الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بمثابة المفعول الثاني ولعله أولى وسيأتي تحقيقه في موضعه من هذا الكتاب.
البلاغة:
اشتملت هذه الآيات على أفانين متعددة من فنون البلاغة نذكرها فيما يلي:
1-
التكرير:
1-
التكرير وقد تقدم ذكره في قوله تعالى «ولم يجعل له عوجا قيما» فإن نفي العوج معناه إثبات الاستقامة وإنما جنح الى التكرير لفائدة منقطعة النظير وهي التأكيد والبيان، فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة، مجمع على استقامته ومع ذلك فإن الفاحص المدقق قد يجد له أدنى عوج فلما أثبت له الاستقامة أزال شبهة بقاء ذلك الأدنى الذي يدق على النظرة السطحية الاولى.
2-
المطابقة:
فقد طابق سبحانه بين العوج والاستقامة فجاء الكلام حسنا لا مجال فيه لمنتقد كما حدث لأبي الطيب الذي أهمل المطابقة في قصيدة من أبدع قصائده وذلك انه أنشد في مجلس سيف الدولة قوله:
نظرت الى الذين أرى ملوكا
…
كأنك مستقيم في محال
فإن تفق الأنام وأنت منهم
…
فإن المسك بعض دم الغزال
فقيل له: إن المحال لا يطابق الاستقامة ولكن القافية ألجأتك الى ذلك ولكن لو فرض أنك قلت: كأنك مستقيم في اعوجاج كيف كنت تصنع في البيت الثاني؟ فقال ولم يتوقف: «فإن البيض بعض دم الدجاج» فاستحسن هذا من بديهته.
نقول: إنما يستحسن هذا في سرعة البديهة وإلا أين قوله: فإن المسك بعض دم الغزال من قوله: فإن المسك بعض دم الدجاج.
ولما كنا نريد أن ننصف النقد نورد ما أخذه أحد خصوم المتنبي عليه من أنه كان لا يقيم للمطابقة وزنا وان ديدنه عدمها وذلك رغم إعجابنا الشديد بشاعر الخلود وتفضيلنا إياه على جميع شعراء العربية في القديم والحديث، قال الناقد القديم:
وأما عدم المطابقة في شعر أبي الطيب المتنبي فكثير جدا من ذلك قوله:
ولكل عين قرة في قربه
…
حتى كأن مغيبه الأقذاء
القرة ضدها السخنة والاقذاء ليست ضدها وقوله أيضا:
ولم يعظم لنقص كان فيه
…
ولم يزل الأمير ولن يزالا
العظم ضد الحقارة والنقص ضد الكمال فلو قال: ولم يكمل لنقص كان فيه، لكان أمنع.
وكذلك قوله رغم سموه وابداعه:
لمن تطلب الدنيا إذا لم ترد بها
…
سرور محب أو اساءة مجرم
وليس المجرم ضد المحب ولا السرور ضد الإساءة وإنما المجرم ضد المحسن والمحب ضد المبغض والاساءة ضد الإحسان.
وكذا قوله:
وانه المشير عليك فيّ بضدّه
…
فالحر ممتحن بأولاد الزنا
والحرّ ضد اللئيم.
3-
نفي الشيء بايجابه:
وذلك في قوله تعالى «وقالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم» وقد تقدم ذكر هذا الفن وله تسمية أخرى وهي عكس الظاهر وهو من مستطرفات علم البيان وذلك أن تذكر كلاما يدل ظاهره على أنه نفي لصفة موصوف وهو نفي للموصوف أصلا فإن لقائل أن يقول: ان اتخاذ الله ولدا هو في حد ذاته محال فكيف ساغ قوله «مالهم به من علم» ؟
وهو يشبه الاعتراض في قوله تعالى «وان تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا» فإن ذلك كله وارد على سبيل التهكم وإلا فلا سلطان على الشرك حتى ينزل، والولد في حد ذاته محال لا يستقيم تعلق العلم ولكنه ورد على سبيل التهكم والاستهزاء بهم، ونظيره كما تقدم قوله صلى الله عليه وسلم:«لا تثنى فلتاته» أي لا تذاع سقطاته وليس ثمة فلتات فتثنى وقول الشاعر يصف فلاة:
لا تفزع الأرنب أهوالها
…
ولا ترى الضبّ بها ينجحر
فإن ظاهر هذا المعنى أنه كان هناك ضب ولكنه غير منجمر وليس ذلك كذلك بل المعنى انه لم يكن ثمة ضب أصلا.
4-
التشبيه التمثيلي البليغ المصون عن الابتذال:
وذلك في قوله تعالى «فلعلك باخع نفسك على آثارهم ان لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا» فقد شبهه تعالى وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وأصروا على المكابرة والعناد واللجاج بالسفسطة الباطلة ثم ما تداخله من جراء ذلك من وجد وأسف على توليهم وإشفاق عليهم لسوء المغاب التي تؤول إليها أمورهم. شبه ذلك سبحانه برجل فارقه أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم وتلهفا على فراقهم وأتى بهذه الصورة الفريدة صيانة لتشبيهه من الابتذال فإن التلهف على فراق الأحبة، واستشعار الوجد أمر شائع تناوله الشعراء في أشعارهم، وتحدثوا في قصائدهم عن لواعجهم، وهذا مقياس يقاس به البليغ يترفع في تشبيهه المألوف عن العادي من التشبيه بتزاويقه وتحاسينه ويفيض عليه من روائه وكان المتنبي، بنوع خاص، يتفطن لذلك ويصون تشبيهه الذي لا مندوحة له عنه من الابتذال وسنورد لك نماذج من شعره لتعلم الى أي مدى بلغ هذا الشاعر الخالد.
فقد صور أبو الطيب موقفا من مواقف الغزل اضطر فيه إلى تشبيه نفسه بالميت المتكلم ومحبوبته بالبدر المبتسم وكلا هذين التشبيهين وارد تناولته الشعراء فابتذل وذهبت جدته وإذن فليجعل من الحوار وسيلة إلى تصوير موقف رائع يحلو فيه التشبيه ويبدو معه جديدا كل الجدة قال:
نرى عظما بالبين والصد أعظم
…
ونتهم الواشين والدمع منهم
ومن لبّه مع غيره كيف حاله
…
ومن سره في جفنه كيف يكتم