الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
سيدة نساء العالمين فمدحها بإحصان فرجها إحصانا كليا من الحلال والحرام جميعا حتى إنها منعت جبرائيل جيب درعها قبل أن عرفته. والنفخ فيها عبارة عن إحياء عيسى في بطنها أي فنفخنا الروح في عيسى فيها كقول الزامر «فنفخت في بيت فلان» أي نفخت في المزمار في بيته، أو المراد وفعلنا النفخ في مريم من جهة روحنا- وهو جبرائيل- لأنه نفخ في جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها. وهذا البيان هو المراد في سورة التحريم فلذلك قال فَنَفَخْنا فِيهِ [التحريم: 12] أراد فرج الجيب أو غيره. وإنما قال وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ لأنه أراد أن مجموعهما آية واحدة وهي ولادتها إياه من غير أب.
التأويل:
الإشارات المفهومة من قصص الأنبياء أكثرها مرّ فلنذكر ما يختص بالمقام.
منها قوله بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ أي الله الكبير لأن كسر الأصنام ليس من طبيعة الإنسانية بل من طبيعتها أن تنحتها، فإن صدر من أحدهم كسرها فإنما ذلك بتوفيق الله وتأييده. فقوله هذا بدل الكل من الضمير في فعله: قالوا أحرقوه إذا أراد الله أن يكمل عبدا من عباده المخلصين فداه خلقا عظيما كما لو أراد استكمال حوت في البحر فداه كثيرا من الحيتان الصغار، فلما أراد تخليص جسد الخلة من غش البشرية جعل نمرود وقومه فداء له حتى أجمعوا على تحريقه ولم يعلموا أن تلك النار له نور. وذلك العذاب له روح وريحان، لأن نار العشق قد أحرقت أنانيته حتى لم ير غير الله بل لم يبق إلا هو فلم يمكن للنار أن تتصرف فيه فوقع قوله: قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ تمثيلا لهذا المعنى.
بالنار خوفني قومي فقلت لهم
…
النار ترحم من في قلبه نار
ونجينا إبراهيم الروح ولوط القلب من أرض البشرية إلى أرض الروحانية المتبركة المشرفة المشرقة لتجلي الذات والصفات. وَنَجَّيْناهُ من قرية القالب. الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ بالأوصاف البهيمية والسبعية وَداوُدَ الروح وَسُلَيْمانَ القلب إِذْ يَحْكُمانِ فِي شأن حرث الدنيا إِذْ نَفَشَتْ أي دخلت فيه في ظلمة ليل البشرية غَنَمُ الْقَوْمِ أي الصفات البشرية من غير راعي العقل فأفسدت الحرث بالإفراط والإسراف. فحكم الروح بانجذابه إلى عالمه بالكلية أن يمنع الأوصاف عن التصرف فيها مطلقا. فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ القلب لكونه متقلبا في طودي الروح والجسد أن يحكم بمنع التصرف فيها إلى أن يعود الحرث من حالة الإسراف فيه المؤدي إلى الفساد إلى حالة التوسط والاعتدال الذي هو المعتبر في باب الكمال والإكمال جمعا بين المصلحتين ورعاية للجانبين. وَسَخَّرْنا مَعَ
داوُدَ الْجِبالَ
وهي الأعضاء والجوارح التي فيها ثقل وكثافة يُسَبِّحْنَ بتسبيحه وَالطَّيْرَ وهن القوى الحيوانية السيارة بل الطيارة بين فضاء القلب والقالب. هذا في الباطن، وأما في الظاهر فإذا استولى سلطان الذكر على أجزاء البدن انعكس نوره في مرآة القلب إلى ما يحاذيها من الجمادات والحيوانات فيذكر ما يذكره كالحصاة سبحت في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن بعض الصحابة أنه قال: كنا نأكل الطعام ونسمع تسبيحه وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ إن الله تعالى ألهم داود الروح كيفية إلانة القلب الذي هو في القساوة بمنزلة الحديد حتى يتولد من ذلك القلب أوصاف حميدة تحصن الإنسان من بأس الأعداء التي هي النفس والهوى والشيطان. وسخرنا لِسُلَيْمانَ القلب ريح الروح الحيواني فإنه مركب الروح الإنساني به يتهيأ له السير إلى مقام بورك له فيه وَمِنَ الشَّياطِينِ وهم الأوصاف النفسية مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ في بحر الحديد فيستخرجون درر الفضائل الإنسية وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ من الوسائط والوسائل إلى تلك الفضائل: وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ من أن يزيغوا عن سواء السبيل ويميلوا عن جادة الشريعة وقانون الطريقة. قال أهل التحقيق: إذا بلغ الإنسان مبلغ الرجال البالغين سخر الله له بحسب مقامه السفليات والعلويات كما سخر لسليمان الريح والجن والشياطين والطير ومن العلويات الشمس حين ردت لأجل صلاته، وسخر لداود عليه السلام الجبال والطير والحديد والأحجار التي قتل بها جالوت، وسخر لنبينا جميع السفليات والعلويات حتى
قال «زويت لي الأرض» «1»
وقال «أوتيت مفاتيح خزائن الأرض» «2»
وكان الماء ينبع من بين أصابعه.
وقال «نصرت بالصبا»
وكانت الأشجار تسلم عليه وتسجد له وتنقلع بإشارته من مكانها وترجع، والحيوانات تتكلم معه وتشهد بنبوته.
وقال «أسلم شيطاني على يدي» «3» .
وأما من العلويات فقد انشق القمر بإشارته وسخر له البراق وجبرائيل، وعبر السموات والجنة والنار والعرش والكرسي إلى مقام قاب قوسين أو أدنى.
وَأَيُّوبَ القلب المبتلى بديوان الهواجس والوساوس الذي فارقه أوصافه الحميدة وأخلاقه الشريفة لشدة تألمه بالعلائق البدنية وعوائق الأمور الدنيوية فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ بأن قلنا
(1) رواه مسلم في كتاب الفتن حديث 19. أبو داود في كتاب الفتن باب 1 الترمذي في كتاب الفتن باب 14. ابن ماجة في كتاب الفتن باب 9. أحمد في مسنده (5/ 278) .
(2)
رواه البخاري في كتاب الجهاد باب 122. مسلم في كتاب المساجد حديث 6، 7. النسائي في كتاب الجهاد باب 1. الدارمي في كتاب المقدمة باب 14. أحمد في مسنده (2/ 264، 450) .
(3)
رواه مسلم في كتاب المنافقين حديث 69، 70. الترمذي في كتاب الرضاع باب 17. النسائي في كتاب النساء باب 4. الدارمي في كتاب الرقاق باب 35، 66. أحمد في مسنده (1/ 257) بلفظ «إلا أن الله أعانني عليه فأسلم» .