المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

عمرو ويعقوب، الباقون: بالتاء مولاها بالألف: ابن عامر والباقون: بالباء - تفسير النيسابوري = غرائب القرآن ورغائب الفرقان - جـ ١

[النيسابوري، نظام الدين القمي]

فهرس الكتاب

- ‌[المجلد الاول]

- ‌مقدمة المصنف

- ‌هي النفس ما حمّلتها تتحمّل

- ‌المقدمة الأولى

- ‌في فضل القراءة والقارئ، وآداب القراءة وجواز اختلاف القراآت، وذكر القراء المشهورين المعتبرين

- ‌ذكر القراء السبعة وتسمية نقلتهم من الرواة وطرقهم من الثقات:

- ‌ذكر الأئمة المختارين وتسمية رواتهم:

- ‌المقدمة الثانية

- ‌نكت في الاستعاذة

- ‌المقدمة الثالثة في مسائل مهمة

- ‌المقدمة الرابعة في كيفية جمع القرآن

- ‌المقدمة الخامسة في معاني المصحف والكتاب والقرآن والسورة والآية والكلمة والحرف وغير ذلك

- ‌المقدمة السادسة في ذكر السبع الطول والمثاني والمئين والطواسيم والحواميم والمفصّل والمسبحات وغير ذلك

- ‌المقدمة السابعة في ذكر الحروف التي كتب بعضها على خلاف بعض في المصحف وهي في الأصل واحدة

- ‌المقدمة الثامنة في أقسام الوقف

- ‌المقدمة التاسعة في تقسيمات يعرف منها اصطلاحات مهمة

- ‌المقدمة العاشرة في أن كلام الله تعالى قديم أولا

- ‌المقدمة الحادية عشرة في كيفية استنباط المسائل الكثيرة من الألفاظ القليلة

- ‌(سورة فاتحة الكتاب)

- ‌[سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌(سورة البقرة)

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 1 الى 5]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 6 الى 7]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 16]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 17 الى 20]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 22]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 23 الى 24]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 25]

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 27]

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 28 الى 29]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 30]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 31 الى 33]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 34 الى 39]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 46]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 47 الى 48]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 49 الى 53]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 54 الى 57]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 58 الى 59]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 60 الى 61]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 62 الى 66]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 74]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 75 الى 82]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 83 الى 86]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 87 الى 91]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 92 الى 96]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 101]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 102 الى 103]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌ التأويل:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 104 الى 108]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 109 الى 113]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 114 الى 118]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 119 الى 123]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 124 الى 126]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 127 الى 134]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 135 الى 141]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 142 الى 152]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 153 الى 157]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 158 الى 162]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 163 الى 164]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 165 الى 167]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 171]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 172 الى 176]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 177]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 178 الى 179]

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 180 الى 182]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌ التأويل

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 187]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 188 الى 189]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 190 الى 195]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة البقرة (2) : آية 196]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 197 الى 203]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌الوقوف

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 204 الى 210]

- ‌القراآت:

- ‌التفسير:

- ‌ التأويل

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 211 الى 214]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 215 الى 218]

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 219 الى 221]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 222 الى 227]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 228 الى 232]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 233 الى 237]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 238 الى 242]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 245]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌[سورة البقرة (2) : الآيات 246 الى 251]

- ‌القراآت:

- ‌الوقوف:

- ‌التفسير:

- ‌التأويل:

- ‌الفهرس

الفصل: عمرو ويعقوب، الباقون: بالتاء مولاها بالألف: ابن عامر والباقون: بالباء

عمرو ويعقوب، الباقون: بالتاء مولاها بالألف: ابن عامر والباقون: بالباء وكسر اللام يَعْمَلُونَ وَمِنْ حَيْثُ بياء المغايبة: أبو عمرو. الباقون: بالتاء ليلا مدغمة غير مهموزة عن ورش، وعن ابن كثير وحمزة وعلي وخلف ويعقوب مدغما مهموزا. الباقون: مظهرا مهموزا، والاختيار عن يعقوب وهشام الإظهار. فَاذْكُرُونِي بفتح الياء: ابن كثير.

‌الوقوف:

عَلَيْها ط الْمَغْرِبُ ط مُسْتَقِيمٍ هـ شَهِيداً ط عَقِبَيْهِ ط هَدَى اللَّهُ ط إِيمانَكُمْ ط رَحِيمٌ هـ فِي السَّماءِ ج لأن الجملتين وإن اتفقتا فقد دخل الثانية حرفا توكيد يختصان بالقسم والقسم مصدّر تَرْضاها ص لأن فاء التعقيب لتعجيل الموعود الْحَرامِ ط شَطْرَهُ ط مِنْ رَبِّهِمْ ط يَعْمَلُونَ هـ قِبْلَتَكَ ج قِبْلَتَهُمْ ج وكلاهما لتفصيل الأحوال مع اتحاد المقصود قِبْلَةَ بَعْضٍ ط مِنَ الْعِلْمِ لا لأن «ان» جواب معنى القسم في «لئن» ، فلو فصل كان لَمِنَ الظَّالِمِينَ مطلقا وفي الإطلاق حظر الظَّالِمِينَ هـ م لانه لو وصل صار «الذين» صفة وهو مبتدأ في مدح عبد الله ابن سلام وأضرابه أَبْناءَهُمْ ط يَعْلَمُونَ هـ الْمُمْتَرِينَ هْ خَيْراتِ

طمِيعاً

طدِيرٌ

هـ الْحَرامِ (ط) مِنْ رَبِّكَ ط تَعْمَلُونَ هـ الْحَرامِ ط لأن «حيث» متضمن الشرط شَطْرَهُ لا لتعلق لام في حُجَّةٌ ط قبل تحرزا عن إثبات الحجة بعد النفي والوصل هـ في العربية أوضح، ولا منافاة لأن المراد من الحجة الخصومة وبيان الحق لا ينافي الخصومة تَهْتَدُونَ إذا علق كَما أَرْسَلْنا بما قبله ووقف على تَعْلَمُونَ وإن علق بما بعده وقف على تَهْتَدُونَ دون تَعْلَمُونَ تَعْلَمُونَ هـ وَلا تَكْفُرُونِ هـ.

‌التفسير:

هذه شبهة ثانية من أهل الكتاب طعنا في الإسلام. قالوا: النسخ يقتضي إما الجهل أو التجهيل لأن الأمر إن كان خاليا عن القيد كفى فعله مرة واحدة، فلا يكون ورود الأمر بعده على خلافه ناسخا مقيدا. وإن كان مقيدا بالدوام فكذلك، وإن كان مقيدا بالدوام فإن كان الآمر يعتقد دوامه ثم رفعه كان جهلا وبداء، وإن كان عالما بلا دوامه كان تجهيلا، وكل هذه من الحكيم قبيح. ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة، وهو أنّا إذا جوزنا النسخ عند اختلاف المصالح فههنا لا مصلحة فإن الجهات متساوية وهذا دليل على أن هذا التغيير ليس من عند الله. قال القفال: لفظ سَيَقُولُ وإن كان للاستقبال لكنه قد يستعمل في الماضي كالرجل يعمل عملا فيطعن فيه بعض أعدائه فيقول: أنا أعلم أنهم سيطعنون فيّ. كأنه يريد أنه إذا ذكر مرة فسيذكرونه مرات أخرى، ويؤيد ذلك ما ورد من الأخبار أنهم لما قالوا ذلك نزلت الآية. والمشهور أن الله تعالى أخبر عنهم قبل أن ذكروا هذا

ص: 418

الكلام أنهم سيذكرونه، وفيه فوائد منها: أنه إخبار بالغيب فيكون معجزا. ومنها أن مفاجأة المكروه أشد مما إذا وطن النفس له. ومنها أن الجواب العتيد أقطع للخصم وقبل الرمي يراش السهم، والسفهاء الخفاف الأحلام وإذا كان من لا يميز بين ما له وعليه في أمر دنياه يعدّ سفيها شرعا، فالذي يضيع أمر آخرته أولى بهذا الاسم. عن ابن عباس ومجاهد: هم اليهود، ذلك أنهم كانوا يأنسون بموافقة النبي صلى الله عليه وسلم إياهم في القبلة، فلمّا تحول استوحشوا لا سيما وأنهم لا يرون النسخ. وعن البراء بن عازب والحسن الأصم: أنهم مشركو العرب قالوا: أبى إلّا الرجوع إلى موافقتنا ولو ثبت عليه أولا كان أولى به. وقيل: هم المنافقون ذكروا ذلك استهزاء من حيث إن تميز بعض الجهات عن بعض ليس له دليل معقول فحملوا الأمر على العبث والعمل بالرأي والتشهي والأقرب أن يكون الكل داخلا فيه، لأن الأعداء جبلت على الغيظ وطلب التشفي، فإذا وجدوا مجالا لم يتركوا مقالا ما وَلَّاهُمْ ما صرفهم استفهموا على جهة التعجب والاستهزاء عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها القبلة بيت المقدس، وضمير الجمع للرسول والمؤمنين هذا هو المجمع عليه عند المفسرين، ولولا الإجماع لاحتمل أن يعود الضمير في «كانوا» إلى «السفهاء» أي ما الذي صرف الرسول والمؤمنين عن القبلة التي كان السفهاء عليها فإنهم كانوا لا يعرفون إلّا قبلة اليهود وهي إلى المغرب وقبلة النصارى وهي إلى المشرق؟ فكأنهم قالوا: كيف يتوجه أحد إلى غير هاتين الجهتين المعروفتين؟ فاجابهم الله عن شبهتهم بقوله قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أي بلادهما، والأرض كلها والجهات بأسرها ملكا وملكا، ثم أكد ذلك بقوله يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو القبلة التي اقتضت الحكمة في هذا الزمان توجيه الناس إليها ويحتمل أن يراد به الطريقة المؤدية إلى سعادة الدارين فيشتمل القبلة وغيرها. وحاصل الجواب بعد ما مر في آية النسخ أنه تعالى فاعل لما يشاء كما يشاء، لا اعتراض لأحد عليه كما لا اعتراض على من يتصرف في ملكه كما يريد، وأفعاله تعالى لا تعلل بغرض وإن كانت لا تخلو عن فائدة وحكمة كما سبق، وكثير منها مما لا يهتدي عقول البشر إلى تفاصيل حكمها لكنهم قد يستنبطون بحسب أفهامهم لبعضها وجوها مناسبة، أما تعيين القبلة في الصلاة فالحكمة فيه أن للإنسان قوة عقلية يدرك المجردات والمعقولات بها وقوة خيالية يتصرف بها في عالم الأجسام، وقلما تنفك العقلية عن الخيالية وإعانتها كالمهندس يضع في إدراك أحكام المقادير صورة معيّنة وشكلا معينا ليصير الحس والخيال معينين له على إدراك تلك الأحكام الكلية، وكالذي يريد أن يثني على ملك مجازي فإنه يستقبله بوجهه ثم يشتغل بالثناء والخدمة. فاستقبال القبلة في الصلاة يجري مجرى كونه مستقبلا للملك، والقراءة تجري مجرى الثناء عليه، والركوع والسجود جاريان مجرى

ص: 419

الخدمة. وأيضا الخشوع في الصلاة لا يحصل إلا مع السكون وترك الالتفات، ولا يتأتى ذلك إلّا إذا بقي في جميع صلاته مستقبلا لجهة واحدة على التعيين. وإذا اختص بعض الجهات بمزيد شرف في الأوهام فاستقباله أولى. وأيضا إنه تعالى يحب الموافقة والألفة بين المؤمنين وقد من عليهم بذلك وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً [آل عمران: 103] .

وتوجه كل مصل إلى أي جهة تتفق مظنة الاختلاف فلم يكن بد من تعيين جهة ليحصل الاتفاق. وأيضا كأنه تعالى يقول: يا مؤمن أنت عبد، والكعبة بيتي، والصلاة خدمتي، وقلبك عرشي، والجنة دار كرامتي، فاستقبل بوجهك إلى بيتي وبقلبك إليّ، أبوئك دار كرامتي. وأيضا اليهود استقبلوا مغرب الأنوار وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ [القصص: 44] . والنصارى استقبلوا مطلع الأنوار إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا

[مريم: 16] فالمؤمنون استقبلوا مظهر الأنوار وهو مكة، فمنها محمد ومنه خلق الأنوار ولأجله دار الفلك الدوّار. وأيضا المغرب قبلة موسى، والمشرق قبلة عيسى، وبينهما قبلة إبراهيم ومحمد، وخير الأمور أوسطها وأيضا الكعبة سرة الأرض ووسطها، وأمة محمد وسط وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً. والوسط بالوسط أولى الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ [النور: 26] . وأيضا العرش قبلة الحملة، والكرسي قبلة البررة، والبيت المعمور قبلة السفرة، والكعبة قبلة المؤمنين، والحق قبلة المتحيرين فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ والعرش مخلوق من النور، والكرسي من الدر، والبيت المعمور من الياقوت، والكعبة من جبال خمسة: سينا وزيتا وجوديّ ولبنان وحراء. كأنه قال: إن كان عليك مثل هذه الجبال ذنوبا فأتيت الكعبة حاجا أو معتمرا أو توجهت مصليا الصلوات الخمس غفرتها لك. وأيضا لما كان بناء هذا البيت سببا لظهور دولة العرب كانت رغبتهم في توجهها أشد وأيضا اليهود كانوا يعيرون المسلمين بأنا قد أرشدناكم إلى القبلة وينكسر بذلك قلوب المسلمين. فأزيل تشويشهم، وأيضا الكعبة منشأ محمد، فتعظيمها يقتضي تعظيمه، وتعظيمه مما يعين على قبول أوامره ونواهيه، فبمقدار حشمة المرء يكون قبول قوله. فهذه هي الوجوه المناسبة، والوجه الأقوى هو الذي ذكره الله تعالى في قوله وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وقوله وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ الكاف للتشبيه، وفي اسم الإشارة وجوه. فقيل: راجع إلى معنى يهدي أي كما أنعمنا عليكم بالهداية كذلك أنعمنا عليكم بأن جعلناكم، أو كما هديناكم إلى أوسط البقلة جعلناكم أمة وسطا. وقيل: عائد إلى قوله وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ [البقرة: 130] . أي كما اصطفينا إبراهيم في الدنيا جعلناكم. وقيل:

ص: 420

ينصرف إلى قوله وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ أي كما خصصنا بعض الجهات المتساوية بمزيد التشريف والتكريم حتى صارت قبلة فضلا منا وإحسانا، جعلناكم مختصين بالعدالة برا منا وامتنانا مع تساوي الخلق في العبودية. وقيل: قد يذكر ضمير الشيء وإن لم يكن المضمر مذكورا إذا كان المضمر مشهورا معروفا مثل إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ثم من المشهور المعروف عند كل أحد أنه سبحانه هو القادر على إعزاز من يشاء وإذلال من يشاء، فالمعنى ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد غيري جعلناكم أمة وسطا. الجوهري: يقال جلست وسط القوم بالتسكين لأنه ظرف، وجلست وسط الدار بالتحريك لأنه اسم، وكل موضع صلح فيه بين فهو وسط، وإن لم يصلح فيه بين هو وسط بالتحريك. قال: والوسط من كل شيء أعدله، وشيء وسط أي بين الجيد والرديء، وأمة وسطا أي عدولا قال زهير:

همو وسط يرضى الأنام بحكمهم

إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم

وذلك أن العدل متوسط في الأخلاق بين طرفي الإفراط والتفريط، ولهذا ذكره الله تعالى في معرض المدح والامتنان. وقيل: الوسط الخيار لأنه يستعمل في الجمادات. قال في الكشاف: اكتريت بمكة جمل أعرابي فقال: أعطني من سطاتهن- أراد من خيار الدنانير- ويؤيده قوله تعالى في موضع آخر كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:

110] وإنما أطلق الوسط على الخيار لأن الأطراف يتسارع إليها الخلل والعيب، والأوساط محمية محوطة. وقيل: المراد بالوسط هاهنا أنهم متوسطون في الدين بين المفرط والمفرّط والغالي والمقصر في شأن الأنبياء لا كالنصارى حيث جعلوا النبي صلى الله عليه وسلم ابنا وإلها، ولا كاليهود حيث قتلوا الأنبياء وبدلوا الكتب، ولأن الوسط في الأصل اسم وصف به استوى فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ الأكثرون على أن هذه الشهادة في الآخرة إما بأن يكونوا شهداء للأنبياء على أممهم الذين يكذبونهم.

روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء يوم القيامة فيطالب الله الأنبياء بالبينة على أنهم قد بلغوا- وهو أعلم- فيؤتى بأمة محمد فيشهدون فيقول الأمم: من أين عرفتم؟

فيقولون: علمنا ذلك بإخبار الله في كتابه الناطق على لسان نبيه الصادق. فيؤتى بمحمد فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بعدالتهم وذلك قوله تعالى فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [النساء: 41]

قلت: والحكمة في ذلك تمييز أمة محمد صلى الله عليه وسلم في الفضل عن سائر الأمم حيث يبادرون إلى تصديق الله تعالى وتصديق جميع الأنبياء والإيمان بهم جميعا، فهم بالنسبة إلى غيرهم كالعدل بالنسبة إلى الفاسق، ولذلك

ص: 421

تقبل شهادتهم على الأمم، ولا تقبل شهادة الأمم عليهم. وإنما سمي هذا الإخبار شهادة

لقوله صلى الله عليه وسلم «إذا علمت مثل الشمس فاشهد» .

والشيء الذي أخبر الله تعالى عنه معلوم مثل الشمس فتصح الشهادة عليه، وإما بأن يشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحق فيها. قال ابن زيد: الأشهاد أربعة: الملائكة الحفظة وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق: 21] والنبيون وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وأمة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر: 51] والجوارح يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ [النور: 24] . وقيل: إن هذه الشهادة في الدنيا، وذلك أن الشاهد في عرف الشرع من يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة، فكل من عرف حال شخص فله أن يشهد عليه فإن الشهادة خبر قاطع، وشهادة الأمة لا يجوز أن تكون موقوفة على الآخرة لأن عدالتهم في الدنيا ثابتة بدليل جَعَلْناكُمْ بلفظ الماضي، فلا أقل من حصولها في الحال. ثم رتب كونهم شهداء على عدالتهم، فيجب أن يكونوا شهداء في الدنيا. وإن قيل: لعل التحمل في الدنيا ولكن الأداء في الآخرة. قلنا: المراد في الآية الأداء لأن العدالة إنما تعتبر في الأداء لا في التحمل، ومن هنا يعلم أن إجماعهم حجة لا بمعنى أن كل واحد منهم محق في نفسه، بل بمعنى أن هيئتهم الاجتماعية تقتضي كونهم محقين، وهذا من خواص هذه الأمة، ثم لا يبعد أن يحصل مع ذلك لهم الشهادة في الآخرة فيجري الواقع منهم في الدنيا مجرى التحمل لأنهم إذا بينوا الحق عرفوا عنده من القابل ومن الراد، ثم يشهدون بذلك يوم القيامة كما أن الشاهد على العقود يعرف ما الذي تم وما الذي لم يتم ثم يشهد بذلك عند الحاكم، أو يكون المعنى لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا فيما لا يصح إلّا بشهادة العدول الأخيار، ويكون الرسول عليكم شهيدا يزكيكم ويعلم بعدالتكم. وإنما قدمت صلة الشهادة في الثاني لأن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم فقط، فبقيت صلة الشهادة في مركزها. والغرض في الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم فأزيلت عن مركزها ليفيد الاختصاص. وإنما لم يقل لكم شهيدا مع أن شهادته لهم لا عليهم، لأنه ضمن معنى الرقيب مثل وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة: 6] مع رعاية الطباق للأول. وإنما قيل «شهداء على الناس في الدنيا» لأن قولهم يقتضي التكليف إما بفعل أو بقول وذلك عليهم لا لهم في الحال. قيل: الآية متروكة الظاهر لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتصاف كل واحد منهم بها وليس كذلك، فلا بد من حملها على البعض. فنحن نحملها على الأئمة المعصومين سلمناه لكن الخطاب في جَعَلْناكُمْ للموجودين عند نزول الآية

ص: 422

لأن خطاب من لم يوجد محال. فالآية تدل على أن إجماع أولئك حق لكنا لا نعلم بقاء جميعهم بأعيانهم إلى ما بعد وفاة الرسول فلا تثبت صحة الإجماع وقتئذ. سلمنا ذلك لكن المراد بالعدالة اجتناب الكبائر فقط، فيحتمل أن الذي اجمعوا عليه وإن كان خطأ لكنه من الصغائر فلا يقدح ذلك في خيريتهم وعدالتهم. وأجيب بأن حال الشخص في نفسه غير حاله بالقياس إلى غيره، فلم يجوز أن يكون الشخص غير مقبول القول عند الانفراد ويكون مقبولا عند الاجتماع؟ والخطاب لجميع الأمة من حين نزول الآية إلى قيام الساعة كما في سائر التكاليف مثل كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما [البقرة: 183] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ [البقرة: 178] فللموجودين بالذات وللباقين بالتبعية، لكنا لو اعتبرنا أوّل الأمة وآخرها بأسرها لزالت فائدة الآية إذا لم يبق بعد انقضائها من تكون الآية حجة عليه، فعلمنا أن المراد به أهل كل عصر. ثم إن الله تعالى منّ على هذه الأمة بأن جعلهم خيارا أو عدولا عند الاجتماع، فلو أمكن اجتماعهم على الخطأ لم يبق بينهم وبين سائر الأمم فرق في ذلك فلا منة. وَما جَعَلْنَا يريد الجعل بمعنى الشرع والحكم. الَّتِي صفة موصوف محذوف هو ثاني مفعولي «جعل» أي وما جعلنا القبلة أي الجهة التي كنت عليها أي كنت معتقدا لاستقبالها كقولك «الشافعي على كذا» ثم هاهنا وجهان: أحدهما أن هذا الكلام بيان للحكمة في جعل الكعبة قبلة وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي بمكة إلى الكعبة ثم أمر بالصلاة إلى بيت المقدس بعد الهجرة تألفا لليهود وامتحانا للذين اتّبعوه بمكة، ثم حول إلى الكعبة اختبارا ثانيا أي ما رددناك إلى الجهة التي كنت عليها أولا إلا امتحانا للناس وابتلاء وثانيهما أنه بيان للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة، يعني أن أصل أمرك أن تستقبل الكعبة وأن استقبالك بيت المقدس كان أمرا

عارضا لفائدة هي أن نمتحن الناس وننظر من يتبع الرسول ومن لا يتبعه. واللام في لِنَعْلَمَ ليست لأجل الغرض وإنما هي لتقرير الحكمة والفائدة التي يستتبعها الجعل. فإن قيل: كيف؟ قال لِنَعْلَمَ ولم يزل عالما بذلك؟ فالجواب أن معناه ليعلم حزبنا من النبي والمؤمنين كما يقول الملك: فتحنا البلد. وإنما فتحه جنده أو لنعلمه موجودا حاصلا وهو العلم الذي يتعلق به الجزاء. ولا يلزم منه أن يحدث لله علم فإن العلم الأزلي بالحادث الفلاني في الوقت الفلاني غير متغير، وإنما هو قبل حدوث الحادث كهو حال حدوثه. وإنما جاء المضي والاستقبال من ضرورة كون الحادث زمانيا وكون كل زمان مكنوفا بزمانين: سابق ولا حق. فإذا نسبت العلم الأزلي إلى الزمان السابق قلت «سيعلم الله» وإذا نسبت إلى زمانه قلت «يعلم» وإذا نسبت إلى الزمان اللاحق قلت «قد علم» فجميع هذه التغيرات انبعثت من اعتباراتك، وعلم الله واحد فافهم. أو لنميز

ص: 423

التابع من الناكص كقوله لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ [الأنفال: 37] فسمي التمييز علما لأنه أحد فوائد العلم وثمراته، أو لنرى كما تستعمل الرؤية مكان العلم. وعن الفراء:

أن حدوث العلم في الآية راجع إلى المخاطبين ومثاله: أن جاهلا وعاقلا اجتمعا فيقول الجاهل: الحطب يحرق النار. ويقول العاقل: بل النار تحرق الحطب، وسنجمع بينهما لنعلم أيهما يحرق صاحبه، معناه لنعلم أينا الجاهل. وهذا من كلام المصنف مثل وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سبأ: 24] وقوله مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ استعارة للكفر والارتداد كأنه يرجع إلى حيث أتى ثم إن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة. أو بسبب تحويلها من الناس، من قال بالأول لأنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى الكعبة، فلما جاء إلى المدينة صلى إلى بيت المقدس فشق ذلك على العرب من حيث إنه ترك قبلتهم، ثم لما تحول إلى الكعبة شق ذلك على اليهود. والأكثرون على الثاني لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم منها في تعيين القبلة، عن ابن جريج أنه قال: بلغني أنه رجع ناس ممن أسلم وقالوا مرة هاهنا ومرة هاهنا، ولو كان على يقين من أمر تغير رأيه. وعن السدي: لما توجه إلى الكعبة اختلفوا، قال المنافقون: ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها؟ وقال المسلمون:

ليتنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وقد صلوا نحو البيت المقدس. وقال آخرون: اشتاق إلى بلد أبيه ومولده. وقال المشركون: تحير في دينه. وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً هي «إن» المخففة التي يلزمها اللام الفارقة بينها وبين «إن» النافية، وتتهيأ بالتخفيف للدخول على الأفعال. لكن البصريين أوجبوا كون الفعل الذي دخلت هي عليه من باب «كان» أو «علم» ويبطل عمل «إن» في الظاهر، وكذا في التقدير، فلا يقدر ضمير الشأن كما يقدر في «أن» المفتوحة إذا خففت، فقوله لَكَبِيرَةً خبر «كانت» واسمها الضمير العائد إلى القبلة لأنها هي المذكورة، أو إلى ما دل عليه الكلام السابق من التولية في ما وَلَّاهُمْ أو الجعلة، أو الردة، أو التحويلة في وَما جَعَلْنَا ومعنى لكبيرة لثقيلة شاقة مستنكرة كقوله كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وذلك أن الامتحان إن وقع بنفس القبلة فالفطام عن المألوف شديد والإعراض عن طريقة الآباء والأسلاف عسير، وإن وقع بالتحويل فهو مبني على جواز النسخ وفيه ما فيه من الشبه والإشكال فيصعب اعتقاد حقيقته إلا على الذين هدى الله. الراجع محذوف أي هداهم الله إلى الثبات على دين الإسلام بأن نصب لهم الدلائل أولا، ثم جعلهم منتفعين بها ثانيا، وإلا فالدلالة عامة للكل وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ الخطاب للمؤمنين المعاصرين، واللام لتأكيد النفي الداخل في «كان» ينتصب المضارع بعدها بتقدير «أن» أي لن يضيع الله ثواب ثباتكم على الإيمان، وأنكم لم تزلوا ولم

ص: 424

ترتابوا، بل شكر صنيعكم وأعدّ لكم الثواب الجزيل عن الحسن. وقال ابن زيد: ما كان الله ليترك تحويلكم من بيت المقدس إلى الكعبة لعلمه بأن تقريركم على ذلك مفسدة لكم وإضاعة لصلواتكم، أي لثوابها. أطلق الإيمان على الصلاة لأنها أعظم آثار الإيمان وأشرف نتائجه، أو لأن المراد لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة.

وعن ابن عباس: لما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس؟ فنزلت.

وإنما خوطبوا تغليبا للأحياء مثل وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً [البقرة: 72] وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [البقرة: 50] والمراد أهل ملتهم. وليس هذا السؤال من الشك في حقية النسخ في شيء وإنما هو لأجل الاطمئنان وازدياد اليقين ولعلهم إنما خصوا السؤال بالأموات لأنهم ظنوا أنفسهم مستغنين عن ذلك حيث تقع صلاتهم إلى الكعبة بقية عمرهم مكفرة لما سلف منهم، فأجيبوا بما يخرج عنه جواب الأموات والأحياء جميعا، فإن المنسوخ حق في وقته كما أن الناسخ حق في وقته، سواء عمل المكلف بهما في وقتيهما أو لم يعمل إلا بالمنسوخ لانقضاء أجله قبل الناسخ. وجوز بعضهم أن يكون السؤال صادرا عن منافق فنبه الله المسلمين على الجواب. وقيل: بل المعنى وفقتكم لقبول هذا التكليف لئلا يضيع إيمانكم، فإنهم لو ردوا هذا التكليف لكفروا. يحكى عن الحجاج أنه قال للحسن: ما رأيك في أبي تراب؟ فقرأ قوله إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ثم قال: وعلي منهم وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته وأقرب الناس إليه وأحبهم إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ الجوهري: الرأفة أشد الرحمة. رؤفت به أرؤف بالضم فيهما رأفة ورافة ورأفت به أرأف بالفتح فيهما. ورئفت به بالكسر رأفا والصفة رؤوف ورؤف على «فعول» و «فعل» وقيل: الرحمة تقع في الكراهة للمصلحة، والرأفة لا تكاد تكون في الكراهة، وقيل: الرأفة مبالغة في رحمة خاصة هي دفع المكروه وإزالة الضرر قال وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ [النور: 2] . والرحمة اسم جامع خصص أولا ثم عمم. والمراد أن الرؤوف الرحيم كيف يتصور منه الإضاعة، أو كيف لا ينقلكم من شرع إلى شرع هو أصلح لكم وإنما هدى من هدى لأنه بالناس رؤف رحيم، فمن كان أقبل للفيض كان الأثر عليه أظهر. قوله عز من قائل قَدْ نَرى معناه كثرة الرؤية هاهنا وإن كان في الأصل للتقليل قال:

قد أترك القرن مصفرا أنامله

كأن أثوابه مجت بفرصاد

كما أن «رب» في الأصل للتقليل، ثم قد تستعمل في معنى التكثير كقوله «فإن تمس مهجور الفناء فربما» . أقام به بعد الوفود وفود. ووجه ذلك أن المادح يستقل الشيء

ص: 425

الكثير من المدائح لأن الكثير منها كأنه قليل بالنسبة إلى الممدوح ومثله قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ فإن المتمدح بكثرة العلم يقول لا تنكر أن أعرف شيئا من العلم. تَقَلُّبَ وَجْهِكَ تردد نظرك في جهة السماء وذلك لانتظار تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.

عن ابن عباس أنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا جبريل وددت أن الله تعالى صرفني عن قبلة اليهود الى غيرها فقد كرهتها. فقال له جبريل عليه السلام: أنا عبد مثلك فسل ربك ذلك. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يديم النظر إلى السماء رجاء مجيء جبريل بما سأل فنزلت.

وإنما أحب ذلك لأن اليهود كانوا يقولون: إنه يخالفنا ثم إنه يتبع قبلتنا ولولا نحن لم يدر أين يستقبل أو لأن الكعبة كانت قبلة أبيه إبراهيم ولأن ذلك أدعى للعرب إلى الإيمان لأنها مفخرتهم ومزارهم ومطافهم، ولأنه أحب أن يحصل هذا الشرف للمسجد الذي في بلدته ومنشئه، ولا يبعد أن يميل طبعه إلى شيء ثم يتمنى في قلبه إذن الله فيه. وقيل: إنه استأذن جبريل في أن يدعو الله تعالى فأخبره بأن الله قد أذن له في الدعاء، فكان يقلب وجهه في السماء ينتظر مجيء جبريل للإجابة. وعن الحسن: أن جبريل أخبره بأن الله تعالى سيحوّل القبلة عن بيت المقدس من غير تعيين للمحول إليها- ولم تكن قبلة أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة- فكان ينتظر الوحي بذلك وعلى هذا فقيل: منع من استقبال بيت المقدس ولم يعين له القبلة وكان يخاف أن يدخل وقت الصلاة ولا قبلة، فلذلك كان يقلب وجهه عن الأصم. وقيل: بل وعد بذلك. وقبلة بيت المقدس باقية بحيث تجوز الصلاة إليها لكن لأجل الوعد كان يقلب طرفه وهذا وإلا لم تكن القبلة ناسخة للأولى بل كانت مبتدأة، لكن المفسرين أجمعوا على أنها ناسخة للأولى، لأنه لا يجوز أن يؤمر بالصلاة إلا مع بيان موضع التوجه. واختلف في صلاته بمكة فقيل: كان يصلي إلى الكعبة فلما صار إلى المدينة أمر بالتوجه إلى بيت المقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر أو ثلاثة عشر أو ستة عشر أو سبعة عشر- وهو الأكثر- أو ثمانية عشر أو سنتين أقوال. وقيل: بل كان بمكة يصلي إلى بيت المقدس إلا أنه يجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس. واختلفوا أيضا في أن توجه بيت المقدس هل كان فرضا لا يجوز غيره أو كان النبي صلى الله عليه وسلم مخيرا في توجهه إليه وإلى غيره. فعن الربيع بن أنس أنه كان مخيرا لقوله وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [البقرة: 115] الآية. ولما

روي أن قوما قصدوا الرسول من المدينة إلى مكة للبيعة قبل الهجرة فتوجه بعضهم في الطريق لصلاته إلى الكعبة وبعضهم إلى بيت المقدس، فلما قدموا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فلم ينكر عليهم.

وعن ابن عباس أن ذلك كان فرضا لقوله فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فدل على أنه ما كان مخيرا بينها وبين الكعبة. ومعنى «فلنولينك» فلنعطينك

ص: 426

ولنمكننك من استقبالها من قولهم «وليته كذا» جعلته واليا له، أو فلنجعلنك تلي سمتها دون سمت بيت المقدس. ترضاها تحبها وتميل إليها لأغراضك الصحيحة التي أضمرتها ووافقت مشيئة الله تعالى وحكمته. وعن الأصم: كل جهة وجهك الله إليها يجب أن تكون رضا لا تسخطها كما فعل من انقلب على عقبيه. وقيل: ترضى عاقبتها لأنك تميز بها الموافق عن المنافق. فَوَلِّ وَجْهَكَ أي كل بدنك لأن الواجب على الشخص أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط. وإنما خص الوجه بالذكر لأنه أشرف الأعضاء وبه تتميز الأشخاص. وشطر المسجد الحرام أي نحوه وجهته قاله جمهور المفسرين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وعن بعضهم أن الشطر نصف الشيء والكعبة واقعة من المسجد في النصف من جميع الجوانب، فاختبر هذه العبارة ليعرف أن الواجب هو التوجه إلى بقعة الكعبة، وزيف بالفرق بين النصف وبين المنتصف والمكلف مأمور بالثاني دون الأول. عن ابن عباس: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن النبي قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وفي الموطأ: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قدم المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس ثم حوّلت القبلة قبل بدر بشهرين. واختلفوا في المراد بالمسجد الحرام. ففي شرح السنة عن ابن عباس أنه قال: البيت قبلة لأهل المسجد، والمسجد قبلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب، وهذا قول مالك. وقال آخرون: القبلة هي الكعبة لما أخرج في الصحيحين عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: أخبرني أسامة بن زيد قال: لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم البيت دعا في نواحيه كلها ولم يصل حتى خرج منه، فلما خرج ركع ركعتين في قبل الكعبة وقال: هذه القبلة. وقد وردت أخبار كثيرة في صرف القبلة إلى الكعبة كما قلنا في حديث ابن عمر، فاستداروا إلى الكعبة. وقال آخرون: القبلة هي المسجد الحرام كله.

واعلم أن الواجب عند الشافعي في أظهر قوليه أن يستقبل المصلي عين الكعبة قريبا كان أو بعيدا لظاهر قوله تعالى وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ

ولقوله صلى الله عليه وسلم: «هذه القبلة»

مشيرا به إلى العين، ولأن تعظيم الكعبة من النبي صلى الله عليه وسلم بلغ مبلغ التواتر. وتوقيف صحة الصلاة وهي من أعظم شعائر الدين على استقبال عين الكعبة مما يوجب مزيد شرف الكعبة، فوجب أن يكون مشروعا. ولأن كون الكعبة قبلة أمر معلوم وغيره مشكوك فيه والأخذ بالمعلوم أحوط. وأما عند أبي حنيفة ويوافقه القول الآخر للشافعي، فمحاذاة جهة الكعبة كافية لأن في استقبال عين الكعبة حرجا عظيما للبعيد، ولأن في ذكر المسجد

ص: 427

الحرام دون الكعبة دلالة على أن الواجب مراعاة الجهة دون العين، ولأن الشطر الجانب واكتفى به في الآية، ولأن أهل قباء استداروا إلى الكعبة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل ومن المعلوم أن مقابلة العين من المدينة إلى مكة حيث إنها تحتاج إلى النظر الدقيق لم يتأت لهم حينئذ، ثم لم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم وسمى مسجدهم بذي القبلتين، ولأن استقبال عين الكعبة لو كان واجبا ولا سبيل إليه إلا بالدلائل الهندسية فإنها هي المفيدة لليقين وغيرها من الأمارات لا يفيد إلا الظن، والقادر على اليقين لا يجوز له الاكتفاء بالظن وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، لزم أن يكون تعلم تلك الدلائل واجبا، ولم يذهب إليه أحد والإنصاف أن القول الأول أقرب إلى التعبد، وإصابة العين للبعيد غير بعيد، فما من نقطتين في الأرض ولا في السماء إلا ويمكن أن يوصل بينهما بخط، والغرض أن يكون المصلي ساجدا على قوس عظيمة أرضية مارّة بقدميه وموضع سجوده ووسط البيت بشرط أن يكون القوس أقل من نصف الدور. وغير عسير معرفة هذا القدر بالدائرة الهندسية وغيرها من الطرق المشهورة فيما بين أهل الهيئة وقد برهنا على كثير منها في كتبنا النجومية، وذكرها هاهنا خروج عن الصناعة مع أن المتعلم لا ينتفع بها دون مقدماتها.

ولمعرفة القبلة أمارات أخر قد يستعين بها المتحير وهي: إما أرضية وهي الجبال والقرى والأنهار، أو هوائية وهي الرياح، أو سماوية وهي النجوم. أما الأرضية والهوائية فغير مضبوطة لكن ربما يكون في الطريق جبل مرتفع يعلم أنه على يمين المستقبل أو شماله أو قدامه أو خلفه، وكذلك الرياح قد تهب في بعض النواحي من صوب معين، وأما السماوية ففي النهار لا بد أن يراعي قبل الخروج عن البلد، الشمس عند الزوال هي بين الحاجبين أم على العين اليمنى أم على اليسرى أم تميل ميلا أكثر من ذلك، فإن الشمس في البلاد الشمالية قلما تعد وهذه المواقع. وكذلك يراعى وقت العصر ويعرف وقت الغروب أنها تغرب عن يمين المستقبل أو هي مائلة إلى وجهه أو قفاه. وكذلك يعرف وقت العشاء الاخرة موضع الشفق، ووقت الصبح مشرق الشمس، ويحتاط في مشرق الصيف والشتاء ومغربها. وبالليل يستدل بالكوكب الذي يقال له «الجدي» فيعرف أنه على قفا المستقبل أو على منكبه الأيمن أو الأيسر في البلاد الشمالية من مكة وفي البلاد الجنوبية منها بخلاف ذلك. فإذا عرف هذه الدلائل في بلده فليعول عليها في الطريق كله إلا إذا طال السفر، فحينئذ إذا انتهى إلى بلد سأل أهل البصيرة أو يراقب هذه الكواكب وهو يستقبل محراب جامع البلد ثم يستدل بها في سائر طريقه. ومعرفة دلائل القبلة فرض

ص: 428

على العين أم فرض على الكفاية؟ أصح الوجهين في مذهب الشافعي الأول كأركان الصلاة وشرائطها.

قوله تعالى وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ليس بتكرار لأن الأول الخطاب للرسول وهذا خطاب للأمة، أو لأن الأمة قد دخلت في الأول تبعا. واحتمل أيضا أن يكون الخطاب مختصا بأهل المدينة وفي الثاني عم المكلفين جميعا في جميع بقاع الأرض.

واعلم أن الاستقبال يتوقف على مستقبل ومستقبل نحوه هو القبلة، ولا بد من حالة يقع فيها الاستقبال، فلنتكلم في هذه الأركان الثلاثة على الإجمال وتفصيل ذلك في كتبنا الفقهية.

الركن الأول الحالة: وهي الصلاة للإجماع على أن الاستقبال خارج الصلاة غير واجب وإن كان طاعة

لقوله صلى الله عليه وسلم «خير المجالس ما استقبل به القبلة»

والصلاة إما فريضة ويتعين الاستقبال فيها إلا في حالة الخوف، وإما نافلة ويجب فيها الاستقبال إلا في حالة الخوف، وفي السفر راكبا أو ماشيا متوجها إلى طريقه لما

روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في السفر في راحلته حيث توجهت به.

ويحكى عن أحمد خلاف في الماشي وكذا عن أبي حنيفة. وهل يجب على المتنقل أن يستقبل القبلة عند التحرم؟ الأصح نعم إن سهل بأن لم تكن مقطرة أو لاحران بها وإلا فلا، لما

روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سافر وأراد أن يتطوع استقبل القبلة بناقته وكبر ثم صلى حيث وجهه ركابه.

وأم عدم الاشتراط عند الصعوبة فلدفع المشقة واختلال أمر السير عليه، وأما الاستقبال عند السلام فالأصح أنه لا يشترط كما في سائر الأركان إلا الماشي فعليه الاستقبال في كل ركوع وسجود كما عليه الإتمام بخلاف الراكب فإنه لا يكلف الاستقبال فيهما ولا وضع الجبهة في السجود على السرج أو الإكاف، بل يقتصر فيهما على الإيماء ويجعل السجود أخفض. وليس لراكب التعاسيف الذي لا مقصد له رخصة ترك الاستقبال في التنقل.

الركن الثاني القبلة: للمصلي إن وقف في جوف الكعبة وهي على هيئتها مبنية تصح صلاته فريضة كانت أو نافلة خلافا لأحمد ومالك في الفريضة. قيل لنا إنه صلى متوجها إلى بعض أجزاء الكعبة فتصح صلاته كالنافلة كما يتوجه إليها من خارج، ثم يتخير في استقبال أي جدار شاء. ويجوز أن يستقبل الباب أيضا إن كان مردودا، وإن كان مفتوحا فإن كانت العتبة قدر مؤخرة الرحل صحت صلاته وإلا فلا. ومؤخرة الرحل ثلثا ذراع إلى

ص: 429

ذراع تقريبا كأنهم راعوا أن يكون في سجوده يسامت بمعظم بدنه الشاخص. وإن انهدمت الكعبة- حاشاها- وبقي موضعها عرصة فإن وقف خارجها وصلى إليها جاز لأن المتوجه إلى هواء البيت والحالة هذه متوجه نحو المسجد الحرام كمن صلى على أبي قبيس والكعبة تحته يجوز لتوجهه إلى هواء البيت. ولو صلى في العرصة فالحكم كما لو وقف الآن على سطح الكعبة، فإن لم يكن بين يديه شاخص من نفس الكعبة قدر مؤخرة الرحل فالأصح أنه لا يجزيه خلافا لأبي حنيفة. وإن كان المصلي خارج الكعبة فإن كان حاضر المسجد الحرام وجب عليه لا محالة استقبال عين الكعبة بكل بدنه لأنه قادر عليه، والإمام يقف خلف المقام استحبابا، والقوم يقفون مستديرين بالبيت وإلا فصلاة الخارجين عن محاذاة الكعبة باطلة إلا عند من يرى الجهة كافية. ولو تراخى الصف الطويل ووقفوا في آخر باب المسجد صحت صلاتهم لأن البعيد تزداد محاذاته. يتبين ذلك إذا جعلت البيت رأس مثلث متساوي الساقين والصفوف خطوطا موازية لقاعدته. وإن كان خارج المسجد فإن كان يعاين القبلة سوّى محرابه بناء على العيان وصلى إليه أبدا. ومحراب النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة نازل منزلة الكعبة لأنه لا يقر على الخطأ فهو صواب قطعا فيسوّي سائر المحاريب عليه. وفي معنى المدينة سائر البقاع التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ضبط المحراب، وكذا المحاريب المنصوبة في بلاد المسلمين. وفي الطرق التي هي جادتهم يتعين التوجه إليها وكذلك في القرية الصغيرة التي نشأ فيها قرن من المسلمين، ولا بد من الاجتهاد في التيامن والتياسر، وأما في محراب الرسول صلى الله عليه وسلم فلا. ولا يجوز الاجتهاد في الجهة في شيء من محاريب المسلمين لأن الخطأ منهم في الجهة بعيد بخلاف التيامن والتياسر. ويقال:

إن عبد الله بن المبارك كان يقول بعد رجوعه من الحج: تياسروا يا أهل مرو.

الركن الثالث المستقبل: إذا قدر على اليقين بالمعاينة أو بأمارات أخر فلا يجتهد ولا يقلد وإن لم يقدر، فإن وجد من يخبره عن علم وكان المخبر ممن يعتد بقوله رجع إلى قوله ولم يجتهد أيضا كما في الوقت إذا أخبره عدل عن طلوع الفجر يأخذ بقوله ولا يجتهد وكذلك في الحوادث إذا روى العدل خبرا يؤخذ به، وكل ذلك قبول الخبر من أهل الرواية وليس من التقليد في شيء ويشترط في المخبر أن يكون عدلا يستوي فيه الرجل والمرأة والحر والعبد، ولا يقبل خبر الكافر بحال وكذا خبر الصبي غير المميز عند الأكثرين. ثم الإخبار عن القبلة قد يكون صريحا وذلك ظاهر، وقد يكون دلالة كما في نصب المحاريب في المواضع التي يعتمد عليها. ولا فرق في لزوم الرجوع إلى الخبر بين أن يكون الشخص من أهل الاجتهاد وبين أن لا يكون. فإن لم يجد من يخبره عن علم فإن

ص: 430

قدر على الاجتهاد ولا يتيسر إلا بمعرفة أدلة القبلة كما عددنا اجتهد ولم يقلد كما في الأحكام الشرعية، ولو فعل يلزمه القضاء ولا فرق في وجوب الاجتهاد هاهنا بين الغائب عن مكة والحاضر بها إذا حال بينه وبين الكعبة حائل أصليّ كالجبال أو حادث كالأبنية، ولو خفيت الدلائل على المجتهد بغيم أو حبس أو تعارضت، صلّى كيف اتفق لحق الوقت ويقتضي. وإن عجز عن الاجتهاد فإن لم يمكنه التعلم لعدم البصر أو لعدم البصيرة فالواجب عليه التقليد كالعامي في الأحكام، وتقليد الغير هو قبول قول المستند إلى الاجتهاد بعد أن كان المجتهد مسلما عدلا عارفا بأدلة القبلة يستوي فيه الرجل والمرأة والحر والعبد. فإن وجد مجتهدين مختلفين قلد من شاء منهما، والأحب أن يقلد الأوثق الأعلم عنده، وإن أمكنه التعلم فليس له التقليد بناء على ما مر من أن تعلم الأدلة فرض العين. فإن قلد قضى، وإن ضاق الوقت عن التعلم صلى لحق الوقت وقضى. ثم المجتهد إن بان له الخطأ يقينا أو كان دليل الاجتهاد الثاني أرجح ولم يشرع بعد في الصلاة، عمل بمقتضى الثاني. وإن بان بعد الفراغ من الصلاة فإن تيقن الخطأ قضى على الأصح، وإن ظن لم يقض. وإن تغير الاجتهاد في أثناء الصلاة انحرف ويبني. فهذه هي المسائل المستنبطة من الآية التي ذكرناها لأنها من أهم مهمات الدين وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني أحبار اليهود وعلماء النصارى لعموم اللفظ ولشمول الكتاب التوراة والإنجيل، ولكن يجب أن يكونوا أقل من عدد أهل التواتر ليصح عنهم الكتمان. وعن السدي: أنهم اليهود خاصة، والكتاب التوراة، والضمير في أنه الحق إما للرسول أي أنه مع شرعه ونبوته حق يشمل أمر القبلة وغيرها، وإما لهذا التكليف الخاص وهو أنسب بالمقام، وذلك أن علماءهم عرفوا في كتب أنبيائهم خبر الرسول وأنه يصلي إلى القبلتين وأن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وأيضا أنهم كانوا يعلمون نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالمعجزات والبشارات وكل ما أتى النبي صلى الله عليه وسلم فهو حق، فهذا التحويل حق. وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ وعد للمتقين ووعيد للناكصين والمعاندين، ثم بين استمرار أهل الكتاب على عنادهم فقال وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ قيل: هم جميع اليهود والنصارى لعموم اللفظ، وقيل: هم علماؤهم المذكورون في الآية المتقدمة لأنهم وصفوا باتباع الهوى في قوله وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ ومجرد اعتقاد الباطل لا يكفي فيه، بل الذين بقلوبهم ثم يقولون غير الحق في الظاهر فهم المتبعون للهوى. ونوقش فيه بأن صاحب كل شبهة صاحب هوى. قالوا: الآيتان المكتنفتان بهذه الآية مخصوصتان بالعلماء منهم لأن الجمع العظيم لا يجوز منهم الكتمان فكذا هذه الآية. وأجيب بأنه لا

ص: 431

يلزم من تخصيصهما تخصيصها. قالوا: أخبر عنهم بالإصرار والاستمرار وهذا شأن المعاند اللجوج لا دأب العامي المتحير. وردّ بأن المقلد أيضا قد يصر. قالوا: الحمل على العموم يكذبه الوجود فإن كثيرا من أهل الكتاب آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبع قبلته. ووجه بأن المراد من قوله ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ أنهم لا يجتمعون على الاتباع كقوله وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى [الأنعام: 35] وسلب الاجتماع لا ينافى اتباع البعض بِكُلِّ آيَةٍ بكل برهان قاطع على أن التوجه

إلى الكعبة هو الحق ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ جواب للقسم المحذوف ساد مسد جواب الشرط واللام في وَلَئِنْ لتوطئه القسم أي والله لئن أتيتهم بكل برهان ما اجتمعوا على قبلتك لأن فيهم من قد ترك اتباعك لا لشبهة تزيلها بإيراد الحجة بل عنادا ومكابرة مع علمهم بما في كتبهم من نعتك. ومن خص اللفظ بالعلماء بأن صح عنده أنه لم يتبع منهم أحد قبلتنا لم يحتج إلى هذا التأويل بل يكون ما تبعوا في قوة ما تبع أحد منهم وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ رفع لتجويز النسخ وبيان أن هذه القبلة لا تصير منسوخة بالتوجه إلى بيت المقدس حسما لأطماع أهل الكتاب فإنهم طمعوا في رجوعه إلى قبلتهم وقالوا: لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون صاحبنا الذي ننتظره. وفيه أنه لا يجب عليه استصلاحهم باتباع قبلتهم لأن ذلك معصية. وإنما وحد القبلة للعلم بأن لليهود قبلة وللنصارى قبلة أخرى أو لأنهما بحكم الاتحاد في البطلان واحد وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ إن حمل على الحال فالمعنى أنهم ليسوا مجتمعين على قبلة واحدة حتى يمكن رضاهم باتباعها أو أنهم مع اتفاقهم على تكذيبك متباينون في القبلة فكيف يدعونك إلى شيئين مختلفين؟ أو أنه إذا جاز أن يختلف قبلتاهما للمصلحة فلم لا يجوز أن تكون المصلحة في ثالث؟ وإن حمل على الاستقبال فالمعنى أن اليهود لا تترك قبلتهم إلى المشرق، ولا النصارى إلى المغرب، بحيث تتعطل إحدى القبلتين، لا أن اليهودي لا يصير نصرانيا أو بالعكس فإن ذلك قد وقع. أخبر الله تعالى عن تصلب كل حزب فيما هو فيه محقا أو مبطلا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ كلام على سبيل الفرض والتقدير لقرينة وما أنت بتابع قبلتهم المعنى لئن اتبعت مثلا بعد وضوح الدلائل وانكشاف جلية الأمر في باب الديانة إِنَّكَ إِذاً أي إذا اتبعت لمن المرتكبين الظلم الفاحش لأن صغائر الرجل الكبير كبائر فكيف بكبائره؟ وفيه أن ترك العمل من العلماء أقبح، وفيه لطف للنبي صلى الله عليه وسلم فإن مزيد المحبة تقتضي التخصيص بمزيد التحذير، ولعله كان في بعض الأمور يتبع أغراضهم كترك المخاشنة في القول واستمالة قلوبهم طمعا منه في إسلامهم ومعاضدتهم، فنهى عن ذلك القدر أيضا وآيسه منهم بالكلية. كقوله وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا

ص: 432

[الإسراء: 74] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ [التوبة: 73] وفيه إشارة للأمة كالرجل الحازم يقبل على أبرّ أولاده وأصلحهم فيزجره عن شيء بحضرة سائر الأولاد والغرض زجرهم وإصلاحهم وأنه لا محالة يؤاخذون بالطريق الأولى لو خالفوه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ هم علماؤهم بدليل يَعْرِفُونَهُ أي الرسول معرفة جلية يميزون بينه وبين غيره بالمشخصات من النعت والنسب والقبلة حسب ما وجدوه في كتبهم كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ لا يشتبه عليهم أبناؤهم وأبناء غيرهم. «وما» مصدرية أو كافة، والغرض تشبيه عرفان شخصه بعرفان أشخاص الأبناء لا تشبيه العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالعلم ببنوة الأبناء وإلا كان تشبيه المعلوم بالمظنون.

عن عمر أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنا أعلم به مني يا بني. قال: لم؟ قال: لأني لست أشك في محمد أنه نبي، فأما ولدي فلعل والدته قد خانت، فقبل عمر رأسه.

وجاز إضمار الرسول وإن لم يجز له ذكر لدلالة الكلام عليه، وفيه تفخيم لشأنه وأنه معلوم بغير إعلام، ولا يصح أن يقال: المراد بالمعرفة معرفتهم الحاصلة من قبل ظهور المعجزات على يده لأنه لا يفيد إلا كونه نبيا وهم لا ينكرون ذلك، وإنما ينكرون كونه النبي صلى الله عليه وسلم المنعوت في كتبهم فرد الله عليه ذلك فافهم. وإنما خص الأبناء بالذكر لأنهم أعرف وأشهر وبصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق ولو تساويا فالذكور أولى بالذكر. وقيل: الضمير للعلم أو القرآن أو تحويل القبلة وفي الكل تكلف ينبو عنه قوله أَبْناءَهُمْ ويباينه الحديث عن عبد الله بن سلام ولما كان من علمائهم العارفين بأحوال النبي صلى الله عليه وسلم من آمن به وأظهر الحق وهو ما يجب القول به ويجب العمل بمقتضاه كعبد الله بن سلام وأتباعه. قال تعالى وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ يريد من سوى المسلمين المؤمنين منهم لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ الذي هو أمر محمد أو أمر القبلة ثم أكد ذلك بقوله وَهُمْ يَعْلَمُونَ فإنه لا يوصف بالكتمان إلا من علم المكتوم الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ يحتمل أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق، «ومن ربك» خبر بعد خبر أو حال. وأن يكون مبتدأ خبره «من ربك» . ثم في اللام يكون وجهان: العهد والإشارة إلى الحق الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إلى الحق الذي في قوله لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ أو الجنس على معنى الحق ما ثبت أنه من الله كالذي أنت عليه وما سواه كما يدعيه أهل الكتاب باطل فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكين في كتمانهم الحق مع علمهم أو في كون الحق من ربك. وقد يجوز أن ينهى الشخص عما يعلم أنه منته عنه لمثل ما تقرر في قوله وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ. لِكُلٍ

التنوين فيه عوض عن المضاف إليه، والوجهة اسم الجهة ولذلك ثبتت الواو كما قالوا «ولدة» في جمع الوليد الصبي، وإنما لا تجمع مع الهاء في

ص: 433

المصادر، وقوله

وَإما أن يعود إلى الكل وإما أن يعود إلى الله. وثاني مفعولي وَلِّيها

محذوف أي هو موليها وجهه، أو الله موليها إياه. ثم اختلف في التفسير فقيل: المعنى ولكل أهل دين من الأديان المختلفة قبلة وجهة إما بشريعة وإما بهوى هو مستقبلها ومتوجه إليها لصلاته التي يتقرب بها إلى ربه، وكل يفرح بما هو عليه ولا يفارقه فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة، ولستم تؤاخذون بفعل غيركم فإنما لهم أعمالهم ولكم أعمالكم اسْتَبِقُوا

أنتمْ خَيْراتِ

الدنيوية وهي الشرف والفخر بقبلة إبراهيم، والأخروية وهي الثواب الجزيل المعد للمطيعين. أَيْنَما تَكُونُوا من جهات الأرض أْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً

في صعيد القيامة فيفصل بين المحق منكم والمبطل والمصيب والمخطئ إنه قادر على ذلك. وقيل: إن الله تعالى عرفنا أن كل واحدة من بيت المقدس والكعبة قبلة. فالجهتان من الله تعالى وهو الذي ولى وجوه عباده إليهما فاستبقوا الخيرات بالانقياد لأمره في الحالين ولا تلتفتوا إلى مطاعن السفهاء فإن الله يجمعكم وإياهم يوم القيامة فيحكم بينكم. وقيل: ولكل قوم منكم يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم جهة يصلي إليها جنوبية أو شمالية أو شرقية أو غربية، فاستبقوا الفاضلات من الجهات وهي الجهات المسامتة للكعبة وإن اختلفت أَيْنَما تَكُونُوا من الجهات المختلفةأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً

يجمعكم للجزاء ويجعل صلواتكم واحدة كأنها إلى جهة واحدة لمحاذاة الجميع الكعبة. ولقراءة ابن عامر مولاها معنيان: أحدهما أن ما وليته فقد ولاك والآخر زينت له تلك الجهة وحببت إليه. وقيل: ولكل مخلوق قبلة فقبلة المقربين العرش، وقبلة الروحانيين الكرسي، وقبلة الكروبيين البيت المعمور، وقبلة الأنبياء الذين قبلك بيت المقدس، وقبلتك أنت الكعبة، بل قبلة جسدك هي، وقبلة روحك أنا، وقبلتي أنت

«أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي» .

ثم إن الشافعي استدل بقوله اسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ

على أن الصلاة في أول الوقت أفضل. وعند أبي حنيفة: التأخير أفضل إحرازا لفضيلة الانتظار ولتكثر الجماعة، ولما

روي أنه صلى الله عليه وسلم قال «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر» «1»

وقال ابن مسعود: ما رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حافظوا على شيء ما حافظوا على التنوير بالفجر. وأجيب بأن الانتظار قبل مجيء الوقت

لقوله صلى الله عليه وسلم «يا علي ثلاث لا تؤخرها:

الصلاة إذا أتت والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفؤا» «2»

وأن المراد بالإسفار

(1) رواه الترمذي في كتاب الصلاة باب 3. النسائي في كتاب المواقيت باب 27. الدارمي في كتاب الصلاة باب 21. أحمد في مسنده 5/ 429.

(2)

رواه الترمذي في كتاب المواقيت باب 13، أحمد في مسنده 1/ 105.

ص: 434

والتنوير هو طلوع الفجر الصادق بحيث لا يشك فيه وذلك مما لا نزاع فيه، وإنما النزاع فيما إذا تحقق دخول الوقت ثم تكاسل المكلف وتثاقل أو بغير أسباب الصلاة تشاغل. وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ ومن أي بلد خرجت يا محمد فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إذا صليت وَإِنَّهُ وإن هذا المأمور به لَلْحَقُّ الذي يجب أن يقبل ويعمل به حال كونه مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وعد للمتشاغلين ووعيد للمتغافلين. واعلم أن أمر التولية ذكره الله تعالى ثلاث مرات، وللعلماء في سبب التكرير أقوال:

أولها: أن الآية الأولى محمولة على أن يكون المكلف حاضر المسجد الحرام، والثانية على أن يكون غائبا عنه ولكن يكون في البلد، والثالثة على أن يكون خارج البلد في أقطار الأرض، فقد يمكن أن يتوهم للقريب من التكليف ما ليس للبعيد فأزيل ذلك الوهم.

وثانيها: أنه نيط بكل واحد ما لم ينط بالآخر، وذلك أنه أكد الأول بأن أهل الكتاب يعلمون حقيته بشهادة التوراة والإنجيل، وأكد الثاني بإخبار الله تعالى عن حقيته وكفى به شهيدا، وأتبع الثالث غرض التحويل وهو قوله لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ كما أن قوله فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وأمثال ذلك تكرر حيث نيط بكل منها فائدة.

وثالثها: أن الآية الأولى توهم أن التحويل إنما فعل رضا للنبي صلى الله عليه وسلم وطلبا لهواه حيث قال فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فأزيل الوهم بتكرار الأمر وتعقيبه بقوله وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي نحن ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك وهواك كقبلة اليهود والمنسوخة التي إنما يقيمون عليها بمجرد الهوى والتشهي، ولكنها حق من ربك بعد أنها وافقت رضاك، وفي الثالثة بيان الغرض.

ورابعها: أن الأولى لتعميم الأحوال والثانية لتعميم الأمكنة، والثالثة لتعميم الأزمنة إشعارا بأنها لا تصير منسوخة البتة.

وخامسها: الزم هذه القبلة فإنها التي كنت تهواها، الزم هذه القبلة فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى. الزم هذه القبلة فبها ينقطع عنك حجج العدا وهذا قريب من الثالث.

وسادسها: هذه الواقعة أولى الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا فدعت الحاجة إلى التكرير لمزيد التأكيد والتقرير.

وسابعها: قلت: الآية الأولى مشتملة على تكليف خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ثم على تكليف عام له ولأمته وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ

ص: 435

فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ

والآية الثانية وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ لأجل تكليف أخص وهو تكليف الالتفات عما سوى الله إلى الله وهو تكليف الصدّيقين وهو سنة خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام: 49] ومما يؤيد هذا التأويل تعقيبه بقوله وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لم يستظهر على هذا إلا بشهادة نفسه حيث لم يبق إلا هو وهو مقام الفناء في الله بخلاف الآية الأولى فإنها أكدت بشهادة الغير. وأيضا اقتصر هاهنا على أمر النبي صلى الله عليه وسلم دون الأمة لأن هذه المرتبة وهي المسجد الحرام- حرام لا يليق بكل أحد جل جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا واحد بعد واحد. وأيضا قدم على الآية قوله لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ

فدل على أن المذكور بعدها مرتبة السابقين وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر: 32] لما كان من المحتمل أن يظن أن التكليف الأخص ناسخ للتكليف الخاص منه والعام له ولأمته، كرر الآية الأولى بعينها ليعلم أن حكمها باق بالنسبة إلى عموم المكلفين والله تعالى أعلم بحقائق الأمور.

قوله لِئَلَّا يَكُونَ أي ولوا لأجل هذا الغرض. وقال الزجاج: يتعلق بمحذوف أي عرفتكم لئلا يكون الناس عليكم حجة. والناس قيل للعموم، وقيل هم اليهود كانوا يطعنون بأنه يخالفنا في ديننا ويتبع قبلتنا ويقولون ما درى محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه. وقيل: هم العرب قالوا: إنه يقول أنا على دين إبراهيم، ولما ترك التوجه إلى الكعبة فقد ترك دين إبراهيم. وإنما أطلق الحجة على قول المعاندين لأن المراد بها المحاجة، أو سماها حجة تهكما أو طباقا أو بناء على معتقدهم لأنهم يسوقونها سياق الحجة. وقد تكون الحجة باطلة قال تعالى حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [الشورى: 16] وكل كلام يقصد به غلبة الغير حجة، وعلى هذا فالاستثناء متصل. والمراد بالذين ظلموا المعاندون من اليهود القائلون بأنه ما ترك قبلتنا إلى الكعبة إلا ميلا إلى دين قومه وحبا لبلده، ولو كان على الحق للزم قبلة الأنبياء، أو بعض العرب القائلون بأن محمدا عاد إلى ديننا في الكعبة وسيعود إلى ديننا بالكلية. وقيل: الاستثناء منقطع. وقيل: «إلا» بمعنى الواو وأنشد شعر:

وكل أخ مفارقه أخوه

لعمر أبيك إلا الفرقدان

يعني والفرقدان. وإذا طعنوا في دينكم من غير ما سبب فَلا تَخْشَوْهُمْ فإنهم لا يضرونكم وَاخْشَوْنِي واحذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم وفرضت عليكم على وفق مصلحتكم، فعلى المرء أن ينصب بين عينيه في كل أفعاله وتروكه خشية الله ويقطع

ص: 436

الرجاء والخوف عمن سواه. قوله وَلِأُتِمَّ قيل: معطوف على لِئَلَّا أي حوّلتكم إلى هذه القبلة لحكمتين: إحداهما انقطاع حجتهم، والثانية إتمام النعمة بحصول شرف قبلة إبراهيم. وقيل: متعلقة محذوف معناه ولإتمامي النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أمرتكم بذلك. وقيل: معطوف على علة مقدرة كأنه قال: واخشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم وهذا الإتمام لا ينافي ما أنزل في آخر عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 3] فإن لله تعالى في كل وقت نعمة على المكلفين ولها تمام بحسبها، فهذا إتمام النعمة في أمر القبلة، وذاك تمام النعمة في أمر الدين على الإطلاق

وعن علي عليه السلام: تمام النعمة الموت على الإسلام.

وفي الحديث «تمام النعمة دخول الجنة» «1»

كَما أَرْسَلْنا «ما» مصدرية أو كافة. ثم إن الجار والمجرور يتعلق بما قبله أو بما بعده. وعلى الأول قيل: معناه ولأتم نعمتي عليكم في الدنيا بحصول الشرف وفي الآخرة بالفوز بالثواب كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول، أو لأتم نعمتي ببيان الشرائع، أو أهديكم إلى الدين إجابة لدعوة إبراهيم حيث قال وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا [البقرة: 128] كما أرسلنا فيكم رسولا إجابة لدعوته حيث قال رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا [البقرة: 129] وقيل: معناه كذلك جعلناكم أمة وسطا كما أرسلنا فيكم رسولا، وعلى الثاني معناه كما ذكرتكم بإرسال الرسول فاذكروني أذكركم تارة أخرى. وفيه أن نعمه على العبد لا تنقطع، فكل نعمة سابقة فسيضم إليها أخرى لاحقة حتى يكون له الفضل أولا وأخيرا وبداية ونهاية. وفي إرساله فيهم ومنهم أي من العرب نعمة عظيمة عليهم لما لهم فيه من الشرف، ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الانقياد للغير فبعثه الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القبول أقرب. وكون القرآن متلوا من أعظم النعم لأنه معجزة باقية ولأنه يتلى فتتأدى به العبادات، ولأنه يتلى فتستفاد منه جميع العلوم، ولأنه يتلى فيوقف على مجامع الأخلاق الحميدة ففي تلاوته خير الدنيا والآخرة. ومعنى التزكية وتعليم الكتاب والحكمة قد مر في دعاء إبراهيم. وفي قوله يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ تنبيه على أنه تعالى أرسله على فترة من الرسل وجهالة من الأمر وتحير الناس في أمر الديانة، فعلمهم ما احتاجوا إليه في صلاح معاشهم ومعادهم وذلك من أعظم أنواع النعم فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ تكليف بأمرين:

الذكر والشكر. وقد مر ذكر الشكر في تفسير الحمد وقوله وَلا تَكْفُرُونِ عطف بالواو ليعلم أن جحود النعمة منهيّ عنه كما أن الشكر مأمور به. ولو قطع على طريقة قوله:

(1) رواه الترمذي في كتاب الدعاء باب 93. أحمد في مسنده (5/ 231، 235) .

ص: 437