الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اعتكاف ساعة عند الشافعي، وأما عند أبي حنيفة فلا يجوز أقل من يوم بشرط أن يدخل قبل طلوع الفجر ويخرج بعد غروب الشمس. قال الشافعي: وأحب أن يعتكف يوما وإنما قال ذلك للخروج عن الخلاف. تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إشارة إلى جميع ما تقدم من أول آية الصيام إلى هاهنا لا إلى عدم المباشرة في الاعتكاف وحده، لأنه حد واحد أللهم إلا أن يراد أمثال تلك الجملة. وحد الشيء مقطعه ومنتهاه، وحد الدار ما يمنع غيرها أن يدخل فيها، والحد الكلام الجامع لمانع فحدود الله ما منع من مخالفتها بعد أن قدرها بمقادير مخصوصة وصفات مضبوطة. وإنما قال هاهنا فَلا تَقْرَبُوها وفي موضع آخر فَلا تَعْتَدُوها [البقرة: 229] لأن العامل بشرائع الله أوامر ونواهي منصرف في حيز الحق، فإذا تعداه وقع في حيز الباطل. فالنهي عن التعدي هو المقصود إلا أن الأحوط أن لا يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيزي الحق والباطل كيلا يذهل فيقع في الباطل.
عن النعمان بن بشير: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول «إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ألا ولكل ملك حمى وحمى الله محارمه» «1» .
وقيل: لا تقربوها أي لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ [الإسراء: 34] وقيل: الأحكام المذكورة بعضها أمر وأكثرها نهي، فغلب جانب التحريم أي لا تقربوا تلك الأشياء التي منعتم عنها. وأما في الأوامر فقال فَلا تَعْتَدُوها [البقرة: 229] أي اثبتوا عليها ولا تتخطوها، كَذلِكَ أي كما بين ما أمركم به وما نهاكم عنه في هذا المقام يُبَيِّنُ سائر أدلته على دينه وشرعه إرادة أن يتصف الناس بالتقوى جعلنا الله تعالى من المتقين بفضله ورحمته.
التأويل:
«صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» «2»
الضمير عائد إلى الحق. على كل عضو في الظاهر صوم، وعلى كل صفة في الباطن صوم. فصوم اللسان عن الكذب والنميمة، وصوم العين عن محل الريبة، وصوم السمع عن استماع الملاهي، وعلى هذا فقس
(1) رواه أبو داود في كتاب البيوع باب 3. الترمذي في كتاب البيوع باب 1. النسائي في كتاب البيوع باب 2. ابن ماجه في كتاب الفتن باب 14. الدارمي في كتاب المقدمة باب 20. أحمد في مسنده (4/ 269، 275) .
(2)
رواه البخاري في كتاب الصوم باب 11. الترمذي في كتاب الصوم باب 3، 5. النسائي في كتاب الصيام باب 8. ابن ماجه في كتاب الصيام باب 7. الدارمي في كتاب الصوم باب 1. أحمد في مسنده (1/ 226) .
البواقي. وصوم النفس عن التمني والشهوات، وصوم القلب عن حب الدنيا وزخارفها، وصوم الروح عن نعيم الآخرة ولذاتها، وصوم السر عن شهود غير الله كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي على بسائطكم وأجزائكم فإنها كانت صائمة عن المشارب كلها، فلما تعلق الروح بالقلب صارت أجزاء القالب مستدعية للحظوظ الحيوانية والروحانية لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ مشارب المركبات وتطهرون عن هنس الحظوظ الحيوانيات والروحانيات، فحين يأفل كوكب استدعاء الحظوظ الفانية تطلع شمس حقوق الملاقاة الروحانية الباقية كما
قال صلى الله عليه وسلم «للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه»
فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أي وقع له فترة في السلوك لمرض غلبات صفات النفس وكسل الطبيعة أَوْ عَلى سَفَرٍ حصل له وقفة للعجز عن القيام بأعباء أحكام الحقيقة، فليمهل حتى تدركه العناية ويعالج سقمه بمعاجين الإلطاف وأشربة الإعطاف فيتداركه في أيام سلامة القلب. وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ على من كان له قوة في صدق الطلب طَعامُ مِسْكِينٍ فالطعام كل مشرب غير مشرب ألطاف الحق، والمسكين من يكون مشربه غير ما عند الله ويقنع به، فيدفع تلك المشارب إلى أهاليها ويخرج عما سوى الله، ويواصل الصوم ولا يفطر إلا على طعام مواهب الحق وشراب مشاربه وهو معنى
«أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» «1»
فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فمن زاد في الفداء أي كلما فطم من مشرب وسقى من مشرب آخر. وروي فدى ذلك المشرب أيضا أي تركه إلى أن يصير مشربه ترك المشارب كلها وداوم الصوم كقوله تعالى وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ فينزل فيه حقائق القرآن وهذا معنى قوله شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فيكون على مأدبة الله لا بمعنى أنه يأكل من المأدبة فإنه دائم الصوم، ولكن المأدبة تأكله حتى تفنيه عن وجوده وتبقيه بشهوده فيكون خلقه القرآن وحينئذ يفرق بين الوجود الحقيقي والوجود المجازي كما قال وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فيقال يا محمد له أصبت فالزم وهو معنى قوله فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ قال أبو يزيد: ناداني ربي وقال: أنا بدك اللازم فالزم بدك. رمضان يرمض ذنوب قوم، ورمضان الحقيقي يحرق وجود قوم. رمضان اسم من أسماء الله أي من حضر مع الله فليمسك عن غير الله يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وهو مقام الوصول وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وهو ما في الطريق من الرياضة والمجاهدة كالطبيب يسقي دواء مرا، فمراده حصول
(1) رواه البخاري في كتاب التمني باب 9، الصوم باب 20. مسلم في كتاب الصيام حديث 57.
الموطأ في كتاب الصيام حديث 58. أحمد في مسنده (3/ 8) ، (6/ 126) .
الصحة لا إذاقة مرارة الدواء. وأيضا
لو لم يرد بنا اليسر لم يجعلنا طالبين لليسر (شعر) :
لو لم ترد نيل ما أرجو وأطلبه
…
من فيض جودك ما علمتني الطلبا
وَلِتُكْمِلُوا عدة أنواع الغاية بجذبات يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ ولتعظموه عَلى ما هَداكُمْ إلى عالم الوصال بتجلي صفات الجمال وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة الوصال بتنزيه ذي الجلال عن إدراك عقول أهل الكمال وإحاطة الوهم والخيال. قوله سبحانه أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ اعلم أن في الإنسان تلونا في الأحوال. فتارة يكون بحكم غلبات الصفات الروحانية في ضياء نهار الواردات الربانية وحينئذ يصوم عن الحظوظ الإنسانية وهو حالة السكر، وتارة يكون بحكم الدواعي والحاجات البشرية مردودا إلى ظلمات الصفات الحيوانية وهذه حالة الصحو، فخصه الله تعالى بنهار كشف الأستار وطلوع شموس الأسرار ليصوموا فيه عما سواه، وبليلة إسبال أستار الرحمة ليسكنوا فيها ويستريحوا بها كما منّ الله تعالى بقوله قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً [القصص: 72] الآيتين. ومعنى الرفث إلى النساء التمتع بالحظوظ الدنيوية التي تتصرف النفس فيها تصرف الرجال في النساء هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ أي الصفات والحظوظ الإنسانية ستر لكم يحميكم عن حرارة شموس الجلال لكيلا تحرقكم سطوات التجلي وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ تسترون معايب الدنيا بالأموال الصالحة واستعمال الأموال على قوانين الشرع والعقل «نعم المال الصالح للرجل الصالح» فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ بقدر الحاجة الضرورية وَابْتَغُوا بقوة هذه المباشرة ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ من المقامات العلية وَكُلُوا وَاشْرَبُوا في ليالي الصحو حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ آثار أنوار المحو فالأحوال تنقسم إلى بسط وقبض، وزيادة ونقص، وجذب وحجب، وجمع وفرق، وأخذ ورد، وكشف وستر، وسكر وصحو، وإثبات ومحو، وتمكين وتكوين، كما قيل:
كأن شيئا لم يزل إذا أتى
…
كان شيئا لم يكن إذا مضى
فِي الْمَساجِدِ أي في مقامات القربة والأنس. وفيه إشارة إلى أنه يجب أن يكون الاشتغال بالضروريات من حيث الصورة وتكون الأسرار والأرواح مع الحق، وهذا مقام أهل التمكين فَلا تَقْرَبُوها بالخروج عنها يا أهل الكشوف والعكوف وبالدخول فيها يا أهل الكسوف والخسوف حسبي الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير.