الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآية (15)
* * *
* قالَ الله عز وجل: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15].
* * *
ثم بيَّنَ الله سبحانه وتعالى مَنِ المؤمِنُ حقًا، فقال:{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا} .
قوله تعالى: {إِنَّمَا} أداة حَصْرٍ، حَصَرَتِ الإيمانَ في الذين إذا ذُكِّروا بآياتِ ربِّهم خَرُّوا سُجَّدًا.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} قال المُفَسِّر رحمه الله: [القرآنِ] وعلى هذا فهي الآياتُ الشَّرْعيَّة، والصَّواب أنها عامَّة حتى الآيات الكونِيَّة كمن ذُكِّرَ بما يفعَلُه الله عز وجل في المكَذِّبين والمُجْرِمين، فإنَّ ذلك داخِلٌ في الآية {بِآيَاتِنَا} .
وقوله رحمه الله: [القرآن] يقتضي أنَّ هذا القَوْلَ خاصٌّ بهذا الأُمَّة {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا} لأنَّهُم أَهْلُ القرآنِ، ولكِنَّ الأَوْلى أن تُؤْخَذ على سبيل العُمُومِ حتى فيما سبق، قال سبحانه وتعالى:{إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا} [الإسراء: 107].
وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا} : {الَّذِينَ} فاعِلُ {يُؤْمِنُ} ، يعني (لا يُؤْمِنُ إلا الذين
…
)، والمرادُ الإيمانُ الكامِلُ.
وقوله رحمه الله: [{الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا} وُعِظُوا {بِهَا} أي جُعِلَت مَوْعِظَةً لهم وبُيِّنَتْ لهم الآياتُ، فإذا وُعِظُوا بها {خَرُّوا سُجَّدًا}:{خَرُّوا} جوابُ {إِذَا} .
وقوله سبحانه وتعالى: {خَرُّوا سُجَّدًا} الخُرورُ يكون من أعلى إلى أسفل، ومنه خرورُ الماءِ من السَّاقِيَة من فوق إلى تحت، {خَرُّوا سُجَّدًا} أي: من القيامِ {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} حالَ السُّجُود {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} .
هذه الآية أورد عليها بَعْضُ العلماء إشكالًا، وقال: هل لِكُلِّ من ذُكِّرَ بآياتِ الله أن يَسْجُد؟ فإذا قُرِئَ عليه آيةٌ سَجَدَ، أو إذا ما وعَظْتَهُ بموعظة سَجَدَ؟
والجوابُ عن هذه الآيَةِ: قال بعضهم: المرادُ خَرُّوا سُجَّدًا في مَوْضِعِ السُّجُود؛ يعني: خرُّوا سُجَّدًا؛ إذا مَرَّت بهم آياتُ سَجْدَة سجدوا، أمَّا إذا ذُكِّرُوا بآياتِ رَبِّهم بدون أن تَمُرَّ بهم آياتُ سَجْدَة فإنَّهم لا يسجدون.
ولكنَّ الصَّوابَ خلافُ ذلك؛ فالصَّوابُ أنَّ المعنى: الذين إذا ذُكِّروا بها انقادوا لها وخَضَعُوا لها، ولا يَلْزَمُ من ذلك أن يكون السُّجُودُ مباشرًا للتَّذْكيرِ؛ فقوله تعالى:{الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا} يعني: حتى في المُسْتَقبل، فلا يلزم أن يكون جوابُ الشَّرْطِ مباشِرًا له.
وما يقتضي التَّرْتيب للحُرُوفِ أو التَّركيب قد يُرادُ به التَّرتيبُ في مَوْضِعِه وفي كُلِّ شيء بِحَسَبه؛ ولهذا لو قُلْتَ: تَزَوَّجَ زَيْدٌ فوُلِدَ له، الفاءُ للتَّرتيبِ والتَّعْقيب، ومن المعلومِ أنه لا يُولَدُ له فَوْرَ عَقْدِ النِّكاحِ له؛ فنقول: الفاءُ للتَّرتيبِ والتَّعْقيبِ، وتَعْقِيبُ كُلِّ شيء بِحَسَبِه، وقال سبحانه وتعالى:{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} وهل المَطَرُ إذا نزل وصار الصَّباحُ فإذا هي مُخْضَرَّةٌ؟
الجوابُ: لا، ولكنْ بعد مُدَّة تَخْضَرُّ، وبعد مُدَّة يُوْلَدُ لهذا المتَزَوِّجِ؛ فكذلك قوله تعالى:{إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا} لا يلزم من ذلك أن يباشِرُوا فبمجرَّد التَّذْكير يَخِرُّونَ، بل المعنى أنَّهُم يَلْتَزِمونَ بذلك فإذا ذُكِّروا بها التَزَموا بذلك بالسَّمْعِ والطَّاعَة فسجدوا في مَوْضِعِ السُّجودِ ولم يوجد منهم استكبارٌ، وعلى هذا فلا إشكالَ في الآية.
وقوله عز وجل: {خَرُّوا سُجَّدًا} : {سُجَّدًا} حالٌ من فاعِلِ {خَرُّوا} . وقوله عز وجل: {وَسَبَّحُوا} معطوفٌ على: {خَرُّوا} ومعنى: سبَّحوا أي نَزَّهوا، فالمفعولُ محذوفٌ تقديرُهُ وسبحوا ربَّهُم؛ أي: سَبَّحُوا الله.
وقوله رحمه الله: [مُتَلَبِّسينَ {بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}] أفادنا المُفَسِّر بأنَّ الباءَ في قوله تعالى: {بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أنَّ الباء للمُلابَسَةِ؛ يعني: معناها أنَّ التَّصْديقَ مَقْرونٌ بالحَمْدِ، ولو أنَّه ذهب إلى أنَّ الباء للمصاحَبَة: وسَبَّحوا تسبيحًا مُصاحِبًا بِحَمْد ربِّهم؛ لكان أَوْلى.
وقوله: {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} قال رحمه الله: [أي قالوا: سبحانَ الله وبِحَمْدِهِ] ويُحْتَمَل ألَّا يكونَ المرادُ بالتَّسبيحِ والحَمْد: تسْبيحَ اللِّسانِ وحَمْدَه، وأنَّ المرادَ نَزَّهُوهُ بِقُلُوبهم وحَمِدُوه بألْسِنَتِهم، فنَزَّهُوه بقُلُوبِهِم عمَّا لا يليقُ به وحَمِدُوه بأَلْسِنَتِهِم بما يستحقُّه.
فقوله: {خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} يعني: يَسْجُدون لله ويُسَبِّحونَه حالَ السُّجُود؛ ولهذا مما يُشْرَعُ في السُّجود أن تقول: "سُبْحانَكَ اللهمَّ ربَّنَا وَبِحَمْدِكَ"
(1)
.
وقوله تعالى: {وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} الجملةُ حالٌ، يعني: والحالُ أنَّهُم: [{لَا يَسْتَكْبِرُونَ} عن الإيمان والطَّاعَةِ] بل ينقادون ويَخْضَعون.
(1)
أخرجه البخاري: كتاب الأذان، باب الدعاء في الركوع، رقم (794)، ومسلم: كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، (484)، من حديث عائشة رضي الله عنهما.