الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جَزَاؤُهُ، أَيْ جَزَاءُ تَكْذِيبهمْ بِالْكِتَابِ. قَالَ قَتَادَةُ:" تَأْوِيلَهُ" عَاقِبَتُهُ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. (يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ) أَيْ تَبْدُو عَوَاقِبُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَ" يَوْمَ" مَنْصُوبٌ بِ" يَقُولُ"، أَيْ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلِ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ. (قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ) اسْتِفْهَامٌ فِيهِ مَعْنَى التَّمَنِّي. (فَيَشْفَعُوا) نُصِبَ لِأَنَّهُ جَوَابُ الِاسْتِفْهَامِ. (لَنا أَوْ نُرَدُّ) قَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى أَوْ هَلْ نُرَدُّ. (فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ) قَالَ الزَّجَّاجُ: نُرَدُّ عَطْفٌ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ هَلْ يَشْفَعُ لَنَا أَحَدٌ أَوْ نرد. وقرا ابن إسحاق" أنرد فَنَعْمَلَ" بِالنَّصْبِ فِيهِمَا. وَالْمَعْنَى إِلَّا أَنْ نُرَدَّ، كَمَا قَالَ «1»:
فَقُلْتُ لَهُ لَا تَبْكِ عَيْنُكَ إِنَّمَا
…
نُحَاوِلُ مُلْكًا أَوْ نَمُوتُ فَنُعْذَرَا
وَقَرَأَ الْحَسَنُ" أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلُ" بِرَفْعِهِمَا جَمِيعًا. (قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) أَيْ فَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِهَا، وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِنَفْسِهِ فَقَدْ خَسِرَهَا. وَقِيلَ: خَسِرُوا النِّعَمَ وَحَظَّ أَنْفُسِهِمْ مِنْهَا. (وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَفْتَرُونَ) أَيْ بَطَلَ مَا كَانُوا يَقُولُونَ مِنْ أَنَّ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ.
[سورة الأعراف (7): آية 54]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) بَيَّنَ أَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِقُدْرَةِ الْإِيجَادِ، فَهُوَ الَّذِي يَجِبُ أَنْ يُعْبَدَ وَأَصْلُ" سِتَّةِ" سِدْسَةٌ، فَأَرَادُوا إِدْغَامَ الدَّالِ فِي السِّينِ فَالْتَقَيَا عِنْدَ مَخْرَجِ التَّاءِ فَغَلَبَتْ عَلَيْهِمَا. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: أُبْدِلَ مِنْ إِحْدَى السِّينَيْنِ تَاءٌ وَأُدْغِمَ فِي الدَّالِ، لِأَنَّكَ تَقُولُ فِي تَصْغِيرِهَا: سُدَيْسَةٌ، وَفِي الْجَمْعِ أَسْدَاسٌ، وَالْجَمْعُ وَالتَّصْغِيرُ يَرُدَّانِ الْأَسْمَاءَ إِلَى أُصُولِهَا. وَيَقُولُونَ: جَاءَ فُلَانٌ سَادِسًا وَسَادِتًا وساتا، فمن قال:
(1). هو امرؤ القيس.
سادتا أيدل مِنَ السِّينِ تَاءً. وَالْيَوْمُ: مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَمْسٌ فَلَا يَوْمَ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ. وَقَالَ: وَمَعْنَى (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) أَيْ مِنْ أَيَّامِ الْآخِرَةِ، كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ سَنَةٍ، لِتَفْخِيمِ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَقِيلَ: مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا. قَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ: أَوَّلُهَا الْأَحَدُ وَآخِرُهَا الْجُمُعَةُ. وَذَكَرَ هَذِهِ الْمُدَّةَ وَلَوْ أَرَادَ خَلْقَهَا فِي لَحْظَةٍ لَفَعَلَ، إِذْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَقُولَ لَهَا كُونِي فَتَكُونُ. وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُعَلِّمَ الْعِبَادَ الرِّفْقَ وَالتَّثَبُّتَ فِي الْأُمُورِ، وَلِتَظْهَرَ قُدْرَتُهُ لِلْمَلَائِكَةِ شَيْئًا بَعْدَ شي. وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَحِكْمَةٌ أُخْرَى- خَلَقَهَا فِي ستة أيام لأن لكل شي عِنْدَهُ أَجَلًا. وَبَيَّنَ بِهَذَا تَرْكَ مُعَاجَلَةِ الْعُصَاةِ بالعقاب، لأن لكل شي عنده أجلا. وهذا كقول:(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ. فَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ «1»). بَعْدَ أَنْ قَالَ:" وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً" قَوْلُهُ تَعَالَى: (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) هَذِهِ مَسْأَلَةُ الِاسْتِوَاءِ، وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهَا كَلَامٌ وَإِجْرَاءٌ. وَقَدْ بَيَّنَّا أَقْوَالَ الْعُلَمَاءِ فِيهَا فِي الْكِتَابِ (الْأَسْنَى فِي شَرْحِ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَى) وَذَكَرْنَا فِيهَا هُنَاكَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قَوْلًا. وَالْأَكْثَرُ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّهُ إِذَا وَجَبَ تَنْزِيهُ الْبَارِي سُبْحَانَهُ عَنِ الْجِهَةِ وَالتَّحَيُّزِ فَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ وَلَوَاحِقِهِ اللَّازِمَةِ عَلَيْهِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَقَادَتِهِمْ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ تَنْزِيهُهُ تبارك وتعالى عَنِ الْجِهَةِ، فَلَيْسَ بِجِهَةِ فَوْقٍ عِنْدَهُمْ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مَتَى اخْتَصَّ بِجِهَةٍ أَنْ يَكُونَ فِي مَكَانٍ أَوْ حَيِّزٍ، وَيَلْزَمُ عَلَى الْمَكَانِ وَالْحَيِّزِ الْحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ لِلْمُتَحَيِّزِ، وَالتَّغَيُّرُ وَالْحُدُوثُ. هَذَا قَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ الْأَوَّلُ رضي الله عنهم لَا يَقُولُونَ بِنَفْيِ الْجِهَةِ وَلَا يَنْطِقُونَ بِذَلِكَ، بَلْ نَطَقُوا هُمْ وَالْكَافَّةُ بِإِثْبَاتِهَا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا نَطَقَ كِتَابُهُ وَأَخْبَرَتْ رُسُلُهُ. وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ أَنَّهُ اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ حَقِيقَةً. وَخُصَّ الْعَرْشُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ مَخْلُوقَاتِهِ، وَإِنَّمَا جَهِلُوا كَيْفِيَّةَ الِاسْتِوَاءِ فَإِنَّهُ لَا تُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ. قَالَ مَالِكٌ رحمه الله: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ- يَعْنِي في اللغة- والكيف
(1). راجع ج 17 ص 22. فما بعد. [ ..... ]
مَجْهُولٌ، وَالسُّؤَالُ عَنْ هَذَا بِدْعَةٌ. وَكَذَا قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها. وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ، وَمَنْ أَرَادَ زِيَادَةً عَلَيْهِ فَلْيَقِفْ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعِهِ مِنْ كُتُبِ الْعُلَمَاءِ. وَالِاسْتِوَاءُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ هُوَ الْعُلُوُّ وَالِاسْتِقْرَارُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَاسْتَوَى مِنَ اعْوِجَاجٍ، وَاسْتَوَى عَلَى ظَهْرِ دَابَّتِهِ، أَيِ اسْتَقَرَّ. وَاسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ أَيْ قَصَدَ. وَاسْتَوَى أَيِ اسْتَوْلَى وَظَهَرَ. قَالَ:
قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ
…
مِنْ غَيْرِ سَيْفٍ وَدَمٍ مِهْرَاقِ
وَاسْتَوَى الرَّجُلُ أَيِ انْتَهَى شَبَابُهُ. وَاسْتَوَى الشَّيْءُ إِذَا اعْتَدَلَ. وَحَكَى أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:" الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى «1» " قَالَ: عَلَا. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فَأَوْرَدْتُهُمْ مَاءً بِفَيْفَاءَ قَفْرَةٍ
…
وَقَدْ حَلَّقَ النَّجْمُ الْيَمَانِيُّ فَاسْتَوَى
أَيْ عَلَا وَارْتَفَعَ. قلت: فعلوا اللَّهِ تَعَالَى وَارْتِفَاعُهُ عِبَارَةٌ عَنْ عُلُوِّ مَجْدِهِ وَصِفَاتِهِ وَمَلَكُوتِهِ. أَيْ لَيْسَ فَوْقَهُ فِيمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ مَعَانِي الْجَلَالِ أَحَدٌ، وَلَا مَعَهُ مَنْ يَكُونُ الْعُلُوُّ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، لَكِنَّهُ العلي بالإطلاق سبحانه. قوله تعالى:(عَلَى الْعَرْشِ) لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يُطْلَقُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ وَغَيْرُهُ: الْعَرْشُ سَرِيرُ الْمُلْكِ. وَفِي التَّنْزِيلِ" نَكِّرُوا لَها عَرْشَها «2» "،" وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ «3» " وَالْعَرْشُ: سَقْفُ الْبَيْتِ. وَعَرْشُ الْقَدَمِ: مَا نَتَأَ فِي ظَهْرِهَا وَفِيهِ الْأَصَابِعُ. وَعَرْشُ السِّمَاكِ: أَرْبَعَةُ كَوَاكِبَ صِغَارٍ أَسْفَلَ مِنَ الْعُوَاءِ «4» ، يُقَالُ: إِنَّهَا عَجُزُ الْأَسَدِ. وَعَرْشُ الْبِئْرِ: طَيُّهَا بِالْخَشَبِ، بَعْدَ أَنْ يُطْوَى أَسْفَلُهَا بِالْحِجَارَةِ قَدْرَ قَامَةٍ، فَذَلِكَ الْخَشَبُ هُوَ الْعَرْشُ، وَالْجَمْعُ عُرُوشٌ. وَالْعَرْشُ اسْمٌ لِمَكَّةَ. وَالْعَرْشُ الْمُلْكُ وَالسُّلْطَانُ. يُقَالُ: ثُلَّ عَرْشُ فُلَانٍ إِذَا ذَهَبَ مُلْكُهُ وَسُلْطَانُهُ وَعِزُّهُ. قَالَ زُهَيْرٌ:
تَدَارَكْتُمَا عَبْسًا وَقَدْ ثُلَّ عَرْشُهَا
…
وَذُبْيَانُ إِذْ ذَلَّتْ بِأَقْدَامِهَا النَّعْلُ
(1). راجع ج 11 ص 169.
(2)
. راجع ج 13 ص 207.
(3)
. راجع ج 9 ص 462.
(4)
. العواء: خمسة كواكب على خط معقف. وقال ابن سيده. العواء منزل من منازل القمر، يمد ويقصر والألف في آخره للتأنيث.
وقد يئول الْعَرْشُ فِي الْآيَةِ بِمَعْنَى الْمُلْكِ، أَيْ مَا اسْتَوَى الْمُلْكُ إِلَّا لَهُ جَلَّ وَعَزَّ. وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ وَفِيهِ نَظَرٌ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي جُمْلَةِ الْأَقْوَالِ فِي كِتَابِنَا. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) أَيْ يَجْعَلُهُ كَالْغِشَاءِ، أَيْ يُذْهِبُ نُورَ النَّهَارِ لِيَتِمَّ قِوَامُ الْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا بِمَجِيءِ اللَّيْلِ. فَاللَّيْلُ لِلسُّكُونِ، وَالنَّهَارُ للمعاش. وقرى" يُغَشِّي" بِالتَّشْدِيدِ، وَمِثْلُهُ فِي" الرَّعْدِ «1» ". وَهِيَ قِرَاءَةُ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ. وَخَفَّفَ الْبَاقُونَ. وَهُمَا لُغَتَانِ أَغْشَى وَغَشَّى. وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى" فَغَشَّاها «2» مَا غَشَّى" مُشَدَّدًا. وَأَجْمَعُوا عَلَى" فَأَغْشَيْناهُمْ «3» " فَالْقِرَاءَتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ. وَفِي التَّشْدِيدِ مَعْنَى التَّكْرِيرِ وَالتَّكْثِيرِ. وَالتَّغْشِيَةُ وَالْإِغْشَاءُ: إِلْبَاسُ الشَّيْءِ الشَّيْءَ. وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ دُخُولَ النَّهَارِ عَلَى اللَّيْلِ، فَاكْتَفَى بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، مِثْلَ" سَرابِيلَ تَقِيكُمُ «4» الْحَرَّ"." بِيَدِكَ الْخَيْرُ «5» ". وَقَرَأَ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسٍ" يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ" وَمَعْنَاهُ أَنَّ النَّهَارَ يُغْشِي اللَّيْلَ. (يَطْلُبُهُ حَثِيثاً) أَيْ يَطْلُبُهُ دَائِمًا مِنْ غَيْرِ فُتُورٍ. وَ" يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ" فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ. وَالتَّقْدِيرُ: اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مُغْشِيًا اللَّيْلَ النَّهَارَ. وَكَذَا" يَطْلُبُهُ حَثِيثاً" حَالٌ مِنَ اللَّيْلِ، أَيْ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ طَالِبًا لَهُ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً لَيْسَتْ بِحَالٍ." حَثِيثاً" بَدَلٌ مِنْ طَالِبٍ الْمُقَدَّرِ أَوْ نَعْتٌ لَهُ، أَوْ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ يَطْلُبُهُ طَلَبًا سَرِيعًا. وَالْحَثُّ: الْإِعْجَالُ وَالسُّرْعَةُ. وَوَلَّى حَثِيثًا أَيْ مُسْرِعًا. (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) قَالَ الْأَخْفَشُ: هِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى السَّمَاوَاتِ، أَيْ وَخَلَقَ الشَّمْسَ. وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ بِالرَّفْعِ فِيهَا كُلِّهَا عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:(أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) فِيهِ مَسْأَلَتَانِ الْأُولَى- صِدْقُ اللَّهِ فِي خَبَرِهِ، فَلَهُ الْخَلْقُ وَلَهُ الْأَمْرُ، خَلَقَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِمَا أَحَبَّ. وَهَذَا الْأَمْرُ يَقْتَضِي النَّهْيَ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَرَّقَ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، فمن جمع بينهما فقد كفر.
(1). راجع ج 9 ص 280.
(2)
. راجع ج 17 ص 121.
(3)
. راجع ج 15 ص 9.
(4)
. راجع ج 10 ص 159.
(5)
. راجع ج 4 ص 51.
فَالْخَلْقُ الْمَخْلُوقُ، وَالْأَمْرُ كَلَامُهُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَهُوَ قَوْلُهُ:" كُنْ"." إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1» " وَفِي تَفْرِقَتِهِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ دَلِيلٌ بَيِّنٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، إِذْ لَوْ كَانَ كَلَامُهُ الَّذِي هُوَ أَمْرٌ مَخْلُوقًا لَكَانَ قَدْ قَالَ: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْخَلْقُ. وَذَلِكَ عِيٌّ مِنَ الْكَلَامِ وَمُسْتَهْجَنٌ وَمُسْتَغَثٌّ. وَاللَّهُ يَتَعَالَى عَنِ التَّكَلُّمِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ." وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ «2» بِأَمْرِهِ"." وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ «3» ". فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَخْلُوقَاتِ قَائِمَةٌ بِأَمْرِهِ، فَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ مَخْلُوقًا لَافْتَقَرَ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ يَقُومُ بِهِ، وَذَلِكَ الْأَمْرُ إِلَى أَمْرٍ آخَرَ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ. وَذَلِكَ مُحَالٌ. فَثَبَتَ أَنَّ أَمْرَهُ الَّذِي هُوَ كَلَامُهُ قَدِيمٌ أَزَلِيٌّ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، لِيَصِحَّ قِيَامُ الْمَخْلُوقَاتِ بِهِ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ تَعَالَى:" وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا «4» بِالْحَقِّ". وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَهُمَا بِالْحَقِّ، يَعْنِي الْقَوْلَ وَهُوَ قَوْلُهُ لِلْمَكُونَاتِ:" كُنْ". فَلَوْ كَانَ الْحَقُّ مَخْلُوقًا لَمَا صَحَّ أَنْ يَخْلُقَ بِهِ الْمَخْلُوقَاتِ، لِأَنَّ الْخَلْقَ لَا يُخْلَقُ بِالْمَخْلُوقِ. يَدُلُّ عَلَيْهِ" وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ"." إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ «5» "." وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي «6» ". وَهَذَا كُلُّهُ إِشَارَةٌ إِلَى السَّبْقِ فِي الْقَوْلِ فِي الْقِدَمِ «7» ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْأَزَلَ فِي الْوُجُودِ. وَهَذِهِ النُّكْتَةُ كَافِيَةٌ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ. وَلَهُمْ آيَاتٌ احْتَجُّوا بِهَا عَلَى مَذْهَبِهِمْ، مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ" الْآيَةَ. وَمِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:" وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً «8» ". وَ" مَفْعُولًا «9» " وَمَا كَانَ مِثْلَهُ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: مَعْنَى" مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ «10» " أَيْ مِنْ وَعْظٍ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَوَعْدٍ وَتَخْوِيفٍ" إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ"، لِأَنَّ وَعْظَ الرُّسُلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامُهُ وَتَحْذِيرَهُمْ ذِكْرٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ «11» ". وَيُقَالُ: فُلَانٌ فِي مَجْلِسِ الذِّكْرِ. وَمَعْنَى" وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً" و" مَفْعُولًا" أراد سبحانه
(1). راجع ج 15 ص 60 وص 139.
(2)
. راجع ج 14 ص 19 وص 965 188.
(3)
. راجع ج 10 ص 83 وص 53.
(4)
. راجع ج 10 ص 83 وص 53.
(5)
. راجع ج 11 ص 345 وص 266. [ ..... ]
(6)
. راجع ج 14 ص 19 وص 965 188.
(7)
. في ج: القديم.
(8)
. راجع ج 14 ص 19 وص 965 188.
(9)
. راجع ج 14 ص 19 وص 965 188.
(10)
. راجع ج 11 ص 345 وص 266.
(11)
راجع ج 20 ص 37.