الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة الثالثة في مسائل مهمة
المسألة الأولى: القراآت السبع متواترة لا بمعنى أن سبب تواترها إطباق القراء السبعة عليها، بل بمعنى أن ثبوت التواتر بالنسبة إلى المتفق على قراءته من القرآن كثبوته بالنسبة إلى كل من المختلف في قراءته، ولا مدخل للقارىء في ذلك إلا من حيث أن مباشرته لقراءته أكثر من مباشرته لغيرها حتى نسبت إليه. وإنما قلنا: إن القراآت متواترة لأنه لو لم تكن كذلك لكان بعض القرآن غير متواتر كملك ومالك ونحوهما إذ لا سبيل إلى كون كليهما غير متواتر، فإن أحدهما قرآن بالاتفاق، وتخصيص أحدهما بأنه متواتر دون الآخر تحكّم باطل لاستوائهما في النقل، فلا أولوية فكلاهما متواتر. وإنما يثبت التواتر فيما ليس من قبيل الأداء كالمدّ والإمالة وتخفيف الهمزة ونحوها.
الثانية: اتفقوا على أنه لا تجوز القراءة في الصلاة بالوجوه الشاذة، لأن الدليل ينفي جواز القراءة بها مطلقا لأنها لو كانت من القرآن لبلغت في الشهرة إلى حدّ التواتر عدلنا عن الدليل في جواز القراءة خارج الصلاة للاحتمال، فوجب أن تبقى قراءتها في الصلاة على أصل المنع.
الثالثة: السبعة الأحرف التي نزل بها القرآن في
قوله صلى الله عليه وسلم: «إن هذا القرآن نزل على سبعة أحرف، لكل آية منه ظهر وبطن ولكل حدّ مطلع» .
عند أكثر العلماء أنها سبع لغات من لغات قريش لا تختلف ولا تتضادّ بل هي متفقة المعنى. وغير جائز عندهم أن يكون في القرآن لغة لا تعرفها قريش لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم: 4] وذلك أن قريشا تجاور البيت، وكانت أحياء العرب تأتي إليهم للحج ويستمعون لغاتهم ويختارون من كل لغة أحسنها، فصفا كلامهم واجتمع لهم مع ذلك العلم بلغة غيرهم. ومما يدلّ على أن السبعة الأحرف هي سبع لغات متفقة المعنى ما روي عن ابن سيرين أن ابن مسعود قال: اقرءوا القرآن على سبعة أحرف وهو كقول أحدكم هلم
وتعال وأقبل. وقال بعضهم: إنها سبع قبائل من العرب قريش وقيس وتميم وهذيل وأسد وخزاعة وكنانة لمجاورتهم قريشا. وقيل سبع لغات من أي لغة كانت من لغات العرب مختلفة الألفاظ متفقة المعاني
لقوله صلى الله عليه وسلم: «إنه قد وسع لي أن أقرئ كل قوم بلغتهم» .
وقيل: معناه أن يقول في صفات الرب تبارك وتعالى مكان قوله غفورا رحيما عزيزا حكيما سميعا بصيرا لما
روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «اقرءوا القرآن على سبعة أحرف ما لم تختموا مغفرة بعذاب أو عذابا بمغفرة، أو جنة بنار أو نارا بجنة» .
وقيل: إن لفظ «السبعة» في الخبر جاء على جهة التمثيل، لأنه لو جاء في كلمة أكثر من سبع قراءات جاز أن يقرأ بها. وعن مالك بن أنس أنه كان يذهب في معنى «السبعة الأحرف» إلى أنه كالجمع والتوحيد في مثل:
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ و «كلمات ربك» [الأنعام: 115 والأعراف: 137 وهود: 119] وكالتذكير والتأنيث في مثل: وَلا يُقْبَلُ ولا «تقبل» [البقرة: 48] وكوجوه الإعراب في مثل: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ و «غير الله» [فاطر: 3] وكوجوه التصريف في مثل:
يَعْرِشُونَ و «يعرشون» [الأعراف: 137] وكاختلاف الأدوات في مثل قوله: وَلكِنَّ الشَّياطِينَ [البقرة: 102] بالتشديد ونصب ما بعدها، وبالتخفيف والرفع وكاختلاف اللفظ في الحروف نحو: يَعْلَمُونَ بالتاء والياء [يونس: 123]، ونُنْشِزُها [البقرة:
259] بالراء والزاي وكالتخفيف والتفخيم والإمالة والمدّ والقصر والهمز وتركه والإظهار والإدغام ونحوها. وذهب جماعة إلى حملها على المعاني والأحكام التي ينتظمهما القرآن دون الألفاظ من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وأمر ونهي، ومواعظ وأمثال واحتجاج، وغير ذلك، واستبعده المحققون من قبل أن الأخبار الواردة في مخاصمة الصحابة في القراءة تدلّ على أن اختلافهم كان في اللفظ دون المعنى.
قال بعض العلماء: إني تدبرت الوجوه التي تتخالف بها لغات العرب فوجدتها على سبعة أنحاء لا تزيد ولا تنقص وبجميع ذلك نزل القرآن.
الوجه الأول: إبدال لفظ بلفظ ك «الحوت» ب «السمك» وبالعكس، وكَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [المعارج: 9 والقارعة: 5] قرأها ابن مسعود «كالصوف المنفوش» . الثاني:
إبدال حرف بحرف ك التَّابُوتُ و «التابوة» [البقرة: 248 وطه: 39] . الثالث: تقديم وتأخير إما في الكلمة نحو «سلب زيد ثوبه» و «سلب ثوب زيد» ، وإما في الحروف نحو:
أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ [الرعد: 31] و «أفلم يأيس» . الرابع: زيادة حرف أو نقصانه نحو:
مالِيَهْ [الحاقة: 28] وسُلْطانِيَهْ [الحاقة: 29] وفَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ [هود: 109] .
الخامس: اختلاف حركات البناء نحو تَحْسَبَنَّ [آل عمران: 169 و 188 وإبراهيم: 42
و 47 والنور: 57] بفتح السين وكسرها. السادس: اختلاف الإعراب نحو: ما هذا بَشَراً [يوسف: 31] وقرأ ابن مسعود «بشر» بالرفع. السابع: التفخيم والإمالة وهذا اختلاف في اللحن والتزيين لا في نفس اللغة، والتفخيم أعلى وأشهر عند فصحاء العرب.
فهذه الوجوه السبعة التي بها اختلفت لغات العرب قد أنزل الله باختلافها القرآن متفرقا فيه ليعلم بذلك أن من زلّ عن ظاهر التلاوة بمثله، أو من تعذّر عليه ترك عادته فخرج إلى نحو مما قد نزل به فليس بملوم ولا معاقب عليه. وكل هذا فيما إذا لم تختلف فيه المعاني فإن قيل: فما قولكم في القراآت التي تختلف بها المعاني؟ قلنا: إنها صحيحة منزلة من عند الله ولكنها خارجة من هذه السبعة الأحرف، وليس يجوز أن يكون فيما أنزل الله من الألفاظ التي تختلف معانيها ما يجري اختلافها مجرى التضاد والتناقض، لكن مجرى التغاير الذي لا تضاد فيه. ثم إنها تتجه على وجوه: فمنها أن يختلف بها الحكم الشرعي على المبادلة بمنزلة قوله: وَأَرْجُلَكُمْ [المائدة: 6] بالجر والنصب جميعا، وإحدى القراءتين تقتضي فرض المسح والأخرى فرض الغسل، وقد بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فجعل المسح للابس الخف في وقته، والغسل لحاسر الرجل وهذا الضرب هو الذي لا تجوز قراءته إلا إذا تواتر نقله وثبت من الشارع بيانه، وليس يعذر من زل في مثله عما هو المنزل حتى يراجع الصواب ويفزع إلى الاستغفار. وقد يكون ما يختلف الحكم فيه على غير المبادلة لكن على الجمع بين الأمرين بمنزلة وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ [البقرة: 222] من الطهر و «حتى يطّهرن» مشددة الطاء من التطهّر، فإن القراءتين هاهنا تقتضيان حكمين مختلفين يلزم الجمع بينهما، وذلك أن الحائض لا يقربها زوجها حتى تطهر بانقطاع حيضها وحتى تطهر بالاغتسال. ولا تجوز القراءة في أمثال هذه إلا بالنقل الظاهر. ومن زل في مثله إلى ما يقتضي أمرا وقد علم ثبوته ولم يقرأ به، لم يلزمه فيه حرج كقوله تعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الإسراء: 32] لو صحّفه أحد فقرأه «الربا» بالراء، والباء من الربا في المال، فإنه منهي عنه كالزنا فإن كان عدوله عن ظاهر التلاوة على سبيل التعمّد فهو ملوم على ذلك. وأما التضاد والتنافي فغير موجود في كتاب الله. والنسخ ليس من هذا القبيل لأن اتحاد الزمان شرط التنافي وعند ورود الناسخ ينتهي المنسوخ، ويتبين أن في علم الله حكم المنسوخ كان مؤجلا إلى ورود الناسخ، والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «لكل آية ظهر وبطن»
أي ظاهر وباطن، فالظاهر ما يعرفه العلماء، والباطن ما يخفى عليهم. فنقول في ذلك كما أمرنا ونكل علمه إلى الله تعالى وقيل: هو أن نؤمن به باطنا كما نؤمن به ظاهرا.
وقوله: «ولكل حد مطلع»
أي لكل طرف من حدود الله التي يوقف
هنالك ولا يتجاوز عنه من مأمور أو منهي أو مباح، مصعد ومأتي يؤتى منه ويفهم كما هو، أو مقدار من الثواب والعقاب يعاينه في الآخرة ويطلع عليه، كما قال عمر:«لو أن لي ما في الأرض من صفراء وبيضاء لافتديت به من هول المطلع» يعني ما يشرف عليه من أمر الله بعد الموت.