الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إبراهيم
48
- 49 (يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض) ظرفٌ لمضمر مستأنفٌ ينسحب عليه النهيُ المذكور أي ينجزه يوم الخ أو معطوفٌ عليه نحوُ وارتقب يومَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الارض أو لانتقام وهو يوم يأتيهم العذابُ بعينه ولكن له أحوالٌ جمّة يُذكر كلَّ مرة بعنوان مخصوص والتقييدُ به مع عموم انتقامِه للأوقات كلها للإفصاح عما هو المقصودُ من تعذيب الكفرة المؤخرِ إلى ذلك اليوم بموجب الحكمةِ الداعيةِ إليه وقيل بدلٌ من يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب أو نُصب باذكر أو بإضمار لا يخلف وعده يوم تبدل الخ وفيه أيضاً ما في الوجه الثالث من الحاجة إلى الاعتذار ولا يجوز أن ينتصب بقوله مخلَف وعدِه لأن ما قبل إنَّ لا يعمل فيما بعده وقيل هو غيرُ مانع لأن قوله تعالى إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام جملةٌ اعتراضية فلا يبالى بها فاصلاً واعلم أن التبديلَ قد يكون في الذات كما في بدلتُ الدراهمَ دنانير وعليه قوله عز وجل بدلناهم جُلُوداً غَيْرَهَا وقد يكون في الصفات كما في قولك بدلتُ الحلقةَ خاتماً إذا غيّرتَ شكلها ومنه قوله تعالى يُبَدّلُ الله سَيّئَاتِهِمْ حسنات على بعض الأقوال والآية الكريمة ليست بنص في أحد الوجهين فعن علي رضي الله عنه تبدل أرضاً من فضة وسمواتٍ من ذهب وعن ابن مسعود رضي الله عنه تبدل الأرض بأرض كالفضة بيضاءَ نقيةٍ لم يُسفك فيها دمٌ ولم يعمَلْ عليها خطيئة وعن ابن عباس رضي الله عنهما هي تلك الأرضُ وإنما تُغيّر صفاتُها وأنشد
…
[وما الناسُ بالناس الذين عهِدتهم
…
وما الدارُ بالدار التي كنت تعلمُ]
…
وتبدّلُ السموات بانتثار كواكبها وكسوفِ شمسِها وخسوفِ قمرِها وانشقاقها وكونها أبواباً ويدل عليه ما روى أبو هريرةَ رضي الله عنه أنَّه عليه الصلاة والسلام قال تُبَدَّلُ الأرضُ غيرَ الأرض فتبسط وتمدمد الأديمِ العُكَاظِيِّ لا ترى فيها عوجا ولا أمتا (والسموات) أي وتبدل السمواتُ غيرَ السموات حسبما مر من التفصيل وتقديمُ تبديلِ الأرض لقربها منا ولكون تبديلها أعظمَ أثراً بالنسبة إلينا (وَبَرَزُواْ) أي الخلائق أو الظالمون المدلولُ عليهم بمعونة السباق والمرادُ بروزُهم من أجداثهم التي في بطون الأرضِ أو ظهورُهم بأعمالهم التي كانوا يعملونها سرًّا ويزعُمون أنها لا تظهر أو يعملون عمل من يزعمُ ذلك ولعل إسنادَ البروز إليهم مع أنه لأعمالهم للإيذان بتشكّلهم بأشكال تناسبها وهو معطوفٌ على تبدل والعدولُ إلى صيغةِ الماضِي للدَلالة على تحققِ وقوعِه أو حالٌ من الأرض بتقدير قد والرابطُ بينها وبين صاحبِها الواو (للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ) للحساب والجزاء والتعرُّضُ للوصفين لتهويلِ الخطبِ وتربيةِ المهابةِ وإظهار بطلانِ الشركِ وتحقيقُ الانتقامِ في ذلك اليوم على تقدير كونِه ظرفاً له وتحقيقُ إتيان العذاب الموعودِ على تقدير كونِه بدلاً من يوم يأتيهم العذاب فإن الأمرَ إذا كان لواحد غلاّبٍ لا يعار وقادر لا يُضارّ ولا يغار كان في غايةِ ما يكونُ من الشدة والصعوبة
(وَتَرَى المجرمين) عطف على برزوا والعدولُ إلى صيغة المضارع لاستحضار الصورة أو للدلالة على الاستمرار وأما لبروز فهو دفعى
إبراهيم 50 51 لا استمرار فيه وعلى تقدير حاليةِ برزوا فهو معطوفٌ على تبدل ويجوز عطفُه على عامل الظرف المقدم على تقدير كونِه ينجزه (يَوْمَئِذٍ) يومَ إذ برزوا له عز وجل أو يوم إذ تبدل الأرض أو يوم إذ يُنجِز وعدَه (مُقْرِنِينَ) قُرن بعضَهم مع بعضٍ حسب اقترانهم في الجرائم والجرائر أو قُرنوا مع الشياطين الذين أغوَوْهم أو قرنوا مع ما اقترفوا من العقائد الزائغة والملَكات الردِيّة والأعمال السيئة غِبَّ تصور كلَ منها وتشكلهما بما يناسبُها من الصورِ الموحشة والأشكال الهائلة أو قرنت أيديهم وأرجلُهم إلى رقابهم وهو حال من المجرمين (فِى الأصفاد) في القيود أو الأغلال وهو إما متعلقٌ بقوله تعالى مُقْرِنِينَ أو حالٌ من ضميرِه أي مصفّدين
(سَرَابِيلُهُم) أي قُمصانهم (مّن قَطِرَانٍ) جملةٌ من مبتدإٍ وخبر محلُّها النصبُ عَلى الحاليةِ من المجرمين أو من ضميرِهم في مقرنين رابطتها الضمير فقط كما في كلمتُه فوه إلى فيَّ أو مستأنفة والقطران ما يتحلب من الإبهل فيطبخ فتُهنَأُ به الإبلُ الجربى فيحرق الجرَبَ بما فيه من الحِدّة الشديدة وقد تصل حرارتُه إلى الجوف وهو أسودُ منتِنٌ يسرع فيه اشتعالُ النار يطلى به جلودُ أهل النار حتى يعودَ طلاؤُه لهم كالسراويل ليجتمع عليهم الألوانُ الأربعة من العذاب لذعُه وحرقتُه وإسراعُ النار في جلودهم واللونُ الموحش والنتَنُ على أن التفاوت بينه وبين ما نشاهده وبين النارين لا يكاد يقادَر قدرُه فكأن ما نشاهده منهما أسماءُ مسمَّياتِها في الآخرة فبِكَرمه العميمِ نعوذ وبكنفه الواسع نلوذ ويحتمل أن يكون ذلك تمثيلاً لما يحيط بجوهر النفس من الملكات الرديةِ والهَنات الوحشية فتجلُب إليها الآلام والغموم بل وأن يكون القطِرانُ المذكور عينَ مالا بسوه في هذه النشأة وجعلوه شعاراً لهم من العقائد الباطلة والأعمال السيئة المستجلبة لفنون العذاب قد تجسّدت في النشأة الآخرة بتلك الصورة المستتبعةِ لاشتداد العذاب عصَمنا الله سبحانه عن ذلك بمنه ولُطفه وقرىء من قطرآنٍ أي نحاس مُذابٍ مُتناهٍ حرُّه (وتغشى وُجُوهَهُمْ النار) أي تعلوها وتحيط بها النارُ التي تمس جسدَهم المسَرْبلَ بالقطِران وتخصيصُ الوجوه بالحكم المذكورِ مع عمومه لسائر أعضائِهم لكونها أعزَّ الأعضاء الظاهرةِ وأشرفَها كقوله تعالى أَفَمَن يَتَّقِى بِوَجْهِهِ سُوء العذاب الخ ولكونها مجمعَ المشاعرِ والحواسّ التي خُلقت لإدراك الحق وقد أعرضوا عنه ولم يستعملوها في تدبيره كما أن الفؤادَ أشرفُ الأعضاء الباطنةِ ومحلُّ المعرفة وقد ملئوها بالجهالات لذلك قيل تَطَّلِعُ عَلَى الافئدة أو لخلوّها عن القطِران المغني عن ذكر غشيانِ النار لها ولعل تخليتَها عنه ليتعارفوا عند انكشافِ اللهب أحياناً ويتضاعف عذابُهم بالخزى على رءوس الأشهاد وقرىء تَغَشَّى أي تتغشى بحذف إحدى التاءين والجملة نصب على الحالية لا على أن الواو حاليةٌ لأنه مضارعٌ مثبَتٌ بل على أنها معطوفةٌ على الحال قاله أبو البقاء
(لّيَجْزِىَ الله) متعلقٌ بمضمر أي يفعل بهم ذلكَ ليجزِيَ (كُلُّ نَفْسٍ) مجرمةٍ (ما كسبت) من أبواع الكفرِ والمعاصي جزاءً موافقاً لعملها وفيه إبذان بأن جزاءَهم مناسبٌ لأعمالهم أو بقوله برزوا
إبراهيم 52 على تقدير كونِه معطوفاً على تُبدّل والضمير للخلق وقوله وترى المجرمين الخ اعتراضٌ بين المتعلِّق والمتعلَّق به أي برزوا للحساب ليجزيَ الله كلَّ نفس مطيعةٍ أو عاصية ما كسبتْ منْ خَيرٍ أوْ شر وقد اكتُفي بذكر عقاب العُصاة تعويلا على شهادة الحالِ لا سيما مع ملاحظة سبق الرحمةِ الواسعة (إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب) إذ لا يشغَلُه شأنٌ عن شأن فيُتمُّه في أعجل ما يكون من الزمان فيوفّي الجزاءَ بحسبه أو سريعُ المجيء يأتي عن قريب أو سريعُ الانتقام كما قال ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما في قولِه تعالى وَهُوَ سَرِيعُ الحساب
(هذا) أي ما ذكر من قوله سبحانه وَلَا تَحْسَبَنَّ الله غافلا إلى سَرِيعُ الحساب (بَلَاغٌ) كفايةٌ في العظة والتذكيرِ منْ غيرِ حاجةٍ إلى ما انطوى عليه السورةُ الكريمة أو كلُّ القرآن المجيدِ من فنون العظات والقوارعِ (لِلنَّاسِ) للكفار خاصةً على تقدير اختصاصِ الإنذار بهم في قوله تعالى وَأَنذِرِ الناس أو لهم وللمؤمنين كافةً على تقدير شمولِه لهم أيضاً وإن كان ما شرح مختصاً بالظالمين (وَلِيُنذَرُواْ بِهِ) عطفٌ على مقدر واللامُ متعلقةٌ بالبلاغ أي كفاية لهم في ان ينصحوا وينذروا به أو هذا بلاغٌ لهم ليفهموه ولينذَروا به على أن البلاغَ بمعنى الإبلاغ كما في قوله تعالى مَّا عَلَى الرسول إِلَاّ البلاغ أو متعلقة بمحذوف أي ولينذَروا به أُنزل أو تُليَ وقرىء لينذروا به من نذر الشيء إذا علمه وحذروه واستعدّ له (وَلِيَعْلَمُواْ) بالتأمل فيما فيه من الدلائل الواضحة التي هي إهلاكُ الأمم وإسكانُ آخرين مساكنهم وغيرُهما مما سبق ولحِق (إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ) لا شريكَ له وتقديمُ الإنذار لأنه الداعي إلى التأمل المؤدِّي إلى ما هو غايةٌ له من العلم المذكور والتذكير في قوله تعالى (وليذكر أولو الألباب) أي ليتذكروا ما كانوا يعملوبه من قبلُ من التوحيد وغيره من شئون الله عز وجل ومعاملتِه مع عباده فيرتدعوا عما يُرديهم من الصفات التي ينصف بها الكفارُ ويتدرعوا بما يُحظيهم من العقائد الحَقَّة والأعمالِ الصالحةِ وفي تخصيص التذكرِ بأولي الألباب تلويحٌ باختصاص العلمِ بالكفار ودَلالةٌ على أن المشارَ إليه بهذا ما ذكرنا من القوارع المَسوقةِ لشأنهم لا كلُّ السورةِ المشتملةِ عليها وعلى ما سبق للمؤمنين أيضاً فإن فيه ما يفيدهم فائدةً جديدةً وحيث كان ما يفيده البلاغُ من التوحيد وما يترتبُ عليهِ من الأحكام بالنسبة إلى الكفرة أمراً حادثاً وبالنسبة إلى أولي الألباب الثباتَ على ذلك حسبما أشير إليه عبر عن الأول بالعلم وعن الثاني بالتذكير ورُوعيَ ترتيبُ الوجودِ مع ما فيه من الختم بالحسنى والله سبحانه أعلم ختم الله لنا بالسعادة والحسنى ورزقنا الفوز بمرضاته في الأولى والعقبى آمين عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ قرأَ سورةَ إبراهيمَ أُعطِيَ من الأجر عشرَ حسناتٍ بعدد مَنْ عبدَ الأصنام ومن لم يعبده والحمدُ لله وحده
سورة الحجر (مكيه آياتها تسع وتسعون) سورة الحجر مكية إلا آية 87 فمدنية وآيها تسع وتسعون)
بسم الله الرحمن الرحيم
(الر) قد مر الكلام فيه وفي محله في مطلع سورة الرعدِ وأخواتِها (تِلْكَ إشارةٌ إليه أي تلك السورةُ العظيمةُ الشأن (أيات الكتاب) الكاملِ المعهودِ الغنيُّ عن الوصف به المشهورُ بذلك من بين الكتب الحقيق باختصاص اسم الكتاب به على الإطلاق أي بعضٌ منه مترجمٌ مستقلٌّ باسم خاصَ فهو عبارةٌ عن جميع القرآن أو عن الجميعِ المنزَلِ إذ ذاك إذ هو المتسارِعُ إلى الفهم حينئذ عند الإطلاق وعليه يترتب فائدةُ وصف الآياتِ بنعت ما أضيفت إليه من نعوت الكمالِ لا على جعله عبارةً عن السورة إذ هي في الاتصاف بذلك ليست بتلك المرتبةِ من الشهرة حتى يستغنى عن التصريح بالوصف على أنَّها عبارةٌ عن جميع آياتها فلا بد من جعل تلك إشارةً إلى كل واحدةٍ منها وفيه من التكليف مالا يخفى كما ذكر في سورة الرعد (وقرآن) أي قرآنٍ عظيمِ الشأنِ (مُّبِينٌ) مظهرٌ لما في تضاعيفهِ من الحِكَم والأحكام أو لسبيلِ الرشدِ والغيِّ أو فارقٍ بين الحقِّ والباطل والحلالِ والحرام ولقد فُخّم شأنه العظيم مع ما جُمع فيه من وصفي الكتابية والقرآنية على الطريقتين إحداهما اشتمالُه على صفاتِ كمالِ جنس الكتبِ الإلهيةِ فكأنه كلُّها والثانيةُ طريقةُ كونِه ممتازاً عن غيره نسيجَ وحدِه بديعاً في بابه خارجاً عن دائرة البيان وأخرت الطريقة الثانية لما أن الإشارةَ إلى امتيازه عن سائر الكتبِ بعد التنبيه على انطوائه على كمالات غيرِه من الكتب أدخلُ في المدح كيلا يُتوَهّم من أول الأمرِ أن امتيازَه عن غيره لاستقلاله بأوصاف خاصةٍ به من غير اشتماله على نعوت كمالِ سائرِ الكتب الكريمة وهكذا الكلامُ في فاتحة سورةِ النمل خلا أنه قُدّم فيها القرآنُ على الكتاب لما سيذكر هناك ولمّا بيِّن كونُ السورة الكريمةِ بعضاً من الكتاب والقرآنِ لتوجيه المخاطَبين إلى حُسن تلقّي ما فيها من الأحكامِ والقِصص والمواعظ شُرع في بيان ما تتضمّنه فقيل
(رُّبَمَا) بضم الراء وتخفيف الباء المفتوحةِ وقرىء بالتشديد وبفتح الراء مخففاً وبزيادة التاء مشدداً وفيه ثماني لغات فتح الراء وضمها مشدداً ومخففاً وبزيادة التاء أيضاً مشدداً ومخففاً ورُبّ حرفُ جر لا يدخُل إلا على الاسم وما كافةٌ مصحّحةٌ لدخوله على الفعل وحقُّه الدخولُ على الماضي ودخولُه على قوله تعالى (يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ) لما أن المترقَّب في أخباره تعالى كالماضي المقطوعِ في تحقق الوقوع فكأنه قيل ربما وَد الذين كفروا والمرادُ كفرهم بالكتاب والقرآن وكونه
الحجر 3 من عند الله تعالى (لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ) منقادين لحكمه ومذعِنين لأمره وفيه إيذانٌ بأن كفرَهم إنما كان بالجحود بعد ما علموا كونَه من عند الله تعالى وتلك الوَدادةُ يومَ القيامةِ أو عند موتهم أو عند معاينةِ حالِهم وحال المسلمين أو عند رؤيتهم خروجَ عصاةِ المسلمين من النار وروى أبو موسى الأشعرى رضي الله عنه أنَّه قال النبيِّ صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم القيامة واجتمع أهلُ النار في النار ومعهم مَنْ شاء تعالى من أهل القِبلة قال لهم الكفارُ ألستم مسلمين قالوا بلى قالوا فما أغنى عنكم إسلامُكم وقد صِرتم معنا إلى النار قالوا كانت لنا ذنوبٌ فأُخِذْنا بها فيغضب الله سبحانه لهم بفضل رحمته فيأمُر بكل من كان من أهل القِبلة في النار فيخرجون منها فحينئذ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كانوا مسلمين وروى مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لا يزال الربُّ يرحم ويُشفع إليه حتى يقول مَنْ كان من المسلمين فليدخُل الجنة فعند ذلك يتمنَّوْن الإسلام والحقُّ أن ذلك محمولٌ على شدة وَدادتِهم وأما نفسُ الودادةِ فليست بمختصة بوقت دون وقت بل هي مقرَّرة مستمرّةٌ في كل آن يمر عليهم وأن المراد بيانُ ذلك على ما هو عليه من الكثرة وإنما جيء بصيغة التقليلِ جرياً على سَننِ العرب فيما يقصِدون به الإفراطَ فيما يعكسون عنه تقول لبعض قُوادِ العساكر كم عندك من الفرسان فيقول رُبَّ فارسٍ عندي أو لا تعدمُ عندي فارسا وعنده مقانب جمّةٌ من الكتائب وقصدُه في ذلك التماري في تكثير فُرسانه ولكنه يريد إظهارَ براءته من التزيُّد وإبرازَ أنه ممن يقلل لعلو الهمة كثيرَ مَا عندَهُ فضلاً عن تكثير القليل وهذه الطريقة إنما تسلك إذا كان الأمر من الوضوح بحيث لا يحومُ حوله شائبةُ ريبٍ فيُصار إليه هضماً للحق فدل النظمُ الكريم على وَدادةِ الكافرين للإسلام في كلِّ آنٍ من آنات اليومِ الآخر وأن ذلك منَ الظهورِ بحيثُ لا يشتبه على أحد ولو جيء بكلام يدل على ضده وعلى أن تلك الودادةَ مع كثرتها في نفسها مما يُستقل بالنسبةِ إلى جناب الكبرياءِ وهذا هو الموافقُ لمقام بيانِ حقارةِ شأنِ الكفارِ وعد الاعتدادِ بما هُم فيه من الكفر والتكذيب كما ينطق به قوله تعالى ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ الآية أو ذهاباً إلى الإشعار بأن من شأن العاقلِ إذا عنّ له أمرٌ يكون مظنونَ الحمد أو قليلاً ما يكون كذلك أن لا يفارقَه ولا يقارِفَ ضدّه فكيف إذا كان متيقن الحمد كما في قولهم لعلك ستندم على ما فعلت وربما ندِم الإنسان على ما فعل فإن المقصودَ ليس بيانَ كونِ الندم مرجوَّ الوجود بلا تيقن به أو قليلَ الوقوع بل التنبيهُ على أن العاقلَ لا يباشر ما يُرجى فيهِ الندمُ أو يقِلّ وقوعُه فيه فكيف بقطعيّ الوقوع وأنه يكفي قليلُ الندم في كونه حاجزاً عن ذلك الفعلِ فكيف كثيرُه والمقصودُ من سلوك هذه الطريقة إظهارُ الترفع والاستغناءِ عن التصريح بالغرض بناءً على ادعاء ظهورِه فالمعنى لو كانوا يودون الإسلامَ مرة واحدة لوجب عليهم أن لا يفارقوه فكيف وهم يودّونه كل آن وهذا أوفقُ بمقام استنزالِهم عمَّا هُم عليهِ من الكفر وهذان طريقان متمايزانِ ذاتاً ومقاماً فمن ظنَّهما واحداً فقد نأى عن توفية المقام حقَّه
(ذَرْهُمْ) دعْهم عن النهي عما هم عليه بالتذكرة والنصيحة إذ لا سبيلَ إلى إراعوائهم عن ذلك وبالِغْ في تخليتهم وشأنَهم بل مُرْهم بتعاطي ما يتعاطَوْنه (يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ) بدنياهم وفي تقديم الأكل إيذانٌ بأن تمتعَهم إنما هو من قبيل تمتع البهائم بالمآكل
الحجر 4 والمشارب والمرادُ دوامُهم على ذلك لا إحداثُه فإنهم كانوا كذلك أو تمتعُهم بلا استماعِ ما ينغص عيشَهم من القوارع والزواجر فإن التمتعَ على ذلك الوجه أمرٌ حادث يصلُح أن يكون مترتباً على تخليتهم وشأنَهم (وَيُلْهِهِمُ) ويَشْغَلْهم عن اتباعك أو عن التفكر فيما هم يصيرون إليه أو عن الإيمان والطاعة فإن الأكلَ والتمتعُ يفضيان إلى ذلك (الأمل) والتوقعُ لطول الأعمارِ وبلوغِ الأوطار واستقامة الأحوال وأن لا يَلْقَوا في العاقبة والمآل إلا خيراً فالأفعالُ الثلاثة مجزومةٌ على الجوابية للأمر حسبما عرفتَ من تضمن الأمرِ بالترك للأمر بها على طريقة المجاز أو على أن يكون المرادُ بالأفعال المرقومة مباشرَتهم لها غافلين عن وخامة عاقبتها غيرَ سامعين لسوء مَغَبَّتها أصلاً ولا ريب في ترتب ذلك على الأمر بالترك فإن النهيَ عمَّا هُم عليهِ من ارتكاب القبائحِ مما يشوّش عليهم متعهم وينغّص عليهم عيشَهم فأُمر عليه السلام بتركه ليتمرّغوا فيمَا هُم فيهِ من حظوظهم فيدهمهم ما يدهمهم وهم عنه غافلون (فَسَوفَ يَعْلَمُونَ) سوءَ صنيعهم أو وخامةَ عاقبته أو حقيقةَ الحال التي ألجأتْهم إلى التمني المذكور حيث لم يعلموا ذلك من جهتك وهو مع كونه وعيداً أيَّما وعيدٍ وتهديداً غِبَّ تهديدٍ تعليلٌ للأمر بالترك فإن علمَهم ذلك علةٌ لترك النهي والنصيحةِ لهم وفيه إلزامٌ للحجة ومبالغةٌ في الإنذار إذ لا يتحقق الأمر بالضد إلا بعد تكررِ الإنذارِ وتقرّرِ الجحود والإنكار وكذلك ما ترتب عليه من الأكل والتمتع والإلهاء
(وَمَآ أَهْلَكْنَا) شروعٌ في بيان سرِّ تأخير عذابَهم إلى يومِ القيامةِ وعدمِ نظمِهم في سلك الأمم الدارجة في تعجيل العذاب أي ما أَهْلَكْنَا (مِن قَرْيَةٍ) من القرى بالخَسف بها وبأهلها كما فُعل ببعضها أو بإخلائها عن أهلها غِبَّ إهلاكِهم كما فُعل بآخرين (إِلَاّ وَلَهَا) في ذلك الشأن (كتاب) أي أجل مقدر مكتوبٌ في اللوح واجبُ المراعاة بحيث لا يمكن تبديلُه لوقوعه حسب الحكمةِ المقتضيةِ له (مَّعْلُومٌ) لا يُنسى ولا يُغفل عنه حتى يُتصورَ التخلفُ عنه بالتقدم والتأخر فكتابٌ مبتدأٌ خبرُه الظرفُ والجملةُ حالٌ من قرية فإنها لعمومها لا سيما بعد تأكّدِه بكلمة مِنْ في حكم الموصوفة كما أشير إليه والمعنى ما أهلكنا قريةً من القرى في حالٍ من الأحوالِ إلا حالَ أن يكون لها كتابٌ أي أجلٌ موقتٌ لمهلِكها قد كتبناه لا نُهلكها قبل بلوغِه معلومٌ لا يُغفل عنه حتى يمكنَ مخالفتُه بالتقدم والتأخر أو مرتفعٌ بالظرف والجملةُ كما هي حال أي ما أهلكنا قريةً من القرى في حالٍ من الأحوالِ إلا وقد كان لها في حق هلاكِها كتابٌ أي أجل مقدر مكتوب في اللوح معلومٌ لا يُغفل عنه أو صفة لكن لا للقرية المذكورة بل للمقدرة التي هي بدلٌ من المذكورة على الختار فيكون بمنزلة كونِه صفةً للمذكورة أي ما أهلكنا قريةً من القرى إلا قريةً لها كتابٌ معلوم كما في قوله تعالى لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَاّ مِن ضَرِيعٍ لَاّ يُسْمِنُ فإن قوله تعالى لَاّ يُسْمِنُ صفةٌ لكن لا للطعام المذكورِ لأنه إنما يدلّ على انحصار طعامِهم الذي لا يُسمن في الضريع وليس المرادُ ذلك بل للطعام المقدر بعد إلا أي ليس لهم طعامٌ مِن شيءٌ من الأشياءِ إلا طعامٌ لا يُسمن فليس فيه فصلٌ بين الموصوف والصفة بكلمة إلا كما تُوُهم وأما توسيط الواو بينهما
الحجر 5 6 وإن كان القياسُ عدمَه فللإيذان بكمال الالتصاقِ بينهما من حيث إن الواوَ شأنُها الجمعُ والربطُ فإن ما نحن فيه من الصفة أقوى لُصوقاً بالموصوف منها به في قوله تعالى وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلَاّ لَهَا مُنذِرُونَ فإن امتناع انفكاك الإهلاك عن الأجل المقدرِ عقليٌّ وعن الإنذار عاديٌّ جرى عليه السنةُ الإلهية ولما بيّن أن الأممَ المهلَكة كان لكل منهم وقتٌ معين لهلاكهم لم يكن إلا حسبما كان مكتوباً في اللوح بيّن أن كُلّ أمَّةٍ منَ الأممِ منهم ومن غيرهم لها كتابٌ لا يمكن التقدمُ عليه ولا التأخر عنه فقيل
(مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ) من الأمم المهلَكة وغيرِهم (أَجَلُهَا) المكتوبَ في كتابها أي لا يجيء هلاكُها قبل مجيء كتابها أولا تمضي أمة قيل مُضيِّ أجلها فإن السبْقَ إذا كان واقعاً على زمانيّ فمعناه المجاوزةُ والتخليف فإذا قلت سبق زيدٌ عمْراً فمعناه أنه جاوزه وخلّفه وراءه وإذا كان واقعاً على زمان كان الأمرُ بالعكس والسرُّ في ذلك أن الزمانَ يعتبر فيه الحركةُ والتوجّه إلى المتكلم فما سبَقه يتحقق قبل تحققِه وأما الزمانيُّ فإنما يعتبر فيه الحركةُ والتوجّه إلى ما سيأتي من الزمان فالسابقُ ما تقدم إلى المقصِد وإيرادُه بعنوان الأجل باعتبار ما يقتضيه من السبق كما أن إيرادَه بعنوان الكتابِ المعلوم باعتبار ما يوجبه من الإهلاك (وما يستأخرون) أي وما يتأخرون وصيغةُ الاستفعال للإشعار بعجزهم عن ذلك مع طلبهم له وإيثارُ صيغةِ المضارعِ في الفعلين بعد ما ذُكر نفيُ الإهلاكِ بصيغة الماضي لأن المقصودَ بيانُ دوامِهما واستمرارِهما فيما بين الأممِ الماضيةِ والباقية وإسنادُهما إلى الأمة بعد إسنادِ الإهلاكِ إلى القرية لما أن السبقَ والاستئخارَ حالُ الأمةِ دون القرية مع ما في الأمة من العموم لأهل تلك القرى وغيرِهم ممن أُخِّرت عقوباتُهم إلى الآخرة وتأخيرُ ذكر عدمِ تأخرهم عن ذكر عدمِ سبقِهم مع كون المقام مقامُ المبالغةِ في بيان تحققِ عذابِهم إما باعتبار تقدّمِ السبقِ في الوجود وإما باعتبار أن المرادَ بيانُ سرِّ تأخيرِ عذابِهم مع استحقاقهم لذلك وإيرادُ الفعل على صيغة جمع المذكرِ للحمل على المعنى مع التغليب ولرعاية الفواصلِ ولذلك حُذف الجار والمجرور والجملةُ مبينة لما سبق والمعنى أن تأخير عذابَهم إلى يومِ القيامةِ حسبما أشير إليه ببيان وَدادتِهم للإسلام إذ ذاك وبالأمر بتركهم وشأنَهم إلى أن يعلموا حقيقةَ الحال إنما هو لتأخّر أجلِهم المقدرِ لما يقتضيه من الحِكَم البالغةِ ومن جملتها ما علمَ الله تعالى من إيمان بعضِ من يخرُجُ منهم إلى يوم القيامة
(وَقَالُواْ) شروعٌ في بيان كفرِهم بمن أنزل عليه الكتابُ بعد بيانِ كفرهم بالكتاب وما يئول إليه حالُهم والقائلون مشركو مكةَ لغاية تماديهم في العتو والغي (يأبها الذى نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر) خاطبوا به رسولَ الله صلى الله عليه وسلم لا تسليماً لذلك واعتقاداً له بل استهزاءً به عليه الصلاة والسلام وإشعاراً بعلَّة حكمِهم الباطلِ في قولهم (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) كدأب فرعونَ إذ قال إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إليكم لمجنون يعنون يامن يدّعي مثل هذا الأمر البديعِ الخارقِ للعادات إنك بسبب تلك الدعوى أو بشهادة ما يعتريك عند ما تدّعي أنه ينزل عليك لمجنون
الحجر 7 8 وتقديم الجار والمجرور على القائم مَقامَ الفاعل لأن إنكارهم متوجِّهٌ إلى كون النازل ذِكْراً من الله تعالى لا إلى كون المنزَّلِ عليه رسولَ الله بعد تسليم كون النازلِ منه تعالى كما في قوله تعالى لولا نزيل هذا القرآنُ على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ فإن الإنكارَ هناك متوجهٌ إلى كون المنزَّلِ عليه رسولَ الله تعالى وإيرادُ الفعل على صيغة المجهولِ لإيهام أن ذلك ليس بفعل له فاعلٌ أو لتوجيه الإنكارِ إلى كون التنزيلِ عليه لا إلى استناده إلى الفاعل
(لو تَأْتِينَا) كلمة لو عند تركّبها مع ما تفيد ماتفيده عند تركبها مع لامن معنى امتناعُ الشيءِ لوجود غيرِه ومعنى التحضيض خلا أنه عند إزادته لا يليها إلا فعلٌ ظاهرٌ أو مضمرٌ وعند إرادةِ المعنى الأول لا يليها إلا اسمٌ ظاهرٌ أو مقدر عند البصريين والمرادُ ههنا هو الثَّاني أي هلا تأتينا (بالملائكة) يشهدون بصحة نبوتِك ويعضدونك في الإنذار كقوله تعالى لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً أو يعاقبوننا على التكذيب كما تأتي الأممُ المكذّبة لرسلهم (إِن كُنتَ مِنَ الصادقين) في دعواك فإن قدرةَ الله تعالى على ذلك مما لا ريبَ فيه وكذا احتياجُك إليه في تمشية أمرِك فإنا لا نصدقك بدون ذلك أو إن كنت من جملة تلك الرسلِ الصادقين الذين عُذّبت أممهم المكذبة لهم
(مَا نُنَزّلُ الملائكة) بالنون على بناء الفعل لضمير الجلالة من التنزيل وقرىء من الإنزال وقرىء تُنَزّل مضارعاً من التنزيل على صيغة البناء للمفعول ومن التنزيل بحذف إحدى التاءين وما ضيا منه ومن التنزيل ومن الثلاثي وهو كلامٌ مسوق إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم جواباً لهم عن مقالتهم المَحْكية ورداً لاقتراحهم الباطلِ ولشدة استدعاءِ ذلك للجواب قُدّم ردُّه على ما هو جوابٌ عن أولها أعني قوله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر الآية كما فُعل في قوله تعالى قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله فإنه مع كونه جوابا عن قولهم فائتنا بم اتعدنا قُدّم على قوله وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِى الآية مع كونه جواباً عن أول كلامِهم الذي هو قولُهم يا نُوحٌ قَدْ جَادَلْتَنَا لِما ذُكر من شدة اقتضائِه للجواب وليكونَ أحدُ الجوابين متصلاً بالسؤال وفي العكس يلزَم انفصالُ كلَ من الجوابين عن سؤاله والعدولُ عن تطبيقه لظاهر كلامِهم بصدد الاقتراحِ وهو أن يقال ما تأتيهم بهم للإيذان بأنهم قد أخطئوا في التعبير حسبما أخطئوا في الاقتراح وأن الملائكةَ لعلوّ رتبتهم أعلى من أن يُنسَبَ إليهم مطلقُ الإتيان الشاملِ للانتقال من أحد الأمكنة المتساوية إلى الآخر منها بل من الأسفل إلى الأعلى وأن يكون مقصِدُ حركاتهم أولئك الكفرةَ وأن يدخلوا تحت ملكوتِ أحدٍ من البشر وإنما الذي يليق بشأنهم النزولُ من مقامهم العالي وكونُ ذلك بطريق التنزيل من جناب الرب الجليل (إِلَاّ بالحق) أي ملتبساً بالوجه الذي يحِق ملابسةُ التنزيل به مما تقتضيه الحكمةُ وتجري به السنةُ الإلهية كقوله سبحانه وَمَا خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَاّ بالحق والذي اقترحوه من التنزيل لأجل الشهادة لديهم وهم هُمْ ومنزلتُهم في الحقارة والهوانِ منزلتُهم مما لا يكادُ يدخُل تحتَ الصحة الحكمة أصلاً فإن ذلك من باب التنزيلِ بالوحي الذي لا يكاد يُفتح على غير الأنبياء الكرام من
الحجر 9 أفراد كُمَّلِ المؤمنين فكيف على أمثال أولئك الكفرة اللئامِ وإنما الذي يدخُل في حقهم تحت الحكمةِ في الجملة هو التنزيلُ للتعذيب والاستئصالِ كما فُعل بأضرابهم من الأمم السالفة ولو فعل ذلك لاستؤصلوا بالمرة (وَمَا كَانُواْ إِذًا منتظرين) جزاءُ الشرط مقدّرٌ وفيه إيذانٌ بإنتاج مقدِّماتهم لنقيض مطلوبِهم كما في قوله تعالى وَأَذّن لَاّ يَلْبَثُونَ خلافك إِلَاّ قَلِيلاً قال صاحب النظم لفظةُ إذن مركبةٌ من إذ وهو اسمٌ بمعنى الحين تقول أتيتُك إذ جئتني أي حين جئتني ثم ضُمّ إليه أنْ فصار إذْ أن ثم استثقلوا الهمزةَ فحذفوها فمجيءُ لفظة أن دليلٌ على إضمار فعلٍ بعدها والتقدير وما كانوا إذ أَنْ كان ما طلبوه منظَرين والمعنى لو نزّلناهم ما كانوا مؤخَّرين كدأب سائرِ الأممِ المكذبة المستهزِئة ومع استحقاقهم لذلك قد جرى قلمُ القضاء بتأخير عذابِهم إلى يومِ القيامةِ حسبما أُجمل في قولِه تعالَى ذرهم يأكلوا وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمل الخ وحال حائلُ الحكمةِ بينهم وبين استئصالِهم لتعلق العلمِ والإرادة بازديادهم عذابا وبإيمان بعضِ ذراريهم وأما نظمُ إيمانِ بعضهم في سِمْط الحكمةِ فيأباه مقامُ بيانِ تماديهم في الكفر والفساد ولَجاجِهم في المكابرة والعِناد هَذَا هُو الذي يستدعيه إعجازُ التنزيلِ الجليل وأما ماقيل في تعليل عدمِ موافقةِ التنزيل للحكمة من أنهم حينئذ يكونون مصدّقين عن اضطرار أو أنه لا حكمةَ في أن تأتيَكم بصور تشاهدونها فإنه لا يزيدكم إلا لَبساً أو أن إنزالَ الملائكة لا يكونُ إلا بالحق وحصولِ الفائدةِ بإنزالهم وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفارِ أنه لو أَنزل إليهم الملائكةَ لبقُوا مُصرّين على كفرهم فيصير إنزالُهم عبثاً باطلاً ولا يكون حقًّا فمع إخلال كل من ذلك بقطيعة الباقي لا يلزَم من فرض وقوعِ شيءٍ من ذلك تعجيلُ العذاب الذي يفيده قوله تعالى وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ هذا على تقديرِ كونِ اقتراحِهم لإتيان الملائكة لأجل الشهادة إما على تقدير كون ذلك لتعذيبهم فالمعنى إنا ما نُنزل الملائكةَ للتعذيب غلا تنزيلاً مُلتبساً بالحقِّ الذي تقتضيهِ الحكمة وتستدعيه المصلحة حتماً بحيث لا محيد عنه ولو نزلناهم حسبما اقترحوا ما كان ذلك التنزيلُ ملتبساً بمقتضى الحِكمة الموجبةِ لتأخير عذابِهم إلى يومِ القيامةِ لا رفقاً بهم بل تشديداً عليهم كما مر من قبل وحيث كان في نسبة تنزيلِهم للتعذيب إلى عدم موافقتِه الحكمةَ نوعُ إيهامٍ لعدم استحقاقِهم التعذيب عُدِل عما يقتضيه الظاهرُ إلى مَا عليهِ النظمُ الكريمُ فكأنه قيل لو نزلناهم ما كانوا منظَرين وذلك غير موافق للحكمة الموجبة لتأخير عذابِهم لتشديد عقابِهم وقيل المرادُ بالحق الوحيُ وقيل العذاب فتدبر
(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر) ردٌّ لإنكارهم التنزيلَ واستهزائِهم برسولِ الله صلى الله عليه وسلم بذلك وتسليةٌ له أي نحن بعِظَم شأنِنا وعلوِّ جنابنا نزلنا ذلك الذكرَ الذي أنكروه وأنكروا نزولَه عليك ونسبوك بذلك إلى الجنون وعَمَّوا مُنزِّله حيث بنوَا الفعلَ للمفعول إيماءً إلى أنه أمرٌ لا مصدرَ له وفعلٌ لا فاعلَ له (وَإِنَّا لَهُ لحافظون) من كل مالا يليق به فيدخل فيه تكذيبُهم له واستهزاؤُهم به دخولاً أولياً فيكون وعيداً للمستهزئين وأما الحفظُ عن مجرد التحريفِ والزيادة والنقصِ وأمثالِها فليس بمقتضى المقام فالوجهُ الحملُ على الحفظ من جميع ما يقدح فيه من الطعن فيه والمجادلةِ في حقّيته ويجوزُ أن يراد حفظُه بالإعجاز دليلاً على التنزيل من عنده تعالى إذ لو كان من عند
الحجر 10 12 غير الله لتطرّق عليه الزيادةُ والنقصُ والاختلاف وفي سبك الجملتين من الدلالةِ عَلى كمالِ الكبرياءِ والجلالة وعلى فخامة شأنِ التنزيل مالا يخفى وفي إيراد الثانيةِ بالجملةِ الاسميةِ دلالةً على دوام الحفظِ والله سبحانه أعلم وقبل الضمير المجرور للرسول صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس وتأخيرُ هذا الكلام وإن كان جواباً عن أول كلامِهم الباطلِ ردا له لما ذكر آنفاً ولارتباطه بما يعقُبه منْ قولِه تعالى
(وَلَقَدْ أَرْسَلنَا) أي رسلاً وإنما لم يُذكر لدلالةِ ما بعدَهُ عليه (مِن قَبْلِكَ) متعلقٌ بأرسلنا أو بمحذوف هو نعتٌ للمفعول المحذوفِ أي رسلاً كائنةً من قبلك (فِى شِيَعِ الأولين) أي فِرَقِهم وأحزابهم جمع شيعة وهي الفِرقةُ المتّفقة على طريقة ومذهب من شاعه إذا تبِعه وإضافتُه إلى الأولين من إضافةِ الموصوفِ إلى صفتِه عند الفرّاء ومن حذف الموصوف عند البصريين أي شيعِ الأممِ الأولين ومعنى إرسالِهم فيهم جعلُ كل منهم رسولاً فيما بين طائفةٍ منهم ليتابعوه في كلِّ ما يأتي ويذرُ من أمور الدينِ
(وَمَا يَأْتِيهِم مّن رَّسُولٍ) المرادُ نفيُ إتيانِ كل رسول لشعته الخاصة به لا نفيُ إتيان كل رسول لكل واحدة من تلك الشيعِ جميعاً أو على سبيل البدل وصيغة الإستقبال لاستحضاره الصورةِ على طريقة حكايةِ الحال الماضية فإن مالا تدخل في الأغلب على مضارع إلا وهو في معنى الحال ولا على ماض إلا وهو قريب من الحال أي ما أتى شيعةً من تلك الشيعِ رسولٌ خاصٌّ بها (إِلَاّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءونَ) كما يفعله هؤلاء الكفرةُ والجملة في محل النصب على أنها حالٌ مقدرةٌ من ضميرِ المفعولِ في يأتيهم إذا كان المرادُ بالإتيان حدوثَه أو في محلِ الرفعِ على أنها صفة رسول فإن محلَّه الرفعُ على الفاعلية أي إلا رسولٌ كانوا به يستهزءون وأما الجرُّ على أنها صفةٌ باعتبار لفظِه فيُفضي إلى زيادة من الاستغراقيةِ في الإثبات ويجوزُ أنْ يكونَ منصُوباً على الوصفية بأن يقدَّر الموصوفُ منصوباً على الاستثناء وإن كان المختارُ الرفعَ على البدلية وهذا كما ترى تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن هذه عادةُ الجهال مع الأنبياء عليهم السلام وحيث كان الرسولُ مصحوباً بكتاب مّنْ عِندِ الله تعالى تضمّن ذكرُ استهزائِهم بالرسول استهزاءَهم بالكتاب ولذلك قيل
(كذلك) إشارةٌ إلى ما دل عليه الكلام السابقُ من إلقاء الوحي مقروناً بالاستهزاء أي مثلَ ذلك السَّلْكِ الذي سلكناه في قلوب أولئك المستهزئين برسلهم وبما جاءوا به من الكتب (نسكله) أي الذكرَ (فِى قُلُوبِ المجرمين) أي أهل مكةَ أو جنسُ المجرمين فيدخلون فيه دخولاً أولياً ومحلُّه النَّصبُ على أنَّه نعتٌ لمصدر محذوف أو حالٌ منه أي نسلكه سَلْكاً مثل ذلك السلك أو نسلك السَّلكَ حال كونِه مثلَه أي مقروناً بالاستهزاء غيرَ مقبول لما تقضيه الحكمةُ فإنهم من أهل الخِذلان ليس لهم استحقاقٌ لقبول الحقِّ وصيغةُ المضارع لكون المشبه به مقدرا في الوجود وهو السِّلك الواقعُ في الأمم السالفة أو للدِلالة على استحضار الصورةِ والسَّلْكُ إدخالُ الشيء في آخرَ يقال سَلكتُ الخيط في الإبرة
الحجر 13 17 والرمحَ في المطعون
(لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ) أي بالذكر حالٌ من ضمير نسلكه أي غيرَ مؤمَنٍ به أو بيانٌ للجملة السابقة فلا محل لها وقد جُعل الضميرُ للاستهزاء فيتعين البيانيةُ إلا أنْ يُجعل الضميرُ المجرورُ أيضاً له على أن الباء للملابسة أي نسلك الاستهزاءَ في قلوبهم حالَ كونِهم غيرَ مؤمنينَ بملابسته والحالُ إما مقدّرةٌ أو مقارنة للإيذان بأن كفرَهم مقارِنٌ للإلقاء كما في قوله تعالى فلما جاءهم ما عَرَفوا كَفَرُواْ بِهِ (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين) أي قد مضت طريقتهم التي سنها الله تعالى في إهلاكهم حين فعلُوا ما فعلُوا من التكذيب والاستهزاءِ وهو استئناف جىء له تكملةً للتسلية وتصريحاً بالوعيد والتهديد
(وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم) أي على هؤلاء المقترِحين المعاندين (بَاباً مِنَ السماء) أي باباً ما لا باباً أبوابها المعهودة كما قيل ويسرنا لهم الرُّقيَّ والصعودَ إليه (فَظَلُّواْ فِيهِ) في ذلك الباب (يَعْرُجُونَ) بآلة أو بغيرها ويرون ما فيها من العجائب عِياناً كما يفيده الظلول أو فظل الملائكةُ الذين اقترحوا إتيانَهم يعرُجون في ذلك الباب وهم يرَونه عياناً مستوضحين طولَ نهارهم
(لَقَالُواْ) لفرط عنادِهم وغلوِّهم في المكابرة وتفاديهم عن قَبول الحق (إِنَّمَا سُكّرَتْ أبصارنا) أي سُدّت من الإحساس من السُكر كما يدل عليه القراءةُ بالتخفيف أو حُيِّرت كما يعضُده قراءة من قرأ سكرت أي حارت (بَلْ نَحْنُ قوم مسحورون) قد سخرنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم كما قالوه عند ظهورِ سائرِ الآياتِ الباهرة وفي كلمتي الحصر والإضراب دلالةٌ على أنهم يبتون القولَ بذلك وأن ما يرَونه لا حقيقةَ له وإنما هو أمر خُيِّل إليهم بالسحر وفي اسميةِ الجملة الثانيةِ دَلالةٌ على دوام مضمونِها وإيرادُها بعد تسكير الأبصارِ لبيان إنكارِهم لغير ما يرونه فإن عروجَ كل منهم إلى السماء وإن كان مرئياً لغيره فهو معلوم بطريق الوجدانِ مع قطع النظرِ عن الأبصار فهم يدعون أن ذلك نوعٌ آخرُ من السحر غيرُ تسكير الأبصار
(وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِى السماء بُرُوجًا) قصوراً ينزلها السيارات وهي البروجُ الاثنا عشر المشهورةُ المختلفةُ الهيئاتِ والخواصِّ حسبما يدل عليه الرصْدُ والتجرِبة مع ما اتفق عليه الجمهور من بساطة السماء والجعلُ إن جُعل بمعنى الخلق والإبداعِ وهو الظاهرُ فالجار متعلقٌ به وإن جعل بمعنى التصيير فهو مفعولٌ ثانٍ له متعلقٌ بمحذوف أي جعلنا بروجاً كائنة في السماء (وزيناها) أي السماء بتلك البروجِ المختلفةِ الأشكال والكواكب سياراتٍ كانت أو ثوابتَ (للناظرين) إليها فمعنى التزيينِ ظاهرٌ أو للمتفكرين المعتبرين المستدلين بذلك على قدرة مقدّرها وحكمةِ مدبرّها فتزيينُها ترتيبها على نظام بديع مستتبعٍ للآثار الحسنة
(وحفظناها من كل
الحجر 18 20 شيطان رَّجِيمٍ) مَرْميَ بالنجوم فلا يقدر أن يصعَدَ إليها ويوسوسَ في أهلها ويتصرّفَ فيها ويقفَ على أحوالها
(إِلَاّ مَنِ استرق السمع) محلُّه النصبُ على الاستثناء المتصل إنْ فسّر الحِفظُ بمنع الشياطين عن التعرّضِ لها على الإطلاق والوقوفِ على ما فيها في الجملة أو المنقطعِ إن فُسر ذلك بالمنع عن دخولها والتصرف فيها عن ابن عباس رضي الله عنهما أنهم كانوا لا يحجبون عن السموات فلما وُلد عيسى عليه السلام مُنعوا من ثلاث سموات ولما ولد النبيِّ صلى الله عليه وسلم مُنِعوا من السموات كلِّها واستراقُ السمعِ اختلاسُه سرًّا شُبّه به خَطفتُهم اليسيرةُ من قُطّان السمواتِ بما بينهم من المناسبة في الجوهر أو بالاستدلال من الأوضاع (فَأَتْبَعَهُ) أي تبعه ولحقه (شهاب) لهب محرق وهو شعلةُ نارٍ ساطعةٌ وقد يطلق على الكواكب والسِّنان لما فيهما من البريق (مُّبِينٌ) ظاهرٌ أمرُه للمبصرين قال معمر قلت لابن شهاب الزهري أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية قال نعم وإن النجم ينقضّ ويرمى به الشيطانُ فيقتلُه أو يخبِلُه لئلا يعود إلى استراق السمع ثم يعود إلى مكانه قال أفرأيت قوله تعالى وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مقاعد الآية قال غُلّظت وشُدّد أمرُها حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ابن قتيبة إن الرجمَ كان قبل مبعثِه صلى الله عليه وسلم ولكن لم يكن في شدة الحِراسة كما بعدَ مبعثه صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس رضي الله عنهما إن الشياطينَ يركَبُ بعضُهم بعضاً إلى السماء الدنيا يسترقون السمعَ من الملائكة فيُرمَون بالكواكب فلا يخطِىء أبداً فمنهم من يقتله ومنهم من يُحرق وجهُه وجنبُه ويدُه حيث يشاء الله تعالى ومنهم من يخبِلُه فيصير غُولاً فيُضل الناس في البوادي قال القرطبي اختلفوا في أن الشهاب هل يقتُل أم لا قال ابن عباس رضي الله عنهما يجرَح ويحرِق ويخبِلُ ولا يقتُل وقال الحسن وطائفةٌ يقتل قال والأول أصح
(والأرض مددناها) بسطناها وهو بالنصب على الحذف على شريطة التفسير ولم يُقرأ بالرفع لرجحان النصب للعطف على الجملة الفعلية أعني قوله تعالى وَلَقَدْ جَعَلْنَا الخ وليوافِقَ ما بعده أعني قوله تعالى (وَأَلْقَيْنَا فيها رَوَاسِىَ) أي جبالاً ثوابتَ وقد مر بيانُه في أول الرعد (وَأَنبَتْنَا فِيهَا) أي في الأرض أو فيها وفي رواسيها (مِن كُلّ شَىْء مَّوْزُونٍ) بميزان الحِكمة ذاتاً وصفةً ومقداراً وقيل ما يوزن من الذهب والفضة وغيرِهما أو من كل شيءٍ مستحسَنٍ مناسب أو ما يوزن ويُقدَّر من أبواب النعمة
(وجعلنا لكم فيها معايش) ما تعيشون به من المطاعم والملابسِ وغيرِهما مما يتعلق به البقاءُ وهي بياء صريحة وقرىء بالهمزة تشبيهاً له بالشمائل (وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين) عطف على معايش أو على محل لكم كأنه قيل جعلنا لكم معايشَ وجعلنا لكم مَنْ لستم برازقيه من العِيال والمماليك والخدَم والدوابِّ وما أشبهها على طريقة التغليب وذِكرُهم بهذا العنوان لرد حسبانُهم أنهم يَكْفون مؤناتِهم ولتحقيق أن الله تعالى هو الذي يرزقهم وإياهم أو وجعلنا لكم فيها معايشَ ولمن لستم له برازقين