الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النون والتنوين في الواو في جميع القرآن. «عظيم» بالإشمام في الوقف، وكذلك إذا كانت الكلمة مكسورة: حمزة وعلي وخلف وهو الاختيار عندنا.
الوقوف:
«لا يؤمنون» (هـ)«على سمعهم» (ط) لأن الواو للاستئناف. «غشاوة» (ز) لأن الجملتين وإن اتفقتا نظما فالأولى بيان وصف موجود، والثانية إثبات عذاب موعود.
«عظيم» (هـ) .
التفسير:
وفيه مسائل:
الأولى: فيما يتعلق بأن أما عمله من نصب الاسم ورفع الخبر فمعلوم من علم النحو.
وأما فائدته فما ذكره المبرد في جواب الكندي من أن قولهم «عبد الله قائم» إخبار عن قيامه، وقولهم:«إن عبد الله قائم» جواب عن سؤال سائل، وقولهم:«إن عبد الله لقائم» جواب عن إنكار منكر لقيامه. وقد يضاف إليه القسم أيضا نحو «والله إن عبد الله لقائم. قال أبو نواس:
عليك باليأس من الناس
…
إن غنى نفسك في اليأس
حسن موقع «إن» لأن الغالب على الناس خلاف هذا الظن، وقد يجيء إذا ظن المتكلم في الذي وجد أنه لم يوجد كقولك «إنه كان مني إليه إحسان فقابلني بالسوء» وكأنك ترد على نفسك ظنك الذي ظننت وتبين الخطأ فيما توهمت كقوله تعالى حكاية عن أم مريم قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ [آل عمران: 36] وكذلك قول نوح رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ [الشعراء: 117] .
الثانية: لما قدم ذكر أوليائه وخالصة عباده بصفاتهم الموجبة لامتداحه إياهم بها، عقب ذلك بذكر أضدادهم وهم المردة من الكفار الذين لا ينجع فيهم الهدى وسواء عليهم الإنذار وعدمه. وإنما فقد العاطف بين القصتين خلاف ما في نحو قوله تعالى إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار: 13، 14] لتباين الجملتين هاهنا في الغرض والأسلوب، إذ الأولى مسبوقة بذكر الكتاب وإنه هدى للمتقين، والثانية لأن الكفار من صفتهم كيت وكيت، وذلك إذا جعلت «الذين يؤمنون» مبتدأ و «أولئك» خبره، لأن الكلام المبتدأ على سبيل الاستئناف مبني على تقدير سؤال، وذلك إدراج له في حكم المتقين وتصييره تبعا له في المعنى، فحكمه حكم الأول. وكذا إذا جعلت الموصول الثاني مبتدأ و «أولئك» خبره، لأن الجملة برأسها من مستتبعات «هدى للمتقين» لارتباط بينهما من حيث المعنى.
الثالثة: التعريف في «الذين» إما أن يراد به ناس معهودون بأعيانهم كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأضرابهم، وإما أن يراد به الجنس متناولا كل من صمم على كفره
تصميما لا يرعوي بعده فقط دون من عداهم من الكفار الذين أسلموا بدليل الحديث عنهم باستواء الإنذار وتركه عليهم.
الرابعة: الكفر نقيض الإيمان فيختلف تعريفه باختلاف تعريف الإيمان، وقد تقدم.
وأصل الكفر الستر والتغطية ومنه الكافر لأنه يستر الحق ويجحده، والزارع كافر لأنه يستر الحب، والليل المظلم كافر لأنه بظلمته يستر كل شيء، والكافر الذي كفر درعه بثوب أي غطى ولبسه فوقه. قال في التفسير الكبير:«كفروا» إخبار عن كفرهم بصيغة الماضي فيقتضي كون المخبر عنه متقدما على ذلك الإخبار. فللمعتزلة أن يحتجوا بهذا على أن كلام الله محدث، فإن القديم يستحيل أن يكون مسبوقا بالغير. قلت: التحقيق في هذا وأمثاله أن كلامه تعالى أزلي إلا أن حكمته في باب التفهيم والتعليم اقتضت أن يكون كلامه على حسب وصوله إلى السامعين ضرورة كونهم متزمنين، فكل ما هو متقدم على زمان الوصول وقع الإخبار عنه في الأزل بلفظ الماضي، وكل ما هو متأخر عن زمان الوصول وقع الإخبار عنه بلفظ المستقبل نحو لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ [الفتح: 27] سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ [آل عمران: 151] وإلا اختل نظام التفاهم والتخاطب. ومن هذا يعلم أن قوله سَنُلْقِي ليس كونه مستقبلا بالنظر إلى الأزل مقصودا بالنسبة إلى المخاطبين، وإنما المقصود استقباله بالنظر إلى زمان نزول الآية فافهم.
الخامسة: «سواء» اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ [آل عمران: 64] فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت: 10] يعني مستوية، وارتفاعه على أنه خبر «إن» و «أأنذرتهم أم لم تنذرهم» في موضع الفاعل أي مستو عليهم إنذارك وعدمه نحو: إن زيدا مختصم أخوه وابن عمه. ويحتمل أن يكون «أأنذرتهم أم لم تنذرهم» في موضع الابتداء، و «سواء» خبر مقدم، والجملة خبر «إن» . وإنما صح وقوع الفعل مخبرا عنه مع أنه أبدا خبر نظرا إلى المعنى كقولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن. معناه لا يكن منك أكل السمك وشرب اللبن، وإن كان ظاهر اللفظ على ما لا يصح من عطف الاسم على الفعل، فإن «أن» مع الفعل في تقدير المصدر على الفعل وهو النهي، وقد جردت الهمزة. و «أم» لمعنى الاستواء وسلخ عنهما معنى الاستفهام رأسا. قال سيبويه: هذا مثل قولهم «اللهم اغفر لنا أيتها العصابة» يعني أن هذا جرى على صورة الاستفهام ولا استفهام، كما أن ذاك جرى على صورة النداء ولا نداء. ومعنى الاستواء في الداخل عليهما «الهمزة» و «أم» استواؤهما في علم المستفهم، لأنه قد علم أن أحد الأمرين كائن لكن لا بعينه وكلاهما معلوم بعلم غير معين. والحاصل أن الاستفهام يلزمه معنيان:
أحدهما استواء طرفي الحكم في ذهن المستفهم، والثاني طلب معرفة أحدهما فجرد هذا الترتيب لمعنى الاستواء وسلخ عنه الطلب. وفائدة العدول عن العبارة الأصلية وهي سواء عليهم الإنذار وعدمه، أن يعلم أن قطع الرجاء وحصول اليأس عنهم إنما حصل بعد إصرارهم وكانوا قبل ذلك مرجوا منهم الإيمان، لا في علم الله تعالى بل في علمنا، فنزلت الآية بحسب ما يليق بحالنا في باب التقرير والتصوير. أو نقول: فائدته أن يعلم أن استواء الطرفين بلغ مبلغا يصح أن يستفهم عنه لكونه خاليا عن شوب التخمين وترجيح أحد الطرفين بوجه، فإن قول القائل «الإنذار وعدمه مستويان عليهم» يمكن أن يحمل على التقريب لا التحقيق، بخلاف ما لو أخبر عن الأمرين بطريق الهمزة وأم فافهم. والإنذار التخويف من عقاب الله بالزجر عن المعاصي، وإنما ذكر الإنذار دون البشارة لأن المقام مقام المبالغة، وتأثير الإنذار في الفعل والترك أقوى لأن دفع الضرر أهم من جلب النفع. وقوله «لا يؤمنون» إما جملة مؤكدة للتي قبلها، أو خبر لأن والجملة قبلها اعتراض.
السادسة: الختم والكتم أخوان، لأن في الاستيثاق من الشيء يضرب الخاتم عليه كتما له وتغطية لئلا يتوصل إليه ولا يطلع عليه. والغشاوة الغطاء فعالة من غشاه إذا غطاه، وهذا البناء لما يشتمل عليه كالعصابة والعمامة. والقلب يراد به تارة اللحم الصنوبري المودع في التجويف الأيسر من الصدر وهو محل الروح الحيواني الذي هو منشأ الحس والحركة وينبعث منه إلى سائر الأعضاء بتوسط الأوردة والشرايين، ويراد به تارة اللطيفة الربانية التي بها يكون الإنسان إنسانا وبها يستعد لامتثال الأوامر والنواهي والقيام بمواجب التكاليف إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ [ق: 37] . وهي من عالم الأمر الذي لا يتوقف وجوده على مادة ومدة بعد إرادة موجده له إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل: 40] . كما أن البدن بل اللحم الصنوبري من عالم الخلق الذي هو نقيض ذلك أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف: 54] . وقد يعبر عنها بالنفس الناطقة وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس: 7، 8] وبالروح قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء: 85] وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص: 72] والسمع قوة مرتبة في العصب المتفرق في سطح الصماخ، تدرك صورة ما يتأدى إليه بتموج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع مقاوم له انضغاطا بعنف يحدث منه تموّج فاعل للصوت، فيتأدى إلى الهواء المحصور الراكد في تجويف الصماخ ويموّجه بشكل نفسه وتماس أمواج تلك الحركة تلك العصبة فتسمع قاله ابن سينا. ولعل هذا في الشاهد فقط، وأما البصر فقال ابن سينا: هي قوة مرتبة في العصبة المجوفة تدرك صورة ما ينطبع في الرطوبة الجليدية من أشباح الأجسام
ذوات اللون المتأدية في الأجسام الشفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام الصيقلية. وزعم غيره أن البصر يخرج منه شيء فيلاقي المبصر ويأخذ صورته من خارج ويكون من ذلك إبصار.
وفي الأكثر يسمون ذلك الخارج شعاعا. والحق عندي أن نسبة البصر إلى العين نسبة البصيرة إلى القلب، ولكل من العين والقلب نور. أما نور العين فمنطبع فيها لأنه من عالم الخلق، فهو نور جزئي ومدركه جزئي، وأما نور القلب فمفارق لأنه من عالم الأمر، وهو نور كلي ومدركه كلي. وإدراك كل منهما عبارة عن وقوع مدركه في ذلك النور، ولكل منهما بل لكل فرد من كل منهما حد ينتهي إليه بحسب شدته وضعفه. ويتدرج في الضعف بحسب تباعد المرئي حتى لا يدركه، أو يدركه أصغر مما هو عليه. ولا يلزم من قولنا «إن للبصر نورا يقع في المرئي» أن يشتد النور إذا اجتمع بصراء كثيرة في موضع واحد قياسا على أنوار الكواكب والسرج، فإن ذلك الانضمام من خواص الأنوار المحسوسات، والملزومات المختلفة لا تستدعي الاشتراك في اللوازم. وهذا القدر من التحقيق في تفسير القلب والسمع والبصر كاف بحسب المقام. ثم اللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الختم وفي حكم التغشية، إلا أن الأولى دخولها في حكم الختم لقوله تعالى وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً [الجاثية: 23] ولهذا يوقف على «سمعهم» دون «قلوبهم» . وفي تكرير الجار إيذان باستقلال الختم على كل من القلب والسمع، وإنما وحد السمع لوجوه منها: أمن اللبس كما في قوله: كلوا في بعض بطنكم تعفوا. فإن زمانكم زمن خميص. إذ لا يلتبس أن لكل واحد بطنا، ولهذا إذا لم يؤمن نحو فرسهم وثوبهم والمراد الجمع رفضوه.
ومنها أن السمع في الأصل مصدر والمصادر لا تجمع فلمح الأصل، ولهذا جمع الأذن في قوله وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت: 5] . ومنها أن يقدر مضاف محذوف أي على حواس سمعهم، ومنها الاستدلال بما قبله وبما بعده على أن المراد به الجمع مثل عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ [النحل: 48] يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: 257] .
السابعة: من الناس من قال: السمع أفضل من البصر، لتقديمه في اللفظ ولأنه شرط النبوة. فما بعث رسول أصم بخلاف البصر فمن الأنبياء من كان مبتلى بالعمى، ولأن السمع سبب وصول المعارف ونتائج العقول إلى الفهم، والبصر سبب وصول المحسوسات إلى المبصر. ولأن السمع يتصرف في الجهات الست دون البصر، ولأن فاقد السمع في الأصل فاقد النطق، بخلاف فاقد البصر. ومنهم من فضل البصر لأن متعلق الأبصار النور، ومتعلق الأسماع الريح. والبصر يرى من بعيد دون السمع، ولأن عجائب الله تعالى في تخليق العين أكثر منها في تخليق السمع. وقد أسمع الله كلامه موسى من غير سبق سؤال ونوقش في
الرؤية وفي المثل «ليس وراء العيان بيان» . وفي العين جمال الوجه دون السمع. والحق أن من فقد حسا فقد فقد علما وهو المتوقف على ذلك الحس. ولا ريب أن معظم العلوم يتوقف تحصيلها على البصر والإرشاد، والتعليم على الإطلاق يتوقف على السمع. فكل من الحواس في موضعه ضروري، وتفضيل البعض على البعض تطويل بلا طائل، فسبحان من دقت في كل مصنوع حكمته وأحسن كل شيء خلقه.
الثامنة: الآية الأولى فيها الإخبار بأن الذين كفروا لا يؤمنون، والإنذار وعدمه عليهم سيان. والآية الثانية فيها بيان السبب الذي لأجله لم يؤمنوا وهو الختم والتغشية، فاحتج أهل السنة بالآيتين ونظائرهما على تكليف ما لا يطاق، وعلى أن الله تعالى هو الذي خلق فيهم الداعية الموجبة للكفر وختم على قلوبهم وسمعهم ومنعهم عن قبول الحق والصدق، وكل بتقديره ولا يسأل عما يفعل. وأما المعتزلة وأمثالهم فيقولون: كيف ينشىء فيهم الكفر ثم يقول: لم تكفرون؟ وخلق فيهم ما به لبس الحق بالباطل ثم يقول لم تلبسون الحق بالباطل؟ ونحو ذلك من الآيات الدالة على أن الكفر باختيار العبد وقدرته. فتأولوا الآية على أنها جارية مجرى قولهم «فلان مجبول على كذا أو مفطور عليه» يريدون أنه بليغ في الثبات عليه، أو على أنها تمثيل لحال قلوبهم فيما كانت عليه من التجافي عن الحق بحال قلوب ختم الله عليه حتى دخلوا في زمرة الأنعام لا تعي شيئا ولا تفقه كقولهم «سال به الوادي» إذا هلك، و «طارت به العنقاء» إذا أطال الغيبة. وليس للوادي ولا للعنقاء عمل في هلاكه ولا في طول غيبته، وإنما مثلت حاله في هلاكه بحال من سال به الوادي، وفي طول غيبته بحال من طارت به العنقاء، والشيطان هو الخاتم في الحقيقة أو الكافر. إلا أن الله تعالى لما كان هو الذي أقدره ومكنه أسند إليه الختم كما يسند الفعل إلى المسبب في قولهم «بنى الأمير المدينة» أو أنهم لما ترقى أمرهم في التصميم على الكفر إلى حدّ لا يتناهون عنه إلا بالقسر والإلجاء، ثم لم يقسرهم الله ولم يلجئهم لئلا ينتقض الغرض من التكليف، عبر عن ترك القسر والإلجاء بالختم. أو يكون حكاية لما كان الكفرة يقولونه تهكما بهم من قولهم قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت:
5] ويحكى أن الإمام أبا القاسم الأنصاري سئل عن تكفير المعتزلة في هذه المسألة فقال:
لا، لأنهم نزهوه عما يشبه الظلم والقبيح ولا يليق بالحكمة. وسئل عن أهل الجبر فقال:
لا، لأنهم عظموه حتى لا يكون لغيره قدرة وتأثير وإيجاد. وزعم الإمام فخر الدين أن إثبات الإله يلجىء إلى القول بالجبر لأن الفاعلية لو لم تتوقف على الداعية لزم وقوع الممكن من غير مرجح وهو نفي الصانع، وإثبات الرسول يلجىء إلى القول بالقدر لأنه لو لم يقدر العبد
على الفعل فأيّ فائدة فائدة في بعثة الرسل وإنزال الكتب؟ أو نقول: لما رجعنا إلى الفطرة السليمة وجدنا أن ما استوى الوجود والعدم بالنسبة إليه يترجح أحدهما على الآخر إلا المرجح، وهذا يقتضي الجبر. ونجد تفرقة ضرورية بين حركات الإنسان الاختيارية وبين حركات الجمادات والحركات الاضطرارية، وذلك يقتضي مذهب الاعتزال فلذلك بقيت هذه المسألة في حيز الإشكال. قلت- وبالله تعالى التوفيق-: عندي أن المسألة في غاية الاستنارة والسطوع إذا لو حظت المبادئ ورتبت المقدمات، فإن مبدأ الكل لو لم يكن قادرا على كل الممكنات وخرج شيء من الأشياء عن علمه وقدرته وتأثيره وإيجاده بواسطة أو بغير واسطة لم يصلح لمبدئية الكل. فالهداية والضلالة، والإيمان والكفر، والخير والشر، والنفع والضر، وسائر المتقابلات، كلها مستندة ومنتهية إلى قدرته وتأثيره وعلمه وإرادته. والآيات الناطقة بصحة هذه القضية كقوله تعالى وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ [النحل: 9] وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها [السجدة: 13] قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [النساء: 78] كثيرة. وكذا
الأحاديث «اعملوا فكل ميسر لما خلق له» «1»
«كل شيء بقدر حتى العجز والكيس» «2»
«احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى» «3» الحديث.
فهذه القضية مطابقة للعقل والنقل، وبقي الجواب عن اعتراضات المخالف. أما حكاية التنزيه عن الظلم والقبائح فأقول: لا ريب أنه تعالى منزه عن جميع القبائح، ولكن لا بالوجه الذي يذكره المخالف إذ يلزم منه النقص من جهة أخرى وهو الخلل في مبدئيته للكل وفي كونه مالك الملك. بل الوجه أن يقال: إن لله تعالى صفتي لطف وقهر، ومن الواجب في الحكمة أن يكون الملك. ولا سيما ملك الملوك، كذلك، إذ كل منهما من أوصاف الكمال ولا يقوم أحدهما مقام الآخر، ومن منع ذلك كابر وعاند. ولا بد لكل من الوصفين من مظهر، فالملائكة ومن ضاهاهم من الأخيار مظاهر اللطف، والشياطين ومن والاهم من الأشرار مظاهر القهر، ومظاهر اللطف هم أهل الجنة والأعمال المستتبعة لها، ومظاهر القهر هم أهل النار والأفعال المعقبة إياها. وهاهنا سر وهو أن اللطف والقهر والجنة والنار إنما يصح وجود كل من كل منهما بوجود الآخر،
(1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 92 باب 3- 5، 7. مسلم في كتاب القدر حديث 6- 8. أبو داود في كتاب السنّة باب 16. الترمذي في كتاب القدر باب 3. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 10.
(2)
رواه مسلم في كتاب القدر حديث 18. الموطأ في كتاب القدر حديث 4. أحمد في مسنده (2/ 110) .
(3)
رواه البخاري في كتاب الأنبياء باب 31. مسلم في كتاب القدر حديث 13. أبو داود في كتاب السنّة باب 16، 17. الترمذي في كتاب القدر باب 2. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 10.
فلولا القهر لم يتحقق اللطف، ولولا النار لم تثبت الجنة، كما أنه لولا الألم لم تتبين اللذة، ولولا الجوع والعطش لم يظهر الشبع والري. ولله در القائل:«وبضدها تتبين الأشياء» .
فخلق الله تعالى للجنة خلقا يعملون بعمل أهل الجنة، وللنار خلقا يعملون بعمل أهل النار.
ولا اعتراض لأحد عليها في تخصيص كل من الفريقين بما خصصوا به فإنه لو عكس الأمر لكان الاعتراض بحاله. وهاهنا تظهر حقيقة الشقاوة والسعادة فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ [هود:
105] الآية:
وقال صلى الله عليه وسلم: «إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكا بأربع كلمات، فيكتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد» «1» الحديث.
وإذا تؤمل فيما قلت، ظهر أن لا وجه بعد ذلك لإسناد الظلم والقبائح إليه تعالى، لأن هذا الترتيب والتمييز من لوازم الوجود والإيجاد كما يشهد به العقل الصريح، ولا سيما عند المخالف القائل بالتحسين والتقبيح العقليين. وليت شعري لم لا ينسب الظلم إلى الملك المجازي حيث يجعل بعض من تحت تصرفه وزيرا قريبا وبعضهم كناسا بعيدا لأن كلا منهما من ضرورات المملكة، وينسب الظلم إليه تعالى في تخصيص كل من عبيده بما خصص به، مع أن كلا منهم ضروري في مقامه؟! فهذا القائل بهدم بناء حكمته، تعالى، ويدعي أنه يحفظه فأفسد حين أصلح. وأما قوله «أي فائدة في بعثة الرسل وإنزال الكتب» ففي غاية السخافة، لأنا لما بينا أنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فكيف يبقى للمعترض أن يقول: لما جعل الله تعالى الشيء الفلاني سببا وواسطة للشيء الفلاني؟ كما أنه ليس له أن يقول مثلا لم جعل الشمس سببا لإنارة الأرض؟ غاية ما في الباب أن يقول إذا علم الله تعالى أن الكافر لا يؤمن فلم يأمره بالإيمان ويبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم فأقول: فائدة بعث الأنبياء وإنزال الكتب بالحقيقة ترجع إلى المؤمنين الذين جعل الله بعثهم وإنزالها سببا وواسطة لاهتدائهم إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها [النازعات: 45] كما أن فائدة نور الشمس تعود إلى أصحاب العيون الصحاح. وأما فائدة ذلك بالنسبة إلى المختوم على قلوبهم فكفائدة نور الشمس بالنسبة إلى الأكمه وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ [التوبة: 125] غاية ذلك إلزام الحجة
(1) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب 28. مسلم في كتاب القدر حديث 16. الترمذي في كتاب القدر باب 4. ابن ماجه في كتاب المقدمة باب 10. [.....]
وإقامة البينة عليهم ظاهرا لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا [القصص: 47] وهو بالحقيقة النعي عليهم بأنهم في أصل الخلقة ناقصون أشقياء. وهذا المعنى ربما لا يظهر لهم أيضا لغاية نقصانهم كما أن الأكمه ربما لا يصدق البصراء ولا يعرف أن التقصير والنقصان منه، وأن سائر الشرائط من محاذاة المرئي وظهور النير موجودة وإنما يعرف نقصانهم أرباب الأبصار. وأما حديث التفرقة الضرورية بين الحركات الاختيارية والحركات الاضطرارية كالرعشة مثلا فأقول: لا ريب أن للإنسان إرادات وقوى بها يتم له حصول الملائم واجتناب المنافي، إلا أن تلك الإرادات والقوى مستندة إلى الله تعالى، فكأنه لا اختيار له. والتفرقة المذكورة سببها في أن الرعشة نقصت واسطة هي الداعية، وفي الحركة المسماة بالاختيارية زادت واسطة فافهم هذه الحقائق والإشارات واستعن بها في سائر ما يقرع سمعك من هذا القبيل، فلعلنا لا نكررها في كل موضع حذرا من التطويل. ومن لم يستضىء بمصباح لا يستفيد بإصباح وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [الأحزاب: 4] .
التاسعة: العذاب مثل النكال بناء ومعنى، لأنك تقول: أعزب عن الشيء إذا أمسك عنه كما تقول: نكل عنه. ومنه العذاب لأنه يقمع العطش ويردعه بخلاف الملح فإنه يزيده.
ثم اتسع فيه فسمي كل ألم فادح عذابا وإن لم يكن نكالا أي عقابا يرتدع به الجاني عن المعاودة. والفرق بين العظيم والكبير، أن العظيم نقيض الحقير، والكبير نقيض الصغير، ويستعملان في المعاني والأعيان جميعا. تقول: رجل عظيم وكبير تريد جثته أو خطره.
ومعنى التنكير أن على أبصارهم نوعا من الأغطية غير ما يتعارفه الناس، وهو غطاء التعامي عن آيات الله. ولهم من بين الآلام العظام نوع عظيم لا يعلم كنهه إلا الله نعوذ بالله منه.
العاشرة: اتفق المسلمون أكثرهم على أنه يحسن من الله تعالى تعذيب الكفار. وقال بعضهم: لا يحسن، وفسروا قوله «ولهم عذاب عظيم» وكذا كل وعيد ورد في القرآن بأنهم يستحقون ذلك، لكن كرمه يوجب عليه العفو. وذكروا أيضا دلائل عقلية مبنية على الحسن والقبح كقولهم: التعذيب ضرر خال عن المنفعة لأن الله تعالى منزه عن ذلك والعبد يتضرر به، ولو سلم أنه ينتفع به فالله قادر على إيصال النفع إليه من غير توسط ذلك العذاب، والضرر خال عن المنافع قبيح بالبديهة. وكقولهم: علم أن الكافر لا يظهر منه إلا العصيان، فتكليفه أمرا متى لم يفعل ترتب عليه العذاب، وما كان مستعقبا للضرر من غير نفع كان قبيحا، فلم يبق إلا أن يقال: لم يوجد هذا التكليف، أو وجد لكنه لا يستعقب العقاب.