الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَعَمْرًا جَالِسًا، بَلْ كَانَ يَجُوزُ فِي الِابْتِدَاءِ زَيْدًا مُنْطَلِقًا، لِأَنَّ الْمُخْبِرَ مُعْلِمٌ، وَهَذَا لَا يقوله أحد من النحويين.
[سورة الأنفال (8): الآيات 15 الى 16]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
فِيهِ سَبْعُ مَسَائِلَ: الأولى- قَوْلُهُ تَعَالَى: (زَحْفاً) الزَّحْفُ الدُّنُوُّ قَلِيلًا قَلِيلًا. وَأَصْلُهُ الِانْدِفَاعُ عَلَى الْأَلْيَةِ، ثُمَّ سُمِّيَ كُلُّ مَاشٍ فِي الْحَرْبِ إِلَى آخَرَ زَاحِفًا. وَالتَّزَاحُفُ: التَّدَانِي وَالتَّقَارُبُ، يُقَالُ: زَحَفَ إِلَى الْعَدُوِّ زَحْفًا. وازدحف الْقَوْمُ، أَيْ مَشَى بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ. وَمِنْهُ زِحَافُ الشِّعْرِ، وَهُوَ أَنْ يَسْقُطَ بَيْنَ الْحَرْفَيْنِ حَرْفٌ فَيَزْحَفُ أَحَدُهُمَا إِلَى الْآخَرِ. يَقُولُ: إِذَا تَدَانَيْتُمْ وَتَعَايَنْتُمْ فَلَا تَفِرُّوا عَنْهُمْ وَلَا تُعْطُوهُمْ أَدْبَارَكُمْ. حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حِينَ فَرَضَ عَلَيْهِمُ الْجِهَادَ وَقِتَالَ الْكُفَّارِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَدْبَارُ جَمْعُ دُبُرٍ. وَالْعِبَارَةُ بِالدُّبُرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُتَمَكِّنَةُ الْفَصَاحَةِ، لِأَنَّهَا بَشِعَةٌ عَلَى الْفَارِّ، ذَامَّةٌ لَهُ. الثَّانِيَةُ- أَمَرَ اللَّهُ عز وجل فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَلَّا يُوَلِّيَ الْمُؤْمِنُونَ أَمَامَ الْكُفَّارِ. وَهَذَا الْأَمْرُ مُقَيَّدٌ بِالشَّرِيطَةِ الْمَنْصُوصَةِ فِي مِثْلَيِ الْمُؤْمِنِينَ «1» ، فَإِذَا لَقِيَتْ فِئَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِئَةً هِيَ ضِعْفُ الْمُؤْمِنِينَ «2» مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَالْفَرْضُ أَلَّا يَفِرُّوا أَمَامَهُمْ. فَمَنْ فَرَّ مِنَ اثْنَيْنِ فَهُوَ فَارٌّ مِنَ الزَّحْفِ. وَمَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فَلَيْسَ بِفَارٍّ مِنَ الزَّحْفِ، وَلَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْوَعِيدُ. وَالْفِرَارُ كَبِيرَةٌ مُوبِقَةٌ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَإِجْمَاعِ الْأَكْثَرِ مِنَ الْأَئِمَّةِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهُمُ ابْنُ الْمَاجِشُونَ فِي الْوَاضِحَةِ: إِنَّهُ يُرَاعَى الضَّعْفُ وَالْقُوَّةُ وَالْعِدَّةُ، فَيَجُوزُ عَلَى قَوْلِهِمْ أَنْ يَفِرَّ مِائَةُ فَارِسٍ «3» مِنْ مِائَةِ فَارِسٍ إِذَا عَلِمُوا أَنَّ مَا عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ النَّجْدَةِ وَالْبَسَالَةِ ضِعْفُ مَا عِنْدَهُمْ. وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الجمهور فلا يحل فرار مائة إلا
(1). في ب، ج، هـ، ك: مؤمنة.
(2)
. في ج، هـ: أمام.
(3)
. في ج، هـ: أمام.
مِمَّا زَادَ عَلَى، الْمِائَتَيْنِ، فَمَهْمَا كَانَ فِي مُقَابَلَةِ مُسْلِمٍ أَكْثَرُ مِنَ اثْنَيْنِ فَيَجُوزُ الِانْهِزَامُ، وَالصَّبْرُ أَحْسَنُ. وَقَدْ وَقَفَ جَيْشُ مُؤْتَةَ وَهُمْ ثَلَاثَةُ آلَافٍ فِي مُقَابَلَةِ مِائَتَيْ أَلْفٍ، مِنْهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ مِنَ الرُّومِ، وَمِائَةُ أَلْفٍ مِنَ الْمُسْتَعْرِبَةِ مِنْ لَخْمٍ وَجُذَامَ. قُلْتُ: وَوَقَعَ فِي تَارِيخِ فَتْحِ الْأَنْدَلُسِ، أَنَّ طَارِقًا مَوْلَى مُوسَى بْنِ نُصَيْرٍ سَارَ فِي أَلْفٍ وَسَبْعمِائَةِ رَجُلٍ إِلَى الْأَنْدَلُسِ، وَذَلِكَ فِي رَجَبَ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَتِسْعِينَ مِنَ الْهِجْرَةِ، فَالْتَقَى وَمَلِكَ الْأَنْدَلُسِ لَذْرِيقَ وَكَانَ فِي سَبْعِينَ أَلْفَ عَنَانٍ، فَزَحَفَ إِلَيْهِ طَارِقٌ وَصَبَرَ لَهُ فَهَزَمَ اللَّهُ الطَّاغِيَةَ لَذْرِيقَ، وَكَانَ الْفَتْحُ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يُسْأَلُ عَنِ الْقَوْمِ يَلْقَوْنَ الْعَدُوَّ أَوْ يَكُونُونَ فِي مَحْرَسٍ يَحْرُسُونَ فَيَأْتِيهِمُ الْعَدُوُّ وَهُمْ يَسِيرٌ، أَيُقَاتِلُونَ أَوْ يَنْصَرِفُونَ فَيُؤْذِنُونَ أَصْحَابَهُمْ؟ قَالَ: إِنْ كَانُوا يَقْوَوْنَ عَلَى قِتَالِهِمْ قَاتَلُوهُمْ، وَإِلَّا انْصَرَفُوا إلى أصحابهم فأذنوهم. الثانية- وَاخْتَلَفَ النَّاسُ هَلِ الْفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ مَخْصُوصٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ أَمْ عَامٌّ فِي الزُّحُوفِ كُلِّهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ فَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِيَوْمِ بَدْرٍ، وَبِهِ قَالَ نَافِعٌ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَيَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ وَالضَّحَّاكُ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ. وَأَنَّ ذَلِكَ خَاصٌّ بِأَهْلِ بَدْرٍ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَنْحَازُوا، وَلَوِ انْحَازُوا لَانْحَازُوا لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ يَوْمَئِذٍ مُسْلِمُونَ غَيْرُهُمْ، وَلَا لِلْمُسْلِمِينَ فِئَةٌ إِلَّا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّ بَعْضَهُمْ فِئَةٌ لِبَعْضٍ. قَالَ إِلْكِيَا: وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّهُ كَانَ بِالْمَدِينَةِ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنَ الْأَنْصَارِ لَمْ يَأْمُرْهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْخُرُوجِ وَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَ أَنَّهُ قِتَالٌ، وَإِنَّمَا ظَنُّوا أَنَّهَا الْعِيرُ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَنْ خَفَّ مَعَهُ. وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَائِرِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْآيَةَ بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. احْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِمَا ذَكَرْنَا، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى:" يَوْمَئِذٍ" فَقَالُوا: هُوَ إِشَارَةٌ إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ، وَأَنَّهُ نُسِخَ حُكْمُ الْآيَةِ بِآيَةِ الضِّعْفِ. وَبَقِيَ حُكْمُ الْفِرَارِ مِنَ الزَّحْفِ لَيْسَ بِكَبِيرَةٍ. وَقَدْ فَرَّ النَّاسُ يَوْمَ أُحُدٍ فَعَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ اللَّهُ فِيهِمْ يَوْمَ حُنَيْنٍ" ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ «1» " وَلَمْ يَقَعْ عَلَى ذَلِكَ تَعْنِيفٌ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ مِنَ الْعُلَمَاءِ: إِنَّمَا ذَلِكَ إشارة
(1). راجع ج 8 ص 96.
إِلَى يَوْمِ الزَّحْفِ الَّذِي يَتَضَمَّنُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:" إِذا لَقِيتُمُ". وَحُكْمُ الْآيَةِ بَاقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِشَرْطِ الضِّعْفِ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ نَسْخٌ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الْقِتَالِ وَانْقِضَاءِ الْحَرْبِ وَذَهَابِ الْيَوْمِ بِمَا فِيهِ. وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:(اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ- وَفِيهِ- وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ) وَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ. وَأَمَّا يَوْمُ أُحُدٍ فَإِنَّمَا فَرَّ النَّاسُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفِهِمْ وَمَعَ ذَلِكَ عُنِّفُوا. وَأَمَّا يَوْمُ حُنَيْنٍ فَكَذَلِكَ مَنْ فَرَّ إِنَّمَا انْكَشَفَ عَنِ الْكَثْرَةِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. الرَّابِعَةُ- قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مَنْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ، وَلَا يجوز لهم الفرار وإن فر إمامهم، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ الْآيَةَ. قَالَ: وَيَجُوزُ الْفِرَارُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفِهِمْ، وَهَذَا مَا لَمْ يَبْلُغْ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، فَإِنْ بَلَغَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا لَمْ يَحِلَّ لَهُمُ الْفِرَارُ وَإِنْ زَادَ عَدَدُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الضِّعْفِ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:" وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ" فَإِنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ خَصَّصُوا هَذَا الْعَدَدَ بِهَذَا الْحَدِيثِ مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ. قُلْتُ: رَوَاهُ أَبُو بِشْرٍ وَأَبُو سَلَمَةَ الْعَامِلِيُّ، وَهُوَ الْحَكَمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَطَّافٍ وَهُوَ مَتْرُوكٌ. قَالَا: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وغلم قَالَ: (يَا أَكْثَمُ بْنَ الْجَوْنِ اغْزُ مَعَ غَيْرِ قَوْمِكَ يَحْسُنُ خُلُقُكَ وَتَكْرُمُ عَلَى رُفَقَائِكَ. يَا أَكْثَمُ بْنَ الْجَوْنِ خَيْرُ الرُّفَقَاءِ أَرْبَعَةٌ وَخَيْرُ الطَّلَائِعِ أَرْبَعُونَ وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَلَنْ يُؤْتَى اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا مِنْ قِلَّةٍ (. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَذْهَبِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ لِلْعُمَرِيِّ «1» الْعَابِدِ إِذْ سَأَلَهُ هَلْ لَكَ سَعَةٌ فِي تَرْكِ مُجَاهَدَةِ مَنْ غَيَّرَ الْأَحْكَامَ وَبَدَّلَهَا؟ فَقَالَ: إِنْ كَانَ مَعَكَ اثْنَا عَشَرَ أَلْفًا فلا سعة لك في ذلك.
(1). العمرى (بضم العين وفتح الميم) وهو عبد الله بن عمر الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الخطاب، كان من أزهد أهل زمانه. مات سنة 184 هـ (عن أنساب السمعاني).
الْخَامِسَةُ- فَإِنْ فَرَّ فَلْيَسْتَغْفِرِ اللَّهَ عز وجل. رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ بِلَالِ بْنِ يَسَارِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ جَدِّي سَمِعَ النبي صلى الله عيلة وَسَلَّمَ يَقُولُ:" مَنْ قَالَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إِلَيْهِ غُفِرَ اللَّهُ لَهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَّ مِنَ الزَّحْفِ". قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. السَّادِسَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ) التَّحَرُّفُ: الزَّوَالُ عَنْ جِهَةِ الِاسْتِوَاءِ. فَالْمُتَحَرِّفُ مِنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ لِمَكَايِدِ الْحَرْبِ غَيْرُ مُنْهَزِمٍ، وَكَذَلِكَ الْمُتَحَيِّزُ إِذَا نَوَى التَّحَيُّزَ إِلَى فِئَةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِيَسْتَعِينَ بِهِمْ فَيَرْجِعُ إِلَى الْقِتَالِ غَيْرُ مُنْهَزِمٍ أَيْضًا. رَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ فِي سَرِيَّةٍ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: فَحَاصَ «1» النَّاسُ حَيْصَةً، فَكُنْتُ فِيمَنْ حَاصَ، قَالَ: فَلَمَّا بَرَزْنَا قُلْنَا كَيْفَ نَصْنَعُ وَقَدْ فَرَرْنَا مِنَ الزَّحْفِ وبونا بِالْغَضَبِ. فَقُلْنَا: نَدْخُلُ الْمَدِينَةَ فَنَتَثَبَّتُ فِيهَا وَنَذْهَبُ وَلَا يَرَانَا أَحَدٌ. قَالَ: فَدَخَلْنَا فَقُلْنَا لَوْ عَرَضْنَا أَنْفُسَنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنْ كَانَتْ لَنَا تَوْبَةٌ أَقَمْنَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ ذَهَبْنَا. قَالَ: فَجَلَسْنَا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، فَلَمَّا خَرَجَ قُمْنَا إِلَيْهِ فَقُلْنَا، نَحْنُ الْفَرَّارُونَ، فَأَقْبَلَ إِلَيْنَا فَقَالَ:" لَا بَلْ أَنْتُمُ الْعَكَّارُونَ" قَالَ: فَدَنَوْنَا فَقَبَّلْنَا يَدَهُ. فَقَالَ: (أَنَا فِئَةُ الْمُسْلِمِينَ). قَالَ ثَعْلَبٌ: الْعَكَّارُونَ هُمُ الْعَطَّافُونَ. وَقَالَ غَيْرُهُ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ الَّذِي يُوَلِّي عِنْدَ الْحَرْبِ ثُمَّ يَكِرُّ رَاجِعًا: عَكَّرَ وَاعْتَكَرَ. وَرَوَى جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: انْهَزَمَ رَجُلٌ مِنَ الْقَادِسِيَّةِ فَأَتَى الْمَدِينَةَ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، هَلَكْتُ! فَرَرْتُ مِنَ الزَّحْفِ. فَقَالَ عُمَرُ: أَنَا فِئَتُكَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: لَمَّا قُتِلَ أَبُو عُبَيْدَةَ جَاءَ الْخَبَرُ إِلَى عُمَرَ فَقَالَ: لَوِ انْحَازَ إِلَيَّ لَكُنْتُ لَهُ فِئَةً، فَأَنَا فِئَةُ كُلِّ مُسْلِمٍ. وَعَلَى هَذِهِ الْأَحَادِيثِ لَا يَكُونُ الْفِرَارُ كَبِيرَةً، لِأَنَّ الْفِئَةَ هُنَا الْمَدِينَةُ وَالْإِمَامُ وَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ كَانُوا. وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَكُونُ كَبِيرَةً، لِأَنَّ الْفِئَةَ هُنَاكَ الْجَمَاعَةُ مِنَ النَّاسِ الْحَاضِرَةِ لِلْحَرْبِ. هَذَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّ الْفِرَارَ مِنَ الزَّحْفِ كَبِيرَةٌ. قَالُوا: وَإِنَّمَا كَانَ ذلك القول
(1). خاص: جال، أي جالوا جولة يطلبون الفرار.