الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الحج: 75] فإن قيل: لم قدم الملك على الحكمة مع أنه أدون منها؟ فالجواب أنه تعالى أراد أن يذكر كيفية ترقي داود عليه السلام في معارج السعادات، والتدرج في مثل هذا المقام من الأدون إلى الأشرف هو الترتيب الطبيعي. وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ قيل: هو صنعة الدروع لقوله وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ [الأنبياء: 80] وقيل: منطق الطير عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ [النمل: 16] وقيل: ما يتعلق بمصالح الملك فإنه ما تعلم ذلك من آبائه فإنهم كانوا رعاة.
وقيل: علم الدين والقضاء وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ [ص: 20] ولا يبعد حمل اللفظ على الكل والغرض منه التنبيه على أن العبد لا ينتهي قط إلى حالة يستغني عن التعلم سواء كان نبيا أو لم يكن ولهذا قيل لمحمد صلى الله عليه وسلم وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً [طه: 114] وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ معناه ظاهر وأما من قرأ بالألف فإما أن يكون مصدر الدفع نحو جمح جماحا وكتب كتابا وقام قياما، وإما أن يكون بمعنى أنه سبحانه يكف الظلمة والعصاة عن المؤمنين على أيدي أنبيائه وأئمة دينه، فكان يقع بين أولئك المحقين وأولئك المبطلين مدافعات كقوله إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: 20] .
واعلم أن الله تعالى ذكر في الآية المدفوع وهو بعض الناس، والمدفوع به وهو البعض الآخر. وأما المدفوع عنه فغير مذكور للعلم به وهو الشرور في الدين كالكفر والفسق والمعاصي، فعلى هذا الدافعون هم الأنبياء وأئمة الهدى ومن يجري مجراهم من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والشرور في الدنيا كالهرج والمرج وإثارة الفتن.
فالدافعون إما الأنبياء أو الملوك الذابون عن شرائعهم ولهذا
قال صلى الله عليه وسلم: «الملك والدين توأمان»
«الإسلام أس والسلطان حارس فما لا أس له فهو منهدم وما لا حارس له فهو ضائع»
وعلى هذا فمعنى قوله لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ أي بطلت منافعها وتعطلت مصالحها من الحرث والنسل وغير ذلك من سائر أسباب العمران. وقيل: المراد بالدفع نصر المسلمين على الكفار. ومعنى فساد الأرض عبث الكفار فيها وقتالهم المسلمين. وقيل: المعنى لو لم يدفع الكفار بالمسلمين لعم الكفر ونزل سخط الله، فاستؤصل أهل الأرض وتصديق ذلك ما
روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يدفع بمن يصلي من أمتي عمن لا يصلي وبمن يزكي عمن لا يزكي وبمن يصوم عمن لا يصوم وبمن يحج عمن لا يحج وبمن يجاهد عمن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين»
ثم تلا هذه الآية وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ بسبب ذلك الدفاع. وفيه أن الكل بقضاء الله وقدره وبقهره ولطفه وبعدله وفضله.
التأويل:
فقوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ أن القوم لما أظهروا خلاف ما أضمروا وزعموا غير ما كتموا، عرض نقد دعواهم على محك معناهم فما أفلحوا عند الامتحان إذ عجزوا عن البرهان، وعند الامتحان يكرم الرجل أو يهان، وهذا حال أكثر مدّعي الإسلام
والإيمان والذين يزعمون نصلي ونصوم ونحج ونزكي لله وفي الله باللسان دون صدق الجنان، وسيظهر ما كان لله وما كان للهوى في كفتي الميزان فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تبين الأبطال من البطال ف تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وأن أهل الحق أعز من العنقاء وأعوز من الكيمياء.
تعيرنا أنا قليل عديدنا
…
فقلت لها إن الكرام قليل
تعيرنا أنا قليل وجارنا
…
عزيز وجار الأكثرين ذليل
وإنما لم ينل المدعون مقصودهم لأنه لم تخلص لله قصودهم ولو أنهم قالوا: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وقد أمرنا ربنا وأوجب القتال علينا وأنه سيدنا ومولانا فلعل الله صدق دعواهم وأعطى مناهم وأكرم مثواهم كما قال قوم من السعداء في أثناء البكاء والصعداء وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [المائدة: 84] فلا جرم أثابهم الله بما قالوا جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء المحسنين. إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً فيه إشارة إلى أن الحكم الإلهية حلت وتجلت في جلباب تعاليها عن إدراك العقول البشرية كنه معنى من معانيها، ولهذا. قالوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وليس هذا بأعجب من قول المقرّبين المؤيدين بالأنوار القدسية أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] استحقارا لشأن آدم واحتجابا بحجب الأنانية والنحنية، فلما تكبر بنو إسرائيل وقالوا: نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ وضعهم الله وحرموا الملك، ولما تواضع طالوت لله وقال: كيف أستحق الملك وسبطي أدنى أسباط بني إسرائيل وبيتي أدنى بيوت بني إسرائيل، رفعه الله وأعطاه الملك. ولما تفوقت الملائكة وترفعوا بقولهم وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ [البقرة: 30] أمرهم بالسجود لآدم، ولما عرضت الخلافة على آدم فتواضع لله وقال: ما للتراب ورب الأرباب أكرمه الله تعالى بسجود الملائكة وحمل أعباء الأمانة إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فيه إشارة إلى أن آية خلافة العبد أن يظفر بتابوت قلب فِيهِ سَكِينَةٌ من ربه وهي الطمأنينة بالإيمان والأنس مع الله أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28] بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى هو عصا الذكر كلمة لا إله إلا الله وهي الثعبان الذي إذا فغر فاه تلقف عظيم سحر سحرة صفات فرعون النفس.
وإن تابوتهم الذي فيه سكينتهم كان يتداوله أيدي الحدثان، وتابوت قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن، وإن كان في تابوتهم بعض التوراة ففي تابوت قلب المؤمن جميع القرآن، وإن كان في تابوتهم صور الأنبياء ففي تابوت المؤمن رب الأرض والسماء كما
قال: «لا يسعني أرضي ولا سمائي ولكن يسعني قلب عبدي المؤمن»
فإذا حصل
لطالوت الروح الإنساني تابوت القلب الرباني سلم له ملك الخلافة، وانقاد له جميع أسباط صفات الإنسان فلا يركن إلى الدنيا ويتجهز لقتال جالوت النفس الأمارة إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ هو نهر الدنيا وما زين للخلق فيها زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ [آل عمران: 14] ليظهر المحسن من المسيء ويميز الخبيث من الطيب إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ قنع من متاع الدنيا بما لا بد له منه من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن وصحبة الخلق على حد الاضطرار،
وكان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا»
أي ما يمسك رمقهم لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ لأن من شرب من نهر الدنيا ماء شهواتها ولذاتها وتجاوز عن حد الضرورة فيها لا يطيق قتال جالوت النفس وجنود صفاتها وعسكر هواها، لأنه صار معلولا مريض القلب فبقي على شط نهر الدنيا رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها [يونس: 7] وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ فيه إشارة إلى أن المجاهد في الجهاد الأكبر لا يقوم بحوله وقوته لقتال النفس إلا إذا رجع إلى ربه مستعينا به مستغنيا عن غيره قائلا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً على الائتمار بطاعتك والانزجار عن معاصيك ومخالفة الهوى والإعراض عن زينة الدنيا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا على التسليم في الشدة والرخاء ونزول البلاء وهجوم أحكام القضاء في السراء والضراء وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ وهم أعداؤنا في الدين عموما، والنفس الأمارة وصفاتها التي هي أعدى عدونا بين جنبينا خصوصا فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ بنصرته وقوته وَقَتَلَ داوُدُ القلب جالُوتَ النفس إلخ.
وأخذ حجر الحرص على الدنيا وحجر الركون إلى العقبى وحجر تعلقه إلى نفسه بالهوى حتى صار الثلاثة حجرا واحدا وهو الالتفات إلى غير المولى، فوضعه في مقلاع التسليم والرضا فرمى به جالوت النفس، فسخر الله له ريح العناية حتى أصاب أنف بيضة هواها، وخالط دماغها فأخرج منه الفضول وخرج من قفاها وقتل من ورائها ثلاثين من صفاتها وأخلاقها ودواعيها، وهزم الله باقي جيشها وهي الشياطين وأحزابها، وآتاه الله ملك الخلافة وحكمه الإلهامات الربانية، وعلمه مما يشاء من حقائق القرآن وإشاراته وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ يعني أرباب الطلب بالمشايخ البالغين الواصلين الهادين المهتدين كما قال وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ [الرعد: 7] لفسدت أرض استعداداتهم المخلوقة في أحسن التقويم عن استيلاء جالوت النفس بتبديل أخلاقها وتكدير صفائها وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ فمن كمال فضله ورحمته حرك سلسلة طلب الطالبين وألهم أسرارهم إرادة المشايخ الكاملين، ووفقهم للتمسك بذيول تربيتهم ووقفهم على التشبث بأهداب سيرهم، وثبتهم على الرياضات في حال تزكيتهم كما قال: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ [النور: 21] .
تم الجزء الثاني، وبه يتم المجلد الأول من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري، ويليه الجزء الثالث، وهو بداية المجلد الثاني، وأوله: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ
…