الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَجَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْقَوْلَيْنِ. يُقَالُ: بَسَطَ إِلَيْهِ يَدَهُ بِالْمَكْرُوهِ. (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) أَيْ خَلِّصُوهَا مِنَ الْعَذَابِ إِنْ أَمْكَنَكُمْ، وَهُوَ تَوْبِيخٌ. وَقِيلَ: أَخْرِجُوهَا كُرْهًا، لِأَنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ تَنْشَطُ لِلْخُرُوجِ لِلِقَاءِ رَبِّهِ، وَرُوحَ الْكَافِرِ تُنْتَزَعُ انْتِزَاعًا شَدِيدًا، وَيُقَالُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي سَاخِطَةً مَسْخُوطًا عَلَيْكِ إلى عذاب الله وهو أن، كَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ. وَقَدْ أَتَيْنَا عَلَيْهِ فِي كِتَابِ" التَّذْكِرَةِ" وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقِيلَ: هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِ الْقَائِلِ لِمَنْ يُعَذِّبُهُ: لَأُذِيقَنَّكَ الْعَذَابَ وَلَأُخْرِجَنَّ نَفْسَكَ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يُخْرِجُونَ أَنْفُسَهُمْ بَلْ يَقْبِضُهَا مَلَكُ الْمَوْتِ وَأَعْوَانُهُ. وَقِيلَ: يُقَالُ هَذَا لِلْكُفَّارِ وَهُمْ فِي النَّارِ. وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ لِعِظَمِ الْأَمْرِ، أَيْ وَلَوْ رَأَيْتَ الظَّالِمِينَ فِي هَذِهِ الْحَالِ لَرَأَيْتَ عَذَابًا عظيما. والهون والهوان سواء. و (تَسْتَكْبِرُونَ) أَيْ تَتَعَظَّمُونَ وَتَأْنَفُونَ عَنْ قَبُولِ آيَاتِهِ.
[سورة الأنعام (6): آية 94]
وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى) هَذِهِ عبارة عن الحشر و" فُرادى " فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَلَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنَّ فِيهِ أَلِفَ تَأْنِيثٍ. وَقَرَأَ أَبُو حَيْوَةَ" فُرَادًا" بِالتَّنْوِينِ وَهِيَ لُغَةُ تَمِيمٍ، وَلَا يَقُولُونَ فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ فُرَادٌ. وَحَكَى أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى" فُرَادَ" بِلَا تَنْوِينٍ، قَالَ: مِثْلُ ثُلَاثٍ ورباع. و" فرادى" جَمْعُ فَرْدَانَ كَسُكَارَى جَمْعِ سَكْرَانَ، وَكُسَالَى جَمْعِ كَسْلَانَ. وَقِيلَ: وَاحِدُهُ" فَرْدٌ" بِجَزْمِ الرَّاءِ، وَ" فَرِدٌ" بِكَسْرِهَا، وَ" فَرَدٌ" بِفَتْحِهَا، وَ" فَرِيدٌ". وَالْمَعْنَى: جِئْتُمُونَا وَاحِدًا وَاحِدًا، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ مُنْفَرِدًا بِلَا أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا وَلَدٍ وَلَا نَاصِرٍ مِمَّنْ كَانَ يُصَاحِبُكُمْ فِي الْغَيِّ، وَلَمْ يَنْفَعْكُمْ مَا عَبَدْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ «1» " فَرْدَى" مِثْلَ سَكْرَى وَكَسْلَى بِغَيْرِ أَلِفٍ. (كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) أَيْ مُنْفَرِدِينَ كما خلقتم. وقيل: عراة كما خرجتم
(1). في ك: الأعمش. ولعل هذا سهو من الناسخ.
مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ حُفَاةً غُرْلًا بُهْمًا «1» لَيْسَ معهم شي. وَقَالَ الْعُلَمَاءُ: يُحْشَرُ الْعَبْدُ غَدًا وَلَهُ مِنَ الْأَعْضَاءِ مَا كَانَ لَهُ يَوْمَ وُلِدَ، فَمَنْ قُطِعَ مِنْهُ عُضْوٌ يُرَدُّ فِي الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ:" غُرْلًا" أَيْ غَيْرُ مَخْتُونِينَ، أي يرد عليهم ما قطع منه عِنْدَ الْخِتَانِ. قَوْلُهُ تَعَالَى:(وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ) أَيْ أَعْطَيْنَاكُمْ وَمَلَّكْنَاكُمْ وَالْخَوْلُ: مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ لِلْإِنْسَانِ مِنَ الْعَبِيدِ وَالنِّعَمِ «2» . (وَراءَ ظُهُورِكُمْ) أَيْ خَلْفَكُمْ. (وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ) أَيِ الَّذِينَ عَبَدْتُمُوهُمْ وَجَعَلْتُمُوهُمْ شُرَكَاءَ- يُرِيدُ الْأَصْنَامَ- أَيْ شُرَكَائِي. وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ الْأَصْنَامُ شُرَكَاءُ اللَّهِ وَشُفَعَاؤُنَا عِنْدَهُ. (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) قَرَأَ نَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِ، عَلَى مَعْنَى لَقَدْ تَقَطَّعَ وَصْلُكُمْ بَيْنَكُمْ. وَدَلَّ عَلَى حَذْفِ الْوَصْلِ قَوْلُهُ" وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ". فَدَلَّ هَذَا عَلَى التَّقَاطُعِ وَالتَّهَاجُرِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شُرَكَائِهِمْ: إِذْ تَبَرَّءُوا مِنْهُمْ وَلَمْ يَكُونُوا مَعَهُمْ. وَمُقَاطَعَتُهُمْ لَهُمْ هُوَ تَرْكُهُمْ وَصْلَهُمْ لَهُمْ، فَحَسُنَ إِضْمَارُ الْوَصْلِ بَعْدَ" تَقَطَّعَ" لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَفِي حَرْفِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَا يَدُلُّ عَلَى النَّصْبِ فِيهِ (لَقَدْ تَقَطَّعَ مَا بَيْنَكُمْ) وَهَذَا لَا يَجُوزُ فِيهِ إِلَّا النَّصْبُ، لِأَنَّكَ ذَكَرْتَ الْمُتَقَطِّعَ وَهُوَ" مَا". كَأَنَّهُ قَالَ: لَقَدْ تَقَطَّعَ الْوَصْلُ بَيْنَكُمْ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى لَقَدْ تَقَطَّعَ الْأَمْرُ بَيْنَكُمْ. وَالْمَعْنَى مُتَقَارِبٌ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ" بَيْنُكُمْ" بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ غَيْرُ ظَرْفٍ، فَأُسْنِدَ الْفِعْلُ إِلَيْهِ فَرُفِعَ. وَيُقَوِّي جَعْلَ" بَيْنَ" اسْمًا مِنْ جهة دخول حرف الجر عليه في قول تَعَالَى:" وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ «3» " وَ" هَذَا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ «4» ". وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ قِرَاءَةُ النَّصْبِ عَلَى مَعْنَى الرَّفْعِ، وَإِنَّمَا نُصِبَ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهِ ظَرْفًا مَنْصُوبًا وَهُوَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْأَخْفَشِ، فَالْقِرَاءَتَانِ عَلَى هَذَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَاقْرَأْ بِأَيِّهِمَا شِئْتَ. (وَضَلَّ عَنْكُمْ) أَيْ ذَهَبَ. (مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أَيْ تَكْذِبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا. رُوِيَ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي، النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَرَأَتْ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى:" وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ" فَقَالَتْ: يا رسول الله، وا سوءتاه! إن
(1). الغرل (جمع الأغرل) وهو الأقلف الذي لم يختن. والبهم (جمع بهيم) وهو في الأصل الذي لا يخالط لونه لون سواه. يعنى ليس فيهم شي من العاهات والأعراض التي تكون في الدنيا كالعمى والمور والعرج، وغير ذلك.
(2)
. في ك، ع، ب: النعم.
(3)
. راجع 15 ص 339.
(4)
. راجع ج 11 ص 24.