الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة البقرة (2) : الآيات 180 الى 182]
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
القراآت:
خافَ بالإمالة حيث كان: حمزة. مُوصٍ بالتشديد: يعقوب وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص وجبلة الباقون: بالتخفيف من الإيصاء.
الوقوف:
خَيْراً ج لأن قوله الْوَصِيَّةُ مفعول كُتِبَ وإنما لم يؤنث الفعل لتقدمه ولاعتراض ظرف وشرط بينهما، أو «الوصية» مبتدأ «وللوالدين» خبره، ومفعول «كتب» محذوف أي كتب عليكم أن توصوا. ثم بين لمن الوصية والوصل أولى لئلا يحتاج إلى الحذف. بِالْمَعْرُوفِ ح لأن التقدير حق ذلك حقا أو كتب الوصية حقا. الْمُتَّقِينَ ط وإن كان بعدها فاء التعقيب لأنه حكم آخر يُبَدِّلُونَهُ ط عليم كذلك عَلَيْهِ ط رَحِيمٌ (هـ) .
التفسير:
وهذا حكم آخر. قوله كُتِبَ عَلَيْكُمْ يقتضي الوجوب كما مر. والمراد من حضور الموت ليس معاينة الموت لأنه في ذلك الوقت يكونه عاجزا عن الإيصاء والأكثرون قالوا: المراد ظهور أمارة الموت وهو المرض المخوف كما يقال لمن قارب البلد: إنه وصل. وعن الأصم: المراد فرض عليكم في حال الصحة الوصية بأن تقولوا إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا، وزيف بأنه ترك للظاهر. ولا شك أن الخير قد ورد في القرآن بمعنى المال وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ [البقرة: 272] وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات: 8] مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24] لكن الأئمة اختلفوا في المراد بالخير هاهنا بعد اتفاقهم على أنه المال. فعن الزهري: أنه المال مطلقا قليلا كان أو كثيرا بدليل قوله مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ [القصص: 24] فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: 7] وأنه تعالى اعتبر أحكام المواريث فيما يبقى من المال قل أم كثر قال تعالى وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً [النساء: 7] فكذا الوصية، ولأن كل ما ينتفع به فهو خير. والأكثرون على أن لفظ الخير في الآية مختص بالمال الكثير كما لو قيل «فلان ذو مال» يفهم منه أن ماله قد جاوز حد أهل الحاجة وإن كان اسم المال يقع في الحقيقة على ما يتموله الإنسان من قليل أو كثير. وكما إذا قيل «فلان في نعمة من الله تعالى» فإنه يراد تكثير النعمة وإن كان أحد لا ينفك عن نعمة الله وهو باب من المجاز مشهور ينفون الاسم عن الشيء لنقصه ومنه
قوله صلى الله عليه وسلم «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد»
ولو كانت الوصية واجبة في كل ما يترك لم يكن لقوله إِنْ تَرَكَ خَيْراً فائدة لندرة من يموت فاقدا أقل ما يتمول. ثم القائلون بهذا اختلفوا في أن المسمى
بالخير في الآية مقدر بمقدار معين أم لا. فمنهم من قال: إنه غير مقدّر ويختلف ذلك باختلاف حال الرجل. فقد يوصف المرء لمقدار من المال بأنه غنيّ ولا يوصف غيره بالغنى لذلك المقدار لأجل كثرة العيال وتوسع النفقة، فيكون التعيين في كل صورة موكولا إلى الاجتهاد، وهذا لا ينافي أصل الإيجاب. ومنهم من قال: إنه مقدر. ثم اختلفوا
فعن علي كرم الله وجهه: أنه دخل على مولى في مرض الموت وله سبعمائة درهم فقال: ألا أوصي؟ قال: لا قال الله تعالى إِنْ تَرَكَ خَيْراً وليس لك كثير مال.
وعن عائشة أن رجلا قال لها: إني أريد أن أوصي. قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف. قالت:
كم عيالك؟ قال أربعة. قالت: قال الله تعالى إِنْ تَرَكَ خَيْراً وإن هذا لشيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل. وعن ابن عباس: أنه إذا ترك سبعمائة درهم فلا يوصي، فإذا بلغ ثمانمائة درهم أوصى. وعن قتادة: ألف درهم. وعن النخعي من ألف إلى خمسمائة درهم. قال أبو البقاء: جواب الشرط عند الأخفش الوصية بحذف الفاء أي فالوصية للوالدين على الابتداء والخبر واحتج بقول الشاعر:
من يفعل الحسنات الله يشكرها وقال غيره: جواب الشرط في المعنى ما تقدم من كتب الوصية كما تقول «لك كذا إن فعلت» ويجوز أن يكون جواب الشرط معنى الإيصاء لا معنى الكتب بناء على رفع الوصية بكتب وهو الوجه. وقيل: المرفوع بكتب الجار والمجرور وهو عَلَيْكُمْ وليس بشيء وأما إذا فهو ظرف لمعنى الوصية ولا يحتاج إلى جواب. والأقربين قيل هم الأولاد عن ابن زيد. وقيل من عدا الولد عن ابن عباس ومجاهد. وقيل: جميع القرابات. وقيل:
غير الوارث. وقوله بِالْمَعْرُوفِ أمر بأن يسلك في الوصية الطريقة الجميلة. فلو حرم الفقير ووصى للغني لم يكن معروفا، ولو سوّى بين الوالدين مع عظم حقهما وبين بني العم لم يكن معروفا، ولو أوصى لأولاد الجد البعيد مع حضور الإخوة لم يكن ما يأتيه معروفا. وحَقًّا مصدر مؤكد أي حق ذلك حقا على المتقين على الذين آثر والتقوى وجعلوها مذهبا لهم وسيرة.
واعلم أن الأئمة القائلين بوجوب هذه الوصية اختلفوا في أنها منسوخة أم لا. أما أبو مسلم فإنه اختار عدم نسخها وقال: معناها كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين في قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ [النساء: 11] أو كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين بتوفير ما أوصى الله به لهم عليهم وأن لا
ينقص من أنصبائهم، أو لا منافاة بين ثبوت الميراث للأقرباء مع ثبوت الوصية. فالميراث عطية من الله تعالى والوصية عطية ممن حضره الموت، فالوارث يجمع له بين الوصية والميراث بحكم الآيتين، ولو قدرنا حصول المنافاة فهذه الآية توجب الوصية للوالدين والأقربين. ثم آية الميراث تخرج القريب الوارث ويبقى القريب الذي لا يكون وارثا داخلا في الآية. وذلك أن من الوالدين من لا يرث بسبب اختلاف الدين والرق والقتل، ومن الأقارب من يسقط في حال ويثبت في حال، ومنهم من يسقط في كل حال إذا كانوا ذوي رحم. فآية الميراث مخصصة لهذه الآية لا ناسخة لها. وأكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء على أن الآية منسوخة قالوا: نسخت بآية المواريث أو بالإجماع أو
بقوله صلى الله عليه وسلم «أن الله أعطى كل ذي حق حقه ألا لا وصية لوارث» «1»
وهذا وإن كان خبر واحد إلا أن الأمة تلقته بالقبول حتى التحق بالمتواتر فيجوز نسخ القرآن به عند الجمهور. ومن أئمة الأمة من قال: هي منسوخة في حق من يرث، ثابتة فيمن لا يرث وهو مذهب ابن عباس والحسن البصري ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد حتى قال الضحاك:
من مات من غير أن يوصي لأقربائه فقد ختم عمله بمعصية. وقال طاوس: إن أوصى للأجانب وترك الأقارب نزع منهم ورد إلى الأقارب. قالوا: الآية دلت على وجوب الوصية للقريب ترك العمل به في حق القريب الوارث، إما بآية المواريث أو
بقوله «لا وصية لوارث» «2»
أو بإجماع الأمة. فبقيت الآية دالة على وجوب الوصية للقريب الذي لا يكون وارثا. وأيضا
قال صلى الله عليه وسلم «ما من حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه»
وفي رواية «له شيء يريد أن يوصي به أن يبيت ليلتين»
وفي رواية «ثلاث ليال إلا ووصيته مكتوبة عنده» «3»
لكن الوصية لغير الأقارب غير واجبة بالإجماع فوجب أن تختص بالأقارب. وهؤلاء القائلون بأن الآية صارت منسوخة في حق القريب الذي لا يكون وارثا اختلفوا في موضعين:
الأول: نقل عن ابن مسعود أنه جعل هذه الوصية للأفقر فالأفقر من الأقرباء. وقال الحسن البصري والأغنياء سواء. الثاني: عن الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن معلى أنهم
(1) رواه البخاري في كتاب الوصايا باب 6. أبو داود في كتاب الوصايا باب 6. الترمذي في كتاب الوصايا باب 5. النسائي في كتاب الوصايا باب 5. ابن ماجه في كتاب الوصايا باب 6.
(2)
المصدر السابق. [.....]
(3)
رواه البخاري في كتاب الوصايا باب 1. مسلم في كتاب الوصية حديث 1 أبو داود في كتاب الوصايا باب 1. الترمذي في كتاب الوصايا باب 3. النسائي في كتاب الوصايا 1. ابن ماجه في كتاب الوصايا باب 2. الدارمي في كتاب الوصايا باب 1. الموطأ في كتاب الوصايا حديث 1.
قالوا فيمن يوصي لغير قرابته وله قرابة لا ترثه: يجعل ثلثي الثلث لذوي القرابة، وثلث الثلث لمن أوصى له. وعن طاوس: أن الأقارب إن كانوا محتاجين انتزغت الوصية من الأجانب وردت إلى الأقارب فَمَنْ بَدَّلَهُ فمن غير الإيصاء أو ما قاله الميت وأوصى به عن وجهه إن كان موافقا للشرع بَعْدَ ما سَمِعَهُ وتحققه فلا معنى للسماع لو لم يقع العلم به والمبدل إما الوصي بأن يغير الوصية في الكتابة، أو في قسمة الحقوق، وإما الشاهد بأن يغير شهادته أو يكتمها غير هما بأن يمنع من وصول ذلك المال إلى مستحقه، وقيل: المنهي عن التغيير هو الموصي، نهي عن تغيير الوصية عن الموضع الذي بيّن الله تعالى الوصية فيه. فإنهم كانوا يوصون في الجاهلية للأبعدين طلبا للفخر والشرف، ويتركون الأقارب في الضر والفقر، فأمرهم بالوصية للأقربين وأوعدهم على تركها. فَإِنَّما إِثْمُهُ ما إثم الإيصاء المغير أو إثم التبديل إلا على الذين يبدلونه، فإن أحدا لا يؤاخذ بذنب غيره. ومنه يعلم أن الطفل لا يعذب بكفر أبيه، وأن الإنسان إذا أمر الوارث بقضاء دينه فإن الميت لا يعذب بتقصير ذلك الوارث، وأن الميت لا يعذب بنياحة غيره عليه إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يسمع الوصية على حدها ويعلمها على صفتها فلا تخفى عليه خافية من التغيير الواقع فيها، وفي ذلك وعيد للمبدّل وأيّ وعيد. ثم إنه سبحانه لما أطلق الإيعاد على التبديل أتبعه قوله فَمَنْ خافَ ليعلم أن التغيير من الباطل إلى الحق على طريق الإصلاح مستحسن شرعا كما هو حسن عقلا، وللخوف هاهنا تفسيران: أحدهما: الخشية فيسأل أنه إنما يصح في أمر منتظر مظنون والوصية وقعت وعلمت. وأجيب بأن المراد أن هذا المصلح إذا شاهد الموصي يوصي فظهرت منه أمارات الجنف الذي هو الميل عن طريق الحق مع ضرب من الجهالة، أو مع التأويل أو شاهد فيه إثما أي تعمدا بأن يزيد غير المستحق، أو ينقص المستحق أو يعدل عن المستحق. فعند ظهور أمارات ذلك وقبل تحقق الوصية يأخذ في الإصلاح بينهم أي بين أهل الوصية، لأن قوله مِنْ مُوصٍ يدل على سائر ملابساته. فكأن الموصي يقول وقد حضر الوصي والشاهد على وجه المشورة: أريد أن أوصي للأباعد دون الأقارب، أو أن أزيد فلانا مع أنه غير مستحق للزيادة، أو أنقص فلانا مع أنه مستحق للزيادة، فعند ذلك يصير السامع خائفا من جنف أو إثم لا قاطعا به، وأيضا الجائز أن لا يستمر الموصي على وصيته فإن له الفسخ ما دام في حياته، فمن أين يحصل الثقة بما فعل وقد يعدل عن الحق في آخر الأمر؟ وبتقدير أن تستقر الوصية ومات الوصي على ذلك لم يبعد أن يقع بين الورثة والموصى لهم تنازع فيما نسب إلى الموصي، وقد يعزى حينئذ إلى الجنف أو الإثم فيحتاج إلى الإصلاح بينهم بإجرائهم على قانون الشرع. والتفسير الثاني إن خافَ