الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[المجلد الاول]
مقدمة المصنف
بسم الله الرّحمن الرّحيم إلى الله الكريم أرغب في إبداع غرائب القرآن، وبفضله العميم أتأهّب لإيداع رغائب الفرقان، فإليه منتهى الأمل والسؤال، وهذا حين أفتتح فأقول:
الحمد لله الذي جعلنا ممن شرح صدره للإسلام فهو على نور من ربّه وجبلني ذا نفس أبيّة وهمّة عليّة لا تكاد تستأنس إلا بذكر حبه. أعاف سفساف الأمور، وأخاف الموبقات الموجبات للثبور. أميل عن زخرف الدنيا وزبرجها، وأكبح النفس أن تحوم حول مخرجها ومولجها.
هي النفس ما حمّلتها تتحمّل
إن أرسلت استرسلت وإن قدعت انقدعت في الأول. ولله درّ السلف الشرر العيون إلى الأماني الفارغة الفانية، والأضاليل الملهية المنبئة عن السعادات الباقية. تاقت قلوبهم إلى الكرامات الدائمات واشتاقت أرواحهم إلى اللذّات الحقيقيات، وتاهت ضمائرهم في بيداء عظمة الملك والملكوت وتلاشت سرائرهم في دأماء ديمومية العزة والجبروت، فخلصوا من الناسوت ووصلوا إلى اللاهوت، وفنوا بشهوده وبقوا بوجوده ورضى كل منهم بقضاء معبوده، فتجلت لهم الذات واتحدت عندهم المختلفات فطابت لهم الغدوات واعتدلت لهم العشيات، ولم تطمح أعينهم إلا إلى تحصيل لما يقرّب إلى الله زلفى وما جرت ألسنتهم إلا بذكر الحق طوبى لهم وبشرى. أسألك اللهم الاقتداء بأولئك، والتوفيق لشكر ما أسبغت عليّ من عطائك وأتممت من نعمائك، وأعوذ بك أن أزلّ أو أضلّ فيما آتي وأذر، وأن أركن إلى الذين ظلموا فتمسني النار يوم العرض الأكبر. ثبّت أقدام أقلامي على الصدق، ولا تقض أن ينطق فمي بكلام سوى الحق، واجعلني بفضلك ممن لا ينظر إلا إليك ولا يرغب إلا فيما لديك. بريتني من غير سابقة علم مني، وربيتني من غير حق يوجب ذلك عليك،
فإن افتخرت فيما أنعمت عليّ وقد أمرت وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: 11] ، وإن استغفرت فمما أسرفت على نفسي وقد قلت وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً
[النساء: 110] .
فيا من لا يوجد في جوده شوب غرض ولا علّة، شرفني في الآخرة بالعزّة، واحرسني في دنياي من الذلّة، ولا تؤاخذني بالنقصان الإمكاني ولا تعاقبني بالنسيان الإنساني حتى يكون لك الفضل في الآخرة والأولى، والثناء في المبدأ والمحمدة في العقبى. أدعوك دعاء البائس الفقير المستعين، وأتضرّع إليك تضرّع الذليل المهين المستكين الماثل بين يدي مولاه الآيس بالكلية عمن سواه فاسمع فإنك سميع الدعاء وأجب فإنك قادر على ما تشاء. والصلاة والسلام على عبيدك، المخصوصين بتأييدك، المنزهين عن الأدناس الجسميّة، المطهرين عن الأرجاس النفسية، الفائزين بأشرف مراتب الأنس، الواصلين إلى أعلى مدارج الأنس، الضاربين في أرقى معارج القدس، ولا سيما المصطفى محمد الذي أشرق في سماء النبوة بدرا، وأشرف على بساط الرسالة صدرا، سيد الثقلين وسند الخافقين، إمام المتقين ورسول رب العالمين الكائن نبيا وآدم بين الماء والطين، المعفّر له جباه الأملاك، المشرف بلولاك لما خلقت الأفلاك، صلى الله عليه وعلى آله مفاتيح الجنة وأصحابه مصابيح الدحنة وسلم تسليما كثيرا.
وبعد، فإن المفتقر إلى عفو ربه الكريم الحسن بن محمد القمي المشتهر بنظام النيسابوري نظم الله أحواله في أولاه وأخراه يقول: من المعلوم عند ذوي الأفهام أن كلام الملوك ملوك الكلام، وبقدر البون بين الواجب الذات والممكن الذات يوجد التفاوت بين كلام الله تعالى وكلام المخلوقات. ولا سيما إذا وقع في معرض التحدي الذي يظهر النبي هنا لك من المتنبي، وهذا شأن القرآن العظيم والفرقان الكريم الذي أخرس شقاشق المناطق، قضّهم بقضيضهم، وأوقر مسامع المصاقع فيما بين أوجهم وحضيضهم حتى اختاروا المقارعة بالسيوف على المعارضة بالحروف، والمقاتلة بالأسنّة على المقاولة بالألسنة، والملاكمة باللهاذم على المكالمة باللهازم، ومبارزة الأقران على الإتيان بأقصر سورة من القرآن. قال الله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ [الإسراء: 88] وقال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ [هود: 13] وقال تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة: 23] . درج لهم الأمر فأوقع التحدي على القرآن جملة ثم على عشر سور ثم على سورة، فاضطرهم التعجيز إلى إيثار الأصعب على الأسهل فتبين أن الأسهل
في النظر هو الأصعب في نفس الأمر. وذلك من أذلّ دليل على حقية المنزّل وصدق المنزّل عليه وكيف لا وفيه نبأ الأولين وخبر الآخرين وحكم ما بين الخلائق أجمعين؟!
ولقد انتصب جمّ غفير وجمع كثير من الصحابة والتابعين ثم من العلماء الراسخين والفضلاء المحققين والأئمة المتقنين في كل عصر وحين، للخوض في تيار بحاره والكشف عن أستار أسراره والفحص عن غرائبه والاطلاع على رغائبه نقلا وعقلا وأخذا واجتهادا، فتباينت مطامح همّاتهم، وتباعدت مواقع نياتهم، وتشعبت مسالك أقدامهم وتفنّنت مقاطر أقلامهم فمن بين وجيز وأوجز ومطنب وملغز، ومن مقتصر على حل الألفاظ، ومن ملاحظ مع ذلك حظ المعاني والبيان ونعم اللحاظ، فشكر الله تعالى مساعيهم وصان عن إزراء القادح معاليهم. ومنهم من أعرض عن التفسير وأقبل على التأويل، وهو عندي ركون إلى الأضاليل وسكون على شفا جرف الأباطيل إلا من عصمه الله وإنه لقليل، ومنهم من مرج البحرين وجمع بين الأمرين. فللراغب الطالب أن يأخذ العذب الفرات ويترك الملح الأجاج، ويلقط الدرّ الثمين ويسقط السبج والزجاج.
وإذ وفقني الله تعالى لتحريك القلم في أكثر الفنون المنقولة والمعقولة كما اشتهر بحمد الله تعالى ومنّه فيما بين أهل الزمان. وكان علم التفسير من العلوم بمنزلة الإنسان من العين والعين من الإنسان. وكان قد رزقني الله تعالى من إبان الصبا وعنفوان الشباب حفظ لفظ القرآن وفهم معنى الفرقان. وطالما طالبني بعض أجلّة الإخوان وأعزة الأخدان ممن كنت مشارا إليه عندهم بالبنان في البيان- والله المنان يجازيهم عن حسن ظنونهم ويوفّقنا لإسعاف سؤلهم وإنجاح مطلوبهم- أن أجمع كتابا في علم التفسير مشتملا على المهمات مبنيا على ما وقع إلينا من نقل الأثبات وأقوال الثقات، من الصحابة والتابعين ثم من العلماء الراسخين والفضلاء المحققين المتقدمين والمتأخرين- جعل الله تعالى سعيهم مشكورا وعملهم مبرورا- فاستعنت بالمعبود وشرعت في المقصود، معترفا بالعجز والقصور في هذا
الفن وفي سائر الفنون، لا كمن هو بابنه وبشعره مفتون. كيف وقد قال عز من قائل وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: 85] ، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا [النساء: 122] وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا [النساء: 45] وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا [النساء: 81، 132، 171 والأحزب 3، 48] ولما كان التفسير الكبير المنسوب إلى الإمام الأفضل والهمام الأمثل، الحبر النحرير والبحر الغزير، الجامع بين المعقول والمنقول الفائز بالفروع والأصول، أفضل المتأخرين فخر الملة والحق والدين محمد بن عمر بن الحسين الخطيب الرازي تغمده الله برضوانه وأسكنه بحبوحة جنانه، اسمه مطابق لمسماه وفيه من اللطائف والبحوث ما لا يحصى، ومن الزوائد والغثوث ما لا يخفى، فإنه قد بذل مجهوده ونثل موجوده حتى عسر كتبه على الطالبين وأعوز تحصيله على الراغبين، فحاذيت سياق مرامه، وأوردت حاصل كلامه، وقربت مسالك أقدامه، والتقطت عقود نظامه، من غير إخلال بشيء من الفرائد أو إهمال لما يعدّ من اللطائف والفوائد، وضممت إليه ما وجدت في الكشاف وفي سائر التفاسير من اللطائف المهمات، أو رزقني الله تعالى من البضاعة المزجاة، وأثبت القراآت المعتبرات والوقوف المعللات، ثم التفسير المشتمل على المباحث اللفظيات والمعنويات، مع إصلاح ما يجب إصلاحه وإتمام ما ينبغي إتمامه من المسائل الموردة في التفسير الكبير والاعتراضات، ومع حل ما يوجد في الكشاف من المواضع المعضلات سوى الأبيات المعقدات، فإن ذلك يوردها من ظن أن تصحيح القراآت وغرائب القرآن إنما يكون بالأمثال والمستشهدات كلا، فإن القرآن حجة على غيره وليس غيره حجة عليه، فلا علينا أن نقتصر في غرائب القرآن على تفسيرها بالألفاظ المشتهرات وعلى إيراد بعض المتجانسات التي تعرف منها أصول الاشتقاقات. وذكرت طرفا من الإشارات المقنعات والتأويلات الممكنات والحكايات المبكيات والمواعظ الرادعة عن المنهيات الباعثة على أداء الواجبات، والتزمت إيراد لفظ القرآن الكريم أوّلا مع ترجمته على وجه بديع وطريق منيع مشتمل على إبراز المقدّرات وإظهار المضمرات وتأويل المتشابهات وتصريح الكنايات وتحقيق المجازات والاستعارات فإن هذا النوع من الترجمة مما تسكب فيه العبرات وترن «1» المترجمون هنا لك إلى العثرات، وقلما يفطن له الناشئ الواقف على متن اللغة العربية فضلا عن
(1) هكذا في النسخة المطبوعة وفي نسخة أخرى ويزن في نسخة ثالثة وذن ولعل الصواب ويزل وليتحرر اه- مصححة.
الدخيل القاصر في العلوم الأدبية. واجتهدت كل الاجتهاد في تسهيل سبيل الرشاد، ووضعت الجميع على طرف التمام ليكون الكتاب كالبدر في التمام وكالشمس في إفادة الخاص والعام، من غير تطويل يورث الملام ولا تقصير يوعر مسالك السالك ويبدد نظام الكلام، فخير الكلام ما قل ودل، وحسبك من الزاد ما بلغك المحل. والتكلان في الجميع على الرحمن المستعان والتوفيق مسؤول ممن بيده مفاتيح الفضل والإحسان وخزائن البر والامتنان. وهذا أوان الشروع في تفسير القرآن، ولنقدم أمام ذلك مقدمات.