المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الكهف - تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم - جـ ٥

[أبو السعود]

الفصل: الكهف

الكهف

ص: 209

‌13

- {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ} شروعٌ في تفصيل ما أجمل فيما سلف من قوله تعالى إِذْ أَوَى الفتية الخ أي نحن نخبرك بتفاصيل أخبارِهم وقد مر بيانُ اشتقاقِه في مطلع سورة يوسف عليه السلام {نبَأَهُم} النبأُ الخبرُ الذي له شأنٌ وخطرٌ {بالحق} إما صفةٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو حالٌ من ضميرِ نقصّ أو من نبأَهم أو صفةٌ له على رأي من يرى حذفَ الموصول مع بعض صلته أي نقصّ قَصصاً ملتبساً بالحق أو نقصّه ملتبسين به أو نقص نبأهم ملتبساً به أو نبأهم الملتبس به أو نبأهم حسبما ذكره محمدُ بن إسحاقَ بنِ يسارَ أنه قد مرَج أهلُ الإنجيل وعظُمت فيهم الخطايا وطغت ملوكُهم فعبدوا الأصنامَ وذبحوا للطواغيت وكان ممن بالغ في ذلك وعتا عتوًّا كبيراً دقيانوس فإنه غلا فيه غلوًّا شديداً فجاس خلالَ الديار والبلاد بالعيث والفسادِ وقتل مَنْ خالفه من المتمسكين بدين المسيحِ عليه السلام وكان يتبع الناسَ فيخيّرهم بين القتل وعبادةِ الأوثانِ فمن رغِب في الحياة الدنيا الدنية يصنع ما يصنع ومن آثر عليها الحياةَ الأبديةَ قتله وقطع آرابه وعلقها في سور المدينةِ وأبوابِها فلما رأى الفتيةُ ذلك وكانوا عظماءَ أهلِ مدينتهم وقيل كانوا من خواصّ الملك قاموا فتضرعوا إلى الله عز وجل واشتغلوا بالصلاة والدعاء فبينما هم كذلك إذ دخل عليهم أعوانُ الجبار فأحضروهم بين يديه فقال لهم ما قال وخيّرهم بين القتل وبين عبادةِ الأوثان فقالوا إن لنا إلها ملأ السمواتِ والأرضَ عظمتُه وجبورته لن ندعوَ من دونه أحدا ولن نقر لما تدعونا إليه إبداً فاقضِ مَا أَنتَ قاضٍ فأمر بنزع ما عليهم من الثياب الفاخر وأخرجهم من عنده وخرج هو إلى مدينة نينوى لبعض شأنِه وأمهلهم إلى رجوعه ليتأملوا في أمرهم فإن تبِعوه وإلا فُعل بهم ما فُعل بسائر المسلمين فأزمعت الفتيةُ على الفرار بالدين والالتجاء إلى الكهف الحصين فأخذ كل منهم من بيت أبيه شيئاً فتصدّقوا ببعضه وتزوّدوا بالباقي فأوَوا إلى الكهف فجعلوا يصلّون فيه آناءَ الليل وأطرافَ النهار ويبتهلون إلى الله سبحانه بالأنين والجُؤار وفوّضوا أمرَ نفقتِهم إلى يمليخا فكان إذا أصبح يضع عنه ثيابَه الحِسانَ ويلبس لباس المساكين ويدخُل المدينة ويشتري ما يُهمّهم ويتحسس ما فيها من الأخبار ويعود إلى أصحابه فلبِثوا على ذلك إلى أنْ قدم الجبارُ إلى المدينةَ فطلبهم وأحضر آباءَهم فاعتذروا بأنهم عصوهم ونهبوا أموالَهم وبذروها في الأسواق وفرّوا إلى الجبل فلما رأى يمليخا ما رأى من الشر رجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه قليلٌ من الزاد فأخبرهم بما شهده من الهول ففزعوا إلى الله عز وجل وخرّوا له سُجّداً ثم رفعوا رءوسهم وجلسوا يتحدثون في أمرهم فينماهم كذلك إذ ضرب الله تعالى على آذانهم فناموا ونفقتهم عند رءوسهم فخرج دقيانوس في طلبهم بخيله ورَجِلِه فوجدوهم قد دخلوا الكهفَ فأمر بإخراجهم فلم يُطِق أحدٌ أن يدخله فلما ضاق بهم ذرعاً قال قائل منهم أليس لو كنتَ قدَرتَ عليهم قتلتَهم قال بلى قال فابْنِ عليهم باب الكهف ودعهم يموتوا جوعاً وعطشاً وليكن كهفُهم قبراً لهم ففعل ثم كان من شأنهم ما قص الله عز وجل عنهم {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} استئنافٌ تحقيقيٌّ مبني على تقدير السؤالِ من قبل المخاطَب والفتيةُ جمعُ قلة للفتى كالصبية للصبي {آمنوا بربهم} أوثر

ص: 209

الكهف 14 15 الالتفاتُ للإشعار بعلّية وصفِ الربوبية لإيمانهم ولمراعاة ما صدرَ عنهُم من المقالة حسبما سيُحكى عنهم {وزدناهم هُدًى} بأن ثبتناهم على ما كانُوا عليهِ من الدين وأظهرنا لهم مكنوناتِ محاسنِه وفيه التفاتٌ من الغيبة إلى ما عليه سبكُ النظمِ سباقاً وسياقاً من التكلم

ص: 210

{وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ} أي قويناها حتى اقتحموا مضايقَ الصبر على هجر الأهلِ والأوطان والنعيم والإخوان واجترؤا على الصدْع بالحق من غير خوف وحذار والرد على دقيانوسَ الجبار {إِذْ قَامُواْ} منصوبٌ بربطنا والمرادُ بقيامهم انتصابُهم لإظهار شعارِ الدين قال مجاهد خرجوا من المدينة فاجتمعوا على غير ميعادٍ فقال أكبرُهم إني لأجد في نفسي شيئاً أن ربي ربُّ السمواتِ والأرض فقالوا نحن أيضاً كذلك فقاموا جميعاً {فقالوا ربنا رب السماوات والأرض} ضمّنوا دعواهم ما يحقق فحواها ويقضي بمقتضاها فإن ربوبيته عز وجل لهما تقتضي ربوبيتَه لما فيهما أيَّ اقتضاءٍ وقيل المراد قيامُهم بين يدي الجبارِ من غير مبالاةٍ به حين عاتبهم على ترك عبادةِ الأصنام فحينئذ يكون ما سيأتِي من قولِه تعالى هَؤُلاء الخ منقطعاً عما قبله صادراً عنهم بعد خروجِهم من عنده {لَن نَّدْعُوَاْ} لن نعبدَ أبداً {مِن دُونِهِ إلها} معبوداً آخرَ لا استقلالاً ولا اشتراكاً والعدولُ عن أن يقال ربًّا للتنصيص على رد المخالفين حيث كانوا يسمون أصنامَهم آلهةً وللإشعار بأن مدارَ العبادة وصفُ الألوهية وللإيذان بأن ربوبيتَه تعالى بطريق الألوهيةِ لا بطريق المالكية المجازية {لَّقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} أي قولاً ذَا شططٍ أي تجاوزَ عن الحد أو قولاً هو عينُ الشطط على أنه وُصفَ بالمصدر مبالغةً ثم اقتُصر على الوصف مبالغةً على مبالغة وحيث كانت العبادةُ مستلزِمةً للقول لما أنها لا تَعرَى عن الاعتراف بألوهية المعبودِ والتضرّعِ إليه قيل لقد قلنا وإذاً جوابٌ وجزاءٌ أي لو دعَونا من دونه إلها والله لقد قلنا قولاً خارجاً عن حد العقولِ مُفْرِطاً في الظلم

ص: 210

{هَؤُلاء} هو مبتدأ وفي اسم الإشارةِ تحقيرٌ لهم {قَوْمُنَا} عطفُ بيانٍ له {اتخذوا من دونه آلهة} خبرُه وفيه معنى الإنكار {لولا يأتون} تحضيض فيه معنى الإنكارِ والتعجيزِ أي هلا يأتون {عَلَيْهِمْ} على ألوهيتهم أو على صحة اتخاذِهم لها آلهةً {بسلطان بَيّنٍ} بحجة ظاهرةِ الدلالةِ على مُدّعاهم وهو تبكيتٌ لهم وإلقامُ حجرٍ {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} بنسبة الشريكِ إليهِ تعالَى عن ذلكَ عُلواً كبيراً والمعنى أنه أظلمَ منْ كلِّ ظالمٍ وإن كان سبك النظمِ على إنكار الأظلميةِ من غير تعرّضٍ لإنكار المساواة كما مرَّ تحقيقُهُ في سورة هود

ص: 210