الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هـ هُزُواً ط لحق المحذوف أي يقولون أهذا الذي رَسُولًا هـ عَلَيْها ط لانتهاء مقولهم سَبِيلًا هـ هَواهُ ط وَكِيلًا هـ لا للعطف يَعْقِلُونَ هـ ج لابتداء النفي سَبِيلًا هـ الظِّلَّ ج لانتهاء الاستفهام إلى الشرط مع اتحاد المقصود ساكِناً ج للعدول مع العطف دَلِيلًا هـ يَسِيراً هـ نُشُوراً هـ رَحْمَتِهِ ج للعدول طَهُوراً هـ ج لتعلق اللام كَثِيراً هـ لِيَذَّكَّرُوا ز والوصل أولى للفاء كُفُوراً هـ.
التفسير:
هذه شبهة رابعة لمنكري النبوّة وإنهم في قول الكلبي أبو جهل والوليد وأضرابهما، وتقريرها أن الحكيم لا بد أن يختار في مقصده طريقا يكون أسهل إفضاء إليه، ولا شك أن إنزال الملائكة ليشهدوا على صدق محمد أعون على المطلوب، فلو كان محمد صادقا لكان مؤيدا بإنزال الملائكة الشاهدين بصدقه. قال الفراء: معنى لا يَرْجُونَ لا يخافون، والرجاء في لغة تهامة الخوف، وقال غيره: الرجاء على أصله وهو الأمل إلا أن الخوف يلزمه في هذه الصورة فإن من لا يرجو الجزاء والمعاد لا يخاف العقاب أيضا.
واللقاء الوصول لا بمعنى المكان والجهة فإنه تعالى منزه عن ذلك بل بمعنى الرؤية عند الأشاعرة، أو على إرادة الجزاء والحساب عند المعتزلة، وقد مر في أوائل البقرة في قوله الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة: 46] ولعل تفسيره بلقاء الجزاء أنسب في هذا المقام لئلا يناقض قوله: أَوْ نَرى رَبَّنا أي جهرة وعيانا فيأمرنا بتصديقه واتباعه اللهم إلا أن يراد: إن الذين لا يرجون رؤيتنا في الآخرة اقترحوا رؤيتنا في الدنيا. قال جار الله: لا يخلو إما أن يكونوا عالمين بأن الله عز وجل لا يرسل الملائكة إلى غير الأنبياء وإنه تعالى لا يصح أن يرى وإنما علقوا إيمانهم بما لا يكون، وإما أن لا يكونوا عالمين بذلك وإنما أرادوا التعنت باقتراح آيات سوى الآيات التي نزلت وقامت بها الحجة عليهم كما فعل قوم موسى حين قالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً [البقرة: 55] .
ثم إنه سبحانه أجاب عن شبهتهم بقوله: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أي أضمروا الاستكبار عن الحق وهو الكفر والعناد في قلوبهم واعتقدوه. ثم نسبهم إلى الإفراط في الظلم بقوله وَعَتَوْا ثم وصف العتوّ بالكبر. قال جار الله: اللام جواب قسم محذوف وهذه الجملة في حسن استئنافها غاية وفيها معنى التعجب كأنه قال: ما أشد استكبارهم وما أكبر عتوّهم! وقال في التفسير الكبير: تحرير هذا الجواب من وجوه أحدها: أن القرآن لما ظهر كونه معجزا فقد تمت دلالة نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم فبعد ذلك لا يكون اقتراح أمثال هذه الآيات إلا محض الاستكبار والاستنكار. وثانيها أن نزول الملائكة لو حصل لكان أيضا من جملة المعجزات، ولا يدل على الصدق لخصوص كونه بنزول الملك بل لعموم كونه معجزا فيكون قبول ذلك
وردّ الآخر ترجيحا لأحد المثلين من غير مرجح. وثالثها أنهم بتقدير رؤية الرب وتصديقه لرسوله لا يستفيدون علما أزيد من تصديق المعجزات، لا فرق بين أن يقول النبي اللهم إن كنت صادقا فأحي هذا الميت فيحييه، وبين أن يقول إن كنت صادقا فصدّقني فتعيين أحد الطرفين محض العناد. ورابعها أن العبد ليس له أن يعترض على فعل مولاه إما بحكم المالكية عند الأشعري أو بحكم المصلحة عند المعتزلي. وخامسها أن السائل الملح المعاند الذي لا يرضى بما ينعم عليه مذموم وإظهار المعجز من جملة الأيادي الجسيمة فرد إحداها واقتراح الأخرى ليس من الأدب في شيء. وسادسها لعل المراد أني لو علمت بأنهم ليسوا مستكبرين عاتين لأعطيتهم مطلوبهم لكني علمت إنهم إنما سألوا لأجل المكابرة والعناد فلا جرم لا أعطيهم. وسابعها لعلهم عرفوا من أهل الكتاب أن الله تعالى لا يرى في الدنيا وأنه لا ينزل الملائكة على عوام الخلق، ثم إنهم علقوا إيمانهم على ذلك فهم مستكبرون ساخرون. واستدلت الأشاعرة بقوله: لا يَرْجُونَ لِقاءَنا على أن رؤية الله مرجوّة.
واستدلت المعتزلة بقوله لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا وَعَتَوْا أن اقتراح الرؤية مستنكر ولا يخفى ضعف الاستدلالين. وانتصب يَوْمَ يَرَوْنَ بإضمار «اذكر» فيكون لا بُشْرى مستأنفا أو بما دل عليه لا بُشْرى أي يوم يرون الملائكة يمنعون البشرى بالجنة وبرؤية الحق.
يَوْمَئِذٍ للتكرير وقوله لِلْمُجْرِمِينَ ظاهر في موضع الضمير أو عام فيتناول هؤلاء لعمومه، ولأجل هذا العموم استدلت المعتزلة به على القطع بوعيد كل مجرم وإن كان من أهل القبلة، وحمل الأشاعرة الجرم على الكفر.
أما قوله: حِجْراً مَحْجُوراً فإنها كلمة يتلفظ بها عند لقاء عدوّ أو هجوم نازلة، يضعونها موضع الاستعاذة يقول الرجل للرجل: تفعل كذا؟ فيقول: حجرا. وقد ذكره سيبويه في باب المصادر التي ترك إظهار فعلها نحو «معاذ الله وعمرك الله ومعناه منعا» أي أسأل الله أن يمنع ذلك منعا كما أن المستعيذ طالب من الله عز وجل أن يمنع المكروه.
ووصفه بالمحجور للتأكيد كما يقال «شعر شاعر وجد جده» . والأكثرون على أن القائلين هم الكفار إذا رأوا الملائكة عند الموت أو يوم القيامة كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون فيقولون ما كانوا يقولونه عند نزول كل شدّة. وقيل: هم الملائكة ومعناه حراما محرّما أي جعل الله الجنة والغفران أو البشرى حراما عليكم. يروى أن الكفار إذا خرجوا من قبورهم قالت الحفظة لهم: حجرا محجورا. وقال الكلبي: الملائكة على أبواب الجنة يبشرون المؤمنين بالجنة ويقولون للمشركين: حجرا محجورا. وقال عطية: إذا كان يوم القيامة تأتي الملائكة المؤمنين بالبشرى فإذا رأى الكفار ذلك قالوا لهم: بشرونا فيقولون: حجرا محجورا. ثم أخبر عن وعيد آخر لهم وذلك أنهم كانوا يعملون أعمالا لها
صورة الخير من صلة رحم وإغاثة ملهوف وقرى ضيف وأمثالها مع عدم ابتنائها على أساس الإيمان، فمثلت حالهم بحال قوم خالفوا سلطانهم واستعصوا عليه فقدم إلى أشيائهم وقصد إلى ما تحت أيديهم فأفسدها بحيث لم يترك منها أثرا وإلا فلا قدوم ولا ما يشبه القدوم، ولتنزهه سبحانه عن الجسمية وصفاتها. قال أهل المعاني: القادم إلى الشيء قاصد له فالقصد هو المؤثر في القدوم فأطلق اسم المسبب على السبب مجازا. وقيل: أراد قدوم الملائكة بأمره إلى موضع الحساب في الآخرة. والهباء ما يخرج من الكوة مع ضوء الشمس شبيه بالغبار. وقال مقاتل: إنه الغبار الذي يسطع من حوافر الدواب وفي أمثالهم أقل من الهباء شبه عملهم بالهباء في قلته وحقارته. وأكد المعنى بوصف الهباء بالتناثر لأنك تراه منتظما مع الضوء حتى إذا حركته الريح تناثر وذهب كل مذهب. والمراد: جعلناه جامعا لحقارة الهباء والتناثر ولام الهباء واو بدليل الهبوة بمعناه. ثم ميز حال الأبرار عن حال الفجار بقوله: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ ووجه صحة التفضيل ما بين في قوله: قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ أو التفاوت بين المنزلتين إنما يرجع إلى الموضع والموضع من حيث إنه موضع لا شر فيه، أو هو على سبيل الفرض أي لو كان لهم مستقر كان مستقر أهل الجنة خيرا منه. والمستقر مكان الاستقرار والمقيل المكان الذي يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم والاستمتاع بمغازلتهنّ وملامستهنّ كحال المترفين في الدنيا، ولا نوم في الجنة وإنما سمى مكان دعتهم واسترواحهم إلى الحور مقيلا على طريق التشبيه، وفي اختيار لفظ الأحسن دون أن يقول «خير مقيلا» رمزا إلى التحسنات الحاصلة في مقيلهم من حسن الوجوه وملاحة الصور وغير ذلك. قال ابن مسعود: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. وعن سعيد بن جبير: إن الله تعالى إذا أخذ في فصل القضاء قضى بينهم كقدر ما بين صلاة الغداة إلى نصف النهار فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار. وقال مقاتل: يخفف الحساب على أهل الجنة حتى يكون بمقدار نصف يوم من أيام الدنيا ثم يقيلون من يومهم ذلك في الجنة. وحاصل الآية أن أصحاب الجنة من المكان في أطيب مكان ومن الزمان في أحسن زمان. ثم أراد أن يصف أهوال يوم القيامة فقال وَيَوْمَ تَشَقَّقُ أي واذكر يوم تتفتح السماء بسبب غمام يخرج منها وفي الغمام الملائكة فينزلون وفي أيديهم صحائف أعمال العباد. قال الفراء: الباء بمعنى «عن» لأن السماء لا تتشقق بالغمام بل عن الغمام كما يقال: انشقت الأرض عن النبات أي ارتفع التراب عنه عند طلوعه، وقال القاضي: لا يمتنع أن يجعل الله تعالى الغمام بحيث يشقق السماء باعتماده عليها. عن مقاتل: تشقق سماء الدنيا فينزل أهلها وكذلك تتشقق سماء
سماء، ثم ينزل الكروبيون وحملة العرش، ثم ينزل الرب تعالى. قال العلماء: هذا نزول الحكم والقضاء لا نزول الذات. وأما نزول الملائكة مع كثرتهم وصغر حجم الأرض بالقياس إلى السماء فقالوا: لا يبعد أن يوسع الله الأرض عرضا وطولا بحيث تسع كل هؤلاء. ومن المفسرين من قال: الملائكة يكونون في الغمام وهو سترة بين السماء والأرض، والله تعالى فوق أهل القيامة. وروى الضحاك عن ابن عباس قال: تتشقق كل سماء وينزل سكانها فيحيطون بالعالم ويصيرون سبع صفوف حول العالم. والظاهر أن اللام في الغمام للجنس. ومنهم من قال: هي للعهد والمعهود قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ
وقيل: هو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة كما كان لبني إسرائيل في التيه.
ومعنى تَنْزِيلًا توكيد للنزول ودلالة على إسراعهم فيه. قال الزجاج الْحَقُّ صفة الملك أي الملك الثابت الذي لا يزول لِلرَّحْمنِ يومئذ ونظيره مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة: 4] ويجوز أن يكون يومئذ تكريرا لقوله وَيَوْمَ تَشَقَّقُ وإعرابهما واحد. والفائدة في تخصيص ذلك اليوم أن يعلم أنه لا مالك فيه سواه لا بالصورة ولا في الحقيقة فيخضع له الملوك وتعنو له الوجوه وتذل رقاب الجبابرة. قالت الأشاعرة: هاهنا لو وجب على الله يومئذ الثواب لاستحق الذم بتركه وكان خائفا أن لا يفعل فلم يكن له الملك على الإطلاق.
وأيضا لو كان العبد مالكا للثواب لم يكن الله تعالى مالكا مطلقا بل يكون عبدا ضعيفا لا يقدر على أن لا يؤدي ما عليه من العوض، أو فقيرا محتاجا إلى أن يدفع الذم عن نفسه بأداء ما عليه؟ وكان ذلك اليوم يوما عسيرا على الكافرين لا على المؤمنين. واللام في الظَّالِمُ ظاهر الاستغراق والشمول أو للجنس. وعن ابن عباس أنه للعهد وذلك
أن الآية نزلت في عقبة بن أبي معيط وكان يكثر مجالسة الرسول صلى الله عليه وسلم فاتخذ ضيافة ودعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أن يأكل من طعامه حتى يأتي بالشهادتين ففعل، وكان أبي بن خلف صديقه فعاتبه وقال: صبأت يا عقبة؟ قال: لا ولكن أبى أن يأكل من طعامي وهو في بيتي فاستحييت منه فشهدت له، والشهادة ليست في نفسي. فقال: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمدا فلم تطأ قفاه ولم تبزق في وجهه. فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فقتل يوم بدر أمر عليا رضي الله عنه بقتله.
وفي روايات الشيعة أن الظالم هو رجل بعينه وأن المسلمين غيروا اسمه وكتموه وجعلوا فلانا بدلا من اسمه وذكروا فاضلين من الصحابة
وفيه بعد، لأن تغيير القرآن كفر.
والعض على اليدين كناية عن الغيظ والحسرة لأنه من لوازم الغيظ والتحسر غالبا ونظيره «سقط في يده وأكل من بنانه» وأمثال ذلك. وقال الضحاك: يأكل يديه إلى المرفق ثم تنبت فلا يزال كذلك كلما أكلها نبتت. قال جار الله: تمنى أن لو صحب الرسول وسلك معه طريقا واحدا وهو طريق الحق ولم تتشعب به طرق الضلالة والهوى، أو أراد أني كنت ضالا لم يكن لي سبيل قط فليتني حصلت لنفسي في صحبة الرسول سبيلا. وفلان كناية عن الإعلام كما أن الهن كناية عن الأجناس، فإن أريد بالظالم عقبة فالمعنى ليتني لم أتخذ أبيا خليلا فكنى عن اسمه، وإن أريد به الجنس فكل من اتخذ من المضلين خليلا كان لخليله اسم علم فجعله كناية عنه. قلت: زعم بعض أئمة اللغة أنه لم يثبت استعمال فلان في الفصيح إلا حكاية. لا يقال: جاءني فلان ولكن يقال: قال زيد جاءني فلان. لأنه اسم اللفظ الذي هو علم لا اسم مدلول العلم ولذلك جاء في كلام الله تعالى: يقول يا ليتني إلخ. والذكر ذكر الله والقرآن أو موعظة الرسول أو نطقه بشهادة الحق وعزمه على الإسلام والشيطان إشارة إلى خليله الذي أضله كما يضله الشيطان، ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة.
أو إشارة إلى إبليس وأنه هو الذي حمله على أن صار خليلا لذلك المضل وخالف الرسول صلى الله عليه وسلم ثم خذله، أو أراد الجنس فيدخل فيه كل من تشيطن من الجن والإنس.
ثم إن الكفار لما أكثروا من الاعتراضات الفاسدة ووجوه التعنت ضاق صدر الرسول صلى الله عليه وسلم وشكاهم إلى الله عز وجل وقال يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي يعني قريشا اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً أي تركوه وصدّوا عنه وعن الإيمان به.
وعن أبي مسلم أن المراد: وقال الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.
روي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم «من تعلم القرآن وعلمه وعلق مصحفا لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلقا به يقول يا رب العالمين عبدك هذا اتخذني مهجورا اقض بيني وبينه» .
وقيل: هو من هجر إذا هذى. والجار محذوف أي جعلوه مهجورا فيه. وعلى هذا فله معنيان: أحدهما أنهم زعموا أنه كلام لا فائدة فيه. والثاني أنهم كانوا إذا سمعوه لغوا فيه. وجوز الكشاف أن يكون المهجور مصدرا بمعنى الهجر كالميسور والمجلود أي اتخذوه هجرا. سؤال: هذا النداء بمنزلة قول نوح رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً [نوح: 5] فكيف صارت شكاية نوح سببا لحلول العذاب بأمته ولم تصر شكاية نبينا صلى الله عليه وسلم سببا لذلك؟ الجواب أن الكلام بالتمام، وكان من تمام كلام نوح رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: 26] ولم يكن كلام رسولنا إلا مجرد الشكاية ولم يقتض الدعاء عليهم وذلك من غاية شفقته على الأمة وإن بلغ إيذاؤهم
إياه الغاية
«ما أوذي نبي مثل ما أوذيت» «1»
هذا مع أنه سبحانه سلاه وعزاه وأمره بالصبر على أذاهم حين قال وَكَذلِكَ جَعَلْنا بين ذلك أن له أسوة بسائر الأنبياء فليصبر على ما يلقاه من قومه كما صبروا، وتمام البحث فيه قد سلف في الأنعام في قوله وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام: 112] وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً إلى مصالح الدين والدنيا أو إلى طريق قهرهم والانتصار منهم ونصيرا لك على أعدائك. ثم حكى عنهم شبهة خامسة وهي قولهم: هلا نزل عليه القرآن حال كونه جملة واحدة أي مجتمعا. ومعنى التنزيل هاهنا التعدية فقط لقرينة قوله جُمْلَةً خلاف ما تقرر في أكثر المواضع من إرادة التكثير المفيد للتدريج كما مر في قوله نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ [آل عمران: 3] والقائلون قريش أو اليهود فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله لِنُثَبِّتَ إلخ. وتقريره من وجوه أحدها: أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئا كاتبا بخلاف موسى وداود وعيسى فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ فأنزله الله عليه منجما في عشرين سنة. وعن ابن جريج: في ثلاث وعشرين ليكون أقرب إلى الضبط وأبعد عن النسيان والسهو. وثانيها أن الاعتماد على الحفظ أقرب إلى التحصيل من الاعتماد على الكتابة والحفظ لا بد فيه من التدرج. وثالثها إن نزول الشرائع متدرجة أسهل على المكلف منها دفعة. ورابعها أن نزول جبريل ساعة فساعة مما يقوي قلبه ويعينه على تحمل أعباء النبوّة والرسالة. وخامسها أن نزوله مفرّقا يوجب وقوع التحدي على أبعاض القرآن وأجزائه ونزوله جملة يقتضي وقوع التحدي على مجموعه، ولا ريب في أن الأول أدخل في الإعجاز. وسادسها أن نزوله بحسب الوقائع والحوادث أوفق في باب التكاليف والاستبصار وأدل على الأخبار عن الحوادث في أوقاتها. وسابعها أن في تجديد منصب السفارة في كل حين مزيد شرف لجبريل.
وللترتيل معان منها: أنه قدره آية بعد آية ودفعة عقيب دفعة. ومنها التأني في القراءة ومعنى وَرَتَّلْناهُ أمرنا بترتيل قراءته ومنه حديث عائشة في قراءته: لا يسرد كسردكم. هذا لو أراد السامع أن يعدّ حروفها لعدها وهو مأخوذ من ترتيل الأسنان أي تفليجها. يقال: ثغر مرتل ويشبه بنور الأقحوان في تفليجه. ومنها أنه نزله في مدد متباعدة الأطراف جملتها عشرون سنة ولم يفرقه في مدد متقاربة. ثم ذكر أنهم محجوبون في كل أوان بقوله:
(1)
رواه الترمذي في كتاب القيامة باب 34. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب 11. أحمد في مسنده (3/ 120) بلفظ «ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد
…
» .
وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ أي بسؤال عجيب من أسئلتهم الباطلة الذي كأنه مثل في البطلان إلا ونحن نأتي بالجواب الحق الذي لا محيد عنه وبما هو أحسن معنى ومؤدى من سؤالهم. قال جار الله: لما كان التفسير هو التكشيف عما يدل عليه الكلام وضع موضع معناه فقالوا: تفسير الكلام كيت وكيت كما قيل: معناه كذا وكذا. ووجه آخر وهو أن يراد وَلا يَأْتُونَكَ بحال وصفة عجيبة يقولون هلا كانت صفته وحاله أن ينزل معه ملك أو يلقى إليه كنز أو ينزل عليه القرآن جملة إلا أعطيناك نحن ما يحق لك في حكمتنا ومشيئتنا وما هو أحسن بيانا لما بعثت به، ومن جملة ذلك تنزيل القرآن مفرقا منجما فإن ذلك أدخل في الإعجاز كما مر، ثم أوعد هؤلاء الجهلة بأنهم شر مكانا من أهل الجنة والبحث عنه نظير ما مر في صفة أهل الجنة خير مستقرا. قال جار الله: كأنه قيل لهم: إن الذي يحملكم على هذه الأسئلة هو أنكم تضللون سبيله صلى الله عليه وسلم وتحتقرون مكانه ومنزلته، ولو نظرتم بعين الإنصاف وأنتم من المسحوبين على وجوهكم إلى جهنم لعلمتم أن مكانكم شر من مكانه وسبيلكم أضل من سبيله.
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاث: ثلث على الدواب وثلث على وجوههم وثلث على أقدامهم ينسلون نسلا» .
ثم ذكر طرفا من قصص الأولين على عادة افتنانه في الكلام تنشيطا للأذهان وتسلية لنبيه كأنه قال: لست يا محمد بأول من أرسلناه فكذب وآتيناه الآيات فردّ بل آتينا موسى التوراة وقويناه بأخيه ومع ذلك كذب ورد. ومعنى الوزير تقدم في «طه» . والوزارة لا تنافي النبوة فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء ويؤمرون بأن يوازر بعضهم بعضا. ولاشتراكهما في النبوة قيل لهما اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إن حملناه على تكذيب آيات الإلهية فظاهر، وإن حملناه على تكذيب آيات النبوة فاللفظ ماض والمعنى على الاستقبال على عادة إخبار الله تعالى. ويجوز أن يراد إلى القوم الذين آل حالهم إلى أن كذبوا فدمرناهم، وعلى هذا فلا حذف. والتدمير الإهلاك وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ بأن كذبوه وكذبوا من قبله من الرسل صريحا كأنهم لم يروا بعثة الرسل أصلا كالبراهمة، أو لأن تكذيب واحد من الرسل كتكذيب كلهم أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ أي إغراقهم وقصتهم لِلنَّاسِ آيَةً محل اعتبار وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ وهم قوم نوح أو لكل من سلك سبيلهم في التكذيب. وقصة عاد وثمود مذكورة مرارا، وأما الرس فعن أبي عبيدة أنه البئر غير المطوية، والقوم كانوا من عبدة الأصنام أصحاب آبار ومواش، بعث الله عز وجل إليهم شعيبا فدعاهم إلى الإسلام فأبوا، فبيناهم حول الرس انهارت بهم فخسف بهم وبديارهم. وقيل: الرس قرية بفلج اليمامة قتلوا نبيهم فهلكوا وهم بقية ثمود.
وقيل: هم أصحاب النبي حنظلة بن صفوان ابتلاهم الله بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من
الطير سميت بذلك لطول عنقها، وكانت تسكن جبلهم وتنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة. ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا. وقيل:
هم أصحاب الأخدود والرس عند العرب الدفن يقال: رس الميت: إذا دفن وغيب في الحفيرة. وقيل: الرس بأنطاكية قتلوا فيها حبيبا النجار وستجيء القصة في سورة يس.
وعن علي رضي الله عنه أنهم قوم يعبدون شجرة الصنوبر رسوا نبيهم في الأرض.
وقيل: هم قوم كانت لهم قرى على شاطىء نهر يقال له الرس من بلاد المشرق، فبعث الله تعالى إليهم نبيا من ولد يهوذا بن يعقوب فكذبوه فلبث فيهم زمانا ثم حفروا بئرا فرسوه فيها وقالوا: نرجو أن يرضى عنا إلهنا، وكان عامة قومهم يسمعون أنين نبيهم يقول: إلهي وسيدي ترى ضيق مكاني وشدة كربي وضعف قلبي فعجل قبض روحي حتى مات، فأرسل الله تعالى ريحا عاصفة شديدة الحمرة وصارت الأرض من تحتهم حجر كبريت متوقدا وأظلتهم سحابة سوداء فذابت أبدانهم كما يذوب الرصاص.
وروى ابن جرير بإسناده إلى النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله بعث نبيا إلى أهل قرية فلم يؤمن به من أهلها إلا عبد أسود، ثم عدوا على الرسول فحفروا له بئرا فألقوه فيها ثم أطبقوا عليه حجرا ضخما، فكان ذلك العبد يحتطب فيتشري له طعاما وشرابا ويرفع الصخرة ويدليه إليه وكان كذلك ما شاء الله فاحتطب يوما فلما أراد أن يحملها وجد نوما فاضطجع فضرب الله على آذانه سبع سنين. ثم انتبه وتمطى وتحول لشقه الآخر فنام سبع سنين، ثم هب فاحتمل حزمته وظن أنه نام ساعة من نهار فجاء إلى القرية فباع حزمته فاشترى طعاما وشرابا وذهب إلى الحفرة فلم يجد أحدا، وكان قومه استخرجوه فآمنوا به وصدقوه وذلك النبي يسألهم عن الأسود فيقولون: لا ندري حاله حتى قبض الله تعالى النبي وقبض ذلك الأسود فقال صلى الله عليه وسلم: إن ذلك الأسود أول من يدخل الجنة.
قلت هذه الرواية إن صحت فلا مدخل لها في المقصود فإن المقام يقتضي أن يكون قوما كذبوا نبيهم فأهلكوا لأجل ذلك.
أما قوله وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ فالمشار إليه ما ذكر من الأمم وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك ومثله قول الحاسب «فذلك كذا» أي فما ذكر من الأعداد مجموعها كذا وَكُلًّا من الأمم والقرون ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ بينا له القصص العجيبة ليعتبروا ويتعظوا وَكُلًّا تَبَّرْنا أهلكنا أشنع الإهلاك حين لم ينجع فيهم ضرب المثل.
والتتبير التفتيت والتكسير. وكُلًّا الأول منصوب بما دل عليه ضربنا له الأمثال وهو أنذرنا أو حذرنا كُلًّا الثاني منصوب ب تَبَّرْنا لأنه ليس بمشتغل عنه بضميره. والضمير في وَلَقَدْ أَتَوْا لقريش، والقرية سدوم من قرى قوم لوط وكانت خمسا، ومطر السوء
الحجارة. أَفَلَمْ يَكُونُوا في مرات مرورهم على تلك القرية في متاجرهم إلى الشام يَرَوْنَها بَلْ كانُوا قوما كفروا بالبعث لا يتوقعون نشورا وعاقبة فمن ثم لم ينظروا إلى آثار عذاب الله نظر عبرة وادكار. وَمن جملة كفرهم وعنادهم أنهم إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا محل هزؤ. ثم فسر ذلك الاستهزاء بأنهم يقولون مشيرين إليه على سبيل الاستحقار.
هذا الذي بعثه الله حال كونه رسولا بزعمه. ويجوز أن يكون تسميته رسولا استهزاء آخر من حيث إنه تسليم وإقرار في معرض الجحود والإنكار. وفي هذا جهل عظيم لأنهم إن استحقروا صورته فإنه أحسنهم خلقا وأعدلهم مزاجا مع أنه لم يكن يدعي التميز بالصورة، وإن استهزؤا بالمعنى فبه قد وقع التحدي بظهور المعجز عليه وقامت الحجة عليهم فهم أحق بالاستهزاء منه حين أصروا على الباطل بعد وضوح البرهان على الحق، ولقد شهد عليهم بمضمون هذا التقرير ابن أخت خالتهم إذ قالوا إِنْ كادَ
هي مخففة من الثقيلة واللام في لَيُضِلُّنا هي الفارقة كأنهم سلموا أنه لقوة العقل وسطوع الحجة شارف أن يغلبهم على دينهم ويقلبهم عن طريقتهم لولا فرط لجاجهم وصبرهم على عبادة آلهتهم. أطلقوا المقاربة أوّلا ثم قيدوها بلو لا الامتناعية ثانيا، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم بذل قصارى مجهوده في دعوتهم حتى شارفوا على الإيمان بزعمهم. وحين وصفوه بالإضلال والمضل لا بد أن يكون ضالا في نفسه فكأنهم وصفوه بالضلال فلا جرم أوعدهم الله على ذلك بقوله وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إلى آخر الآية. وإنما يرون العذاب عند كشف الغطاء عن بصر البصيرة. ثم بين إنه لا تمسك لهم فيما ذهبوا إليه سوى التقليد واتباع هوى النفس فقال معجبا لرسوله: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ قدم المفعول الثاني للعناية كما تقول: علمت منطلقا زيدا. ثم نفى أن يكون هو حافظا عليهم كقوله: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ [الأنعام: 107] لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية: 22] قال الكلبي: نسختها آية القتال. عن سعيد بن جبير: كان الرجل يعبد الحجر فإذا رأى أحسن منه رمى به وأخد آخر. ثم أضرب عن ذمهم باتخاذ الهوى إلها إلى نوع آخر أشنع في الظاهر قائلا: أم يحسب وهي منقطعة ومعناه «بل» أيحسب وخص أكثرهم بالذكر إما لصون الكلام عن المنع على عادة الفصحاء العقلاء، وإما لأن منهم من كان يعرف الحق إلا أن حب الرياسة يحمله على الخلاف. وإنما نفى عنهم السماع والعقل لانتفاء فائدتهما وأثرهما. وباقي الآية تفسيرها مذكور في آخر الأعراف في قوله أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأنعام: 179] قال جار الله: جعلوا أضل من الأنعام لأنها تنقاد لأربابها التي تعلفها وتعرف المحسن من المسيء وتجذب المنافع وتجتنب المضارّ وتهتدي للمراعي والمشارب، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان، ولا يطلبون أعظم المنافع وهو الثواب، ولا يتقون أشد المضارّ وهو العقاب، ولا يهتدون للحق الذي هو
المرتع الهنيّ والمشرب الرويّ، قلت: ويحسن أيضا أن يذكر في وجه التفضيل أن جهل الأنعام بسيط غير مضر وجهل هؤلاء مركب مضر. ومنهم من قال: إن الأنعام تسبح لله تعالى بخلاف الكفار.
ثم ذكر طرفا من دلائل التوحيد مع ما فيها من عظيم الأنعام فأولها الاستدلال من أحوال الظل والرؤية إما بمعنى البصر فالمراد: ألم تر إلى صنع ربك أو ألم تر إلى الظل كيف مده ربك. وإما بمعنى العلم وهو ظاهر وذلك أن الظل متغير ولكل متغير موجد وصانع. والخطاب لكل من له أهلية النظر والاستدلال. وللكلام في تفسير الآية مجال إلا أن ملخص الأقوال فيه اثنان: الأول أن الظل أمر متوسط بين الضوء الخالص والظلمة الخالصة كالكيفيات الحاصلة داخل السقوف الكاملة وأفنية الجدران وهو أعدل الأحوال، لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس والضوء الكامل لقوّته يبهر الحس البصري ويؤذي بالتسخين، ولذلك وصف الجنة به في قوله: وَظِلٍّ مَمْدُودٍ [الواقعة:
30] ثم إن الناظر في الظل إلى الجسم الملون كأنه لا يشاهد شيئا سوى الجسم واللون، فإذا طلعت الشمس ووقع ضوءها على الجسم زال ظله فيظهر للعقول أنه كيفية زائدة على ما شاهده أوّلا. فمعنى الآية: ألم تر إلى عجيب صنع ربك كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ أي جعله ممتدا منبسطا على الأجسام. وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً لاصقا بكل مظل. ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ على وجوده دَلِيلًا فلولا الشمس ووقوع ضوئها على الأجرام لما عرف أن للظل وجودا، لأن الأشياء إنما تعرف بأضدادها: ثُمَّ قَبَضْناهُ أي أزلنا الظل لا دفعة بل يسيرا فإنه كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الإظلال في جانب المغرب شيئا بعد شيء، وفي القبض على هذا الوجه منافع جمة. الثاني أنه سبحانه لما خلق السماء والأرض ألقت السماء ظلها على الأرض ممدودا منبسطا، ولو شاء لجعله ساكنا مستقرا على تلك الحالة، ثم خلق الشمس وجعلها دليلا على ذلك الظل، لأن الظل يتبعها كما يتبع الدليل في الطريق من حيث إنه يزيد بها وينقص ويمتد ويتقلص، ثم لقبض الظل معنيان: أحدهما: انتهاء الإظلال إلى غاية ما من النقصان بالتدريج، وثانيهما قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام النيرة. وقوله إِلَيْنا يؤكد هذا المعنى الثاني فيكون قوله يَسِيراً كما قال ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ [ق: 44] الاستدلال الثاني من أحوال الليل والنهار شبه ما يستر من ظلام الليل باللباس الساتر، والسبات الراحة قاله أبو مسلم. وذلك أن النوم سبب الراحة ومنه يوم السبت لما جرت به العادة من الاستراحة فيه عند طائفة، وعلى هذا فالنشور بمعنى الانتشار والحركة. قال جار الله: السبات الموت والمسبوت الميت لأنه مقطوع الحياة، وعلى هذا
فالنشور بمعنى البعث وتكون الآية نظير قوله: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام: 60] عن لقمان أنه قال لابنه: يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر. الاستدلال الثالث قوله وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي قدام المطر وقد مر تفسيره في «الأعراف» وأنه لم قال هاهنا أَرْسَلَ بلفظ الماضي وهناك يُرْسِلُ أما قوله وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً فهو علم بين الفقهاء في الاستدلال به على طهارة الماء في نفسه وعلى مطهريته لغيره حتى فسر الطهور بعضهم- ومنهم أحمد بن يحيى- بأنه الذي يكون طاهرا في نفسه مطهرا لغيره. واعترض عليهم صاحب الكشاف بأن الذي قالوه إن كان شرحا لبلاغته في الطهارة كان سديدا وإلا فليس «فعول» من «التفعيل» في شيء وأقول: إن الزمخشري سلم أن الطهور في العربية على وجهين: صفة كقولك «ماء طهور» أي طاهر، واسم غير صفة ومعناه ما يتطهر به كالوضوء والوقود بفتح الواو فيهما لما يتوضأ به وتوقد به النار، وعلى هذا فالنزاع مدفوع لأن الماء مما يتطهر به هو كونه مطهرا لغيره فكأنه سبحانه قال: وأنزلنا من السماء ماء هو آلة للطهارة ويلزمه أن يكون طاهرا في نفسه. ومما يؤكد هذا التفسير أنه تعالى ذكره في معرض الأنعام فوجب حمله على الوصف الأكمل، ولا يخفى أن المطهر أكمل من الطاهر نظيره وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال:
11] .
ولا ضير أن نذكر بعض أحكام المياه المستنبطة من الآية فنقول: هاهنا نظران: الأول أن عين الماء هو طهور أم لا؟ مذهب الأصم والأوزاعي أنه يجوز الوضوء بجميع المائعات، وقال أبو حنيفة: يجوز الوضوء بنبيذ التمر في السفر وتجوز إزالة النجاسة بجميع المائعات المزيلة لأعيان النجاسات. وقال الشافعي وغيره من الأئمة: إن الطهورية مختصة بالماء لما مر في أول المائدة من إيجاب التيمم عند عدم الماء ولو شارك الماء مائع آخر لما أمر بالتيمم إلا بعد إعوازه أيضا ودليله في الخبث
قوله صلى الله عليه وسلم «ثم اغسليه بالماء» .
النظر الثاني في الماء وفيه بحثان: الأول في الماء المستعمل وإنه طاهر عند الشافعي وليس بمطهر في قوله الجديد. أما الأول فلإطلاق الآية وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً والأصل بقاؤه
وللحديث «خلق الماء طهورا»
ولأن السلف كانوا لا يحترزون عن تقاطر ماء الوضوء على ثيابهم وأبدانهم، ولأنه ماء طاهر لقي جسما طاهرا فأشبه ما إذا لاقى حجارة. وأما الثاني
فلقوله صلى الله عليه وسلم «لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب» «1»
ولو بقي الماء كما كان طاهرا مطهرا
(1) رواه مسلم في كتاب الطهارة حديث 97. النسائي في كتاب الطهارة باب 38. ابن ماجة في كتاب الطهارة باب 109.
لما كان للمنع منه معنى، وكانت الصحابة لا يعتنون بحفظه ليستعملوه ثانيا ولو كان طهورا لحفظوا ما يغنيهم عن التيمم. وقال مالك والسدي: إنه طاهر مطهر لإطلاق الآية والحديث، والأصل بقاء صفته على ما كان عليه.
وروي أنه صلى الله عليه وسلم توضأ فمسح رأسه بفضل ما في يده.
وعن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلم اغتسل فرأى لمعة في جسده لم يصبها الماء فأخذ شعرة عليها بلل فأمرها على تلك اللمعة،
ولقياس ما انفصل من العضو على ما لم ينفصل منه.
وقال أبو حنيفة: إنه نجس قياسا للنجاسة الحكمية على النجاسة الحقيقية. والمراد باستعمال الماء في المسألة تأدى عبادة الطهارة به أو انتقال المنع إليه فيه وجهان لأصحاب الشافعي، ويتفرع عليه أن المستعمل في الكرة الثانية والثالثة وفي تجديد الوضوء والأغسال المسنونة ليس بطهور على الأول طهور على الثاني. والماء المستعمل في الحدث لا يجوز استعماله في الخبث على الأصح لأنه مائع لا يرفع الحدث فلا يزيل الخبث كسائر المائعات. البحث الثاني الماء المتغير إن تغير بنفسه لطول المكث جاز الوضوء به لأنه صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ من بئر بضاعة، وكان ماؤها كأنه نقاعة الحناء. وإن تغير بغيره ولم يتصل به كما لو وقع بقرب الماء جيفة فأنتن الماء فهو أيضا مطهر، وإن اتصل به وكان طاهرا ولم يخالطه كما لو تغير بدهن أو عود أو كافور صلب فهو أيضا مطهر، وإن خالطه فإن لم يمكن صون الماء عنه كالمتغير بالتراب والحمأة والورق المتناثر والطحلب فلا بأس بذلك دفعا للحرج، وكذا لو جرى الماء في طريقه على معدن زرنيخ أو نورة أو كحل وإن أمكن بأن يكون الماء مستغنيا عن جنس ذلك الخليط فإن كان التغير قليلا بحيث لا يضاف الماء إليه أو لا يستحدث اسما جديدا جاز التوضؤ به وإلا فلا خلافا لأبي حنيفة. حجة الشافعي
أنه صلى الله عليه وسلم توضأ ثم قال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به،
فذلك الوضوء إن كان بالماء المتغير وجب أن لا يجوز إلا به وليس كذلك بالاتفاق بماء غير متغير وهو المطلوب. ولقائل أن يقول: إن هذا إشارة إلى كيفية الوضوء لا إلى كيفية الماء، والمراد أنه تعالى لا يقبل الصلاة بما دون ذلك، وأما الكمال فلا كلام فيه. قال: وأيضا إذا اختلط ماء الورد بالماء فتوضأ الإنسان به يحتمل أن ينغسل بعض الأعضاء بماء الورد لا بالماء فيكون الحدث يقينا والطهر مشكوكا فيه والشك لا يرفع اليقين، وهذا بخلاف ما إذا كان قليلا لا يظهر أثره فإنه كالمعدوم. وأيضا الوضوء تعبد لا يعقل معناه ولهذا لو توضأ بماء الورد لم يصح وضوءه، ولو توضأ بالماء الكدر والمتعفن صح وضوءه وما لا يعقل معناه وجب الاعتماد فيه على مورد النص. حجة أبي حنيفة إطلاق الآية وقوله: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [المائدة: 6] وقوله فَلَمْ تَجِدُوا ماءً [النساء: 43] وهذا الشخص غسل ووجد الماء ولأنه صلى الله عليه وسلم أباح الوضوء بسؤر الهرة وسؤر الحائض وإن
خالطهما شيء من لعابهما، ولأنه لا خلاف في جواز الوضوء بماء السيول وإن تغير لونها إلى ألوان ما تمر عليها في الصحاري من الحشائش وغيرها. هذا كله إذا كان الخليط طاهرا، فإن كان نجسا فمذهب الحسن البصري والنخعي ومالك وداود وإليه الغزالي في الإحياء أن الماء لا ينجس ما لم يتغير بالنجاسة، سواء كان الماء كثيرا أو قليلا. ومذهب أبي حنيفة أن الماء ينجس باستعماله في البدن لأداء عبادة. وتيقن مخالطة النجاسة أو غلبتها على الظن سواء تغير أحد أوصافه الثلاثة أو لم يتغير. قال أبو بكر الرازي: ولا يختلف على هذا الحد ماء البحر وماء البئر والغدير والراكد والجاري لأن ماء البحر لو وقعت فيه نجاسة لم يجز استعمال الماء الذي فيه النجاسة وكذلك الماء الجاري. قال: وأما اعتبار أصحابنا للغدير الذي إذا حرك أحد طرفيه لم يتحرك الطرف الآخر فإنما هو كلام في وجه يغلب على الظن عدم بلوغ النجاسة الواقعة في أحد طرفيه إلى الطرف الآخر، وليس كلاما في أن بعض المياه الذي فيه النجاسة قد يجوز استعماله وبعضها لا يجوز استعماله.
ومن الناس من فرق بين القليل والكثير ثم اختلفوا في حد الكثير: فعن عبد الله بن عمر: إذا كان الماء أربعين قلة لم ينجسه شيء وقال سعيد بن جبير: الماء الراكد لا ينجسه شيء إذا كان قدر ثلاث قلال. وقال الشافعي: إذا كان الماء قلتين بقلال هجر لم ينجسه إلا ما غير طعمه أو ريحه أو لونه. وقد ينصر من المذاهب قول مالك لوجوه منها: قوله وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً ترك العمل به في الماء الذي تغير لونه أو طعمه أو ريحه لظهور النجاسة فيه،
ولقوله «خلق الماء طهورا لا ينجسه شيء إلا ما غير لونه أو طعمه أو ريحه» «1»
فبقي ما عداه على الأصل. ومنها قوله تعالى: فَاغْسِلُوا والمتوضئ بهذا الماء قد غسل أعضاءه ولا سيما إذا كانت النجاسة مستهلكة فيه لا يظهر عليه آثارها وخواصها من الطعم أو اللون أو الريح. ومنها أن عمر توضأ من جرة نصرانية مع أن نجاسة أوانيهم غالبة على الظن، فدل ذلك على أنه لم يعول إلا على عدم التغير. ومنها أن تقدير الماء بمقدار معلوم لو كان معتبرا كالقلتين عند الشافعي وعشر في عشر عند أبي حنيفة، لكان أولى المواضع بذلك مكة والمدينة لأنه لا تكثر المياه هنالك لا الجارية ولا الراكدة، ولم ينقل أنهم خاضوا في تقدير المياه ولا أنهم سألوا عن كيفية حفظها، وكانت أوانيهم يتعاطاها الصبيان والإماء الذين لا يحترزون عن النجاسات، وكانوا لا يمنعون الهرة من شرب الماء وقد أصغى لها الإناء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا يرون أنها تأكل الفأرة، ولم يكن في بلادهم حياض تكرع
(1)
رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 67. بلفظ «لا بأس بالماء ما لم يغيره طعم أو ريح» .
السنانير فيها. ومنها أن الشافعي نص على أن غسالة النجاسة طاهرة إذا لم تتغير بنجس، وأي فرق بين أن يلاقي الماء النجاسة بالورود عليها أو بورودها عليه، وأي معنى لقول القائل: إن قوة الورود تدفع النجاسة مع أن قوة الورود لم تمنع المخالطة؟ ومنها أنهم كانوا يستنجون على أطراف المياه الجارية القليلة. وقال الشافعي: إذا وقع بول في ماء جار ولم يتغير جاز الوضوء به. وأيّ فرق بين الجاري والراكد؟ والتعويل على قوة الماء بسبب الجريان ليس أولى من التعويل على عدم التغير. ومنها أنه لو وقعت نجاسة في قلتين فكل كوز يؤخذ منه فهو طاهر عنده، ومعلوم أن البول ينتشر فيه وهو قليل فأي فرق بينه إذا وقع ذلك البول في ذلك القدر من الماء ابتداء وبينه إذا وصل إليه عند اتصال غيره به؟. ومنها أن الحمامات لم تزل في الأعصار الخالية يتوضأ منها المتقشفون مع علمهم بأن الأيدي والأواني الطاهرة والنجسة كانت تتوارد عليها، ولو كان التقدير بالقلتين وغير ذلك معتبرا لاشتهر وتواتر. ومنها أن النصوص في التقدير متخالفة أما تقدير أبي حنيفة بالعشر في العشر فمجرد تحكم، وأما تقدير الشافعي بالقلتين بناء على
قوله صلى الله عليه وسلم «إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثا» «1»
فضعيف. لأن راويه مجهول، فإن الشافعي لما روى هذا الخبر قال: أخبرني رجل. فيكون الحديث مرسلا والمرسل عنده ليس بحجة. سلمناه ولكن القلة مجهولة فإنها تصلح للكوز وللجرة ولكل ما يقل باليد وهي أيضا اسم لهامة الرجل ولقلة الجبل. سلمنا لكن في متن الخبر اضطراب،
فقد روي «إذا بلغ الماء قلتين» «2»
وروي «إذا بلغ قلة»
وروي «أربعين» «وإذا بلغ كرين»
سلمنا صحة المتن لكنه متروك الظاهر لأن قوله «لم يحمل خبثا» لا يمكن إجراؤه على ظاهره، فإن الخبث إذا ورد عليه فقد حمله. سلمنا إجراءه على الظاهر لكن الخبث لغوي وشرعي وحمله على اللغوي لكونه حقيقة أولى، فمعنى الحديث أن لا يصير مستقذرا طبعا. ونحن نقول: بموجبه لكن لم قلتم: إنه لا ينجس شرعا؟ سلمنا أن المراد هو الخبث الشرعي لكن لم لا يجوز أن يكون معنى
قوله «لم يحمل خبثا»
أنه يضعف عن حمله أي يتأثر به؟ أجاب بعض الشافعية عن هذه المنوع بأن كثيرا من المحدثين عينوا اسم الراوي في حديث القلتين، فإن يحيى بن معين قال: إنه جيد الإسناد. فقيل له:
إن ابن علية وقفه على ابن عمر. فقال: إن كان ابن علية وقفه فحماد بن سلمة رفعه. وقوله «القلة مجهولة» غير مسلم لأن ابن جريج قال في روايته: بقلال هجر. ثم قال: وقد شاهدت
(1، 2) رواه أبو داود في كتاب الطهارة باب 33. الترمذي في كتاب الطهارة باب 50. النسائي في كتاب الطهارة باب 43. ابن ماجة في كتاب الطهارة باب 75. الدارمي في كتاب الوضوء باب 55. أحمد في مسنده (2/ 23، 27) .
قلال هجر وكانت القلة تسع قربتين وشيئا. وإذا كانت هذه الرواية معتبرة فقط لم يكن في متن الحديث اضطراب، وحمل الخبث على الشرعي أولى لأن المسألة شرعية وتفسير عدم حمل الخبث بالتأثر تعسف لأنه صح
في بعض الروايات «إذا كان الماء قلتين لم ينجس» «1»
ولأنه لا يبقى لذكر القلتين حينئذ فائدة لأن ما دون القلتين أيضا بتلك المثابة، وزيف بأنه بعد التصحيح يوجب تخصيص عموم الكتاب والسنة الظاهرة البعيدة عن الاحتمال بمثل هذا الخبر المجمل. حجة من حكم بنجاسة الماء الذي خالطه نجاسة كيف كانت قوله تعالى:
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ [الأعراف: 157] وقوله إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ [النحل: 115] وقال في الخمر رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [المائدة: 90] حرم هذه الأشياء مطلقا ولم يفرق بين حال انفرادها وحال اختلاطها بالماء، فوجب تحريم استعمال كل ماء تيقنا فيه جزءا من النجاسة. وأيضا الدلائل التي ذكرتموها مبيحة ودلائلنا حاظرة والحاظر غالب على المبيح بدليل أن الجارية المشتركة لا يحل لواحد منهما وطؤها وأيضا
قال صلى الله عليه وسلم «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يغتسل فيه من جنابة» «2»
أطلق من غير فرق بين القليل والكثير. أجاب مالك بأنه لا نزاع في تحريم استعمال النجاسات، لكن الكلام في أنه متى ما لم يتغير فليس للنجاسة أثر لأنها انقلبت عن صفتها فكأنها معدومة والنهي عن البول في الماء لتنفر الطبع أو للتنزيه لا للتحريم.
واعلم أنه سبحانه بين في سورة الأنفال أن من غاية إنزال الماء من السماء تطهير المكلفين به حين قال: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال: 11] ففي وصفه هاهنا بكونه طهورا إشارة إلى ذلك. ثم رتب على الإنزال غايتين أخريين. أولاهما تتعلق بالنبات، والثانية بالحيوان الأعجم فالناطق. وفي هذا الترتيب تنبيه على أن الكائنات تبتدئ في الرجوع من الأخس إلى الأشرف، وفيه أن الغرض من الكل هو نوع الإنسان مع أن حياة الأناسي بحياة أرضهم وأنعامهم. قال مَيْتاً مع قوله بَلْدَةً بالتأنيث لأن «فيعلا» غير جار على الفعل فكأنه اسم جامد وصف به، أو بتأويل البلد والمكان. والأناسيّ جمع أنسي أو جمع إنسان على أن أصله أناسين فقلبت النون ياء. و «فعيل» قد يستوي فيه الواحد
(1) المصدر السابق.
(2)
رواه البخاري في كتاب الوضوء باب 68. مسلم في كتاب الطهارة حديث 95، 96. الترمذي في كتاب الطهارة باب 51. النسائي في كتاب الطهارة باب 45. الدارمي في كتاب الوضوء باب 45.
أحمد في مسنده (2/ 259، 265) .
والجمع فلهذا لم يقل وأناسي كثيرين ومثله وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً. أسئلة أوردها جار الله مع أجوبتها: الأول: أن إنزال الماء موصوفا بالطهارة وتعليله بالإحياء والسقي يؤذن بأن الطهارة شرط في صحة الإحياء والسقي كما تقول: حملني الأمير على فرس جواد لأصيد به الوحش. الجواب لما كان سقي الأناسي من جملة ما أنزل له الماء وصفه بالطهور إكراما لهم وتتميما للمنة عليهم وإشارة إلى أن من حق استعمال الماء في الباطن والظاهر أن يكون طاهرا غير مخالط لشيء من القاذورات. قلت: قد قررنا فائدة هذا الوصف بوجه آخر آنفا.
السؤال الثاني: لم خص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان المنتفع بالماء؟ الجواب لأن الطير والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام، ولأنها قنية الإنسان وعامة منافعه متعلقة بها فسقيها إنعام عليه. الثالث: ما معنى تنكير الأنعام والأناسي ووصفهم بالكثرة؟ الجواب لأن بعض الأنعام والأناسي الذين هم بقرب الأودية والأنهار العظام لا يحتاجون إلى ماء السماء احتياجا بينا، ولمثل هذا نكر البلدة في قوله بَلْدَةً مَيْتاً قوله سبحانه وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ الأكثرون على أن الضمير عائد إلى ما ذكر من الدلائل أي كررنا أحوال الإظلال وذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر في القرآن وفي سائر الكتب السماوية ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا، فأبى أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها. وقال آخرون: إنه يرجع إلى أقرب المذكورات وهو المطر أي صرفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصفات المتباينة من وابل وطل وغير ذلك فأبوا إلا كفورا وأن يقولوا: مطرنا بنوء كذا استقلالا. فإن جعلوا الأنواء كالوسائط والأمارات فلا بأس. والنوء سقوط نجم من المنازل الثمانية والعشرين للقمر في المغرب مع الفجر وطلوع رقيبه وهو نجم آخر في المشرق يقابله من ساعته في كل ليلة إلى ثلاثة عشر يوما وهو أكثر، أو إلى أربعة عشر وهو أقل. والعرب تضيف الأمطار والحر والبرد إلى الساقط منها أو إلى الطالع. فإذا مضت مدة النوء ولم يحدث شيء من مطر وغيره يقال:
خوى نجم كذا أي سقط ولم يكن عنده أثر علوي. عن ابن عباس: ما من عام أقل مطرا من عام ولكن الله عز وجل قسم ذلك بين عباده على ما يشاء وتلا هذه الآية. ويؤيد هذا التفسير تنكير البلدة والأنعام والأناسي. قال الجبائي: في قوله لِيَذَّكَّرُوا دليل على أنه تعالى أراد من الكل التذكر والإيمان. وفي قوله فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ دلالة على أن المكلف له قدرة على الفعل والترك إذ لا يقال للزمن مثلا إنه أبى أن يسعى. وقال الكعبي: الضمير في بَيْنَهُمْ لكل الناس فيكون الأكثر داخلا في ذلك العام إذ لا يجوز أن يقال: أنزلناه على قريش ليؤمنوا فأبى أكثر بني تميم إلا كفورا. وعند هذا يظهر أنه أراد من جميع المكلفين أن يؤمنوا ويعتبروا ومعارضة الأشاعرة معلومة.