الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضاق عنه صدرك، والضيق بالكسر: ما يكون في الذي يتسع مثل الدار والثوب، وكذا قال الأخفش، وهو من الكلام المقلوب؛ لأن الضيق وصف للإنسان يكون فيه، ولا يكون الإنسان فيه، وكأنه أراد وصف الضيق بالعظم حتى صار كالشيء المحيط بالإنسان من جميع جوانبه.
128
- ثم ختم هذه السورة بآية جامعة لجميع المأمورات والمنهيات فقال: {إِنَّ اللَّهَ} سبحانه وتعالى {مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} ؛ أي: اجتنبوا الكفر والمعاصي على اختلاف أنواعها؛ أي: معهم بالولاية والتوفيق والفضل والحفظ {و} مع {الذين هم محسنون} بتأدية الطاعات والقيام بما أمروا بها منها، وقيل المعنى: إنَّ الله مع الذين اتقوا الزيادة في العقوبة، والذين هم محسنون في أصل الانتقام.
وفي الحديث: "إن للمحسن ثلاث علامات: يبادر في طاعة الله، ويجتنب محارم الله، ويحسن إلى من أساء إليه".
والمعنى: أي (1) إن الله مع الذين اتقوا محارمه فاجتنبوها خوفًا من عقابه، والذين يحسنون رعاية فرائضه والقيام بحقوقه ولزوم طاعته فيما أمرهم به وفي ترك ما نهاهم عنه.
ونحو الآية قوله تعالى لموسى وهارون: {لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} وقول النبي صلى الله عليه وسلم للصّديق وهما في الغار فيما حكى الله عنه: {لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} .
وقصارى ذلك: أنَّ الله تعالى ولي الذين تبتلوا إليه، وأبعدوا الشواغل عن أنفسهم، فلم يحزنوا لفوت مطلوب، ولم يفرحوا لنيل محبوب، والذين هم محسنون أعمالهم برعاية فرائضه، وأداء حقوقه على النحو اللائق بجلاله وكماله، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان فقال:"أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه .. فإنه يراك".
والمعنى (2): إن أردت أيها الإنسان أن أكون معك بالعون والفضل
(1) الشوكاني.
(2)
المراغي.
والرحمة .. فكن من المتقين المحسنين، وفي هذا إشارة إلى التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله، قال بعض العلماء: كمال الطريق صدقٌ مع الحق، وصلحٌ مع الخلق، وكمال الإنسان أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل أن يعمل به، وقيل لهرم بن حيان عند الموت: أوصِ، فقال: إنما الوصية في المال ولا مال لي، ولكن أوصيك بخواتيم سورة النحل، والله أعلم اهـ "خازن".
والله سبحانه نسأل أن يهدينا إلى سواء السبيل، وأن يوفقنا للفقه في دينه، ويفتح لنا خزائن أسراره بحرمة كتابه وكنوز شريعته التي أنزلها على رسوله النبي الأمي، والحمد لله رب العالمين، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
الإعراب
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ} : ناصب واسمه، {كَانَ}: فعل ناقص، واسمه ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمَ} ، {أُمَّةً} خبر {كَانَ} {قَانِتًا}: صفة أولى لـ {أُمَّةً} ، {لِلَّهِ}: متعلق به، {حَنِيفًا}: صفة ثانية لها، وجملة {كَانَ} في محل الرفع خبر {إِنَّ} ، وجملة {إِنَّ} مستأنفة. {وَلَمْ يَكُ}: جازم وفعل ناقص مجزوم، واسمه ضمير يعود على {إِبْرَاهِيمَ} ، {مِنَ الْمُشْرِكِينَ}: خبره، والجملة في محل النصب حال مؤكدة من الضمير المستكن في {حَنِيفًا}. {شَاكِرًا}: صفة ثالثة لـ {أُمَّةً} ، {لِأَنْعُمِهِ}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {شَاكِرًا} {اجْتَبَاهُ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} ، والجملة مستأنفة، {وَهَدَاهُ}: فعل ومفعول، معطوف على {اجْتَبَاهُ} ، وفاعله ضمير يعود على {اللَّهِ} ، {إِلَى صِرَاطٍ}: متعلق بـ {هدى} أو بـ {اجتبى} على سبيل التنازع، {مُسْتَقِيمٍ}: صفة {صِرَاطٍ} .
{وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122)} .
{وَآتَيْنَاهُ} : فعل وفاعل ومفعول أول، {في الدُّنْيَا}: متعلق به، {حَسَنَةً}: مفعول ثان، والجملة معطوفة على جملة {اجْتَبَاهُ} ، {وَإِنَّهُ} {الواو}: عاطفة {وَإِنَّهُ} : ناصب واسمه، {في الْآخِرَةِ}: جار ومجرور، حال من الضمير المستكن في الخبر الآتي، {لَمِنَ الصَّالِحِينَ}: جار ومجرور خبر {إنَّ} و {اللام} حرف ابتداءٍ، وجملة {إن} معطوفة على جملة {آتيناه} .
{ثُمَّ} : حرف عطف وترتيب مع تراخ، {أَوْحَيْنَا}: فعل وفاعل، {إِلَيْكَ}: جار ومجرور، متعلق به، والجملة معطوفة على جملة {اجْتَبَاهُ} {أَنِ} مصدرية أو مفسرة، {اتَّبِعْ}: فعل أمر في محل النصب بـ {أَنِ} المصدرية، مبني على السكون، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ}: مفعول به لـ {اتَّبِعْ} ، {حَنِيفًا}: حال من {إِبْرَاهِيمَ} ، وجملة {اتَّبِعْ} مع {أَنِ} المصدرية في تأويل مصدر مجرور بالباء المحذوفة، والتقدير: ثم أوحينا إليك باتباع ملة إبراهيم حنيفًا، {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} جملة مستأنفة أو في محل النصب معطوفة على {حَنِيفًا} .
{إِنَّمَا} أداة حصر، {جُعِلَ السَّبْتُ}: فعل ونائب فاعل. وهو متعد إلى واحد؛ لأنه بمعنى فرض، والجملة مستأنفة، {عَلَى الَّذِينَ}: متعلق بـ {جُعِلَ} ، {اخْتَلَفُوا}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {فِيهِ}: متعلق بـ {اخْتَلَفُوا} ، {وَإِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه، {لَيَحْكُمُ} {اللام}: حرف ابتداء، {يحكم}: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على الرب سبحانه، {بَيْنَهُمْ}: ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ {يَحْكُمُ} ، وكذا يتعلق به {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} ، وجملة {يحكم} في محل الرفع خبر {إِنَّ} ، وجملة {إِنَّ} معطوفة على جملة {جَعَلَ} ، {فِيمَا}: جار ومجرور، متعلق بـ {يحكم} ، {كَانُوا}: فعل ناقص واسمه، {فِيهِ}: متعلق بما بعده، وجملة {يَخْتَلِفُونَ} خبر {كان} ، وجملة {كان} صلة لـ {ما} أو صفة
لها.
{ادْعُ} : فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، ومفعوله محذوف، تقديره: ادع الناس، والجملة مستأنفة، {إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ}: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق بـ {ادْعُ} {بِالْحِكْمَةِ}: جار ومجرور، حال من فاعل {ادْعُ}؛ أي: حالة كونك متلبسًا بالحكمة، {وَالْمَوْعِظَةِ}: معطوف على {الحكمة} ، {الْحَسَنَةِ}: صفة لـ {الموعظة} ، {وَجَادِلْهُمْ}: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة {ادْعُ} {بِالَّتِي}: متعلق بـ {جادل} {هِيَ أَحْسَنُ} : مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول. {إِنَّ رَبَّكَ}: ناصب واسمه، {هُوَ}: ضمير فصل، {أَعْلَمُ}: خبر {إِنَّ} ، {بِمَنْ}: جار ومجرور، متعلق بـ {أَعْلَمُ} ، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، {ضَلَّ}: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على {مَنْ} ، والجملة صلة الموصول، {عَنْ سَبِيلِهِ}: متعلق بـ {ضَلَّ} {وَهُوَ أَعْلَمُ} : مبتدأ وخبر، والجملة في محل الرفع معطوفة على خبر {إِنَّ} ، {بِالْمُهْتَدِينَ} متعلق بـ {أَعْلَمُ} .
{وَإِنْ} {الواو} : استئنافية، {إن}: حرف شرط، {عَاقَبْتُمْ}: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونها فعل شرط لها، {فَعَاقِبُوا} {الفاء}: رابطة لجواب {إن} الشرطية، {عاقبوا}: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية، مبني على حذف النون، وجملة {إن} الشرطية مستأنفة، {بِمِثْلِ مَا}: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ {عاقبوا} ، {عُوقِبْتُمْ}: فعل ونائب فاعل. {بِهِ} : متعلق به والجملة صلة لـ {ما} أو صفة لها، {وَلَئِنْ} {الواو}: استئنافية، أو عاطفة، و {اللام} موطئة للقسم، {إن}: حرف شرط، {صَبَرْتُمْ}: فعل وفاعل، في محل الجزم بـ {إن} الشرطية على كونه
فعل شرط لها، وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره: فهو خير لكم، {لَهُوَ} {اللام}: زائدة، زيدت لتأكيد لام القسم، {هو خير}: مبتدأ وخبر، {لِلصَّابِرِينَ}: متعلق بـ {خَيْرٌ} ، والجملة جواب القسم، وجملة القسم مستأنفة، أو معطوفة على جملة الشرط قبلها.
{وَاصْبِرْ} : فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة، {وَمَا} {الواو}: اعتراضية، {ما}: نافية، {صَبْرُكَ}: مبتدأ، {إِلَّا}: أداة استثناء مفرغ، {بِاللَّهِ}: جار ومجرور، خبر المبتدأ؛ أي: وما صبرك إلا حاصلٌ بمعونة الله وفضله، والجملة معترضة لاعتراضها بين المتعاطفين، {وَلَا تَحْزَنْ}: جازم ومجزوم، معطوف على {وَاصْبِرْ} ، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، {عَلَيْهِمْ}: متعلق بـ {تَحْزَنْ} ، {وَلَا} {الواو}: عاطفة، {لا}: ناهية جازمة، {تَكُ}: فعل مضارع ناقص مجزوم بـ {لا} الناهية، واسمها ضمير يعود على محمَّد، {فِي ضَيْقٍ}: خبرها، والجملة معطوفة على جملة {وَلَا تَحْزَنْ} ، {مِمَّا} مكرهم بك، الجار والمجرور متعلق بـ {ضَيْقٍ}. {إِنَّ اللَّهَ}: ناصب واسمه، {مَعَ الَّذِينَ}: خبره، وجملة {إِنَّ} مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها، {اتَّقَوْا}: فعل وفاعل، صلة الموصول، {وَالَّذِينَ}: معطوف على الموصول الأول، {هُمْ مُحْسِنُونَ}: مبتدأ وخبر، والجملة صلة الموصول.
التصريف ومفردات اللغة
{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} حكى (1) ابن الجوزي عن ابن الأنباري أنه قال: إنَّ هذا مثل قول العرب فلانٌ رحمة، وفلان علامة ونسابة، يقصدون بهذا التأنيث
(1) الفتوحات.
التناهي في المعنى الذي يصفونه به، والعرب توقع الأسماء المبهمة على الجماعة وعلى الواحد، كقوله تعالى:{فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ} وإنما ناداه جبريل وحده.
وإنما سمي إبراهيم عليه السلام أمةً لأنه اجتمع فيه من صفات الكمال وصفات الخير والأخلاق الحميدة ما اجتمع في أمة، ومنه قول الشاعر:
وَلَيْسَ عَلَى الله بِمُسْتَنْكَرٍ
…
أنْ يَجْمَعَ الْعَالَمَ فِيْ وَاحِدِ
ثم للمفسرين في معنى هذه اللفظة أقوال (1):
أحدها: قول ابن مسعود الأمة معلم الناس الخير، يعني أنه كان معلمًا الخير، يأتم به أهل الدنيا.
الثاني: قال مجاهد: إنه كان مؤمنًا وحده، والناس كلهم كفار، فلهذا المعنى كان أمةً وحده، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في زيد بن عمرو بن نفيل:"يبعثه الله أمة وحده"، وإنما قال فيه هذه المقالة لأنه كان فارق الجاهلية وما كانوا عليه من عبادة الأصنام.
الثالث: قال قتادة: ليس من أهل دين إلا وهم يتولونه ويرضونه، وقيل الأمة فعلة بمعنى مفعولة، وهو الذي يؤتم به، وكان إبراهيم عليه السلام إمامًا يقتدى به، دليله قوله تعالى:{إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} ، وقيل: إنه عليه السلام هو السبب الذي لأجله جعلت أمته ومن تبعه ممتازين عمن سواهم بالتوحيد لله والدين الحق، وهو من باب إطلاق المسبب على السبب، وقيل: إنما سمي إبراهيم عليه السلام أمة لأنه قام مقام أمة في عبادة الله تعالى اهـ "خازن".
وحاصل ما ذكر له من الصفات تسعة بل عشرة، إذ قوله: (ثُمَّ أَوحَينا إِلَيْكَ
…
} إلخ، يرجع لوصف إبراهيم وتعظيمه بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم أمر باتباعه اهـ شيخنا.
(1) الفتوحات.
{قَانِتًا} والقانت: المطيع لله القائم بأمره، {حَنِيفًا} والحنيف: المائل عن الدين الباطل إلى الدين الحق، {اجْتَبَاهُ} اصطفاه واختاره للنبوة والخلة، {حَسَنَةً} والحسنة هي محبة أهل الأديان جميعًا له إجابة لدعوته لربه {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84)} .
{أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} الملة (1) اسمٌ لما شرعه الله تعالى لعباده على لسان الأنبياء عليهم السلام من أمللت الكتاب إذا أمليته، وهو الدين بعينه، لكن باعتبار الطاعة له.
وتحقيق ذلك: أن الوضع مهما نسب إلى من يؤديه عن الله تعالى .. يسمى ملة، ومهما نسب إلى من يقيمه ويعمل به .. يسمى دينًا، وقال الراغب: الفرق بينهما أن الملة لا تضاف إلا إلى النبي عليه السلام ولا تكاد توجد مضافةً إلى الله سبحانه وتعالى، ولا إلى آحاد الأمة، ولا تستعمل إلا في جملة الشرائع دون آحادها، والمراد بملته عليه السلام الإسلام الذي عبر عنه آنفًا بالصراط المستقيم اهـ "أبو السعود".
{إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا} ؛ أي: إنما فرض تعظيم السبت، والتخلي فيه للعبادة، وترك الصيد فيه على اليهود الذين اختلفوا فيه، والسبت في الأصل مصدر سبت يسبت - من باب ضرب - سبتًا، بمعنى قطع، ثم سمي به يومٌ من أيام الأسبوع لانقطاع الأيام عنده، إذ هو آخر أيام الأسبوع، يجمع على أسبت وسبوت، وقال الزمخشري: سبتت اليهود إذا عظمت سبتها.
{بِالْحِكْمَةِ} والحكمة المقالة المحكمة المصحوبة بالدليل الموضح للحق المزيل للشبهة، {وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} الدلائل الظنية المقنعة للعامة، والجدل: الحوار والمناظرة لإقناع المعاند، {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} والعقاب في أصل اللغة: المجازاة على أذى سابق، ثم استعمل في مطلق العقاب.
(1) أبو السعود.
{وَلَا تَكُ} أصله ولا تكن، حذفت النون تخفيفًا لكثرة استعماله، بخلاف لم يصن، ولم يخن ونحوهما، ومعنى كثرة الاستعمال أنهم يعبرون بكان ويكون عن كل الأفعال، فيقولون: كان زيدٌ يقول، وكان زيد يجلس، فإن وصلت بساكنٍ ردت النون وتحركت نحو:{وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ} و {أمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} الآية.
{وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ} والضيق بفتح الضاد وكسرها: الغم وانقباض الصدر، وفي "المصباح": ضاق الشيء ضيقًا، من باب سار، والاسم الضيق بالكسر، وهو خلاف اتسع، فهو ضيقٌ، وضاق صدره حرج، فهو ضيق أيضًا اهـ. أي: ولا تك في ضيق صدر من مكرهم، فهو من الكلام المقلوب الذي يسجع عليه عند أمن الالتباس، لأن الضيق وصف، فهو يكون في الإنسان، ولا يكون الإنسان فيه، وفيه لطيفةٌ أخرى وهو أن الضيق إذا عظم وقوي صار كالشيء المحيط به من جميع الجوانب.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة، وأنواعًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: {وَآَتَيناَهُ} إذ مقتضى السياق أن يقال: وآتاه؛ أي: الله المذكور في قوله: {قَانِتًا لِلَّهِ} ، ونكتة الالتفات زيادة الاعتناء بشأنه اهـ شيخنا.
ومنها: الطباق بين {الدُّنْيَا} و {الْآخِرَةِ} .
ومنها: التكرار في قوله: {وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} لزيادة تأكيد وتقرير لنزاهته عما هم عليه من عقد وعمل.
ومنها: الحصر في قوله: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا} .
ومنها: الطباق بين قوله {بِمَنْ ضَلَّ} وقوله: {بِالْمُهْتَدِينَ} .
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: {كَانَ أُمَّةً} ؛ أي: كان بنفسه كالأمة والجماعة الكثيرة لجمعه أوصاف الكمالات التي تفرقت في الخلق، كما في قول أبي نواس.
ومنها: المزاوجة والمشاكلة في قوله: {فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ} لأنه سمى الفعل المجازى عليه باسم الجزاء، على طريقة المشاكلة والمزاوجة، لأن تسمية الأذى الابتدائي معاقبةً من باب المشاكلة، لأنها في وضعها الأصلي تستدعي أن تكون عقيب فعل، نعم العرف جار على إطلاقها على ما يعذب به أحدٌ، وإن لم يك جزاء فعل.
ومنها: التصريح بالصبر في قوله: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ} بعد التعريض له في قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ} حثًّا عليه على الوجه الآكد.
ومنها: جناس الاشتقاق بين {صَبَرْتُمْ} و {الصَّابِرِينَ} ، وبين {اصْبِرْ} {وَمَا صَبْرُكَ} .
ومنها: الكلام المقلوب في قوله: {وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ} لأن الضيق وصف يكون في الإنسان، ولا يكون الإنسان فيه.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
خلاصة ما حوته هذه السورة
ومجمل ما حوته هذه السورة الكريمة من الآداب والأحكام خمس وعشرون موضوعًا:
1 -
استعجال المشركين للساعة.
2 -
ذكر الأدلة على أنه جل وعلا المتفرد بخلق العالم العُلوي والسفلي وخلق الإنسان.
3 -
الامتنان على عباده بخلق الأنعام، وما فيها من المنافع من أكلٍ وحمل أثقالٍ إلى البلاد البعيدة.
4 -
النعي على المشركين في عبادة الأصنام والأوثان.
5 -
إنذار المشركين بأن يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المثلات وبما أتاهم من العذاب من حيث لا يشعرون.
6 -
احتجاج المشركين بعدم الحاجة إلى إرسال الرسل، بأن ما هم فيه من كفر وضلال مقدر مكتوب عليهم، فلا فائدة في إرسالهم، وقد رد عليهم بأن وظيفة الرسل البلاغ والإنذار، لا خلق الهداية والإيمان.
7 -
إجمال دعوة الأنبياء بأنها عبادة الله واجتناب الطاغوت، ومن الناس من استجاب لدعوتهم، ومنهم من حقت عليه الضلالة.
8 -
إنكار المشركين للبعث والنشور، وحلفهم على ذلك، وتكذيب الله تعالى لهم فيما يقولون.
9 -
إنكار بعث محمَّد صلى الله عليه وسلم بأنه رجلٌ لا ملكٌ، فكذبهم الله بأن الأنبياء جميعًا كانوا رجالًا لا ملائكة.
10 -
إنذار المشركين بعذاب الخسف.
11 -
جعلهم الملائكة بنات الله مع حزنهم إذا بشر أحدهم بالأنثى.
12 -
رحمة الله بعباده، وعدم مؤاخذتهم بذنوبهم، وأنه لو أخذهم ما ترك
على ظهر الأرض دابة.
13 -
ذكر نعمه على عباده بإنزال اللبن من بين الفرث والدم، وأخذ الثمرات من النخيل والأعناب، والعسل من النحل. وأيضًا تفاضل الناس في الأعمار والأرزاق. وأيضًا ضرب الأمثال لدحض الشركاء والأنداد من دون الله.
14 -
الامتنان على عباده بخلق السمع والبصر، وتسخير الطير في جو السماء، وجعل البيوت سكنًا، وجعله لنا سرابيل تقي الحر، وسرابيل تقي بأس العدو.
15 -
جعل الأنبياء شهداء على أممهم، وعدم الإذن للكافرين في الكلام، وعدم قبول معذرتهم.
16 -
الأمر بالعدل والإحسان وصلة الأرحام، والنهي عن الفحشاء والمنكر والبغي، والأمر بالعهود والوعود وضرب الأمثال لذلك.
17 -
الأمر بالاستعاذة من الشيطان، وبيان أن سلطانه على المشركين.
18 -
تكذيبهم للرسول إذا جاءهم بحكم لم يكن في شريعة من قبله من الأنبياء، وادعائهم بأن هذا القرآن إنما هو تعليم من عبد رومي، وردَّ الله عليهم ذلك. وأنه لا ضير على من كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، دون من شرح بالكفر صدرًا.
19 -
دفاع كل نفس عن نفسها يوم القيامة، وجزاء كل نفس بما عملت.
20 -
ذكر ما حرمه الله تعالى من المطاعم، والنهي عن تقولهم على الله بغير علم. وذكر ما حرمه على اليهود بسبب ظلمهم.
21 -
مدح إبراهيم عليه السلام ووصفه بصفات لم يوصف بها نبيٌّ غيره، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم باتباعه، وسلوك طريقته في العقاب والصبر على الأذى.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
ولقد أجاد من قال:
سبحانك لا علم لنا
…
إلَّا ما أَلْهَمْتَ لَنَا
لَكَ الشُّكْرُ يَا مَوْلَانَا
…
عَلى مَا أَسْعَفْتَ لَنَا
شعر
يَا رَب لا تُحْينِي إلى زَمَنٍ
…
أكُونُ فيه كَلًّا على أَحَدِ
خُذْ بيدي قَبلَ أنْ أقُوْلَ لِمَنْ
…
أَلْقَاهُ عِنْدَ القِيَامِ خُذْ بِيَدِي
(1) الحمد لله على إفضاله، والشكر له على نواله، والصلاة والسلام على محمَّد وآله، ما تطارد الجديدان، وتطاول المدى والزمان.
وكان الفراغ من مسودة هذا المجلد بالمسفلة حارة الرشد من مكة المكرمة في شهر رمضان المبارك في اليوم الثامن والعشرين منه، يوم السبت وقت الشروق، منتصف الساعة الأولى منه، من شهور سنة إحدى عشرة وأربع مثة وألف من الهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التحية، بتاريخ سنة 28/ 9/ 1411 هـ.
تم المجلد الخامس عشر من تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن، ويليه المجد السادس عشر، وأوله سورة الإسراء.