الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وحاصل معنى الآية: أي قل لهم (1) يا محمَّد قد جاء جبريل من عند ربي بما أتلوه عليكم، واقتضته الحكمة البالغة من تثبيت المؤمنين، وتقوية إيمانهم بما فيه من أدلةٍ قاطعةٍ، وبراهين ساطعةٍ على وحدانية خالق الكون، وباهر قدرته، وواسع علمه، وحث على النظر في ملكوت السموات والأرض، وتشريع يرقى بالأمم في أخلاقها وآدابها ومعارفها إلى مستوى لا تدانيها فيه أمةٌ أخرى.
والخلاصة: أنه نافع كل النفع لهم في دينهم ودنياهم، فإذا هم رأوا ذلك .. رسخت عقائدهم، واطمأنت قلوبهم، كما أن فيه هداية لهم من الزيغ والضلالات، ففيه ما يهذب النفوس ويكبح جماع الطغيان، ويرد الظالم عن ظلمه، ويدفع عدوان الناس بعضهم على بعض، وفيه بشرى للمسلمين بما سيلقونه من الجنات، التي تجري من تحتها الأنهار جزاء أعمالهم وكدهم ونصبهم إرضاء لربهم، وفي هذا إيماء إلى أن هؤلاء المشركين لهم من الصفات ضد هذا كما مر، فهم متزلزلون ضالون، لهم خزيٌ ونكالٌ في الدنيا والآخرة.
103
- ثم حكى عنهم شبهة ثانية فقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ} ؛ أي: وعزتي وجلالي لقد نعلم علمًا مستمرًا نحن أن كفار مكة يقولون جهلًا منهم {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} ؛ أي: إنما يعلم محمدًا صلى الله عليه وسلم هذا الذي يتلوه علينا بشرٌ من بني آدم، وليس بالوحي من عند الله تعالى كما يدَّعي، وكلمة إنما أداة حصر؛ أي: لا يعلم محمدًا القرآن إلا بشرٌ، لا جبريل كما يدَّعي، وأدخل (2) قد على الجملة القسمية توكيدًا لعلمه بما يقولون، ومرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعد والوعيد لهم، وذكر ابن الحاجب أنهم نقلوا قد إذا دخلت على المضارع من التقليل إلى التحقيق، كما أن ربما في المضارع نقلت من التقليل إلى التحقيق.
قال عبد الله بن مسلم الحضرمي: عنوا عبدين لنا، أحدهما يقال له يسارٌ، والآخر جبرٌ، وكانا يصنعان السيف بمكة، ويقرآن التوراة والإنجيل، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر عليهما، ويسمع ما يقرآنه، فالمراد بالبشر هنا ذانك الغلامان،
(1) المراغي.
(2)
روح البيان.
فرد الله تعالى عليهم وكذبهم في قيلهم، فقال:{لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} مبتدأ وخبر، وكذا ما بعده، والإلحاد الإمالة عن الصواب، من ألحد فلان إذا مال قوله عن الصواب، والأعجمي هو الذي لا يفصح، وإن كان عربيًّا، والعجمي هو المنسوب إلى العجم، وإن كان فصيحًا كما سيأتي، والمعنى لغة البشر والرجل الذي يميلون إليه القول عن الاستقامة، ويشيرون إليه أنه يعلم محمدًا أعجمية غير بينة، {وَهَذَا} القرآن الكريم {لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}؛ أي: لغةٌ عربيةٌ ذات بيان وفصاحة، فكيف يصدر تعليم محمَّد عن أعجم، يعني أن القرآن معجز بنظمه، كما أنه معجز بمعناه، لاشتماله على الإخبار عن الغيب، فإن زعمتم أن بشرًا يعلمه معناه، فكيف يعلمه هذا النظم الذي أعجز جميع أهل الدنيا، لا يقول هذا من له أدنى مسكة من عقل.
وخلاصة هذا (1): أن ما يسمعه محمَّد من ذلك البشر كلام أعجمي لا يفهمه هو ولا أنتم، والقرآن كلام عربي تفهمونه بأدنى تأمل، فكيف يكون هو ما تلقفه منه، هبه تعلم منه المعنى باستماع كلامه، فهو لم يلقف منه اللفظ؛ لأنَّ ذلك أعجمي وهذا عربي، والقرآن كما هو معجز باعتبار المعنى، هو معجز من حيث اللفظ، إلا أن العلوم الكثيرة التي في القرآن لا يمكن تعلمها إلا بالدرس، والتلقين من أخصائيين مع الاختلاف إليهم مددًا متطاولة، فليس من الميسور ولا مما يجد العقل اطمئنانًا إليه أن يتعلم مثل هذا من غلام سوقي، سمع منه أخبارًا بلغة أعجمية، لعله لم يكن يعرف معناها، وعلى نحو آخر كأنه قيل لهم أنتم أفصح الناس بيانًا، وأقواهم حجة وبرهانًا، وأقدرهم على الكلام نظمًا ونثرًا، وقد عجزتم وعجز جميع العرب أن يأتوا بمثله، فكيف تنسبونه إلى أعجمي ألكن؟ وفي التشبث بأمثال هذه المطاعن الركيكة والخرافات الساذجة أبلغ دليل على أنهم بلغوا غاية العجز ونهاية السخف:
فدعهم يزعمون الصبح ليلًا
…
أيعمى الناظرون عن الضياء
(1) المراغي.