدعاء المصدّرَ به وما أورده بصدد تمهيدِ مبادي إجابتهِ من قوله (إِنَّى أَسْكَنتُ) الآية متعلقٌ بذريته فالتعرضُ لوصف ربوبيته تعالى لهم أدخلُ في القبول وإجابة المسئول (مِن ذُرّيَّتِى) أي بعضهم أو ذريةً من ذريتي فحذف المفعول وهو إسمعيل عليه السلام وما سيولد له فإن إسكانَه حيث كان على وجه الاطمئنانِ متضمِّنٌ لإسكانهم روي أن هاجر أم إسمعيل عليه السلام كانت لسارة فوهبتْها من إبراهيمَ عليه السلام فلما ولدت له إسمعيل عليه السلام غارت عليهما فناشدته أن يُخرجَهما من عندها فأخرجهما إلى أرض مكةَ فأظهر الله تعالى عينَ زمزم (بِوَادٍ غَيْرِ ذِى زَرْعٍ) لا يكون فيه زرعُ أصلاً وهو وادي مكةَ شرَّفها الله تعَالَى (عِندَ

ص: 51

بَيْتِكَ) ظرف لأسكنتُ كقولك صليت بمكةَ عند الركنِ لا أنه صفةٌ لوادٍ أو بدل منه إذ المقصودُ إظهارُ كونِ ذلك الإسكان مع فقدان مباديه لمحض التقربِ إلى الله تعالى والالتجاءِ إلى جواره الكريم كما يُنْبىء عنه التعرُّضُ لعنوان الحرمةِ المؤذِنِ بعزة الملتجأ وعصمتِه عن المكاره في قوله تعالى (المحرم) حيث حر التعرضُ له والتهاونُ به أو لم يزل معظّماً ممنعا يهايه الجبابرةُ في كل عصر أو مُنع منه الطوفان فلم يستولِ عليه ولذلك سميَ عتيقاً وتسميتُه إذ ذاك بيتاً ولم يكن له بناءٌ وإنما كان نشْزاً مثلَ الرَّابية تأتيه السيول فتأخذ ذات اليمين وذات الشمال ليست باعتبار ما سيئول إليه الأمرُ من بنائه عليه السلام فإنه ينزِع إلى اعتبار عنوانِ الحرمة أيضاً كذلك بل إنما هي باعتبار ما كان من قبل فإن تعدد بناءِ الكعبةِ المعظمةِ مما لا ريبَ فيه وإنما الاختلافُ في كمية عددِه وقد ذكرناها في سورة البقرة بفضل الله تعالى (ربنا ليقيموا الصلاة) متوجّهين إليه متبرّكين به وهو متعلقٌ بأسكنتُ وتخصيصُها بالذِّكرِ من بين سائر شعائرِ الدينِ لفضلها وتكريرُ النداءِ وتوسيطُه لإظهار كمالِ العنايةِ بإقامة الصلاةِ والاهتمامِ بعرضِ أن الغرضَ من إسكانهم بذلك الوادي البلقعِ ذلك المقصدُ الأقصى والمطلب الأسنى وكلُّ ذلك لتمهيد مبادى إجابة دعائه وإعطاء مسئوله الذي لا يتسنى ذلك المرامُ إلا به ولذلك أُدخل عليه الفاء فقال (فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس) أي أفئدةً من أفئدتهم فمن للتبعيض ولذلك قيل لو قال أفئدةَ الناسِ لازدحمت عليهم فارسُ والروم وأما ما زيد عليه من قولهم ولَحجّت اليهودُ والنصارى فغيرُ مناسب للمقام إذ المسئول توجيهُ القلوب إليهم للمساكنة معهم لا توجيهُها إلى البيت للحج وإلا لقيل تهوي إليه فإنه عينُ الدعاء بالبلدية قد حكي بعبارة أخرى كما مر أو لابتداء الغاية كقولك القلبُ منّي سقيمٌ أي أفئدةَ ناسٍ وقرىء آفدةً على القلب كآدر في أدؤر أو على أنَّه اسمُ فاعلٍ من أفدت الرحلة أي عجِلت أي جماعةً من الناس وأفِدَةً بطرح الهمزة من الأفئدة أوعلى النعت من أفد (تَهْوِى الهم) تسرع اليهم شو قاوودادا وقُرِىءَ على البناءِ للمفعولِ من أهواه غيرُه وتهوى من باب علم أي تحب وتعديته إلى لتضمنه معنى الشوق والنروع وأولُ آثارِ هذه الدعوة ماروى أنه مرت رِفقةٌ من جرهم تريد الشام فرأ والطير تحوم على الجبل فقالوا إن هذا الطائر لعائف على الماء فأشر فوا فإذا هم بهاجرَ فقالوا لها إن شئت كنا معك وآنسناك والماء ماوك فأذِنت لهم وكانوا معها إلى أن شب أسمعيل عليه السلام وماتت هاجرُ فتزوج إسمعيل منهم كما هو المشهور (وارزقهم) أى ذربتى الذين أسكنهم هناك أو مع من ينحاز إليهم من الناس وإنمالم يخصَّ الدعاء بالمؤمنين منهم كما في قوله وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمن مِنْهُم بالله واليوم الأخر اكتفاءً بذكر إقامة الصلاة (مِنَ الثمرات) من أنواعها بأن بجعل بقربٍ منه قرُىً يحصُل فيها ذلك أو يجبى إليه من الأقطارِ الشاسعةِ وقد حصل كلاهما حتى إنه يجتمعُ فيه الفواكهُ الربيعيةُ والصيفيةُ والخريفيةُ في يومٍ واحدٍ 0 روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنَّ الطائفَ كانت من أرض فلِسطينَ فلما دعا إبراهيمُ عليه السلام بهذه الدعوة رفعها الله تعالى ووضعها حيث وضعها رزقاً للحرم وعن الزهرى رضي الله عنه أنَّه تعالى نقل قرية من قرى الشامِ فوضعها بالطائف لدعوة إبراهيمَ عليه السلام (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) تلك النعمةَ بإقامة الصلاةِ وأداءِ سائر مراسمِ العبودية وقيل اللامُ في ليقيموا لامُ الأمرِ والمرادُ أمرُهم بإقامة الصلاة والدعاء من الله تعالى

ص: 52

إبراهيم 38 39 بتوفيقهم لها ولا يناسبه الفاء في قوله تعالى فاجعل الخ وفي دعائه عليه السلام من مراعاة حسنِ الأدبِ والمحافظة على قوانين الضَّراعةِ وعرضِ الحاجة واستنزالِ الرحمةِ واستجلابِ الرأفة مالا يخفى فإنه عليه السلام بذكر كونِ الوادي غيرَ ذي زرعٍ بيّن كمالَ افتقارهم إلى المسئول وبذكر كونِ إسكانِهم عند البيت المحرم أشار إلى أن جِوارَ الكريم يستوجب إفاضةَ النعيم وبعرض كونِ ذلك الإسكانِ مع كمال إعوازمرافق المعاش لمحض إقامةِ الصلاةِ وأداء حقوقِ البيت مهّد جميعَ مبادي إجابةِ السؤال ولذلك قُرنت دعوتُه عليه السلام بحُسنِ القبول

ص: 53

(رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِى وَمَا نُعْلِنُ) من الحاجات وغيرِها والمرادُ بما نخفى مايقابل ما نعلن سواءٌ تعلق به الإخفاء أولا أي تعلم ما نظهره ومالا نظهره فإن علمَه تعالى متعلق بما لايخطر بياله مما فيه من الأحوال الخفية فضلاً عن إخفائه وتقديم مانخفى على مانعلن لتحقيق المساواةِ بينهما في تعلق العلم بهما على أبلغ وجهٍ فكأن تعلقه بما يخفى أقدمُ منه بما يُعلن أو لأن مرتبة السرو الحفاه متقدمةٌ على مرتبة العلنِ إذْ مَا من شيءٍ يُعلن إلا وهو قبل ذلك خفيٌّ فتعلقُ علمِه سبحانه بحالته الأولى أقدمُ من تعلقه بحالته الثانية وقصدُه عليه السلام أن إظهارَ هذه الحاجات وما هو من مباديها وتتماتها ليس لكونها غيرَ معلومةٍ لك بل إنما هو لإظهار العبوديةِ والتخشّعِ لعظمتك والتدلل لعزتك وعرضِ الافتقارِ إلى ما عندك والاستعجالِ لنيل أياديك وتكريرُ النداءِ للمبالغةِ في الضراعة والابتهال وضميرُ الجماعة لأن المرادَ ليس مجردَ علمِه تعالى بسرِّه وعلنه بل بجميع خفايا المُلك والملَكوت وقد حققه بقوله على وجه الاعتراض (وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَىْء فَى الأرض وَلَا فِى السماء) لما أنه العالمُ بالذات فما من أمر يدخُل تحت الوجود كائناً ما كان في زمان من الأزمان إلا ووجودُه في ذاته علمٌ بالنسبة إليه سبحانه وإنما قال وَمَا يخفي عَلَى الله الخ دون أن يقول وَيَعْلَمُ مَا فِى السموات والأرض تحقيقاً لما عناه بقوله تعلم ما نخفي من أن علمَه تعالى بذلك ليس على وجه يكون فيه شائبةُ خفاءٍ بالنسبةِ إلى علمِهِ تعالَى كما يكون ذلك بالنسبة إلى علوم المخلوقاتِ وكلمةُ في متعلقةٌ بمحذوفٍ وقع صفةً لشيءٍ أي من شيء كائنٍ فيهما أعمُّ من أن يكون ذلك على وجه الاستقرار فيهما أو على وجه الجزئيةِ منهما أو بيخفى وتقديمُ الأرض على السماء مع توسيط لا بينهما باعتبار القربِ والبعدِ منا المستدعِيَين للتفاوت بالنسبة إلى علو منا والالتفاتُ من الخطاب إلى اسم الذاتِ المستجمعةِ للصفات لتربية المهابةِ والإشعارِ بعلَّةِ الحُكمِ على نهج قوله تعالَى أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير والإيذانِ بعمومه لأنه ليس بشأن يُختص به أو بمن يتعلق به بل شاملٌ لجميع الأشياء فالمناسبُ ذكرُه تعالى بعنوان مصحِّحٍ لمبدإ الكلّ وقيلَ هُو مِنْ كلامِ الله عز وجل وارد بطريق الاعتراض لتصديقه عليه السلام كقوله سبحانه وكذلك يَفْعَلُونَ ومن للاستغراق على الوجهين

ص: 53

(الحمد للَّهِ الذى وَهَبَ لِى عَلَى الكبر) أي مع كِبَري ويأسي عن الولد قيّد الهبةَ به استعظاماً للنعمة وإظهاراً لشكرها (إسمعيل وإسحق) رُوي أنه وُلد له إسمعيل وهو

ص: 53

إبراهيم 40 42 ابنُ تسعٍ وتسعين سنة وولد له إسحق وهو ابن مائةٍ واثنتي عشرة سنة أو مائة وسبعَ عشرة سنة (إِنَّ رَبّى) ومالكَ أمري (لَسَمِيعُ الدعاء) لمجيبُه من قولهم سمِع الملكُ كلامَه إذا اعتدّ به وهي من أبنية المبالغةِ العاملة عمَلَ الفعل أُضيف إلى مفعولِه أو فاعلِه بإسناد السماعِ إلى دعاء الله تعالى مجازاً وهو مع كونه من تتمة الحمدِ والشكر إذ هو وصفٌ له تعالى بأن ذلك الجميلَ سنّته المستمرّةُ تعليلٌ على طريقة التذييل للهبة المذكورة وفيه إيذان بتضاعيف النعمة فيها حيث وقعت بعد الدعاءِ بقوله رَبّ هَبْ لِى مِن الصالحين فاقترنت الهبةُ بقبول الدعوةِ وتوحيدُ ضمير المتكلم وإن كان عَقيبَ ذكرِ هبتهما لما أن نعمةَ الهبةِ فائضةٌ عليه خاصة وهما من النعم لا من المنعَم عليهم

ص: 54

(رَبّ اجعلنى مُقِيمَ الصلاة) مثابراً عليها معدّلاً لها وتوحيدُ ضمير المتكلم مع شمول دعوتِه لذريتِه أيضاً حيث قال (وَمِن ذُرّيَتِى) أي بعضِهم من المذكورين ومن يسير سيرتَهما من أولادهما للإشعار بأنه المقتدى في ذلك وذرّيتُه أتباعٌ له وإن ذكَرهم بطريق الاستطراد لا كما في قوله رَّبَّنَا إِنَّى أَسْكَنتُ الخ فإن إسكانَه مع عدم تحققِه بلا ملابسةٍ لمن أسكنه إنما هو مذكورٌ بطريق التمهيد للدعاء الذي هو مخصوصٌ بذريته وإنما خَصّ هذا الدعاءَ ببعض ذريته لعلمه من جهة الله تعالى أن بعضاً منهم لا يكون مقيمَ الصلاة كقوله تعالى رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ (رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء) أي دعائيَ هذا المتعلِّقَ بجعلي وجعلِ بعض ذرّيتي مقيمي الصلاةِ ثابتين على ذلك مجتنبين عن عبادة الأصنامِ ولذلك جيء بضمير الجماعة

ص: 54

(رَبَّنَا اغفر لِى) أي ما فرَطَ مني من تركِ الأَولى في باب الدين وغيرَ ذلك مما لا يسلم منه البشر (وَلِوَالِدَىَّ) وقرىء بالتوحيد ولأبوي وهذا الاستغفارُ منه عليه السلام إنما كان قبل تبيّن الأمرِ له عليه السلام وقيل أراد بوالديه آدمَ وحواءَ وقيل بشرط الإسلام ويردّه قوله تعالى إِلَاّ قَوْلَ إبراهيم الآيةَ وقد مرَّ في سورة التوبة نوعُ تحقيقٍ للمقام وسيأتي تمامه في سورة مريم بفضل الله تعالى (وَلِلْمُؤْمِنِينَ) كافة من ذريته وغيرهم وللإيذان باشتراك الكلِّ في الدعاء بالمغفرة جىء بضميرا الجماعة (يَوْمَ يَقُومُ الحساب) أي يثبُت ويتحقق محاسبةُ أعمالِ المكلفين على وجه العدل استُعير له من ثبوت القائمِ على الرجل بالاستقامة ومنه قامت الحربُ على ساق والمرادُ تهويلُه وقيل أسند إليه قيامُ أهلِه مجازاً أو حذف المضاف كما في واسأل القرية واعلمْ أن ما حُكي عنه عليه السلام من الأدعية والأذكار وما يتعلق بها ليس بصادر عنه على الترتيب المَحْكيِّ ولا على وجه المعيّة بل صدر عنه في أزمنة متفرّقةٍ حُكي مرتباً للدِلالة على سوء حال الكفرةِ بعد ظهور أمرِه في الملة وإرشادِ الناس إليها والتضرّعِ إلى الله تعالى لمصالحهم الدينية والدنيوية

ص: 54

(وَلَا تَحْسَبَنَّ الله غافلا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون) خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تثبيتُه على ما كان عليه من عدم حسبانه عز وجل كذلك نحو قوله وَلَا تكونن من

ص: 54

إبراهيم 43 المشركين ونظائرِه مع ما فيه من الإيذان بكونه واجبَ الاحتراز عنه في الغاية حتى نُهي عنه من لا يمكن تعاطيه أو نهيُه عليه السلام عن حُسبانه تعالى تاركاً لعقابهم على طريقة العفو والتعبيرُ عنه بذلك للمبالغة في النهي والإيذان بأن ذلك الحسبانَ بمنزلة حسبانِه تعالى غافلاً عن أعمالهم إذ العلمُ بذلك مستوجبٌ لعقابهم لا محالة فتركُه لو كان للغفلة عما يوجبه من أعمالهم الخبيثة وفيه تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعدٌ له أكيدٌ ووعيد للكفر وسائرِ الظالمين شديدٌ أو لكل أحدٍ ممن يستعجل عذابَهم أو يتوهّم إهمالَهم للجهل بصفاته تعالى والاغترارِ بإمهاله وقيل معناه لا تحسبنّه تعالى يعاملهم معاملةَ الغافل عما عمِلوا بل معاملةَ من يحافظ على أعمالهم يجازيهم بذلك نقيراً وقِطْميراً والمرادُ بالظالمين أهلُ مكةَ ممن عُدّت مساويهم من تبديل نعمةِ الله تعالى كفراً وإحلالِ قومهم دارَ البوار واتخاذِ الأندادِ كما يؤذن به التعرّضُ لحكمة التأخيرِ المنبىء عَنْهُ قولُهُ تعالى قُلْ تَمَتَّعُواْ الآية أو جنسُ الظالمين وهم داخلون في الحكم دخولا أولياء (إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ) يمهلهم متمتعين بالحظوظ الدنياوية ولا يعجل عقوبتهم حسبما يشاهد وهو استئنافٌ وقع تعليلاً للنهي السابق أي دُم على ما كنتُ عليهِ من عدم حسبانه تعالى غافلاً عن أعمالهم ولا تحزَنْ بتأخير ما تستوجبه من العذاب الأليم إذ تأخيرُه للتشديد والتغليظ أولا تحسبنّه تعالى تاركاً لعقوبتهم لما ترى من تأخيرها إنما ذلك لأجل هذا أولا ولا تحسبنّه تعالى يعاملهم معاملةَ الغافل ولا يؤاخذُهم بما عملوا لما ترى من التأخير إنما هو لهذه الحكمة وقرىء بالنون وإيقاعُ التأخيرِ عليهم مع أن المؤخرَ إنما هو عذابُهم لتهويل الخطبِ وتفظيعِ الحال ببيان أنهم متوجهون إلى العذاب مُرصَدون لأمر ما لا أنهم باقون باختيارهم وللدَّلالة على أن حقَّهم من العذاب هو الاستئصالُ بالمرة وأن لا يبقى منهم في الوجود عينٌ ولا أثرٌ وللإيذان بأن المؤخرَ له من جملة العذاب وعنوانُه ولو قيل إنما يؤخر عذابَهم الخ لما فهم ذلك (لِيَوْمِ) هائل (تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار) ترتفع أبصارُ أهلِ الموقف فيدخل في زمرتهم الكفرةُ المعهودون دخولاً أولياً أي تبقى مفتوحةً لا تتحرك أجفانُهم من هول ما يرَونه واعتبارُ عدم قرارِها في أماكنها إما باعتبار الارتفاعِ الحسيِّ في جِرْم العين وإما بجعل الصيغةِ مِنْ شخَص من بلدٍ إلى بلدٍ وسار في الارتفاع

ص: 55

(مُهْطِعِينَ) مسرعين إلى الداعي مُقبلين عليه بالخوف والذل والخشوعِ أو مقبلين بأبصارهم عليه لا يُقلعون عنه ولا يطرِفون هيبة وخوفاً وحيث كان إدامةُ النظر ههنا بالنظر إلى الداعي قيل (مقنعي رءوسهم) أي رافعيها مع إدامة النظر من غير التفاتٍ إلى شيء قاله العتبي وابن عرفة أو ناكسيها ويقال أقنع رأسَه أي طأطأها ونكَسها فهو من الأضداد وهما حالان مما دل عليه الأبصار من أصحابها والثاني حالٌ متداخلةٌ من الضمير في الأول وإضافتُه غير حقيقية فلا ينافي الحالية (لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) أي لا يرجِع إليهم تحريكُ أجفانِهم حسبما كان يرجِع إليهم كلّ لحظة بل تبقى أعينُهم مفتوحةً لا تطرف أولا ترجع إليهم أجفانُهم التي هي آلةُ الطرْفِ فيكون إسنادُ الرجوعِ إلى الطرف مجازياً أو هو نفسُ الجفن قال الفيروز آبادي الطرفُ العينُ لا يجمع لأنه مصدر في الأصل أو اسمٌ جامع للعين أولا يرجع نظرُهم إلى أنفسهم فضلاً عن أن يرجِع إلى شيء آخر

ص: 55

إبراهيم 44 فيبقَون مبهوتين وهو أيضاً حالٌ أو بدلٌ من مقنعي الخ أو استئناف والمعنى لا يزول ما اعتراهم من شخوص الأبصار وتأخيره عمن هو من تتمته من الإهطاع والإقناع مع ما بينه وبين الشخوص المذكورِ من المناسبة لتربية هذا المعنى (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء) خاليةٌ من العقل والفهم لفرْط الحَيرة والدهَش كأنها نفسُ الهواءِ الخالي من كل شاغلٍ ومنه قيل للجبان والأحمق قلبُه هواءٌ أي لا قوة ولا رأيَ فيه واعتبارُ خلوِّها عن كل خير لا يناسب المقام وهو إما حالٌ عاملُها لا يرتد مفيدةٌ لكون شخوص أبصارِهم وعدم ارتدادِ طرفِهم بلا فهمٍ ولا اختيار أو جملةٌ مستقلةٌ

ص: 56

(وَأَنذِرِ الناس) خطابٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إعلامِه أن تأخيرَهم لماذا وأمرٌ له بإنذارهم وتخويفِهم منه والمرادُ بالناس الكفارُ المعبّرُ عنهم بالظالمين كما يقتضيه ظاهرُ إتيانِ العذاب والعدولُ إليه من الإضمار للإشعار بأن المرادَ بالإنذار هو الزجرُ عمَّا هُم عليهِ من الظلم شفقةً عليهم لا التخويفُ للإزعاج والإيذاء فالمناسبُ عدمُ ذكرِهم بعنوان الظلمِ أو الناسُ جميعاً فإن الإنذارَ عام للفريقين كقوله تعالى إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر والإتيانُ يُعمّهما من حيث كونُهما في الموقف وإن كان لحوقُه بالكفار خاصةً أي أنذِرهم وخوِّفهم (يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب) المعهودُ وهو اليوم الذي وُصف بما لا يوصف من الأوصاف الهائلةِ أعني يومَ القيامة وقيل هو يومُ موتِهم معذَّبين بالسكَرات ولقاءِ الملائكة بلا بشرى أو يومُ هلاكِهم بالعذاب العاجلِ ويأباه القصرُ السابق (فَيَقُولُ الذين ظَلَمُواْ) أي فيقولون والعدولُ عنه إلى مَا عليهِ النظمُ الكريمُ للتسجيل عليهم بالظلم وللإشعار بأن ما لقُوه من الشدة إنما هو لظلمهم وإيثارُه على صيغة الفاعل حسبما ذكر أولا للإيذان بأن الظلمَ في الجملة كافٍ في الإفضاء إلى ما ذكر من الأهوال منْ غيرِ حاجةٍ إلى الاستمرار عليه كما يُنبىءُ عنه صيغةُ الفاعلِ وعلى تقدير كون المرادِ بالناس مَنْ يعمّ المسلمين أيضاً فالمعنى الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ وهم الكفارُ أو يقول كلُّ من ظلم بالشرك والتكذيب من المنذَرين وغيرِهم من الأمم الخاليةِ فإن إتيانَ العذاب يعُمهم كما يشعر بذلك وعدُهم باتباع الرسل (رَبَّنَا أَخّرْنَا) رُدَّنا إلى الدنيا وأمهلنا (إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ) إلى أمد وحدَ من الزمان قريب (نُّجِبْ دَعْوَتَكَ) أي الدعوة إليك أي وإلى توحيدك أو دعوتَك لنا على ألسنة الرسلِ ففيه إيماء إلى أنهم صدّقوهم في أنهم مرسَلون من عند الله تعالى (وَنَتَّبِعِ الرسل) فيما جاءونا به أي نتدارك ما فرّطنا فيه من إجابة الدعوةِ واتّباع الرسل والجمعُ إما باعتبار اتفاقِ الجميعِ على التوحيد وكونِ عصيانهم للرسول صلى الله عليه وسلم عصيانا لهم جميعاً وإما باعتبار أن المحكي كلام ظالمي الأمم جميعاً والمقصودُ بيانُ وعدِ كل أمة باتباع رسولها (أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ مّن قَبْلُ) على إضمار القولِ معطوفاً على فيقول أي فيقال لهم توبيخاً وتبكيتاً ألم تؤخَّروا في الدنيا ولم تكونوا أقسمتم إذ ذاك بألسنتكم بطراً وأشرا وجهلا وسفها (مالكم مّن زَوَالٍ) مما أنتم عليه من التمتع بالحظوظ الدنياوية أو بألسنة الحال حيث بنيتم مشيدا

ص: 56

إبراهيم 45 وأمّلتم بعيداً ولم تحدّثوا أنفسكم بالانتقال منها إلى هذه الحالة وفيه إشعارٌ بامتداد زمانِ التأخير وبُعد مداه أو مالكم من زوال من هذه الدار إلى دار أخرى للجزاء كقوله تعالى وَأَقْسَمُواْ بالله جهدا أيمانهم لَا يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ وصيغةُ الخطاب في جواب القسم لمراعاة حالِ الخطاب في أقسمتم كما في قوله حلف بالله ليخرُجَن وهو أدخلُ في التوبيخ من أن يقال مالنا مراعاةً لحال المُقسِم ذكر البهيقي عن محمدُ بنُ كعبٍ القُرَظي أنه قال لأهل النار خمسُ دعَوات يجيبهم الله تعالى في أربع منها فإذا كانت الخامسةُ لم يتكلموا بعدها أبداً يقولون رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مّن سَبِيلٍ فيجيبهم الله تعالى ذلكم بأنه إذا ادعى الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فالحكم لله تعالى الكبير ثم يقولون رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صالحا إِنَّا مُوقِنُونَ فيجيبهم الله تعالى فذوقو بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا الآية ثم يقولون رَبَّنَا أَخّرْنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل فيجيبهم الله تعالى أَوَ لَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُمْ الآية ثم يقولون رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذى كُنَّا نَعْمَلُ فيجيبهم الله تعالى أو لم نُعَمّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ فيقولون رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالّينَ فيجيبهم الله تعالى اخسئوا فِيهَا وَلَا تُكَلّمُونِ فلا يتكلمون بعدها أبداً إن هو إلا زفيرٌ وشهيق وعند ذلك انقطع رجاؤُهم وأقبل بعضهم ينبَح في وجه بعض وأطبقت عليهم جهنمُ اللهم إنا بك نعوذ وبكنفك نلوذ عز جارُك وجل ثناؤُك ولا إله غيرُك

ص: 57

(وَسَكَنتُمْ) من السُّكنى بمعنى التبوّؤ والإيطان وإنما استُعمل بكلمة في حيث قيل (فِى مساكن الذين ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ) جرياً على الأصل لأنه منقولٌ عن مطلق السكون الذي حقُّه التعديةُ بها أو من السكون واللُّبث أي قرِرْتم في مساكنهم مطمئنين سائرين سيرتَهم في الظلم والكفر والمعاصي غيرَ محدّثين لأنفسكم بما لقُوا بسبب ما اجترحوا من الموبقات وفي إيقاع الظلم على أنفسهم بعد إطلاقه فيما سلف إيدانا بأن غائلة الظلم آثلة إلى صاحبه والمرادُ بهم إما جميعُ مَنْ تقدّم من الأمم المهلكة على تقدير اختصاصِ الاستمهال والخطابُ السابقُ بالمنذرين وإما أوائلُهم من قوم نوحٍ وهود على تقدير عمومها للكل وهذا الخطابُ وما يتلوه باعتبار حالِ أواخرهم (وَتَبَيَّنَ لَكُمْ) بمشاهدة الآثار وتواترِ الأخبار (كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ) من الإهلاك والعقوبة بما فعلوا من الظلم والفساد وكيف منصوبٌ بما بعده من الفعل وليس الجملةُ فاعلاً لتبيّن كما قاله بعضُ الكوفيين بل فاعله ما دلت هي عليه دَلالةً واضحةً أي فعلنا العجيبَ بهم وفيه من المبالغة ما ليس في أن يقال ما فعلنا بهم كما مرَّ في قوله تعالى لَيَسْجُنُنَّهُ وقرىء وبُيِّن (وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامثال) أي بينا لكم في القرآن العظيم على تقدير اختصاصِ الخطاب بالمنذَرين أو على ألسنة الأنبياءِ عليهم السلام على تقدير عمومِه لجميع الظالمين صفاتِ ما فعلوا وما فُعل بهم من الأمور التي هي في الغرابة كالأمثال المضروبةِ لكل ظالم لتعتبروا بها وتقيسوا أعمالَكم على أعمالهم ومآلَكم على مآلهم وتنتقلوا من حلول

ص: 57

إبراهيم 46 العذاب العاجلِ إلى حلول العذابِ الآجل فترتدعوا عما كنتم فيه من الكفر والمعاصي أو بيّنا لكم أنكم مثلُهم في الكفرِ واستحقاقِ العذابِ والجملُ الثلاثُ في موقع الحالِ من ضمير أقسمتم أي أقسمتم بالخلود والحالُ أنكم سكنتم في مساكن المهلَكين بظلمهم وتبين لك فعلنا العجيب بهم ونبهنا كم على جلية الحال بضرب الأمثال وقوله عز وجل

ص: 58

(وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ) حال من الضمير الأول في فعلنا بهم أو من الثاني أو منهما جميعاً وإنما قُدّم عليه قوله تعالى وَضَرَبْنَا لَكُمُ الامثال لشدة ارتباطِه بما قبله أي فعلْنا بهمْ مَا فعلنَا والحالُ أنهم قد مكروا في إبطال الحقِّ وتقرير الباطل مكرَهم العظيمَ الذي استفرغوا في عمله المجهودَ وجاوزوا فيه كل حد معهود بحيث لا يقدِرُ عليه غيرُهم فالمرادُ بيانُ تناهيهم في استحقاق ما فُعل بهم أو قد مكروا مكرَهم المذكورَ في ترتيب مبادى البقاءِ ومدافعةِ أسبابِ الزوالِ فالمقصودُ إظهارُ عجزهم واضمحلالُ قدرتِهم وحقارتُها عند قدرة الله تعالى (وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ) أي جزاءُ مكرِهم الذي فعلوه على أن المكرَ مضافٌ إلى فاعله أو أخذُه تعالى بهم على أنه مضافٌ إلى مفعوله وتسميتُه مكراً لكونه بمقابلة مكرِهم وجوداً وذِكراً أو لكونه في صورة المكرِ في الإتيان مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ وعلى التقديرين فالمرادُ به ما أفاده قوله عز وجل كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ لا أنه وعيدٌ مستأنفٌ والجملةُ حالٌ منَ الضميرِ في مكروا أي مكروا مكرَهم وعند الله جزؤه أو ما هو أعظمُ منِهُ والمقصودُ بيانُ فسادِ رأيِهم حيث باشروا فعلاً معَ تحققِ ما يُوجبُ تركَه (وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ) في العِظَم والشدة (لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال) أي وإن كان مكرُهم في غاية المتانةِ والشدةِ وعبّر عن ذلك بكونه مسوًّى ومُعدًّا لإزالة الجبال عن مقارّها لكونه مثلاً في ذلك والجملةُ المصدرةُ بأن الوصليةِ معطوفةِ على جملةٍ مقدرةٍ والمعنى وعند الله جزاءُ مكرهم أو المكرُ الذي يحيق بهم إن لم يكن مكرُهم لتزولَ منه الجبال وإن كان الخ وقد حُذف ذلك حذفاً مطرداً لدِلالة المذكور عليه دلالة واضحة فإن الشيءَ إذا تحقق عند وجودِ المانع القوي فلأن يتحقق عند عدمه أولى وعلى هذه النكتةِ يدورُ ما في إنْ الوصليةِ من التأكيد المعنوي والجوب محذوفٌ دلَّ عليه ما سبق وهو قوله تعالى وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ وقيل إنْ نافية واللامُ لتأكيدها كما في قوله تعالى وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وينصره وقراءة ابن مسعود رضي الله عنه وما كان مكرُهم فالجملة حينئذ حالٌ من الضمير في مكروا لا من قوله تعالى وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ أي مكروا مكرَهم والحالُ أن مكرهم لم يكن لتزولَ منه الجبال على أنَّها عبارةٌ عن آيات الله تعالى وشرائعِه ومعجزاتِه الظاهرة على أيدي الرسلِ السالفةِ عليهم السلام التي هي بمنزلة الجبالِ الراسياتِ في الرسوخ وأما كونُها عبارةً عن أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم وأمرِ القرآن العظيم كما قيل فلا مجال له إذا لماكرون هم المهلَكون لا الساكنون في مساكنهم من المخاطبين وإن خُصّ الخطاب بالمنذرين وقيل هي مخففةٌ من إنّ والمعنى إنه كان مكرُهم ليزول منه ما هو كالجبال في الثبات مما ذكر من الآيات والشرائعِ والمعجزات والجملةُ كما هي حال من ضمير مكروا أي مكروا مكرَهم المعهودَ وإنّ الشأنَ كان مكرُهم لإزالة الآياتِ والشرائع على معنى أنه لم يكن يصح أن يكون منهم مكرٌ كذلك وكان شأنُ الآياتِ والشرائعِ مانعاً من مباشرة المكر

ص: 58

إبراهيم 47 لإزالته وقد وقرأ الكسائي لَتزولُ بفتح اللام على أنها الفارقة والمعنى تعظيمُ مكرِهم فالجملةُ حالٌ من قوله تعالى وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ أي عنده تعالى جزاءُ مكرهم أو المكرُ بهم والحال أن مكرهم بحيث تزول منه الجبالُ أي في غاية الشدة وقرىء بالفتح والنصب على لغة من بفتح لام كي وقرىء وإن كاد مكرهم هذا هو الذي يقتضيهِ النظمُ الكريم وينساق إليه الطبعُ السليم وقد قيل إنَّ الضَّمير في مكروا للمنذَرين والمرادُ بمكرهم ما أفاده قوله عز وجل وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ الآية وغيرُه من أنواع مكرهم برسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولعل الوجهَ حينئذٍ أنْ يكونَ قولُه تعالى وَقَدْ مَكَرُواْ الخ حالاً من القول المقدر أي فيقال لهم ما يقال والحالُ أنهم مع ما فعلوا من الإقسام المذكورِ مع ما ينافيه من السكون في مساكن المهلَكين وتبيّن أحوالُهم وضرْبُ الأمثال قد مكروا مكرَهم العظيم أي لم يكن الصادر عنهم مجردَ الإقسام الذي وُبِّخوا به بل اجترءوا على مثل هذه العظيمة وقوله تعالى وَعِندَ الله تعالى مَكْرُهُمْ حالٌ من ضمير مكروا حسبما ذكرنا من قبل وقوله تعالى وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال مسوقٌ لبيان عدم تفاوتِ الحال في تحقيق الجزاءِ بين كون مكرِهم قوياً أو ضعيفاً كما مر هناك وعلى تقدير كونِ أنْ نافيةً فهو حال من ضمير مكروا والجبالُ عبارةٌ عن أمر النبيِّ صلى الله عليه وسلم أي وقد مكروا والحالُ أن مكرهم ما كان لتزول منه هاتيك الشرائعُ والآياتُ التي هي في القوة كالجبال وعلى تقدير كونها مُخفّفة من الثقيلة واللامُ مكسورةٌ يكون حالاً منه أيضاً على معنى أن ذلك المكرَ العظيم منهم كان لهذا الغرض على معنى أنه لم يكن يصح أن يكون منهم مكر كذلك لِما أن شأنَ الشرائعِ أعظم من أن يمكُرَ بها ماكرٌ وعلى تقدير فتح اللام فهو حالٌ من قوله تعالى وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ كما ذكرنا من قبل فليُتأمل

ص: 59

(فَلَا تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ) لم يرَدْ به والله سبحانه أعلمُ ما وعده بقوله تعالَى إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا الآية وقولِه كَتَبَ الله لَاغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى كما قيل فإنه لا اختصاصَ له بالتعذيب لا سيما الأخرويُّ بل ما سلف آنفاً من وعده بتعذيب الظالمين بقوله تعالى إِنَّمَا يُؤَخّرُهُمْ الآية كما يُفصح عنهُ الفاءُ الداخلة على النهي الذي أريد به تثبيتُه عليه الصلاة والسلام على ما كان عليه من الثقة بالله تعالى والتيقّن بإنجاز وعدِه المذكور المقرونِ بالأمر بإنذارهم يوم إتيانِ العذاب المتضمِّنِ لذكر تعذيبِ الأممِ السالفة بسبب كفرِهم وعصيانِهم رسلَهم بعد ما وعدهم بذلك كما فُصّلت قصةُ كل منهم في القرآن العظيم فكأنه قيل وإذ قد وعدناك بعذاب الظالمين يوم القيامة وأخبرناك بما يلقَوْنه من الشدائد وبما يسألونه من الرد إلى الدنيا وبما أجَبْناهم به وقرَعناهم بعدم تأملِهم في أحوال من سبَقهم من الأمم الذين أهلكناهم بظلمهم بعد ما وعدنا رسلَهم بإهلاكهم فدُمْ على ما كنتُ عليهِ من اليقين بعدم إخلافِنا رسلنا وعدنا (إن اله عَزِيزٌ) غالبٌ لا يماكَر وقادر (ذُو انتقام) لأوليائه من أعدائه والجملةُ تعليلٌ للنهي المذكور وتذييلٌ له وحيث كان الوعدُ عبارةً عما ذكرنا من تعذيبهم خاصة لم يذيَّل بأن يقال إِنَّ الله لَا يُخْلِفُ الميعاد بل تعرض لوصف العزة والانتقامِ المُشعِرَين بذلك والمرادُ بالانتقام ما أشير إليه بالفعل وعبّر عنه بالمكر

ص: 59