الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والحق أن قوله مِنَ الْأَرْضِ متعلق ب دَعاكُمْ كقولك دعوت زيدا من بيته لا كقولك دعوته من بيتي تَخْرُجُونَ هـ وَالْأَرْضِ ط قانِتُونَ هـ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ج وَالْأَرْضِ ط الْحَكِيمُ هـ مِنْ أَنْفُسِكُمْ ط لانتهاء الإخبار إلى الاستفهام كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ط يَعْقِلُونَ هـ بِغَيْرِ عِلْمٍ ج لابتداء الاستفهام مع الفاء أَضَلَّ اللَّهُ ط لتمام الاستفهام وابتداء النفي ناصِرِينَ هـ حَنِيفاً ط عَلَيْها ط لِخَلْقِ اللَّهِ ط الْقَيِّمُ هـ لا للاستدراك لا يَعْلَمُونَ هـ وقيل: لا وقف عليه بناء على أن مُنِيبِينَ حال من ضمير فَأَقِمْ على أن الأمر له ولأمته مثل يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ [الطلاق: 1] والوقف أوضح لبعد العامل عن المعمول بل التقدير: كونوا منيبين بدليل قوله وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ لأن قوله مِنَ الَّذِينَ كالبدل مما قبله شِيَعاً ط فَرِحُونَ هـ.
التفسير:
وجه تعلق السورة بما قبلها هو أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول للمشركين ما أمر الله به صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة: 171] وكان يحقر آلهتهم وينسبها إلى العجز وعدم النفع والضر، وكان أهل الكتاب يوافقون المسلمين في الإله وفي كثير من الأحكام ولذلك قال وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إلى قوله وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ [العنكبوت: 46] فلا جرم أبغض المشركون أهل الكتاب وتركوا مراجعتهم في الأمور. فاتفق أن بعث كسرى جيشا إلى الروم واستعمل عليهم رجلا يقال له شهريران، فسار إلى الروم بأهل فارس فظفر عليهم وقتلهم وخرب مدائنهم. وكان قيصر بعث رجلا يدعى بجنس فالتقى مع شهريران بأذرعات وبصرى وهو أدنى الشام إلى أرض العرب وإليه الإشارة بقوله أَدْنَى الْأَرْضِ لأن الأرض المعهودة عند العرب هي أرضهم أي غلبوا في أقرب أرض العرب منهم وهي أطراف الشام. وجوز جار الله أن يراد بأرضهم على إنابة اللام مناب المضاف إليه أي في أدنى أرضهم إلى عدوهم. وهذا تفسير مجاهد لأنه قال: هي أرض الجزيرة وهي أدنى أرض الروم إلى فارس. عن ابن عباس: الأردن وفلسطين. ففرح المشركون بذلك فأنزل الله تعالى هذه الآيات لبيان أن الغلبة لا تدل على الحق فقد يبتلى المحبوب ويعجل عذابه ليسلم في الآجل. وقوله فِي أَدْنَى الْأَرْضِ إشارة إلى ضعفهم أي انتهى ضعفهم إلى أن وصل عدوهم إلى طريق الحجاز وكسروهم وهم في بلادهم. ثم بين أن الروم سيغلبون غلبة عظيمة بعد ذلك الضعف العظيم، وكل ذلك دليل على أن الأمر بيد الله من قبل الغلبة ومن بعدها، أو من قبل تلك المدة ومن بعد ذلك، وقد وقع كما أخبر فغلبت الروم على فارس حتى وصلوا إلى المدائن وبنوا هنالك الرومية،
قال المفسرون: لما نزلت الآية قال أبوبكر للمشركين: لا أقر الله أعينكم، والله ليظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين. فقال له أبي
ابن خلف: كذبت يا أبا فضيل اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه، فخاطره على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعل الأجل ثلاث سنين. فأخبر أبو بكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر وماده في الأجل فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين. فلما أراد أبوبكر أن يخرج من مكة أتاه أبي فلزمه وطلب كفيلا فكفله ابنه عبد الله بن أبي بكر، فلما أراد أن يخرج إلى أحد أتاه عبد الله فلزمه إلى أن أقام كفيلا ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبي فمات بمكة من جراحته التي جرحها رسول الله صلى الله عليه وسلم فظهرت الروم على فارس يوم الحديبية. وذلك عند رأس سبع سنين. فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبي وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يتصدق به.
قالت العلماء: إنما أبهم الوقت لأن الكفار كانوا معاندين والأمور التي تقع في البلاد الشاسعة قلما يحصل الاتفاق على وقتها المعين من السنة والشهر واليوم والساعة وإن كان معلوما للنبي بإعلام الله إياه، فالمعاند كان يتمكن من الإرجاف بوقوع الواقعة قبل وقوعها ليحصل الخلف في الميعاد ولكن المعاند لا يتمكن من إنكار الواقعة في البضع، وَيَوْمَئِذٍ أي يوم يغلب الروم فارس ويحصل ما وعد الله من غلبتهم يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ وبغلبة من له كتاب على من لا كتاب له، أو بغيظ الشامتين بهم من كفار مكة. وقيل: نصر الله هو إظهار صدق المؤمنين فيما أخبر به نبيهم من غلبة الروم.
وعن أبي سعيد الخدري: وافق ذلك يوم بدر وهو المراد بنصر الله، وذلك أن خبر الكسر لم يصل إليهم في ذلك اليوم بعينه فلا يكون فرحهم يومئذ بل الفرح يحصل بعده، ولناصر القولين الأولين أن يقول: أقيم سبب الفرح، مقام الفرح أو المراد باليوم الوقت الواسع الشامل لما بين زمان وقوع الكسر إلى زمان وصول خبر الكسر الموجب للفرح. ومن علق قوله بِنَصْرِ اللَّهِ بقوله يَنْصُرُ بناء على أن المقصود بيان أن النصرة بيد الله لا بيان وقوع النصرة لم يقف هاهنا ووقف على الْمُؤْمِنُونَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ فإذا سلط العدو على الحبيب فلعزته واستغنائه عن العالمين، وإذا نصر الحبيب فلرحمته عليه. أو نقول: إن نصر المحب فلعزته واستغنائه عنه ورحمته في الآخرة واصلة إليه. وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لنفسه لأن ما سبق في معنى الوعد وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنه لا خلف في وعده لأنهم بله في أمور الدين. وفي إبدال قوله يَعْلَمُونَ من قوله لا يَعْلَمُونَ أو في بيان هذا بذاك إشارة أن العلم بأمور الدنيا كالجهل المطلق، وفي تنكير ظاهِراً إشارة إلى قلة علمهم بظاهر الدنيا أيضا وفي تكرير «هم» إشارة إلى أن الغفلة منهم وإلا فأسباب التذكرة حاصلة وظاهر الدنيا ملاذها وملاعبها وباطنها مضارها ومتاعبها.
هي الدنيا تقول بملء فيها
…
حذار حذار من سفكي وفتكي
فلا يغرركم طول ابتسامي
…
فقولي مضحك والفعل مبكي
ثم أشار إلى وجه التفكر بقوله أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا وقوله فِي أَنْفُسِهِمْ يتعلق به أما تعلق الظرف بالفعل كأنه قال: أو لم يحدثوا التفكر في قلوبهم الفارغة فيكون كما لو قلت لأجل زيادة التصوير اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك مع أن الاعتقاد لا يكون إلا في القلب، والإضمار لا يوجد إلا في النفس. وأما تعلق الجار بالفعل كقولك: تفكر في الأمور. وذلك أنه إذا تفكر في نفسه التي هي أقرب الأشياء إليه وقف على غرائب الحكم ودقائق الصنع التي أودعها الله تعالى فيها كما يكفل بيان بعضها علم التشريح فجره ذلك إلى العلم بأنه سبحانه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا متلبسا بالغرض الصحيح الذي أودعه الله فيها، وبتقدير أجل مسمى هو وقت الجزاء والحساب، ثم في الآية تقريران:
أحدهما يناسب أصول الأشاعرة وهو أن دلائل الأنفس منجرة إلى دلائل الآفاق المذكورة للتوحيد وللعلم بالإله القادر المختار الصادق كلامه، لكنه أخبر عن تخريب السموات والأرض وعن حشر الأجساد وانتهاء الجسمانيات إلى الإفناء ثم الإعادة في الوقت المعلوم فيكون الأمر على ما أخبر. وثانيهما يتوقف على أصول المعتزلة، وهو أن التفكر في النفس يجذب بصنعه إلى معرفة الإله الحكيم الذي لا يفعل العبث والجزاف، فإنه خلق السموات وغيرها من الأجسام لمنافع المكلفين، وإذا انتهى التكليف فلا بد من تخريب السموات والأرض وانتهاء الأمر إلى حالة الجزاء واللقاء كيلا تنخرم قاعدة الحكمة والتدبير ورعاية الصلاح والعدل. ثم قال وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ وقد قال قبل ذلك وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لأنه قد ذكر دليلا على الأصول، ولا شك أن الإيمان بعد الدليل يكون أكثر من الإيمان قبل الدليل فلا يبقى الأكثر كما هو فعبر عن الباقي بالكثير. قال في الكشاف والمراد بِلِقاءِ رَبِّهِمْ الأجل المسمى، والأشاعرة يحملونه على الرؤية، واعلم أن دليل الأنفس مقدم على دليل الآفاق، لأن الإنسان قلما يذهل عن نفسه، وأن نفسه أقرب الأشياء إليه نظير الآية قوله سبحانه الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمران: 191] أي يعرفون الله بدلائل الأنفس في سائر الأحوال، ويتفكرون في خلق السموات والأرض بدلائل الآفاق. وإنما أخر الأنفس في قوله سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ [فصلت: 53] لإن الإراءة إنما يفتقر إليها في معرفة الأبعد الأخفى كأنه قال: سنريهم آياتنا الآفاقية فإن لم يفهموها فآيات الأنفس معلومة. وهذا الترتيب لا يناسب التفكر بل الفكر يتصور دليل الأنفس أولا ثم يرتقي إلى دليل الآفاق فظهر أن كل آية وردت على ما اقتضته الحكمة والبلاغة. وحين ذكر دليل النفس الذي لا يقع الذهول عنه إلا
ندرة ارتقى إلى دليل السموات والأرض الذي يقع الذهول عنه في كثير من الأحوال لكنه لا يحتاج إلا إلى التفات ذهني، ثم أتبعه دليل الآفاق الذي يتوقف على السير والتحول ليقفوا على أمر أمثالهم. وحكاية أشكالهم ثم ذكر أنهم أولى بالهلاك لأن من تقدمهم كعاد وثمود كانوا أشد منهم قوة جسمانية وأثاروا الأرض حرثوها وهو إشارة إلى القوة المالية. ثم أشار إلى القوة الظهرية التي يستند إليها عند الضعف والفتور وهي الحصون والعمائر بقوله وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها هؤلاء يعني أهل مكة كانوا أهل واد غير ذي زرع ما لهم أثارة أرض أصلا ولا عمارة لها رأسا، ففيه نوع تهكم بهم. قال أهل البرهان: إنما قال في هذه السورة وفي آخر «فاطر» وفي «المؤمن» أَوَلَمْ يَسِيرُوا بالواو وفي غيرهن أفلم بالفاء لأن ما قبلها في هذه السورة أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا وما بعدها وَأَثارُوا بالواو فوافق ما قبلها وما بعدها. وكذا في «فاطر» ما قبله وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا وما بعده وَما كانَ [الآية: 43، 44] وفي «المؤمن» ما قبله وَالَّذِينَ يَدْعُونَ وأما في آخر «المؤمن» فما قبله أَيَّ آياتِ اللَّهِ
وما بعده فَما أَغْنى عَنْهُمْ [الآية: 82] وكلاهما بالفاء. قوله في هذه السورة مِنْ قَبْلِهِمْ متصل بكون آخر مضمر. وقوله كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وكذا معطوفاه إخبار عما كانوا عليه قبل الإهلاك. وإنما قال في «فاطر» وَكانُوا بزيادة الواو لأن التقدير فينظروا كيف أهلكوا وكانوا أشد، وخصت السورة به لقوله وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ [فاطر: 44] وقال في «المؤمن» كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ فأظهر «كان» وزاد لفظه «هم» لأن الآية وقعت في أوائل قصة موسى وهي تتم في ثلاثين آية، فكان اللائق به البسط دون الوجازة ولم يبسط هذا البسط في آخر السورة اكتفاء بالأول والله أعلم. وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بوضع الأنفس الشريفة في موضع خسيس هو عبادة الأصنام. قال أهل السنة: هذا الوضع كان بمشيئة الله وإرادته لكنه صدر عنهم فأضيف إليهم والسوأى تأنيث الأسوإ وهو الأقبح وهي خبر «كان» فيمن قرأ عاقِبَةَ بالرفع واسم «كان» فيمن قرأ عاقِبَةَ بالنصب. و «ثم» لتفاوت الرتبة، وفي التركيب وضع للمظهر موضع المضمر. والمعنى أنهم أهلكوا ثم كانت عاقبتهم السوأى وهي عذاب النار. وأَنْ كَذَّبُوا المعنى لأن «أو» بأن كذبوا أو هو تفسير أساؤا على أن الإساءة في
معنى القول نحو: نادى وكتب معناه أي كذبوا وجوز جار الله أن يكون السوأى مفعول أَساؤُا وأَنْ كَذَّبُوا عطف بيان لها، وخبر «كان» محذوف إرادة الإبهام ليذهب الوهم كل مذهب فيكون تقدير الكلام. ثم كان عاقبة الذين اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايا أن كذبوا كذا وكذا مما لا يكتنه كنهه. قال أهل التحقيق: ذكر الزيادة في حق المحسن في قوله لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [يوسف: 26] ولم يذكر في الحق المسيء لأن جزاء
سيئة سيئة بمثلها، وذكر السبب في العقوبة وهو قوله أَنْ كَذَّبُوا ولم يذكره في الآية ليعلم أن إحسانه لا يتوقف على السبب بل فضله كاف فيه.
وحين ذكر أن عاقبتهم النار وكان في ذلك إشارة إلى الإعادة والحشر لم يتركه دعوى بلا بينة فقال اللَّهُ يَبْدَؤُا يعني من خلق بالقدرة والإرادة لا يعجز عن الرجعة والإعادة. ثم بين ما يكون وقت الرجوع فقال وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ يعني في ذلك اليوم يتبين إفلاسهم ويتحقق إبلاسهم وهو سكوت مع تحير ويأس مع بؤس ويأس لا اليأس الذي هو إحدى الراحتين وذلك إذا كان المرجو أمرا غير ضروري فيستريح الطامع من الانتظار.
ثم ذكر وجه الإبلاس وذلك قوله وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ يجحدونها وقتئذ بقوله سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ [مريم: 82] أو وكانوا في الدنيا كافرين بسببهم. ثم حكى أنهم يعني المسلمين والكافرين يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ فريق في الجنة وفريق في السعير تفصيله في الآيتين بعده والروضة عندهم كل أرض ذات نبات وماء. وفي الأمثال «أحسن من بيضة في روضة» يعنون بيضة النعامة وتنكير روضة للتعظيم ومعنى يُحْبَرُونَ يسرون بأنواع المسار لحظة فلحظة. حبره إذا سره سرورا تهلل ببشر. وخصه مجاهد بالتكريم، وقتادة بالتنعيم، وابن كيسان بالتحلية، ووكيع بالسماع.
عن النبي صلى الله عليه وسلم «إن في الجنة لنهرا حافتاه الأبكار من كل بيضاء رخصة يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط فذلك أفضل نعيم الجنة» «1»
قال الراوي: سألت أبا الدرداء بم يتغنين؟ قال: بالتسبيح.
وروي أن في الجنة لأشجارا عليها أجراس من فضة، فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحا من تحت العرش في تلك الأشجار فتحرك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا.
وأما معنى مُحْضَرُونَ لا يغيبون عنه وقد مر في قوله ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ [القصص: 61] وإنما أهمل ذكر الفسقة من أهل الإيمان اكتفاء بما ذكر في الآيات الأخر كقوله إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء:
48] وكقوله إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ إلى قوله تُبْتُ الْآنَ [النساء: 17- 18] قال جار الله: لما ذكر الوعد والوعيد أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد وينجي من الوعيد وقال آخرون: لما ذكر عظمته في المبدأ بقوله ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وفي الانتهاء بقوله وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ وكرر ذكر قيام الساعة للتأكيد والتخويف، أراد أن ينزه نفسه عن كل سوء ويثبت لذاته كل حمد ليعلم أنه منزه عن طاعات المطيعين، محمود على كل ما يوصل
(1) رواه الترمذي في كتاب الجنة باب 24.
إلى المكلفين، مذكور على لسان أهل السموات والأرضين. والتسبيح في الظاهر هو تنزيه الله من السوء والثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما في كل منها من كل نعمة متجددة.
وخص بعضهم التسبيح بالصلاة لما روي عن ابن عباس أنه قال تُمْسُونَ صلاتا المغرب والعشاء وتُصْبِحُونَ صلاة الفجر وَعَشِيًّا صلاة العصر ويَظْهَرُونَ صلاة الظهر أمر بالصلاة في أول النهار ووسطه وآخره، وأمر بالصلاة أول الليل ووسطه وهو العشاء
بقوله صلى الله عليه وسلم «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك وبتأخير العشاء إلى نصف الليل»
ولم يأمر بالصلاة في آخر الليل لأن النوم فيه غالب وإنه منّ على عباده بالاستراحة في الليل بالنوم في مواضع منها قوله وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ [الروم: 23] كما يجيء. روي عن الحسن أن الآية مدنية بناء على أنه كان يقول: فرضت الصلوات الخمس بالمدينة وكان الواجب بمكة ركعتين في غير وقت معلوم. وقول الأكثر إن الخمس فرضت بمكة. قوله وَعَشِيًّا معطوف على حِينَ وما بينهما وهو قوله وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اعتراض.
قال جار الله: معناه إن على المميزين كلهم من أهل السموات والأرض أن يحمدوه قلت:
فيه أيضا أن الله غني عن تسبيح المسبحين فلو لم يحمده حامد فله استئهال الحمد على الإطلاق ولو حمدوه لعاد نفعه إليهم. وقدم الإمساك لأن الظلمة عدمية والأصل في الأشياء العدم، وقدم العشي على الظهيرة لأجل الفاصلة أو للتنبيه على فضيلة صلاة العصر، ولعل في تقديم الاعتراض المذكور على العشي إشارة إلى هذا ومعنى ويُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ قد سلف مرارا ويحتمل أن يراد هاهنا اليقظان والنائم لقوله وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ أي من القبور، فتنبيه النائم بعد اليقظة يشبه الإعادة، وكذا رد الأرض إلى حالة الخضرة والنضرة بعد ذبولها.
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم «من قال حين يصبح فسبحان الله حين تمسون إلى قوله وكذلك تخرجون أدرك ما فاته من يومه، ومن قالها حين يمسي أدرك ما فاته من ليلته»
ثم أراد أن يذكر الحجج الباهرة على استحقاق التسبيح والتحميد له فقال وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ أي أصلكم أو كلا منكم كما مر في أول الحج مِنْ تُرابٍ وذلك أن التراب أبعد الأشياء عن درجة الإحياء لكثافته ولبرودته ويبسه والحياة بالحرارة والرطوبة، ولكدورته والروح نير ولثقله وخفة الأرواح ولسكونه والحي متحرك حساس. ولا تتنافي بين هذا وبين قوله خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً [الفرقان: 54] لأنه أراد الأصل الثاني الذي هو النطفة، أو أراد أن أصل البشر في الظاهر هو التراب والماء وأما النار فللإنضاج، والهواء فللاستبقاء كالزق المنفوخ يقوم بالهواء، وثُمَّ لتبعيد الرتبة وإِذا للمفاجأة أي ثم فاجأتم وقت كونكم بشرا.
قالوا: فيه إشارة إلى مسألة حكمية وهي أن الله تعالى يخلق أولا إنسانا فيتبعه أنه حيوان تام لا أنه يخلق أولا حيوانا ثم يجعله إنسانا، فخلق الأنواع هو المراد الأول ثم تكون الأنواع
فيها الأجناس بتلك الإرادة الأولى. وقوله بَشَرٌ إشارة إلى القوة المدركة التي البشر بها بشرو بها يمتاز عن غيره من الحيوانات. وقوله تَنْتَشِرُونَ إشارة إلى القوة المتحركة التي بها الحيوان حيوان فكأنه أشار إلى فصله وجنسه، وكان الأولى تقديم الجنس على الفصل، إلا أنه عكس الترتيب لأنه كأنه قال: العجب غير مختص بالإنسان بل الحيوان المنتشر من التراب الساكن عجيب أيضا. والانتشار إما بمعنى التردد في الحوائج كقوله فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة: 10] وإما بمعنى البث والتفريق كقوله وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً [النساء: 1] .
وحين بين خلق الإنسان ولم يكن مما يبقى على مر الزمان منّ عليهم بأن جعل نوع الإنسان باقيا بتعاقب الأشخاص فقال وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ ولا يلزم منه أن لا يكنّ مخلوقات للعبادة والتكليف لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه، فقد يكون الشيء مختصا باثنين وجعل مهيأ لآخرين على أن النعمة ما كانت تتم علينا إلا بتكليفهن، فلولا خوف العقاب لتمردت النسوان على أزواجهن. ومِنْ أَنْفُسِكُمْ أي من جنسكم أو هو إشارة إلى أن حواء خلقت من ضلع آدم وقد مر في «النحل» ويشهد للتفسير الأول قوله لِتَسْكُنُوا إِلَيْها فإن الجنس إلى الجنس أسكن وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً عن الحسن هي الجماع وَرَحْمَةً هي الولد. وقال غيره: المودة حالة حاجة نفسه إليها، والرحمة حالة حاجة صاحبته إليه، وقد تفضي المودة إلى مجرد الرحمة وذلك إذا خرجت عن محل الشهوة بكبر أو مرض، أو خرج عن إمكان رعاية حقها بكبر أو زمانة أو فقر. قال بعضهم:
المودة والرحمة بعصمة الزواج من غير سابقة معرفة وقرابة وهي من قبل الله، والفرك من قبل الشيطان إِنَّ فِي ذلِكَ الخلق والجعل لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فخلق الإنسان من الوالدين آية، وجعل أحدهما ذكرا والآخر أنثى آية، وخروج الولد الضعيف من الموضع الضيق آية، وجعل التوادد بين الزوجين من غير صلة رحم آية ولما ذكر دلائل الأنفس أتبعها دلائل الآفاق وأعظمها خلق السموات والأرض، فإن خلق المركبات قد يسنده بعض الجهلة إلى ما في العناصر من الكيفيات وإلى ما في السموات من الحركات والاتصالات، وأما السماء والأرض فلا يجد بدا من أن يقول: إنهما بقدرة الله تعالى. ثم عاد إلى ذكر أحوال الأنفس ومن جملتها اختلاف الألسنة لا جرمها، فإن التباين بين أجرامها ليس يبلغ إلى حد يعد آية بل وصفها وهو النطق وتقطيع الأصوات اللذان بهما يمتاز بعض الأصناف والأشخاص عن بعض، واختلاف الألوان والحلي فبذلك يقع التفاوت ويرتفع الاشتباه، فحس البصر يدرك اختلاف الصور وحسن السمع يدرك اختلاف الأصوات وأما اللمس
والشم والذوق فلا حكم ظاهرا لها في باب التمييز بين الأشخاص الإنسانية. وحيث ذكر بعض العرضيات اللازمة أراد أن يذكر الأعراض المفارقة بعضها فقال وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ قال جار الله: هذا من باب اللف والنشر وتقدير الكلام. ومن آياته منامكم بالليل وابتغاؤكم من فضله بالنهار ليكون موافقا لما جاء في مواضع أخر كقوله وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً [النبأ: 10، 11] وقدم المنام على الابتغاء لأن الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة قال: وإنما فصل بين القرينتين الأوليين بالقرينتين الآخريين لأنهما زمانان، والزمان والواقع فيه كشيء واحد مع إعانة اللف على الاتحاد يعني كأنه لم يعطف النهار على الليل والابتغاء على المنام. وجوز أن يراد منامكم بالليل والنهار وابتغاؤكم من فضله بالليل والنهار، فان الإنسان كثيرا ما ينام بالنهار ويكسب بالليل. وفي اقتران الفضل بالابتغاء إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من نفسه وبحذقه بل يرى كل ذلك من فضل ربه. ثم أشار إلى عوارض الآفاق فقال وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ فأضمر «أن» وأسكن الياء بعد حذفها وإنزال الفعل منزلة المصدر كما في المثل السائر «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه» قيل: لما كان البرق من الأمور التي تتجدد زمانا دون زمان ذكره بلفظ المستقبل ولم يذكر معه «أن» وقيل: ومن آياته كلام كاف كما تقول: منها كذا ومنها كذا.
وتسكت تريد بذلك الكثرة: وقيل: أراد ويريكم من آياته البرق. وانتصاب خَوْفاً وَطَمَعاً كما مر في «الرعد» ثم ذكر بعض لوازم الآفاق قائلا وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ فقيام السموات والأرض استمساكهما بغير عمد، ومن نسب ذلك إلى الطبيعة فلا بد أن يستند الطبع إلى واجب لذاته وأمره أن يقول لهما كونا كذلك نظيره قوله إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ إلى قوله مِنْ بَعْدِهِ [فاطر: 41] واعلم أن الأمر عند المعتزلة موافق للإرادة، وعند الأشاعرة ليس كذلك. ولكن النزاع في الأمر الذي هو للتكليف لا الذي للتكوين، فإن قوله كُنْ فَيَكُونُ [يس: 82] موافق للإرادة بالاتفاق. قال جار الله: قوله إِذا دَعاكُمْ بمنزلة قوله يُرِيكُمُ في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى كأنه قال: ومن آياته قيام السموات والأرض، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاكم مرة واحدة يا أهل القبور اخرجوا والمراد سرعة الخروج من غير توقف وإلا فلا أمر ظاهرا. أو أراد نداء الملك والأرض مكان المدعو على التقديرين لا الداعي إذ لا مكان لله مطلقا ولا للملك في جوف الأرض. نعم، لو كان المراد أن الملك يدعوهم وهو على وجه الأرض جاز. ومعنى «ثم» عظم ما يكون من ذلك الأمر وتهويل لتلك الحالة، وإذا الأولى للشرط، والثانية للمفاجأة نائبة مناب الفاء.
واعلم أنه تعالى ذكر في كل باب أمرين: أما من الأنفس فخلق البشر ثم خلقهم زوجين،
وأما من الآفاق فخلق السموات والأرض. ومن لوازم الإنسان اختلاف اللسان والألوان، ومن عوارضه المنام والابتغاء، ومن عوارض الآفاق البروق والأمطار، ومن لوازمها قيام السماء والأرض. والواحد يكفي للإقرار بالحق، إلا أن الثاني يجري مجرى الشاهد الآخر.
وراعى في تعداد العرضيات لطيفة، بدأ باللوازم وختم باللوازم وذلك أن الإنسان متغير الحال، فالأحوال اللازمة له أغرب والأفلاك ثابتة بالنسبة إلى الإنسان فعوارضها أغرب، وبدأ في كل باب بما هو أعجب، وإنما ختم الآية الأولى بقوله إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ لأن الفكر يؤدي إلى الوقوف على المعاني المقتضية للإنس والسكون وعلى دقائق صنع الله في خلق الإنسان وبثهم في الأرض، أو نقول: إن من الأشياء ما يعلم بمجرد الفكر كدقائق حكمة الله في خلق الإنسان، لأن أقرب الأشياء إلى الإنسان هو ذاته فلذلك قال هنالك لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ومنها ما يعلم من غير تجشم فكر كالاستدلال على قدرة الله بخلق السماء والأرض، واختلاف ألسنة الناس وألوانهم، فإن الكل تظلهم السماء وتقلهم الأرض.
وكل واحد منفرد بلطيفة في صورته يمتاز بها عن غيره، ولهذه يشترك في معرفتها الناس جميعا فلهذا قال لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ ومن حمل اختلاف الألسن على اللغات اختلاف الألوان على البياض والسواد والصفرة والسمرة، فالاشتراك في معرفتها أيضا ظاهر. ومن قرأ لِلْعالِمِينَ بكسر اللام فقد أحسن، فبالعلم يمكن الوصول إلى معرفة ما سبق ذكره، ومن الأشياء ما يحتاج الفكر فيه إلى إعانة مرشد كالمنام والابتغاء فإنهما لزوالهما في بعض الأوقات قد يرفعان لوازمهما فلهذا قال لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ويجعلون بالهم إلى كلام المرشد، ومن هنا ذهب بعضهم إلى أن معنى يَسْمَعُونَ هاهنا يستجيبون لما يدعون إليه، ثم إن حدوث الولد من الوالدين كالأمر المطرد العادي فكان الولد يمكن أن يسبق إلى الوهم إسناده إلى الطبيعة فأمر هنالك بالفكر. وأما البرق والمطر فليس أمرا عاديا ولذلك يختلف بالشدة والضعف وبحسب الأوقات والأمكنة فالعقل الصحيح يجزم بأن من فعل الفاعل المختار فلذلك قال لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وقيل: إن العقل ملاك الأمر وهو المؤدي إلى العلم فوقع الختم عليه. وحين فرغ من تعداد الآيات وكان مدلولها الوحدانية التي هي الأصل الأول والقدرة على الحشر التي هي الأصل الآخر أكد الأول بقوله وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ مطيعون منقادون وأكد الأصل الآخر بل كلا الأصلين بقوله وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ يعني أن يعيده أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي في نظركم وعند معقولكم وإلا فلا صعوبة في الإبداء أصلا حتى يقع التفضيل على حده. وإنما أخرت الصلة هاهنا وقدمت في قوله في سورة مريم وهُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ [مريم: 9] لأنه قصد هناك الاختصاص يعني أن خلق الولد
بين هرم وعاقر لا يهون إلا علي. ولا معنى للاختصاص هاهنا فإن الأمر مبني على المعقول بين الآدميين من ان المعاد أهون من المبدأ ولهذا قيل: أول الغزو أخرق. وليس الدخيل في أمر كالناشىء عليه. ومن الدليل العقلي على هذا المطلوب أن الإبداء خلق الأجزاء وتأليفها، والإعادة تأليف فقط، ولا شك أن أمرا واحدا أهون من الأمرين ولا يلزم منه أن يكون في الأمرين صعوبة فإن من قال: الرجل القوي يقدر على حمل شعيرة من غير صعوبة وسلم السامع له ذلك فإذا قال فلان لا يتعب من حمل خردلة وإن حمل خردلة أهون عليه.
كان كلاما معقولا وقد أجرى الزجاج قوله وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مجرى المثل فيما يصعب ويسهل. وفسر به قوله وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى يعني هذا مثل مضروب لكم في الأرض وله المثل الأعلى من هذا المثل ومن كل مثل يضرب في السموات فيما بين الملائكة. وعن ابن عباس: أراد أن فعله وإن شبهه بفعلكم ومثله به لكنه ليس كمثله شيء فله المثل الأعلى وقال جار الله: المثل الوصف أي له الوصف الأعلى الذي ليس لغيره مثله قد عرف به ووصف في السموات والأرض على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل، وهو أنه القادر الذي يقدر على الخلق والإعادة، العليم الذي لا يعزب عن علمه شيء فلا يصعب عليه جمع الأجزاء بعد تفرّقها على الوجه الذي يقتضيه التدبير ولهذا ختم الآية بقوله: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وعن مجاهد: المثل الأعلى وصفه بالوحدانية وهو قوله «لا إله إلا الله» وقد ضرب لذلك مثلا. ومعنى مِنْ أَنْفُسِكُمْ أنه أخذ مثلا وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي أنفسكم و «من» للابتداء وفي قوله مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ للتبعيض، والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. والمعنى هل ترضون لأنفسكم أن يكون لكم شركاء من بعض عبيدكم يشاركونكم فيما رزقناكم من الأموال والأملاك فَأَنْتُمْ يعني بسبب ذلك أنتم أيها السادات والعبيد في ذلك المرزوق سَواءٌ من غير تفضيل وففضل للأحرار على العبيد تَخافُونَهُمْ أن تستبدوا بتصرف دونهم كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي كما يهاب بعضكم بعضا من الأحرار.
والحاصل أن من يكون له مملوك لا يكون شريكا له في ماله ولا يكون له حرمة كحرمة سيده فكيف يجوز أن يكون عباد الله شركاء له أو شفعاء عنده بغير إذنه؟ وكيف يجوز أن يكون لهم عظمة مثل عظمة الله حتى يعبدوا كعبادته على أن مملوككم ليس مملوكا لكم في الحقيقة ليس إلا اختصاص المبايعة، ولهذا لا حكم لهم عليهم بالقتل والقطع وبالمنع من الفرائض وقضاء الحاجة والنوم. وقد يزول الاختصاص بالبيع والعتق ومملوك الله لا خروج له من ملكه بوجه من الوجوه وفي قوله فِي ما رَزَقْناكُمْ إشارة إلى أن الذي هو لكم ليس في الحقيقة لكم وإنما الله استخلفكم فيه ورزقكموه من فضله كَذلِكَ أي مثل هذا التفصيل والتبعيد للتعظيم أو لدخوله في حيز الذكر أو المضي نُفَصِّلُ الْآياتِ نبينها لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ
لأن التمثيل إنما يكشف المعاني لأرباب العقول.
ثم شوه صورة الشرك بقوله بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي أشركوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فهوى العالم ربما يتبدل بالهدى وأما الجاهل فإنه هائم في هواه كالبهائم لا يرجى ارعواه يؤكده قوله فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ والإضلال هاهنا لا يخفى أن الأشاعرة يحملونه على خلق الضلال في المكلف، والمعتزلة يحملونه على الخذلان ومنع الألطاف وقد تقدم مرارا. ثم قال لرسوله ولأمته تبعية إذا تبين الحق وظهرت الوحدانية فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ أي سدده نحوه غير مائل إلى غيره من الأديان الباطلة فِطْرَتَ اللَّهِ أي الزموها أو عليكم بها. قال جار الله: إنما أضمرته على خطاب الجماعة لقوله مُنِيبِينَ وهو حال منهم ولأن الأمر والنهي بعده معطوفان عليه لكنك قد عرفت في الوقوف أن هذا التقدير غير لازم وعلى ذلك يحتمل أن يقدر الزم أو عليك أو أخص أو أريد وأشباه ذلك.
وفطرة الله هي التوحيد الذي تشهد به العقول السليمة والنظر الصحيح كما
جاء في الحديث النبوي «كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهودانه وينصرانه» «1» .
ويحتمل أن تكون الفطرة إشارة إلى أخذ الميثاق من الذر. وقوله لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ نفي في معنى النهي أي لا تبدلوا خلقه الذي فطركم عليه لكن الإيمان الفطري غير كاف.
وقيل: هو تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم حيث لم يؤمن قومه فكأنه قال: إنهم أشقياء ومن كتب شقيا لم يسعد. وقيل: أراد أن الخلق لا خروج لهم عن عبوديته بخلاف مماليك الإنسان فإنهم قد يخرجون من أيديهم بالبيع والعتق. وفيه فساد قول من زعم أن العبادة لتحصيل الكمال فإذا كمل العبد لم يبق عليه تكليف، وفساد قول الصابئة وبعض أهل الشك أن الناقص لا يصلح لعبادة الله وإنما الإنسان عبد الكواكب والكواكب عبيد الله، وفساد قول النصارى والحلولية أن الله يحل في بعض الأشخاص كعيسى وغيره فيصير إلها. ومعنى فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً قد مر في آخر «الأنعام» وأنهم فرق كل واحدة تشايع إمامها الذي أضلها وقال أهل التحقيق: بعضهم يعبد الدنيا وبعضهم يعبد الهوى وبعضهم يريد الجنة وبعضهم يطلب الخلاص من النار. ومعنى كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ قد مر في «المؤمنين» وجوز جار الله أن يكون مِنَ الَّذِينَ منقطعا عما قبله وكُلُّ حِزْبٍ مبتدأ وفَرِحُونَ صفة كل ومعناه من المفارقين دينهم كل حزب بصفة كذا والله أعلم.
(1) رواه البخاري في كتاب الجنائز باب 80. كتاب تفسير سورة 30 باب 1. مسلم في كتاب القدر حديث 22، 23، 24، أحمد في مسنده (2/ 315، 346) .