الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثُمَّ سَكَنَ، أَيْ أَمْسَكَ عَنِ الْجَرْيِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: سَكَتَ مُوسَى عَنِ الْغَضَبِ، فَهُوَ مِنَ الْمَقْلُوبِ. كَقَوْلِكَ: أَدْخَلْتُ الْأُصْبُعَ فِي الْخَاتَمِ وَأَدْخَلْتُ الْخَاتَمَ فِي الْأُصْبُعِ. وَأَدْخَلْتُ الْقَلَنْسُوَةَ فِي رَأْسِي، وَأَدْخَلْتُ رَأْسِي فِي الْقَلَنْسُوَةِ. (أَخَذَ الْأَلْواحَ) الَّتِي أَلْقَاهَا. (وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ) أَيْ" هُدىً" مِنَ الضَّلَالَةِ،" وَرَحْمَةٌ" أَيْ مِنَ الْعَذَابِ. وَالنَّسْخُ: نَقْلُ مَا فِي كِتَابٍ إِلَى كِتَابٍ آخَرَ. وَيُقَالُ لِلْأَصْلِ الَّذِي كُتِبَتْ مِنْهُ: نُسْخَةٌ، وَلِلْفَرْعِ نُسْخَةٌ. فَقِيلَ: لَمَّا تَكَسَّرَتِ الْأَلْوَاحُ صَامَ مُوسَى أَرْبَعِينَ يَوْمًا، فَرُدَّتْ عَلَيْهِ وَأُعِيدَتْ لَهُ تِلْكَ الْأَلْوَاحُ فِي لَوْحَيْنِ، وَلَمْ يَفْقِدْ مِنْهَا شَيْئًا، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: فَعَلَى هَذَا" وَفِي نُسْخَتِهَا" أَيْ وَفِيمَا نُسِخَ مِنَ الْأَلْوَاحِ الْمُتَكَسِّرَةِ وَنُقِلَ إِلَى الْأَلْوَاحِ الْجَدِيدَةِ هُدًى وَرَحْمَةٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ: وَفِيمَا بَقِيَ مِنْهَا. وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلَّا سُبُعُهَا، وَذَهَبَ سِتَّةُ أَسْبَاعِهَا. وَلَكِنْ لَمْ يَذْهَبْ مِنَ الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ شي. وَقِيلَ: الْمَعْنَى" وَفِي نُسْخَتِهَا" أَيْ وَفِيمَا نُسِخَ لَهُ مِنْهَا مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ هُدًى. وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَفِيمَا كُتِبَ لَهُ فِيهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ، فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى أَصْلٍ يَنْقُلُ عَنْهُ. وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: انْسَخْ مَا يَقُولُ فُلَانٌ، أَيْ أثبته في كتابك. قوله تعالى:(لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) أَيْ يَخَافُونَ. وَفِي اللَّامِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: قَوْلُ الْكُوفِيِّينَ هِيَ زَائِدَةٌ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ الْفَرَزْدَقَ يَقُولُ نَقَدْتُ لَهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ، بِمَعْنَى نَقَدْتُهَا. وَقِيلَ: هِيَ لَامُ أَجْلٍ، الْمَعْنَى: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ أجل ربهم يرهبون رِيَاءَ وَلَا سُمْعَةَ، عَنِ الْأَخْفَشِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَصْدَرٍ، الْمَعْنَى: لِلَّذِينَ هُمْ رَهْبَتُهُمْ لِرَبِّهِمْ. وَقِيلَ: لَمَّا تَقَدَّمَ الْمَفْعُولُ حسن دخول اللام، كقول:" إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ «1» ". فَلَمَّا تَقَدَّمَ الْمَعْمُولُ وَهُوَ الْمَفْعُولُ ضَعُفَ عَمَلُ الْفِعْلِ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَا يَتَعَدَّى.
[سورة الأعراف (7): آية 155]
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَاّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155)
(1). راجع ج 9 ص 198.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا) مَفْعُولَانِ، أَحَدُهُمَا حُذِفَتْ مِنْهُ مِنْ، وَأَنْشَدَ سِيبَوَيْهِ:
مِنَّا الَّذِي اخْتِيرَ الرِّجَالَ سَمَاحَةً
…
وَبِرًّا إِذَا هَبَّ الرِّيَاحُ الزَّعَازِعُ «1»
وَقَالَ الرَّاعِي يَمْدَحُ رَجُلًا:
اخْتَرْتُكَ النَّاسَ إِذْ رَثَّتْ خَلَائِقُهُمْ
…
وَاخْتَلَّ «2» مَنْ كَانَ يُرْجَى عِنْدَهُ السُّولُ
يُرِيدُ: اخْتَرْتُكَ مِنَ النَّاسِ. وَأَصْلُ اخْتَارَ اخْتِيرَ، فَلَمَّا تَحَرَّكَتِ الْيَاءُ وَقَبْلَهَا فَتْحَةٌ قُلِبَتْ أَلِفًا، نَحْو قَالَ وَبَاعَ. قَوْلُهُ تَعَالَى:(فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) أَيْ مَاتُوا. وَالرَّجْفَةُ فِي اللُّغَةِ الزَّلْزَلَةُ الشَّدِيدَةُ. وَيُرْوَى أَنَّهُمْ زُلْزِلُوا حَتَّى مَاتُوا. قَوْلُهُ تَعَالَى: (قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) أَيْ أَمَتَّهُمْ، كَمَا قَالَ عز وجل:" إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ «3» "." وَإِيَّايَ 40" عَطْفٌ. وَالْمَعْنَى: لَوْ شِئْتَ أَمَتَّنَا مِنْ قَبْلِ أَنْ نَخْرُجَ إِلَى الْمِيقَاتِ بِمَحْضَرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ حَتَّى لَا يَتَّهِمُونِي. أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْقَطَّانُ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عَبْدٍ عَنْ عَلِيٍّ رضي الله عنه قَالَ: انْطَلَقَ مُوسَى وَهَارُونُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا وَانْطَلَقَ شَبَّرُ وَشَبِّيرُ- هُمَا ابْنَا هَارُونَ- فَانْتَهَوْا إِلَى جَبَلٍ فِيهِ سَرِيرٌ، فَقَامَ عَلَيْهِ هَارُونُ فَقُبِضَ رُوحُهُ. فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالُوا: أَنْتَ قَتَلْتَهُ، حَسَدْتَنَا «4» عَلَى لِينِهِ وَعَلَى خُلُقِهِ، أَوْ كَلِمَةٍ نَحْوَهَا، الشَّكُّ مِنْ سُفْيَانَ، فَقَالَ: كَيْفَ أَقْتُلُهُ وَمَعِيَ ابْنَاهُ! قَالَ: فَاخْتَارُوا مَنْ شِئْتُمْ، فَاخْتَارُوا مِنْ كُلِّ سِبْطٍ عَشَرَةً. قَالَ: فَذَلِكَ قَوْلُهُ:" وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا" فَانْتَهَوْا إِلَيْهِ، فَقَالُوا: مَنْ قتلك يا هارون؟ قال: ما قتلني
(1). البيت للفرزدق، كما في شواهد سيبويه. في ديوانه: وخيرا.
(2)
. اختل: افتقر.
(3)
. راجع ج 6 ص 28.
(4)
. في ك: حسدا.
أَحَدٌ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَوَفَّانِي. قَالُوا: يَا مُوسَى، مَا تُعْصَى «1» . فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ، فَجَعَلُوا يَتَرَدَّدُونَ «2» يَمِينًا وَشِمَالًا، وَيَقُولُ:(لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ) قال فَأَحْيَاهُمْ وَجَعَلَهُمْ أَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ. وَقِيلَ: أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لِقَوْلِهِمْ: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:" (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ" عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْبَقَرَةِ «3» . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّمَا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنْهَوْا مَنْ عَبَدَ الْعِجْلَ، وَلَمْ يَرْضُوا عِبَادَتَهُ. وَقِيلَ: هَؤُلَاءِ السَّبْعُونَ غَيْرُ مَنْ قَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً. وَقَالَ وَهْبٌ: مَا مَاتُوا، وَلَكِنْ أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ مِنَ الْهَيْبَةِ حَتَّى كَادَتْ أَنْ تَبِينَ مَفَاصِلُهُمْ، وَخَافَ مُوسَى عَلَيْهِمُ الْمَوْتَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي" الْبَقَرَةِ" عَنْ وَهْبٍ أَنَّهُمْ مَاتُوا يَوْمًا وَلَيْلَةً. وَقِيلَ غَيْرُ هَذَا فِي مَعْنَى سَبَبِ أَخْذِهِمْ بِالرَّجْفَةِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّةِ ذَلِكَ. وَمَقْصُودُ الِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِهِ:" أَتُهْلِكُنا" الْجَحْدُ، أَيْ لَسْتَ تَفْعَلُ ذَلِكَ. وَهُوَ كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. وَإِذَا كَانَ نَفْيًا كَانَ بِمَعْنَى الْإِيجَابِ، كَمَا قَالَ:
أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ الْمَطَايَا
…
وَأَنْدَى الْعَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ «4»
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الدُّعَاءُ وَالطَّلَبُ، أَيْ لَا تُهْلِكْنَا، وَأَضَافَ إِلَى نَفْسِهِ. وَالْمُرَادُ الْقَوْمُ الَّذِينَ مَاتُوا مِنَ الرَّجْفَةِ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: الْمُرَادُ بِالِاسْتِفْهَامِ اسْتِفْهَامُ اسْتِعْظَامٍ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَا تُهْلِكْنَا، وَقَدْ عَلِمَ مُوسَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُهْلِكُ أَحَدًا بِذَنْبِ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّهُ كَقَوْلِ عِيسَى:" إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ «5» ". وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالسُّفَهَاءِ السَّبْعُونَ. وَالْمَعْنَى: أَتُهْلِكُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ السُّفَهَاءُ فِي قَوْلِهِمْ" أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً"." إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ" أَيْ مَا هَذَا إِلَّا اخْتِبَارُكَ وَامْتِحَانُكَ. وَأَضَافَ الْفِتْنَةَ إِلَى اللَّهِ عز وجل وَلَمْ يُضِفْهَا إِلَى نَفْسِهِ، كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ:" وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ «6» 80" فَأَضَافَ الْمَرَضَ إِلَى نَفْسِهِ وَالشِّفَاءَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى: وَقَالَ يُوشَعُ:" وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ»
". وَإِنَّمَا اسْتَفَادَ ذَلِكَ مُوسَى عليه السلام مِنْ قوله تعالى له:
(1). في ع: ما تقضى.
(2)
. ع: يتردون.
(3)
. راجع ج 1 ص 403.
(4)
. الراح: جمع راحة، وهى الكف.
(5)
. راجع ج 6 ص 377.
(6)
. راجع ج 13 ص 110. [ ..... ]
(7)
. راجع ج 11 ص 12.