الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوقوف:
يُنْشِرُونَ هـ لَفَسَدَتا ج للابتداء ب فَسُبْحانَ للتعظيم مع فاء التعقيب تعجيلا للتنزيه يَصِفُونَ هـ يُسْئَلُونَ هـ آلِهَةً ط بُرْهانَكُمْ ج لاتحاد المقول من غير عاطف قَبْلِي ط لا يَعْلَمُونَ هـ لا لأن ما بعده مفعول مُعْرِضُونَ هـ فَاعْبُدُونِ هـ سُبْحانَهُ ط مُكْرَمُونَ هـ ط لأن ما بعده صفة بعد صفة يَعْمَلُونَ هـ وَلا يَشْفَعُونَ هـ لا للاستثناء مُشْفِقُونَ هـ جَهَنَّمَ ط الظَّالِمِينَ هـ فَفَتَقْناهُما ط لانتهاء الاستفهام إلى الإخبار حَيٍّ ط يُؤْمِنُونَ هـ يَهْتَدُونَ هـ مَحْفُوظاً ج لاحتمال الواو الاستئناف والحال مُعْرِضُونَ هـ وَالْقَمَرَ ط يَسْبَحُونَ هـ الْخُلْدَ ط الْخالِدُونَ هـ الْمَوْتِ ط فِتْنَةً ط تُرْجَعُونَ هـ هُزُواً ط آلِهَتَكُمْ ج لاحتمال الواو الاستئناف والحال كافِرُونَ هـ مِنْ عَجَلٍ ط فَلا تَسْتَعْجِلُونِ هـ صادِقِينَ هـ يُنْصَرُونَ هـ يُنْظَرُونَ هـ يَسْتَهْزِؤُنَ هـ ط مِنَ الرَّحْمنِ ط مُعْرِضُونَ هـ مِنْ دُونِنا ط فصلا بين الاستفهام والإخبار يُصْحَبُونَ هـ الْعُمُرُ ط مِنْ أَطْرافِها ط الْغالِبُونَ هـ بِالْوَحْيِ ط لاستئناف ولا يسمع بالياء التحتانية والوصل أجوز لتتميم المقول، ومن قرأ على الخطاب وقف لأنه خرج عن المقول يُنْذَرُونَ هـ ظالِمِينَ هـ شَيْئاً ط أَتَيْنا بِها ط حاسِبِينَ هـ لِلْمُتَّقِينَ هـ لا لاتصال الصفة ولا يخفى أنه يحتمل النصب أو الرفع على المدح فيجوز أن لا يوصل. مُشْفِقُونَ هـ أَنْزَلْناهُ ط مُنْكِرُونَ.
التفسير:
إنه سبحانه بدأ في أول السورة بذكر المعاد ثم انجر الكلام إلى النبوات وما يتصل بها سؤالا وجوابا فختم الكلام بالإلهيات لأنها المقصود بالذات فقال على سبيل الإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها بواسطة «أم» المنقطعة أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ نسبت إلى الأرض كما يقال «فلان من مكة» لأنها أصنام تعبد من الأرض، لأن الآلهة على ضربين أرضية وسماوية. أو أراد أنها من جنس الأرض لأنها تنحت من حجر أو تعمل من جوهر آخر أرضي. ويقال: أنشر الله الموتى ونشرها أي أحياها. ومن أعظم المنكرات أن ينشر الموتى بعض الموات كأنهم بادعائهم لها الإلهية أدعوا لها الإنشار وإن كانوا منكرين البعث فضلا عن قدرة الأصنام عليه لأنه لا يستحق هذا الاسم إلا القادر على كل مقدور.
والإنشار من جملة المقدورات بالدلائل الباهرة وفيه باب من التهكم والتسجيل وإشعار بأن ما استبعدوه من الله لا يصح استبعاده، لأن الاقتدار على الإبداء والإعادة من لوازم الإلهية.
ومعنى هُمْ أفادت الخصوصية كأنه قيل: أم اتخذوا آلهة لا يقدر على الإنشار إلا هم وحدهم، وفيه رمز إلى أن الأمر المختص بالاهتداء هو وحده. ولما قدم الإنكار شرع في دليل التوحيد فقال: لَوْ كانَ فِيهِما أي في السموات والأرض وقد مر ذكرهما آلِهَةٌ إِلَّا
اللَّهُ
أي غير الله. قال النحويون: إلا هاهنا بمعنى غير لتعذر حمل إلا على الاستثناء لأنها تابعة لجمع منكور غير محصور، والاستثناء لا يصح إلا إذا كان المستثنى داخلا في المستثنى منه لولا الاستثناء وقد يقال: إن «إلا» في هذه المادة لا يمكن أن تكون للاستثناء لأنا لو حملناها على الاستثناء لصار المعنى لو كان فيهما آلهة ليس معهم الله وهذا يوجب بطريق المفهوم أنه لو كان فيهما آلهة معهم الله لم يحصل الفساد. وللمفسرين في تفسير الآية طريقان: أحدهما حمل الغائب على الشاهد والمعنى لو كان يتولاهما ويدبر أمرهما آلهة غير الواحد الذي هو فاطرهما لَفَسَدَتا وفيه دلالة على أمرين: الأول وجوب أن لا يكون مدبرهما إلا واحدا، والثاني أن لا يكون ذلك الواحد إلا إياه لقوله غير الله وإنما وجب الأمر أن لعلمنا أن الرعية تفسد بتدبير الملكين لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف. وثانيهما طريق التمانع بأن يقال: لو فرضنا إلهين وأراد أحدهما تحريك جسم والآخر تسكينه، فإن وقع مرادهما لزم اجتماع الضدين في محل واحد، وإن لم يقع مرادهما لزم عجزهما، وإن وقع مراد أحدهما دون الآخر فذلك الآخر عاجز لا يصلح للإلهية.
والاعتراض على هذا التقدير من وجهين: الأول أن اختلافهما في الإرادة أمر ممكن والممكن لا يجب أن يقع.
والثاني أن الفساد في السموات والأرض كيف يترتب على اختلافهما وفي الجواب طريقان: أحدهما الرجوع إلى التفسير الأول وهو إحالة الأمر على ما هو الغالب المعتاد من أن الملك عقيم ولا يجتمع فحلان على شول، والشول جماعة النوق التي جف لبنها وارتفع ضرعها وأتي عليها من نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية، فلا بد من وقوع التنازع والاختلاف وحدوث الهرج والمرج عند ذلك. الطريق الثاني العدول إلى ضرب آخر من البيان، وهو أن اتفاق الإلهين على مقدور واحد محال لأن كلّا منهما مستقل بالتأثير كامل في القدرة، فإذا وقع المقدور بأحدهما استحال أن يقع بالآخر مرة أخرى على أنه لو أراد كل واحد منهما أن يوجده هو فهذا أيضا اختلاف. ولو قيل: إنه يريد كل واحد منهما أن يكون الموجد له أحدهما لا بعينه فهذه إرادة مبهمة لا تصلح للتأثير، فلا بد من الاختلاف وقد عرفت حاله ولزوم الفساد حينئذ ظاهر، لأن كل ما يصدر عن إلهين عاجزين أو إله عاجز لم يكن على الوجه الأصلح والنمط الأصوب، بل العاجز لا يصلح للإيجاد أصلا فلا يوجد على ذلك التقدير شيء من الممكنات وهو الفساد الكلي. ومنهم من يقرر دليل التمانع على وجوه أخر منها: أنا لو قدرنا إلهين فهل يقدر كل واحد منهما على أن يمنع صاحبه عن مراده أم لا؟ فإن قلت: يقدر. كان كل منهما مقهورا للآخر، وإن قلت: لا يقدر فقد ثبت عجز كل واحد
منهما. ومنها أن أحدهما هل يقدر على أن يستر شيئا من أفعاله عن الآخر أو لا؟ فإن قدر فالمستور عنه جاهل عاجز وإلا فالأول عاجز. ولا يخفى ما في أمثال هذين الوجهين من الضعف لأن عدم القدرة على المحال لا يسمى عجزا ولهذا لا يمكن أن يقال: إنه تعالى عاجز عن خلق مثله أو إنه إذا أوجد شيئا نفذت قدرته عن خلق ذلك الشيء وحصل له عجز. ومن الطاعنين في دليل التمانع من فسر الآية بأن المراد لو كان في السماء والأرض آلهة غير الله كما تزعم عبدة الأصنام لزم فساد العالم لأنها جمادات لا تقدر على وجوه التدبير والتصرف لأنفسها فضلا عن غيرها. ولقائل أن يقول: إن الآلهة لو كانت منفردة بالتدبير يلزم الفساد. أما أنها لو كانت وسائط أو معاونة للإله الأعظم كما تزعم عبدة الأوثان فمن أين يلزم الفساد. واعلم أنا قد بينا دلائل التوحيد في مواضع من هذا الكتاب ولا سيما في سورة البقرة في تفسير قوله وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [الآية: 163] ولنا في هذا المقام طريقة أخرى ما أظنها وطئت قبلي فأقول وبالله التوفيق: إن الوحدة من صفات الكمال وقد ركز ذلك في العقول حتى إن كل عامل مهما تم له أمر بواحد لم يتعد فيه إلى اثنين، وإذا اضطر إلى الشركة والتعاون راعى فيه الأبسط فالأبسط لا يزيد العدد إلا بقدر الافتقار وعلى هذا مدار الأمور السياسية والمنزلية هذا في المؤثر. وأما في الأثر فلا ريب أنه استند إلى ما هو بسيط حقيقي لم يكن فيه إلا جهة واحدة افتقارية وإذا استند إلى ما فوق ذلك كان فيه من الجهات الافتقارية بحسب ذلك فيكون النقص تابعا لقلة جهات الافتقار وكثرتها، وكل مرتبة للممكنات تفرض من العقول والنفوس والأفلاك والعناصر والمواليد، فإن كان مبدأ تلك السلسلة الطويلة واحدا كانت الجهات الاعتبارية الافتقارية فيها أقل مما لو كان المبدأ أزيد من واحد. وهذه قضية يقينية إذا عرفت هذه المقدمة فنقول: إنه سبحانه أراد أن يدفع هذا النقص من الممكنات و «لو» هذه بمعنى «أن» والمراد أن هذا النقص والفساد لازم لوجود آلهة غير الله سواء كان الله من جملتهم أم لا، ولن يرضى العاقل بما فيه نقصه وفساده فوجب أن لا يعتقد إلها غير الله وهذه النتيجة هي المراد بقوله فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ من الأنداد والشركاء فتكون هذه الآية نظيرة قوله ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا [الزمر: 29] وفيه قول زيد بن عمرو بن نفيل حين فارق قومه:
أربا واحدا أم ألف رب
…
أدين إذا تقسمت الأمور
تركت اللات والعزى جميعا
…
كذلك يفعل الرجل البصير
ثم أكد تفرده بالإلهية بقوله لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وفيه رد على الثنوية والمجوس
الذين أثبتوا لله شريكا فاعلا للشرور والآلام، وذلك أنهم طلبوا الحكمة في أفعال الله تعالى فقالوا: لو كان مدبر العالم واحدا لم يخص هذا بأنواع الخيرات من الصحة والغنى وذلك بأصناف الشرور من المرض والفقر، فذكر سبحانه أن الاعتراض على أفعاله ينافي الديانة وأن له أن يفعل ما يشاء ولا مجال للسؤال عن أفعاله، فكل من الأشاعرة والمعتزلة سلموا أنه لا يجوز أن يقال لله لم فعلت، ولكنهم حملوا عدم جواز السؤال على مأخذ آخر. أما الأشاعرة فذهبوا إلى أن أفعاله لا تعلل بالمصالح والأغراض وله بحكم المالكية أن يفعل في مخلوقاته ما شاء فإن من تصرف في ملك نفسه لا يقال له لم فعلت، وكيف يتصور في حقه استحقاق الذم واستحقاق المدح له قديم؟ وما يثبت للشيء لذاته يستحيل أن يتبدل لأجل تبدل الصفات. وكما أن ذاته غير معللة بشيء فكذلك صفاته وأفعاله، وإنه غير محتاج إلى الأسباب والوسائط والأغراض والمقاصد. وأما المعتزلة فقد قالوا: إنه تعالى عالم بقبح المقابح وعالم بكونه غنيا عنها، ومن كان كذلك فإنه يستحيل أن يفعل القبيح. وإذا عرف المكلف إجمالا أن كل ما يفعله الله فهو حكمة وصواب وجب أن يسكت عن «لم» وإذا كان الملوك المجازيون لا يسألهم من في مملكتهم عما يوردون ويصدرون من تدبير ملكهم تهيبا وإجلالا لهم مع جواز الخطأ والزلل عليهم، فملك الملوك ورب الأرباب أولى بأن لا يسأل عن أفعاله مع ما ركز في العقول من أن كل ما يفعله فهو حسن مشتمل على الغايات الصحيحة. ثم زاد الإلهية تأكيدا بقوله وَهُمْ يُسْئَلُونَ وفيه رد على منكري التكليف الذاهبين إلى أن العباد لا يسألون عما فعلوا في دار الدنيا قالوا: إن التكليف أمر غير معقول لأنه إما أن يتوجه على العبد حال استواء داعيته إلى الفعل والترك وهو محال لأن صدور الفعل عن المكلف يستدعي الترجيح فالتكليف بالترجيح في حال عدم الترجيح تكليف بالمحال، وإما أن يتوجه حال الرجحان ويكون الفعل حينئذ واجب الوقوع فيكون التكليف عبثا. وأيضا التكليف بما هو معلوم الوقوع لله عبث لأنه واجب الوقوع وبما هو غير معلوم الوقوع تكليف بما لا يطاق، وأيضا سؤال العبد لعبد إن لم يكن فيه فائدة فعبث، وإن كان فيه فائدة فإن عادت إلى الله تعالى كان محتاجا مستكملا، وإن عادت إلى العبد فالله تعالى قادر على إيصالها إليه من غير واسطة التكليف، على أن السؤال إن كان لأجل إيصال الضرر فذلك لا يليق بالكريم الرحيم، وجوابهم أن الأسباب والوسائط معتبرة في كل شيء من عالم الأسباب حتى الثواب والعقاب، على أن حاصل الشبهات يرجع إلى أن المنكر كأنه قال: إنه تعالى لم كلف عباده ولم كلفهم ما لا يطيقون وهو يناقض القاعدة الممهدة أنه لا يسأل عما يفعل. ثم كرر أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً استفظاعا لكفرهم وليرتب عليه قوله قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ على ذلك عقلا أو نقلا. أما العقل فقد مر أنه يقضي بعدم الشريك حذرا من
الفساد، وأما النقل فقوله هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ هو من إضافة المصدر إلى المفعول أي عظة لأمتي. عن ابن عباس واختاره القفال والزجاج أنه أراد هذا هو الكتاب المنزل على من معي من الأمة وهذا هو الكتاب المنزل على من تقدمني من الأنبياء وأممهم يعني التوراة والإنجيل والزبور والصحف والكل وارد في معنى التوحيد ونفي الشركاء. وعن سعيد بن جبير وقتادة ومقاتل والسدي أن قوله وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي صفة للقرآن أيضا لأنه اشتمل على أحوال الأمم الماضية كما اشتمل على أحوال هذه الأمة. ثم ختم الآية بقوله بَلْ أَكْثَرُهُمْ تنبيها على أن وقوعهم في هذا المذهب الباطل ليس لأجل دليل ساقهم إليه بل لأن عندهم ما هو أصل الشر والفساد وهو عدم العلم وفقد التمييز بين الحق والباطل، فلذلك أعرضوا عن استماع الحق وطلبه، وفي لفظ الأكثر إشارة إلى أن فيهم من يعلم ولكنه يعاند، أو أجري لفظ الأكثر على الكل على عادة الفصحاء كي لا يكون الكلام بصدد المنع.
ثم قرر آي التوحيد خصوصا قوله هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي على أحد التفسيرين بقوله وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ الآية. ثم رد على خزاعة وأمثالهم القائلين بأن الملائكة بنات الله بقوله وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً ثم نزه نفسه عن ذلك بقوله سُبْحانَهُ ثم أخبر عما هم عليه في الواقع وهو أن الملائكة عباد الله مُكْرَمُونَ مقربون لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ أي بقولهم أي يتبعون قوله ولا يقولون شيئا حتى يقوله وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ فهم التابعون لأمر الله في أقوالهم وأفعالهم يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وقد مر تفسيره في «طه» وفي آية الكرسي وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى كقوله في طه لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه: 109] وقد مر البحث فيه. قال في الكشاف وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ أي متوقعون من أمارة ضعيفة. قلت: لعله أراد أنهم يتوقعون ما هو سبب لخشيته وهو العقاب من أدنى أمارة بخلاف البشر فإنهم لا يتوقعون ذلك إلا من أمارة قوية.
ويحتمل أن يقال: إنهم يخشون الله ومع ذلك يحذرون من أن تلك الخشية يقع فيها تقصير.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى جبرئيل عليه السلام ليلة المعراج ساقطا كالحلس من خشية الله عز وجل.
ثم نبه على غاية عظمته ونهاية جبروته بقوله وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فيحتمل أن يدعي الإلهية لنفسه دون الله أو يدعي أنه إله مع الله أي بعد مجاوزة إلهيته وهذا على سبيل الفرض والتقدير كقوله وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:
88] وفي قوله فَذلِكَ دون أن يقول فهو تبعيد للمشرك الجاحد عن ساحة عزته وفيه تفظيع لأمر الشرك وتهديد عظيم لمن أشرك، وأراد بالظلم هاهنا الشرك، والمعتزلة عمموه والأول أظهر. ثم عدل في أدلة التوحيد إلى منهج آخر من البيان وهو الاستدلال بالآفاق
والأنفس قائلا أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي جماعة السموات وجماعة الأرض كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما الرتق بالسكون السد. رتقت الشيء فارتتق أي التأم ومنه امرأة رتقاء ومصدرها الرتق بالتحريك، والفتقاء ضدها أي كانتا مرتوقتين فجعلناهما مفتوقتين. عن ابن عباس في رواية عكرمة وهو قول الحسن، وقتادة أن المراد كانتا شيئا واحدا ملتزقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إلى حيث هي وأقر الأرض. ومثله قول كعب: خلق الله السموات والأرض ملتصقتين، ثم خلق ريحا توسطتهما فحصل الفتق، وقال أبو صالح ومجاهد: كانت السموات متلاصقات لا فرج بينها ففتقها الله بأن جعلها سبعا وكذلك الأرضون. وعن ابن عباس في رواية أخرى وعليه كثير من المفسرين، أن السموات والأرض كانتا رتقا بالاستواء والصلابة ففتق الله السماء بالمطر والأرض بالنبات والشجر.
ويشبه أن يراد بالسماوات على هذا التفسير السحب نظيره قوله وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ [الطارق: 12] ويؤيده قوله عقيبه وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ وقيل: إنهما جمع السموات وإن كان نزول المطر من السماء الدنيا فقط باعتبار الجهة لأن جهتها هي جهتهن، أو باعتبار أن كل قطعة منها سماء فيكون كقولهم «ثوب أخلاق» «وبرمة أعشار» وقريب من هذا قول من قال: المعنى أن السموات والأرض كانتا مظلمتين ففتقهما الله تعالى بإظهار النور فيهما كقوله وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ [يس: 37] وقال أبو مسلم الأصفهاني: الرتق حالة العدم إذ ليس فيها ذوات متميزة فكأنها أمر واحد متصل متشابه، والفتق الإيجاد لحصول التمييز وانفصال بعض الحقائق عن البعض فيكون كقوله فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام: 14] والفطر الشق. وعن بعض علماء الإسلام أن الرتق انطباق منطقتي الحركتين الأولى والثانية الموجب لبطلان العمارات وفصول السنة، والفتق افتراقهما المقتضي لإمكان العمارة ولتغير الفصول وفيه بعد.
وهاهنا سؤال: وهو أن الكفار متى رأوهما رتقا حتى صح هذا الاستفهام للتقرير؟ كيف وقد قال الله تعالى ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ؟ [الكهف: 51] والجواب على الأقوال الأخيرة ظاهر فإن فتق السماء بالمطر والأرض بالنبات أو فتقهما بتنفيذ النور فيهما وإظهاره عليهما أمور محسوسة، وكذا إدخالهما من العدم إلى الوجود مما يشهد به الحس السليم والعقل المستقيم. وأما على القولين الأولين فلعلهم علموا ذلك من أهل الكتاب وكانوا يقبلون قولهم لما بينهما من التوافق في عداوة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال صاحب الكشاف في الجواب: إنه وارد في القرآن الذي هو معجزة في نفسه فقام مقام المرئي المشاهد، أو أن تلاصق الأرض والسماء وتباينهما كلاهما جائز في العقل فلا بد للتباين دون التلاصق من
مخصص وهو القديم سبحانه. قوله وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ قال السكاكي صاحب المفتاح: أي جعلنا مبدأ كل حي من هذا الجنس الذي هو جنس الماء. واعترض عليه بأنه كيف يصح ذلك وآدم من تراب والجن من نار والمشهور أن الملائكة ليست أجساما مائية؟ وأجاب بأنه يأتي في الروايات أنه جل وعز خلق الملائكة من ريح خلقها من الماء، والجن من نار خلقها منه، وآدم من تراب خلقه منه. وقال صاحب الكشاف: إنما قال خلقنا كل شيء حي من الماء لفرط احتياجه إليه وحبه له وقلة صبره عنه كقوله خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ وجوز أن لا يكون الجعل بمعنى الخلق بل يكون بمعنى التصيير متعديا إلى مفعولين، فالمعنى صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه. وقال في التفسير الكبير: اللفظ وإن كان عاما إلا أن القرينة قائمة فإن الدليل لا بد أن يكون مشاهدا محسوسا ليكون أقرب إلى المقصود، فبهذا الطريق تخرج الملائكة والجن وآدم لأن الكفار لم يروا شيئا من ذلك: قلت: فعلى هذا يكون قوله وَجَعَلْنا داخلا في حيز الاستفهام كأنه قيل:
ألم يروا أنا فتقنا السموات والأرض بعد رتقهما وجعلنا من الماء كل حيوان. ومن المفسرين من جعل الحي شاملا للنبات أيضا كقوله فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الجاثية: 5] قوله وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ قد مر تفسيره في أول «النحل» وباقي الآية كقوله في طه وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا [الآية: 53] والفجاج جمع الفج وهو الطريق الواسع وهي صفة سُبُلًا قدمت عليه فصارت حالا عنه أراد أنه حين خلقها جعلها على تلك الصفة فهذا كالبيان لما أبهم في قوله لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً [نوح: 20] والاهتداء إما حسي أي تهتدون إلى البلاد، وإما عقلي وهو الاهتداء إلى وحدانية الله تعالى. ومنهم من زعم أن الضمير في قوله وَجَعَلْنا فيها عائد إلى الجبال وهذا قول مقاتل والضحاك ورواية عطاء عن ابن عباس. وروي عن ابن عمر أنه قال: كانت الجبال منضمة فلما أغرق قوم نوح فرقها فجاجا وجعل فيها طرقا. قال علماء الإسلام: ليس في قوله وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً إن السماء للأرض كالسقف للبيت لأنها فوق لا يقابله مثله، ولكنه أطلق عليها اسم السقف لأنها كذلك في النظر بالنسبة إلى سكان كل بقعة. وفي المحفوظ وجهان: أي مَحْفُوظاً بقدرته من أن يقع على الأرض أو محفوظ بالشهب عن الشياطين. وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ فلا يتدبرون في ترتيبها ومسيراتها وطلوع أجرامها وغروبها واتصالاتها وانصرافاتها وتأثيراتها فيما دونها بإذن خالقها ومبدعها. قوله كُلٌّ فِي فَلَكٍ من مقلوب الكل. والفلك في اللغة كل شيء دائر وجمعه أفلاك. وزعم الضحاك أنه ليس بجسم وإنما هو مدار هذه النجوم. والأكثرون على أن الفلك جسم تدور النجوم عليه. ثم اختلفوا في حقيقته فقال الكلبي: ماء مكفوف أي مجموع تجري فيه الكواكب بدليل قوله يَسْبَحُونَ
والسباحة لا تكون إلا في الماء. ورد بأنه يقال فرس سابح إذا امتد في الجري. وقالت الحكماء: هو جسم كروي لا ثقيل ولا خفيف غير قابل للخرق والالتئام والنمو والذبول، ولذلك منعوا من كون الفلك ساكنا، والكواكب متحركة فيه كالسمك في الماء واعتذروا عن السباحة بأنها في النظر كذلك.
قال صاحب الكشاف: التنوين في كل عوض من المضاف إليه أي كلهم فورد عليه إشكالان: أحدهما أنه لم يسبق إلا ذكر الشمس والقمر فكيف يعود ضمير الجمع إليهما؟
وأجاب بأن ذلك باعتبار كثرة مطالعهما كما يجمع بالشموس والأقمار لذلك. ويمكن أن يقال: أقل الجمع اثنان أو أنه جعل النجوم تبعا لذكرهما. الثاني أن كلهم ليسوا في فلك ولكن كل منهم في فلك آخر على ما يشهد به علم الهيئة، وأجاب بأنه أراد جنس الفلك كقولك «كسانا الأمير حلة» ، أو أراد كل واحد. قلت: لو صح هذا التقدير الثاني لم يرد الإشكال الأول ولكنه ينافي قوله يَسْبَحُونَ مجموعا. قال بعض الحكماء في هذا الجمع دلالة على أن الكواكب أحياء ناطقة. وأجيب بأنه إنما جمع جمع العقلاء لأن السباحة من فعلهم. قلت: قد يسبح كثير من الحيوانات، فلعل المختص بالعقلاء هو السباحة الصناعية المكتسبة. وهاهنا بحث وهو أن الإمام فخر الدين الرازي استحسن قول بعض الأوائل أن الحركة السماوية صنف واحد وهي الآخذة من المشرق إلى المغرب إلا أن بعضها أبطأ من البعض كالحركات الغربية، وكذا اختلافات تلك الحركات بسبب تلك المختلفات. قال:
وهذا أقرب ليكون غاية سرعة الحركة للفلك الأعظم وغاية السكون للجرم الذي هو أبعد عن المحيط وهو الأرض، ولئلا يلزم بسبب حركة ما دون الفلك الأعظم بحركته وبحركاتها الخاصة تحرك الجرم الواحد في زمان واحد بحركتين مختلفتين إلى جهتين فإنه يستلزم كون الجسم دفعة واحدة في مكانين. قلت: أما حديث كون ما هو أبعد عن المركز أسرع حركة فإقناعي، وأما لزوم كون الجسم دفعة واحدة في مكانين فممنوع لأن التي تظهر في المتحرك هي الحركة المركبة الحاصلة من فضل الأسرع على الأبطأ لا كل من الحركتين، وهذا مشاهد من حركة النملة إلى خلاف جهة حركة الرحى، ومن حركة راكب السفينة فيها إلى خلاف جهة حركتها. وأما الذي استحسنه من كلام الأوائل فباطل لأنه لو كان كذلك لحصلت الاظلال اللائقة بكل جزء من أجزاء فلك البروج في يوم بليلة، وكذا الارتفاعات المناسبة لها في البلاد المتفقة العرض وليس كذلك، وقد ذكرنا هذا المعنى في كتبنا النجومية أيضا. وحين فرغ من بيان طرف من هيئة الأجرام السماوية ومنافعها الدنيوية نبه بقوله وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ على أن هذه الآثار لا تدوم ولا تخلق للبقاء وإنما
خلقت للابتلاء والامتحان ولكي يتوصل بها المكلفون إلى السعادات المدخرة لهم في الآخرة وهي دار الخلود. وبوجه آخر لما فرغ من دلائل الآفاق شرع في دلائل الأنفس فقال:
وَما جَعَلْنا الآية، عن مقاتل أن ناسا كانوا يقولون إن محمدا لا يموت فنزلت وقيل:
لعلهم ظنوا أنه لو مات لتغير الشرع وهذا ينافي كونه خاتم الأنبياء، فبين الله سبحانه أن حاله كحال من تقدمه من الأنبياء في المفارقة من دار الدنيا. والأكثرون على أن سبب النزول هو أنهم كانوا يقدرون أنه سيموت فيشمتون بموته فنفى الله عنه الشماتة لهذه وفي معناه قول القائل:
فقل للشامتين بنا أفيقوا
…
سيلقى الشامتون كما لقينا.
قوله كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ قد تقدم في آخر آل عمران تفسيره.
قوله وَنَبْلُوكُمْ أي نعاملكم معاملة المختبر بما نسوق إليكم من الشرور والخيرات فيظهر عندهما صبركم وشكركم. وقدم الشر لأن الموت من باب الشرور في نظر أهل الظاهر. وفِتْنَةً مصدر مؤكد لنبلوكم من غير لفظه. وحين أثبت الموت الذي هو الفراق عن دار التكليف بين بقوله وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ أن الجزاء على الأعمال ثابت مرئي البتة بعد المفارقة. استدلت المجسمة بقوله وَإِلَيْنا أنه تعالى جسم ليمكن الرجوع إلى حيث هو، والتناسخية بأن الرجوع مسبوق بالكون في المكان المرجوع إليه، وجواب الأولين أنه أراد الرجوع إلى حيث لا حكم إلا له، وجواب الآخرين التسليم لكنه لا يفيد مطلوبهم لأن الرجوع إلى المبدأ غير الرجوع إلى دار الدنيا، واعلم أن مثل هذه الآية سيجيء في سورة العنكبوت إلا أنه قال هناك ثُمَّ إِلَيْنا ولم يذكر قوله وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً فكأن هذه الفاصلة قامت مقام التراخي في «ثم» .
قال السدي ومقاتل: مر النبي صلى الله عليه وسلم بأبي جهل وأبي سفيان فقال أبو جهل لأبي سفيان: هذا نبي بني عبد مناف. فقال أبو سفيان: وما تنكر أن يكون نبيا في بني عبد مناف! فسمع النبي صلى الله عليه وسلم قولهما فقال لأبي جهل: ما أراك تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمك الوليد بن المغيرة، وأما أنت يا أبا سفيان فإنما قلت ما قلت حمية فأنزل الله تعالى وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ
أي ما يتخذونك إِلَّا هُزُواً ثم فسر ذلك بقوله أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ والذكر أعم من أن يكون بالخير أو بالشر إلا أنه إذا كان من العدو يفهم منه الذم لا الثناء، والمعنى أنه يبطل معبوديتها وينكر عبادتها ويقبح أمرها ثم بين غاية جهالتهم وتعكيس قضيتهم بقوله وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ قدم الجار والمجرور وكرر الضمير ليفيد أنهم عاكفون هممهم على ذكر آلهتهم من
كونها شفعاء وشهداء، ولو ذكرها ذاكر بخلاف ذلك ساءهم. وأما ذكر الرحمن الذي منه جلائل النعم ودقائقها وأصولها وفروعها فلا يخطر منهم ببال، ولو ذكره ذاكر استهزؤا به حتى إن بعضهم يقولون: ما نعرف الرحمن إلا مسيلمة فهم أحق أن يتخذوا هزوا. ويحتمل أن تكون الباء للسببية أي هم كافرون بسبب ذكرهم الرحمن لا على ما ينبغي، فيكون الذكر في الموضعين بمعنى واحد. وقيل بِذِكْرِ الرَّحْمنِ أي بما أنزل إليك من القرآن وكانوا يستعجلون بعذاب الله كما يجيء من قوله وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ فقدم لذلك أولا مقدمة هي قوله خُلِقَ الْإِنْسانُ أي هذا الجنس مِنْ عَجَلٍ أراد أنه مجبول على إفراط العجلة كما مر في قوله وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا [الإسراء: 11] وعن ابن عباس أنه آدم أراد أن يقوم حين بلغ الروح صدره، وعن مجاهد أن آدم لما دخل الروح رأسه وعينيه رأى الشمس قاربت الغروب فقال: يا رب عجل خلقي قبل أن تغيب الشمس. وعن ابن عباس أيضا أنه النضر بن الحرث والأول أظهر. وقيل: العجل الطين بلغة حمير، وقال الأخفش: أي من العجل في الأمر وهو قوله كُنْ وقيل: هو على القلب أي خلق العجل من الإنسان سَأُرِيكُمْ آياتِي وهي الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة فَلا تَسْتَعْجِلُونِ فإنها كائنة لا محالة في وقتها وقيل: هي أدلة التوحيد وصدق الرسول. وقيل: آثار القرون الخالية بالشام واليمن.
سؤال: قوله خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ فيه أن الآدمي معذور على الاستعجال لأنه له كالأمر الطبيعي الذي لا بد منه، فلم رتب عليه النهي بقوله فَلا تَسْتَعْجِلُونِ؟ وأجيب بأن فيه تنبيها على أن ترك العجلة حالة شريفة وخصلة عزيزة. وقال جار الله: هذا كما ركب فيه الشهوة وأمره أن يغلبها.
آخر: القوم استعجلوا الوعد على جهة التكذيب، ومن هذا حاله لا يكون مستعجلا في الحقيقة؟ أجيب بأن الاستعجال على هذا الوجه أدخل في الذم لأنه استعجال على أمر موهوم عندهم لا معلوم لَوْ يَعْلَمُ جواب «لو» محذوف وحِينَ مفعول به ل يَعْلَمُ والمعنى لو يعلمون الوقت الذي يستعجلونه وهو وقت إحاطة النار بهم، لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال. ويجوز أن يكون يَعْلَمُ متروك المفعول أي لو كانوا من أهل العلم لما كانوا مستعجلين، وعلى هذا يكون حِينَ منصوبا بمضمر أي حين لا يكفون يعلمون أنهم كانوا على الباطل، وخص الوجوه والظهور بالذكر لأن نكاية النار في هذين العضوين أشد مع أن الإحاطة التامة تفهم منهما. ثم بين أن وقت مجيء العذاب غير
معلوم لهم فإن مجيء الساعة مخفي عن المكلفين ليكونوا أقرب إلى تلافي الذنوب فقال بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ قال جار الله: أي لا يكفونها بل تفجؤهم فتغلبهم. قلت: فائدة «بل» في هذه المقامات للانتقال من جملة إلى أخرى أهم من الأولى، ويحتمل أن تكون «لو» لظاهر التمني والضمير للنار. وقيل: للساعة. وفي قوله وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ تذكير بإمهالهم في دار الدنيا أي ثم يهلكون بعد طول الإمهال. ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ الآية. وقد مرت في أول الأنعام. ولما بين أن الكفار في الآخرة لا يكفون عن وجوههم النار ذكر أنهم في الدنيا أيضا مفتقرون إلى حراسة الله وكلاءته فقال قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ إذا نمتم وَالنَّهارِ إذا تقلبتم في وجوه المصالح مِنَ الرَّحْمنِ أي من بأسه وعذابه كالقتل والسبي ونحوهما. قيل: إنما خص الرحمن بالذكر تلقينا للجواب حتى يقول العاقل أنت الكالئ يا إلهنا لكل الخلائق برحمتك ونظيره ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الإنفطار: 6] ثم أضرب عن الأمر بالاستفهام قائلا بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ لا يخطرونه ببالهم فضلا أن يخافوا بأسه كأنه أمر رسوله بسؤالهم عن الكالئ، ثم بين أنهم لا يصلحون لذلك لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم. أما قوله أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ فذكر في الكشاف أنه إضراب عن الكلام السابق بما في «أم» من معنى «بل» . وقال غيره: الميم زائدة وإنه استفهام مستأنف والتقدير ألهم آلهة تمنعهم من دوننا من العذاب، ومعنى مِنْ دُونِنا أن تلك الآلهة لا تتجاوز منعنا وحفظنا ثم استأنف فقال لا يَسْتَطِيعُونَ ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي تلك الآلهة ليست تقدر على نصر أنفسها فكيف تحفظ غيرها وتنصرها.
وقوله وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ قال المازني: هو من أصحبت الرجل إذا منعته. والأكثرون على أنه من الصحبة بمعنى النصرة والمعونة ومنه قولهم «صحبك الله» . والحاصل أن من لا يكون قادرا على دفع الآفات ولا يكون مصحوبا من الله بالإعانة والنصرة كيف يتوقع منه دفع ضر أو جلب نفع! ولما أبطل كون الأصنام نافعة أضرب عن ذلك منتقلا إلى بيان أن ما هم فيه من الحفظ والكلاءة والتمتع بالحياة العاجلة هو من الله لا من مانع يمنعهم من الإهلاك ولا من ناصر يعينهم على أسباب التمتع سوى الله. وفي قوله حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ إشارة إلى أنه لما امتدت أيام الروح والطمأنينة حسبوا أن ذلك لن يزول عنهم فاغتروا به ونسوا المنعم فاستأهلوا العقاب كما أشار إليه بقوله أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وفي لفظ الإتيان تصوير ما كان الله يجريه على أيدي المسلمين الذين هم حزب الله من نقص ديار الكفر وتخريبها وعمارة حوزة الإسلام وتشييد مبانيه وقد مر مثله في آخر سورة الرعد. والاستفهام في قوله أَفَهُمُ الْغالِبُونَ للتقرير أي لنحن الغالبون وهم المغلوبون.
ثم بين أن هذه الإنذارات ليست من قبل الرسول ولكنه بالوحي، ثم مهد عذر الرسول إن لم تنجع فيهم رسالته بأن الصم لا يسمعون دعاء المنذر. واللام في الصُّمُّ للعهد أي لا يسمع هؤلاء الإنذار فوضع الصُّمُّ في موضع اسم الإشارة إيذانا بأنهم هم الموسومون بالصمم عن استماع الحق، ولو كان اللام للجنس لكان الأنسب إطلاق الدعاء لأن الصم لا تسمع الدعاء بشروا أو أنذروا. ثم ذكر أنهم لا يعترفون بالتقصير والظلم إلا عند معاينة العذاب فقال: وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ وفي ذكر المس وبناء المرة من النفح الذي هو بمعنى القلة والنزارة. منه قولهم «نفحه بعطية» أي رضخه، «ونفحته الدابة» وهو رمح يسير دليل على أنهم في غاية الضعف يجزعون من أدنى أثر من عذاب الله. قوله وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ المراد من الوضع الإحضار والقسط أي العدل صفة الموازين وإن كان موحدا كقولهم للقوم «إنهم عدل» قاله الفراء. وعن الزجاج أراد ذوات القسط. واللام في لِيَوْمِ الْقِيامَةِ بمعنى الوقت كما يقال «جئت لتاريخ كذا» . وقيل: أراد لأجل الحساب يوم القيامة. وقد مر تحقيق الوزن وما يتعلق به من الأبحاث في أول سورة الأعراف.
يروى أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان، فلما رآه غشي عليه ثم أفاق فقال: يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات؟ فقال: يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة.
وفي قوله فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً بحث بين المعتزلة والأشاعرة وقد مر مرارا وَإِنْ كانَ أي الوزن والعمل مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها أنت ضمير المثقال باعتبار إضافته إلى الحبة. قيل: الحبة أعظم من الخردلة فكيف قال: حبة من خردل؟ وأجيب بأن الوجه فيه أن تفرض الخردلة كالدينار ثم تعتبر الحبة من ذلك الدينار، والظاهر أنه أراد الحبة من حيث اللغة. وقوله مِنْ خَرْدَلٍ بيان لها لأن الحبة أعم من أن تكون من الخردل أو من الحنطة أو من غيرهما ولكن المبالغة في الأول أكثر، وذلك أن الخردلة سدس شعيرة وهي نصف سدس ثمن الدينار عند الحساب ونصف سدس سدسه في الشرع، والحبة ثمن تسع الدينار في عرف حساب فارس والعراق، فمثقال حبة من خردل يكون على الوجه الأول ثمن تسع خردلة، وعلى ما قلنا يكون هو الخردل بعينه. والحاصل أن شيئا من الأعمال صغيرا كان أو كبيرا غير ضائع من علم الله وأنه يجازي عليه. رؤي الشبلي في المنام فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال:
حاسبوني فدققوا
…
ثم منوا فأعتقوا.
قال في التفسير الكبير: زعم الجبائي أن من استحق مائة جزء من العقاب فأتى بطاعة
يستحق بها خمسين جزءا من الثواب فهذا الأقل منحبط بالأكثر كما كان. والآية تبطل قوله لأن الله تعالى تمدح بأن اليسير من الطاعة لا يسقط، ولو كان الأمر كما قاله الجبائي لسقطت الطاعة من غير فائدة. قلت: للجبائي أن يقول: الإتيان بالطاعة مشروط عندي بعدم الإحباط كما أن العقاب على المعصية مشروط عندكم بعدم العفو. وَكَفى بِنا حاسِبِينَ كقوله وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً [النساء: 6] وحين فرغ من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد شرع في قصص الأنبياء تسلية لنبيه وتثبيتا وعظة لأمته وتذكيرا، وقد مر قصة موسى إلا أنه أوجز فيها هاهنا والموجز تقدمه الفصحاء غالبا، ولأن موسى أقوى حالا ومعجزة، ولأن ذكر التوراة يناسب ما تقدم من قوله قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وصف التوراة بأنها جامعة لكونها فرقانا يفرق به بين الحق والباطل، وقد مر سائر تفاسير الفرقان في أول البقرة وَضِياءً كقوله فِيها هُدىً وَنُورٌ [المائدة: 44] وذكر للمتقين أي شرفا وموعظة، أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ودنياهم وقوله بِالْغَيْبِ إما حال من الرب أي حال كونه غائبا عن حسهم والله لا يغيب عنه شيء فيكون كقوله صلى الله عليه وسلم «فإن لم تكن تراه فإنه يراك» «1» وإما حال منهم أي حال كونهم غائبين عن عذاب الآخرة وأهوالها، أو غائبين عن الناس أي يخشون ربهم في الخلوات. ثم عظم شأن القرآن بقوله وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أي كثير البركة أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أي أنتم دون سائر الناس مع علمكم بفصاحته وإعجازه تخصونه بالإنكار. ولا يخفى ما فيه من التوبيخ للعرب ومن داناهم.
التأويل أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً من أرض البشرية ثم هم يحيون القلوب الميتة بل الله يحييها بنور ذكره وطاعته لو كان في سماء الروحانية وأرض البشرية آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ كالعقل والهوى لَفَسَدَتا كما فسد سماء أرواح الفلاسفة حين أثبتت عقولهم للواجب صفات لا تليق به، وفسد أرض بشرية الطبائعية حين زلت قدمهم عن استعمال قوانين الشريعة بمقتضى هوى الطبيعة لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لأن أفعاله تعالى صادرة عن الحكمة والقدرة وَهُمْ يُسْئَلُونَ لأن أفعالهم منشؤها الظلومية والجهولية لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ لأنه ليس فيهم ما يخالف داعية العقل وهو الطبع الذي يجذب صاحبه إلى السفل، ولهذا وصفهم بالإكرام ووصف بني آدم بالتكريم في قوله وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء: 70] ففي التكريم تكثير ليس في
(1) رواه البخاري في كتاب تفسير سورة 31 باب 2. مسلم في كتاب الإيمان حديث 57 أبو داود في كتاب الإيمان باب 4. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب 9. أحمد في مسنده (1/ 27) (2/ 107) (4/ 129) . [.....]
الإكرام والسبب أن أمر بني آدم أشكل وحالهم أصعب يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من خجالة قولهم أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها [البقرة: 30] وَما خَلْفَهُمْ من الأمر بسجود آدم والاستغفار لمن في الأرض أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني أنهم رأوها في عالم الأرواح لأنها خلقت قبل الأجساد بألفي عام، وفي رواية بأربعة آلاف سنة كانَتا رَتْقاً أي كانت سموات الأرواح متعلقة بأرض القوالب فَفَتَقْناهُما بالمفارقة وقطع التعلق وَجَعَلْنا مِنَ ماء حياة العلم كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ بالحياة الأبدية وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ أرض القالب رَواسِيَ هي هموم العلائق البدنية أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ فلولاها لمالت كل نفس إلى عالمها وبطل الغرض من التكليف، ويمكن أن يكون الرواسي إشارة إلى الأبدال الذين هم أوتاد الأرض بهم يرزق ويمطر الناس فِجاجاً سُبُلًا هي طرق الإرشاد والتسليك وَجَعَلْنَا سماء القلب سَقْفاً مَحْفُوظاً من وساوس شياطين الإنس والجن وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ ليل البشرية ونهار الروحانية وشمس المعرفة وقمر الإسلام كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ فأهل الإسلام في فلك الشريعة، وأهل الإيمان في فلك الطريقة، وأهل الولاية في فلك أطوار الحقيقة كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ أما النفس الحيوانية فلأن من خواصها أن تصير الغذاء من جنسها فلا جرم إذا عجز الغذاء عن التشبيه بها لعجز القوة الغاذية حل أجلها، وأما النفس الناطقة فلأن من خواصها أنها تصير من جنس غذائها وهو الكمالات العلمية والعلمية التي هي فيوض ربانية يتجوهر الروح بجوهرها فيحصل له الفناء عن وجوده والبقاء بشهود ربه وَنَبْلُوكُمْ بالمكروهات التي تسمونها شرا بالمحبوبات التي تحسبونها خيرا فِتْنَةً فربما كان الأمر عكس ما تصورتم وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ اختيارا وقهرا وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا فيه أن الأغيار لا ينظرون إلى الأخيار إلا بعين الإنكار خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ بالنسبة إلى خلق السموات والأرض وما بينهما فإنها خلقت في ستة أيام وخمرت طينة آدم أربعين صباحا مع أن فيها أنموذجا من الكل واستعدادا لقبول الخلافة وقابلية تجلي الذات والصفات ومظهرية الكنز الخفي وأشار إلى هذه المعاني بقوله سَأُرِيكُمْ آياتِي أي في مظاهر الآفاق ومرايا أنفسكم بالتدريج وبالتربية في كل طور فَلا تَسْتَعْجِلُونِ فإن حد الاستكمال من المهد إلى اللحد بل من الأزل إلى الأبد وهذا منطق الطير لا يفهمه إلا سليمان الوقت. ويمكن أيضا أن يقال:
إن الروح الإنساني أول شيء تعلقت به القدرة وهذا معنى العجلة قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ فيه أن ملوك الأرض لو حرسوهم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ من الخصوم والأعداء فمن لهم حتى يحفظوهم في ليل البشرية ونهار الروحانية من سطوات قهر الجلال الذي الرحمانية من صفاته كما أن الرحيمية من صفات الجمال، فلو وكلهم بالخذلان إلى ظلمة البشرية بقوا في الجهل، ولو وكلهم بالإضلال في نور المعقولات تاهوا في أودية الحيرة والحجب النورية، والمنع من