المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الإسراء - تفسير أبي السعود = إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم - جـ ٥

[أبو السعود]

الفصل: الإسراء

الإسراء

ص: 186

‌70

- 7 (ولقد كرمنا بني آدم) قاطبةً تكريماً شاملاً لبَرّهم وفاجرِهم أي كرمناهم بالصورة والقامة المعتدل والتسلط على ما في الأرض والتمتع به والتمكُّنِ من الصناعات وغير ذلك مما لا يكاد يُحيط به نِطاقُ العبارةِ ومن جملته ما ذكره ابن عباس رضي الله عنهما من أن كلَّ حيوانٍ يتناول طعامَه بفيه إلا الإنسانَ فإنه يرفعه إليه بيده وما قيل من شِرْكة القرد له في ذلك مبنيٌّ على عدم الفرقِ بين اليد والرجل فإنه متناولٌ له برجله التي يطأ بها القاذورات لا بيده (وحملناهم فِى البر والبحر) على الدوابّ والسفن من حملْتَه إذا جعلتَ له ما يركبه وليس من المخلوقات شيءٌ كذلك وقيل حملناهم فيها حيث لم نخسِفْ بهم الأرضَ ولم نُغرِقْهم بالماء وأنت خبيرٌ بأن الأول هو الأنسبُ بالتكريم إذ جميعُ الحيواناتِ كذلك (وَرَزَقْنَاهُمْ مّنَ الطيبات) أي فنون النعمِ وضُروب المستلذات مما يحصل بصنيعهم وبغير صنيعهم (وفضلناهم) في العلوم والإدراكاتِ بما ركّبنا فيهم من القُوى المدرِكةِ التي بها يتميز الحقُّ من الباطل والحسَنُ من القبيح (على كَثِيرٍ مّمَّنْ خَلَقْنَا) وهم من عدا الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام (تَفْضِيلاً) عظيماً فحق عليهم أن يشكروا هذه النعمَ ولا يكفروها ويستعملوا قُواهم في تحصيل العقائدِ الحقّةِ ويرفضوا ما هم عليه من الشرك الذي لا يقبله أحدٌ ممن له أدنى تميز فضلاً عمن فضل على من عدا الملأ الأعلى الذين هم العقولُ المحضةُ وإنما استُثنيَ جنسُ الملائكة من هذا التفضيلِ لأن علومَهم دائمةٌ عاريةٌ عن الخطأ والخلل وليس فيه دلالةٌ على أفضليتهم بالمعنى المتنازَعِ فيه فإن المراد هنا بيانُ التفضيل في أمر مشتركٍ بين جميع أفرادِ البشر صالحِها وطالحِها ولا يمكن أن يكون ذلك هو الفضلَ في عِظم الدرجةِ وزيادةِ القُربةِ عند الله سبحانه إن قيل أي حاجة إلى تعيين ما فيه التفضيلُ بعد بيانِ ما هو المرادُ بالمفضّلين فإن استثناءَ الملائكةِ عليهم الصلاة والسلام من تفضيل جميع أفرادِ البشرِ عليهم لا يستلزم استثناءَهم من تفضيل بعضِ أفرادِه عليهم قلنا لا بد من تعيينه البتةَ إذ ليس من الأفراد الفاجرةِ للبشر أحدٌ يفضُل على أحد من الخلوقات فيما هو المتنازَعُ فيه أصلاً بل هم أدنى من كل دنئ حسبما ينبئ عنه قوله تعالى أُوْلَئِكَ كالأنعامِ بلْ هُم أضلُّ وقولُه تعالى إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كفروا

ص: 186

(يوم ندعو) نُصب على المفعولية بإضمار اذكُر أو ظرفٌ لما دلَّ عليه قولُه تعالى ولا يظلمون وقرئ بالياء على البناء للفاعل وللمفعول ويدعو بقلب الألف واواً على لغة من يقول في افعى افعوا وقد جوّز كونُ الواو علامةَ الجمعِ كما في قوله تعالى وَأَسَرُّواْ النجوى أو ضميرَه وكلَّ بدلاً منه والنونُ محذوفةٌ لقلة المبالاة فإنها ليست إلا علامةَ الرفع وقد يكتفى بتقديره كما في يدعى (كُلَّ أُنَاسٍ) من بني آدم الذين

ص: 186

الإسراء 72 73 فعلنا بهم في الدنيا ما فعلنا من التكريم والتفضيلِ وهذا شروعٌ في بيان تفاوتِ أحوالِهم في الآخرة بحسب أحوالِهم وأعمالهم في الدنيا (بإمامهم) أي بمن ائتمّوا به من نبي أو مقدّم في الدين أو كتاب أو دين وقيل بكتاب أعمالِهم التي قدموها فيقال يا أصحابَ كتابِ الخيرِ يا أصحابَ كتابِ الشر أو يا أهلَ دينِ كذا يا أهلَ كتابِ كذا وقيل الإمامُ جمعُ آمَ كُخف وخِفاف والحكمةُ في دعوتهم بأمهاتهم بإجلال عيسى عليه السلام وتشريفُ الحسنين رضي الله عنهما والسترُ على أولاد الزنا (فَمَنْ أُوتِىَ) يومئذ من أولئك المدعوّين (كتابه) صحيفةَ أعماله (بيمينه) إباننة لخطر الكتابِ المؤتى وتشريفاً لصاحبه وتبشيراً له من أول الأمرِ بما في مطاويه (فَأُوْلَئِكَ) إشارةٌ إلى مَنْ باعتبار معناه إيذاناً بأنهم حزبٌ مجتمعون على شأن جليل أو إشعار بأن قراءتَهم لكتبهم تكون على وجه الاجتماعِ لا على وجه الانفرادِ كما في حال الإيتاءِ وما فيهِ منَ الدلالةِ عَلى البعد للإشعار برفعة درجاتِهم أي أولئك المختصون بتلك الكرامةِ التي يُشعِر بها الإيتاءُ المزبور (يَقْرَءونَ كتابهم) الذي أوتوه على الوجه المبين تبجّحاً بما سُطّر فيه من الحسنات المستتبِعةِ لفنون الكراماتِ (وَلَا يُظْلَمُونَ) أي لا يُنقصون من أجور أعمالِهم المرتسمةِ في كتبهم بل يؤتَوْنها مضاعَفةً (فَتِيلاً) أي قدْرَ فتيلٍ وهو القِشرةُ التي في شق النواة أو أدنى شيءٍ فإن الفتيلَ مثلٌ في القِلة والحقارةِ

ص: 187

(وَمَن كَانَ) من المدعوّين المذكورين (فِى هذه) الدنيا التي فُعل بهم فيها ما فعل من فنون التكريمِ والتفضيل (أعمى) فاقدَ البصيرة لا يهتدي إلى رُشده ولا يعرِف ما أوليناه من نعمة التكْرِمةِ والتفضيلِ فضلاً عن شكرها والقيامِ بحقوقها ولا يستعمل ما أودعناه فيه من العقول والقُوى فيما خُلِقْن له من العلوم والمعارِف الحَقّة (فَهُوَ فِى الأخرة) التي عُبّر عنها بيومَ ندعو (أعمى) كذلك أي لا يهتدي إلى ما ينجيّه ولا يظفَر بما يُجديه لأن العمَى الأولَ موجبٌ للثاني وقد جُوّز كونُ الثاني بمعنى التفضيل على أن عماه في الآخرة أشد من عماه في الدنيا ولذلك قرأ أبو عمرو الأولَ مما لا والثاني مفخماً (وَأَضَلُّ سَبِيلاً) أي من الأعمى لزوال الاستعدادِ المُمْكنِ وتعطلِ الآلاتِ بالكلية وهذا بعينه هو الذي أوتي كتابَه بشماله بدِلالة حال ما سبق من الفريق المقابل له ولعل العدولَ عن ذكره بذلك العنوانِ مع أنه الذي يستدعيه حسنُ المقابلة حسبما هو الواقعُ في سورة الحاقة وسورةِ الانشقاق للإيذان بالعلة الموجبةِ له كما في قوله تعالى وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضالين بعد قوله تعالى فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ أَصْحَابِ اليمين وللرمز إلى علة حالِ الفريقِ الأول وقد ذكر في أحد الجانبين المسبّبُ وفي الآخرة السببُ ودل بالمذكور في كل منهما على المتروك في الآخر تعويلاً على شهادة العقلِ كما في قوله عز وعلا وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَاّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ

ص: 187

(وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ) نزلت في ثقيفٍ إذ قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم لا ندخُل في أمرك حتى تعطيَنا خِصالاً نفتخر بها على العرب لا نُعشر ولا نُحشر ولا نجبي في صلاتنا كل رِباً لنا فهو لنا كل رباً علينا فهو موضوعٌ عنا وأن تُمتّعنا باللات سنة وأن تحرم

ص: 187

الإسراء 74 77 واديَنا وَجّ كما حرّمت مكة فإذا قالت العربُ لم فعلتَ فقل إن الله أمرني بذلك وقيل في قريش حيث قالوا اجعل لنا آيةَ عذابٍ آيةَ رحمةٍ وآيةَ رحمةٍ آيةَ عذابٍ أو قالوا لا نُمكّنك من استلام الحجرِ حتى تُلمّ بآلهتنا فإنْ مخففةٌ من المشددة وضميرُ الشأنِ الذي هو اسمها محذوفٌ واللامُ هي الفارقةُ بينها وبين النَّافيةِ أي إنَّ الشأنَ قاربوا أن يفتنوك أي يخدعوك فاتنين (عَنِ الذى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) من أوامرنا ونواهينا ووعْدِنا ووعيدِنا (لِتفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ) لتتقول علينا غيرَ الذي أوحينا إليك مما اقترحَتْه ثقيفٌ أو قريشٌ حسبما نقل (وإذن لا تخذوك خَلِيلاً) أي لو اتبعت أهواءَهم لكنتَ لهم وليًّا ولخرجتَ من ولايتي

ص: 188

(وَلَوْلَا أَن ثبتناك) على ما أنت عليه من الحق بعِصمتنا لك (لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً) من الركون الذي هو أدنى ميلٍ أي لولا تثبيتنا لك لقاربت أن تميلَ إليهم شيئاً يسيراً من الميل اليسيرِ لقوة خَدعِهم وشدة احتيالِهم لكن أدركتك العصمة فنمنعك من أن تقرَبَ من أدنى مراتبِ الركونِ إليهم فضلاً عن نفس الركونِ وهذا صريحٌ في أنه صلى الله عليه وسلم ما همّ بإجابتهم مع قوة الداعي إليها ودليلٌ على أن العصمةَ بتوفيق الله تعالى وعنايته

ص: 188

(إذن) لو قاربت أن تركنَ إليهم أدنى ركنة (لأذقناك ضِعْفَ الحياة وَضِعْفَ الممات) أي عذابَ الدنيا وعذابَ الآخرة ضعفَ ما يُعذَّب به في الدارين بمثل هذا الفعلِ غيرُك لأن خطأَ الخطيرِ خطيرٌ وكان أصلُ الكلامِ عذاباً ضِعفاً في الحياة وعذابا ضِعفاً في الممات بمعنى مضاعفاً ثم حُذف الموصوفُ وأُقيمت الصفةُ مُقامَه ثم أضيفت إضافةَ موصوفِها وقيل الضِعف من أسماء العذاب وقيل المرادُ بضِعف الحياة عذابُ الآخرة وبضِعف المماتِ عذابُ القبر (ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا) يدفع عنك العذابَ

ص: 188

(وَإِن كَادُواْ) الكلامُ فيه كما في الأول أي كاد أهلُ مكة (لَيَسْتَفِزُّونَكَ) أي ليُزعِجونك بعداوتهم ومكرِهم (مّنَ الأرض) أي الأرضِ التي أنت فيها وهي أرضُ مكة (لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وإذن لَاّ يَلْبَثُونَ) بالرفع عطفاً على خبر كاد وقرئ لا يلبثوا بالنصب بإعمال إذن على أن الجملةَ معطوفةٌ على جملة وإن كادوا ليستفزونك (خلافك) أي بعدك قال

خلت الديارُ خِلافَهم فكأنما

بسَطَ الشواطِبُ بينهن حصيرا

أي وله خرجتَ لا يبقَون بعد خروجك وقرئ خلفك (إِلَاّ قَلِيلاً) إلا زماناً قليلاً وقد كان كذلك فإنهم أُهلكوا ببدر بعد هجرته صلى الله عليه وسلم وقيلَ نزلتِ الآيةُ في اليهود حيث حسدوا مقامَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة فقالوا الشامُ مقامُ الأنبياءِ عليهم السلام فإن كنت نبياً فالحَقْ بها حتى نؤمِنَ بك فوقع ذلك في قلبه صلى الله عليه وسلم فخرج مرحلةً فنزلت فرجع ثم قُتل منهم بنو قريظة وأجلى بنوا النضير بقليل

ص: 188

(سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا) نُصب على

ص: 188

الإسراء 78 79 المصدرية أي سَنَّ الله تعالَى سُنةً وهي أن يُهلك كلَّ أمة أَخرجت سولهم من بين أظهرِهم فالسنةُ لله تعالى وإضافتُها إلى الرسل لأنها سُنّتْ لأجلهم على ما ينطِق به قولُه عز وجل (وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً) أي تغييرا

ص: 189

(أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس) لزوالها كما ينبئ عنه قوله صلى الله عليه وسلم أتاني جبريلُ عليه السلام والدلوك الشمس حين زالت فصلّى بي الظهرَ واشتقاقُه من الدّلْك لأن من نظر إليها حينئذ يدُلك عينه وقيل لغروبها من دلَكَت الشمس أي غربت وقيل أصلُ الدلوك الميلُ فينتظم كِلا المعنيين واللامُ للتأقيت مِثلُها في قولك لثلاثٍ خلون (إلى غسق الليل) إلى اجتماع ظلمتِه وهو وقتُ صلاةِ العِشاء وليس المرادُ إقامتَها فيما بين الوقتين على وجه الاستمرارِ بل إقامةَ كل صلاةٍ في وقتها الذي عُيِّن لها ببيان جبريلَ عليه السلام كَما أن أعدادَ ركعاتِ كل صلاةٍ موكولةٍ إلى بيانه صلى الله عليه وسلم ولعل الاكتفاء بيان المبدأ والمنتهى في أوقات الصلواتِ من غير فصل بينها لما أن الإنسانَ فيما بين هذه الأوقاتِ على اليقظة فبعضُها متصلٌ ببعض بخلاف أولِ وقتِ العشاءِ والفجرِ فإنه باشتغاله فيما بينهما بالنوم ينقطع أحدُهما عن الآخر ولذلك فُصل وقتُ الفجر عن سائر الأوقات وقيل المرادُ بالصلاة صلاةُ المغرب والتحديدُ المذكور بيانٌ لمبدئه ومنتهاه واستُدِل به على امتداد وقتِه إلى غروب الشفق وقوله تعالى (وقرآن الفجر) أي صلاةَ الفجر نُصب عطفاً على مفعول أقم أو على الإغراء قاله الزجّاج وإنما سُمِّيت قرآنا لأنه رُكنُها كما تُسمّى ركوعاً وسجوداً واستُدل به على الركنية ولكن لا دِلالةَ له على ذلك لجواز كون مدار الجوز كونَ القراءة مندوبةً فيها نعم لو فُسّر بالقراءة في صلاة الفجر لدل الأمر بإقامتها عن الوجوب فيها نصاً وفيما عداها دِلالةً ويجوز أن يكون وقرآنَ الفجر حثًّا على تطويل القراءةِ في صلاة الفجر (إن قرآن الفجر) أظهر في مقام الإضمارِ إبانةً لمزيد الاهتمامِ به (كَانَ مَشْهُودًا) يشهده ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار أو شواهدُ القدرة من تبدُّل الضياء بالظلمة والانتباهِ بالنوم الذي هُو أخوُ الموتِ أو يشهده كثيرٌ من المصلين أو من حقه أن يشهَده الجمُّ الغفيرُ فالآيةُ على تفسير الدُّلوك بالزوال جامعةٌ للصلوات الخمس وعلى تفسيره بالغروب لِما عدا الظهرَ والعصر

ص: 189

(ومن الليل) قيل هو نصبٌ على الإغراء أي الزمْ بعضَ الليل وقيل لا يكون المغرى به حرفاً ولا يجدي نفعاً كونُ معناها التبعيض فإن وامع ليست اسما بالاجتماع وإن كانت بمعنى الاسمِ الصريحِ بل هُو منصوبٌ على الظرفية بمضمر أي قم بعضَ الليل (فَتَهَجَّدْ بِهِ) أي أزِلْ وألقِ الهجر أي النوم فإن صيغةَ التفعّل تجيء للإزالة كالتحرّج والتحنّث والتأثّم ونظائرِها والضميرُ المجرورُ للقرآن من حيث هو لا يقيدلاإضافته إلى الفجر أو للبعض المفهومِ من قولِه تعالى وَمَن الليل أي تهجد في ذلك البعضِ على أن الباء بمعنى في وقيل منصوبٌ يتهجد أي تهجدْ بالقرآن بعضَ الليل على طريقة وإياي فارهبون (نَافِلَةً لَّكَ) فريضةً زائدةً على الصلوات الخمسِ المفروضةِ خاصةً بك دون الأمة ولعله هو الوجهُ في تأخير ذكرِها عن ذكر صلاةِ الفجر مع تقدم وقتها على وقتها أو تطوعاً لكن لا لكونها زيادة

ص: 189

الإسراء 80 81 على الفرائض بل لكونها زيادة له صلى الله عليه وسلم في الدرجات على ما قال مجاهد والسدي فإنه صلى الله عليه وسلم مغفورٌ له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر فيكون تطوعُه زيادةً في درجاته بخلاف من عداه من الأمة فإن تطوعَهم لتكفير ذنوبهم وتدارُكِ الخللِ الواقعِ في فرائضهم وانتصابُها إما على المصدرية بتقدير تنفّلْ أو بجعل تهجدْ بمعناه أو يجعل نافلةً بمعنى تهجداً فإن ذلك عبادةٌ زائدةٌ وإما على الحاليةِ من الضميرِ الراجعِ إلى القرآن أي حالَ كونها صلاةً نافلةً وإما على المفعولية لتهجّدْ إذا جُعل بمعنى صلِّ وجعل الضميرُ المجرور للبعض أي فصلِّ في ذلك البعضِ نافلةً لك (عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ) الذي يبلّغك إلى كمالك اللائقِ بك من بعد الموت الأكبرِ كما انبعثْتَ من النوم الذي هو الموتُ الأصغرُ بالصلاة والعبادة (مَقَاماً) نُصب على الظرفية على إضمار فيقيمَك أو تضمين البعثِ معنى الإقامة إذ لا بد من أن يكونَ العاملُ في مثل هذا الظرفِ فعلاً فيه معنى الاستقرارُ ويجوزُ أنْ يكونَ حالاً بتقدير مضافٍ أي يبعثك ذا مَقام (مَّحْمُودًا) عندك وعند جميعِ الناس وفيه تهوينٌ لمشقة قيامِ الليل وروى أبو هريرةَ رضي الله عنه إن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال المقامُ المحمودُ هو المقامُ الذي أشفع فيه لأمتي وعن ابن عباس رضي الله عنهما مقاماً يحمَدُك فيه الأولون والآخرون تشرف فيه على جميع الخلائق تسأل فتعطى وتشفع فتُشفّع ليس أحدٌ إلا تحت لوائك وعن حذيفة رضي الله عنه يُجْمَعُ الناسُ في صَعيدٍ واحد فلا تتكلم فيه نفسٌ فَأَوَّلُ مَدْعُوَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم فيقولُ لبّيكَ وسَعْدَيْكَ والشرُّ ليسَ إليكَ والمَهْديُّ من هَدَيْتَ وعبدُكَ بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجا إلا إليكَ تباركتَ وتعاليتَ سبحانك ربَّ البيت

ص: 190

(وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِى) أي القبرَ (مُدْخَلَ صِدْقٍ) أي إدخال مرضياً (وَأَخْرِجْنِى) أي منه عند البعثِ (مُخْرَجَ صِدْقٍ) أي إخراجا مرضيا ملقى بالكرامة فهو تلقين الدعاء بما وعده من البعث المقرونِ بالإقامة المعهودةِ التي لا كرامةَ فوقها وقيل المرادُ إدخالُ المدينةِ والإخراجُ من مكةَ وتغييرُ ترتيبِ الوجودِ لكون الإدخالِ هو المقصد وقيل إدخاله صلى الله عليه وسلم مكةَ ظاهراً عليها وإخراجُه منها آمناً من المشركين وقيل إدخالُه الغارَ وإخراجُه منه سالماً وقيل إدخالُه فيما حمله من أعباء الرسالةِ وإخراجُه منه مؤدياً حقَّه وقيل إدخالُه في كل ما يلابسه من مكان أو أمرٍ وإخراجُه منه وقرئ مَدخل ومَخرج بالفتح على معنى أدخلني فأدخُلَ دخولاً وأخرجوني فأخرُجَ خروجاً كقوله

وعضّةُ دهرٍ يا ابنَ مروانَ لم تَدَع

مِنَ المالِ إلا مُسْحَتٌ أو مُجلّفُ

أيْ لَم تدعَ فلم يبْقَ (واجعل لّى مِن لَّدُنْكَ سلطانا نَّصِيرًا) حجةً تنصُرني على من يخالفني أو ملكا عزا ناصراً للإسلام مظهِراً له على الكفر فأجيبت دعوتُه صلى الله عليه وسلم بقوله عز وعلا والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس أَلَا إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلّهِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى الأرض

ص: 190

(وَقُلْ جَاء الحق) أي الإسلامُ والوحيُ الثابتُ الراسخ (وَزَهَقَ الباطل) أي ذهب وهلك الشرك والكفر وتسوبلات الشيطان من زهَق روحُه إذا خرج (إِنَّ الباطل) كائناً ما كان (كَانَ زَهُوقًا) أي شأنُه أن يكون مضمحلاً غيرَ ثابتٍ

ص: 190

الإسراء 82 83 وهو عِدةٌ كريمةٌ بإجابة الدعاءِ بالسلطان النصيرِ الذي لُقِّنه عنِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكةَ يوم الفتح وحول البيت ثلثُمائة وستون صنماً فجعل ينكُت بمِخْصَرة كانت بيده في عين واحد واحد ويقول جاء الحقُ وزهق الباطلُ فينكبّ لوجهه حتى أَلقْى جميعَها وبقيَ صنمُ خُزاعةَ فوق الكعبة وكان من صُفْر فقال يا عليُّ ارمِ به فصعِد فرمى به فكسره

ص: 191

(وتنزل من القرآن) وقرئ نُنْزل من الإنزال (مَا هو شغاء) لَما في الصدورِ منْ أدواء الرَّيْب وأسقامِ الأوهام (وَرَحْمَةٌ لّلْمُؤْمِنِينَ) به العالِمين بما في تضاعيفه أي ما هو في تقويم دينِهم واستصلاحِ نفوسِهم كالدواء الشافي للمرضى من بيانيةٌ قُدِّمت على المبيَّن اعتناءً فإن كلَّ القرآنِ كذلك وعن النبيِّ صلى الله عليه وسلم مَنْ لَمْ يَسْتَشْفِ بالقرآن فلا شفاه الله أو تبعيضية لكن لا بمعنى أن بعضَه ليس كذلك بل بمعنى إنا ننزل منه في كل نَوْبةٍ ما تستدعي الحكمةُ نزولَه حينئذ فيقع ذلك ممن نزل عليهم بسبب موافقتِه لأحوالهم الداعيةِ إلى نزوله موقعَ الدواء الشافي المصادف للا بأنه من المرضى المحتاجين إليه بحسب الحالِ من غير تقديم ولاتأخير فكلُّ بعضٍ منه متصفٌ بالشفاء لكن لا في كل حينٍ بل عند تنزيلِه وتحقيقُ التبعيضِ باعتبار الشفاءِ الجُسماني كما في الفاتحة وآياتِ الشفاء لا يساعده قوله سبحانه (وَلَا يزيد الظالمين إلى خسارا) أي لايزيد القرآنُ كلُّه أو كلُّ بعضٍ منه الكافرين المكذبين به الواضعين لأشياء في غير مواضعِها مع كونِه في نفسِه شفاءً من الأسقام إلا خَساراً أي هلاكاً بكفرهم وتكذيبِهم لا نقصاناً كما قيلَ فإنَّ مَا بهم من داء الكفرِ والضلالِ حقيقٌ بأن يعبّر عنه بالهلاك لا بالنقصان المنبئ عن حصول بعض مبادئ الأسقامِ فيهم وزيادتِهم في مراتب الهلاك من حيث أنهم كلما جددوا الكفرَ والتكذيب بالآيات النازلة تدريجيا ازدادوا بذلك هلاكاً وفيه إيماءٌ إلى أنَّ ما بالمؤمنين من الشُّبَه والشكوك المعتربة لهم في أثناء الاهتداءِ والاسترشادِ بمنزلة الأمراضِ وما بالكفرة من الجهل والعناد بمنزلة الموتِ والهلاك وإسنادُ الزيادة المذكورةِ إلى القرآن مع أنهم هم المُزْدادون في ذلك بسوء صنيعهم واعتبار كونِه سبباً لذلك وفيه تعجيبٌ من أمره حيث يكون مداراً للشفاء والهلاك

ص: 191

(وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان) بالصحة والنعمة (أَعْرَضَ) عن ذكرنا فضلاً عن القيام بموجب الشكر (وَنَأَى) تباعدَ عن طاعتنا (بِجَانِبِهِ) النأيُ بالجانب أن يَلْويَ عن الشيء عِطفَه ويُولِيَه عُرضَ وجهِه فهو تأكيدٌ للإعراض أو عبارةٌ عن الاستكبار لأنه من ديدن المستكبرين (وذا مَسَّهُ الشر) من فقر أو مرض أو نازلةٍ من النوازل وفي إسناد المِساسِ إلى الشر بعد إسنادِ الإنعامِ إلى ضمير الجلالةِ إيذانٌ بأن الخيرَ مرادٌ بالذات والشرَّ ليس كذلك (كَانَ يَئُوساً) شديدَ اليأس من رَوْحنا وهذا وصفُ للجنس باعتبار بعضِ أفرادِه ممن هو على هذه الصفةِ ولا ينافيه وقوله تعالى وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ ونظائرُه فإن ذلك شأنُ بعضٍ آخرين منهم وقيل أريد به الوليدُ بنُ المغيرة وقرئ ناء إما على القلب كما يقال راءَ في رأي وإما على أنه بمعنى نهض

ص: 191