الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدراسات التطبيقية
أمين الخولي
…
الدراسات التطبيقية:
كثير من الدراسات التي سعت إلى تطبيق هذا المنهج والأخذ بأصوله وقواعده، وليس بوسعنا أن نذكرها كلها ولا أن نذكر أكثرها وإنما بوسعنا أن ندرس أهمها وأشهرها.
وبهذا المقياس فليس في هذا المنهج أهم من المحاولات التطبيقية التي قدمها أستاذ هذه المدرسة ويليه فيها تلميذان من أنجب تلاميذه هما الدكتورة عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ" والدكتور "محمد خلف الله" ولعل في تقديمي لهؤلاء الثلاثة الكفاية في ضرب المثل لهذه الدراسات في هذا المنهج، وبالأستاذ نبتدئ:
أمين الخولي:
ترجمته:
ولد سنة 1895م بشوشاي مركز أشمون بمحافظة المنوفية وتخرج في القسم العالي بمدرسة القضاء الشرعي سنة 1920م واختير مدرسًا بها. وترأس تحرير مجلتها في سنتيها الأولى والثانية.
وفي سنة 1923م عين إماما للمفوضية المصرية بروما ثم في برلين ولهذا ألَمَّ باللغتين الإيطالية والألمانية واطلع على بحوث المستشرقين في الإسلاميات بهاتين اللغتين. وعاد إلى مصر سنة 1927م ليدرس بقسم التخصص في مدرسة القضاء الشرعي وفي العام التالي نقل إلى كلية الآداب بالجامعة المصرية "جامعة القاهرة الآن" مدرسا فأستاذا مساعدا فأستاذا فرئيسا لقسم اللغة العربية واللغات الشرقية ثم أستاذا للأدب المصري ثم وكيلا لكلية الآداب وظل فيها حتى سنة 1953م حيث نقل مستشارا فنيا لدار الكتب المصرية ثم عين مديرا لإدارة الثقافة في وزارة التربية والتعليم حتى بلغ سن التقاعد سنة 1956م.
وأنشأ الأستاذ أمين هو وتلاميذه سنة 1943م مدرسةأدبية هي "الأمناء" نسبة إليه، رسالتها الفن والحياة. وهدفها تحقيق أهداف فنية نظرية وعملية.
وأصدرت في سبيل تحقيق ذلك "مجلة الآداب" سنة 1956م حيث رأس الأستاذ أمين تحريرها. وعين سنة 1961م عضوا في مجمع اللغة العربية بالقاهرة.
وكلف بعد تقاعده بأعمال عديدة، فانتدب مثلا لتدريس الأخلاق والفلسفة وتاريخ الملل والنحل في الأزهر في قسم التخصص شعبة الأخلاق والتاريخ. وشعبة الوعظ وكذلك في كلية أصول الدين ورأس قسم اللغة العربية
في معهد الدراسات العليا للمدرسين، وحاضر في معهد الدراسات العربية العالية سنة 1957-1958م، وفي معهد الدراسات الإسلامية، وحضر عددا من المؤتمرات1، وتوفي سنة 1966م.
وله مقالات وبحوث في اللغة والأدب والبلاغة والنحو والتفسير نشرت في مجلات علمية وأدبية، وله تعليقات على كثير من مواد دائرة المعارف الإسلامية في الأدب والفقه، ومن أهمها ما كتبه في مواد التفسير وأصول الفقه والبلاغة، وجمع أكثرها في كتاب اسمه "مناهج تجديد في النحو والبلاغة والأدب والتفسير" وطبع تعليقه على مادة "تفسير" مستقلا مرة بعنوان "التفسير معالم حياته منهجه اليوم" طبعته جماعة الكتاب سنة 1944م ومرة بعنوان "التفسير نشأته تدرجه وتطوره" تحت سلسلة "كتب دائرة المعارف الإسلامية" وصدرت طبعته الأولى سنة 1982م في بيروت.
وله كتاب "من هدي القرآن" ويحتوي على ثلاثة من مؤلفاته "القادة والرسل" و"في رمضان" و"في أموالهم" وله أيضا كتاب عن مالك بن أنس رحمه الله تعالى، وهو العدد "11" من سلسلة أعلام العرب.
والذي يهمنا هنا من مؤلفاته ما كتبه من الدراسات القرآنية تحت عنوان "من هدى القرآن".
تفسيره:
أسلفنا القول أنك لا تكاد تجد فيما قدمه الأستاذ أمين الخولي دراسة تطبيقية شاملة كاملة للمنهج الذي أصله بل ظل الفارق بعيدا بين الواقع الذي سلكه والمثال الذي دعا إليه.
لكن مع هذا، فإنك واجد في تفسيره تدرُّجا يكاد يظهر واضحا في تقلص وانكماش الفاصل بين الواقع والمثال.
1 لخصت ما سبق من ترجمته الواردة في مقدمة كتابه "التفسير نشأته تدرجه وتطوره" بقلم إبراهيم خورشيد رئيس تحرير النسخة العربية من دائرة المعارف الإسلامية.
يظهر هذا في دراسات أربع ندرسها هنا دراسة موجزة نبدأ بأبعدها عن المثال وننتهي بأقربها إليه وبها تظهر المراحل التي مر بها الأستاذ الخولي في دراسته التطبيقية.
وقدم الأستاذ أمين الخولي هذه الدراسات تحت عنوان "من هدي القرآن" واشتملت على مجموعات متعددة من الأبحاث ذات الموضوع الواحد كالسلام والإسلام، والطغيان في العلم والمال والحكم، وحكومة القرآن، والحكم بما أنزل الله، والفن والبيان في القرآن، والقرآن والحياة، والقسم القرآني، والجندية والسلم، والقادة الرسل، وفي أموالهم، وشخصية محمد، وفي رمضان
…
وغير ذلك من الدراسات.
وإذا نظرنا إلى هذه الدراسات وغيرها مجتمعة وجدناها تحتفظ من المنهج بالخصائص التالية:
1-
أنها تدرس القرآن الكريم حسب الموضوعات وليس حسب تسلسل السور في القرآن الكريم.
2-
إنها تهدف إلى التدبير النفسي والاجتماعي في القرآن للحياة الإنسانية، وترى أن هذا هو المجال الخاص للقرآن وهو السبيل المفردة لتحقيق أهداف الرسالة الإسلامية.
3-
إنها تعمد إلى معاني الآيات التي تؤديها ألفاظ العربية كما كان يفهمها أهل العربية في عهد نزول القرآن ولا تتجاوزه إلا لاتماس ما للفظ والنظم من إيحاءات أدبية وفنية1.
أما المراحل التي مر بها تفسيره كما أشرت إليه آنفا، فهي أربع، نقدم مثالا من هذه الدراسات لكل مرحلة.
المرحلة الأولى: الجندية والسلم.. واقع ومثال
وكان أول حديث له عن السلام في يوليه سنة 1937 ثم تتابعت
1 من هدى القرآن: أمين الخولي، ص10-11.
الأحاديث وأكتفى هنا بالصورة التي قدمها الدكتور كامل علي سعفان لهذه الأحاديث علما أن هذه الصورة ليست إلا خطوطا رئيسة لأفكارها وحسبي وحسبه أنها تشير إلى طريقة الأستاذ في التفسير أو مرحلة مر بها وهي خلاصة لهذا البحث، قال:
"إن في الإنسان غريزة فطرية إذا ما واتتها التربية الصحيحة كانت تلك الغريزة مصدر خير ونفع للإنسان، ومبعث آمال تقية الخطر وتجنبه الضرر وتحمي وجوده وحضارته، وإذا ما لاقت تربية سيئة لا تسلم معها الروح كانت مصدر شقاء وضرر، ومبعث نقائص تخزي الإنسان، وتعرض وجوده للدمار، وتكتب عليه الهزيمة والخذلان"، "تلك الغريزة فيما يقول قوم من النفسيين غريزة الخوف"، "هذا الخوف الغريزي النافع باعتداله هو ما يعنيه الناس حين يقولون: من خاف سلم، وهذا الخوف الأدبي المصلح هو ما يريده القرآن في مثل قوله تعالى:{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} 1.
لكن هذه الفائدة المادية والأدبية، وهذا الخير في الجسم والروح ينقلب شرا ذريعا إذا ما جاوزت الغريزة اعتدالها فآلت إلى ذعر وهرب".
ومع غريزة الخوف غريزة السيطرة التي يعليها القرآن حين "يردف القوة بالعزة في مثل قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} 2، {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيز} 3 إلى كثير مما ورد في ذلك.
فالإله في وصف القرآن: قوي عزيز غالب، له الغلبة ولرسله وله من السماء ما يناسب ذلك فهو القهار، الجبار، والمعز، والمذل، والخافض، والرافع، وما ماثل هذا.
والعبد الرباني هو الذي يتحلى بمعاني صفات الله وأسمائه ويسعى
1 سورة النازعات: الآيتان 40-41.
2 سورة المجادلة: الآية 21.
3 سورة هود: الآية 66.
لاكتساب الممكن من ذلك" لكنه لم يترك الغريزة دون كبح قوي وتنسيق فعال.
إنه يروض هذه الغريزة، حيث يتحدث عن القوة والعزة، فيضع معها في وصف الإله معاني السمو والخير وحسن التدبير:{وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} 1، كذلك يضع إلى جانب العزة العلم وهو الذي على وفقه تجري الأشياء صحيحة سالمة، طبق قوانينها، ومضبوط نظمها:{ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم} 2.
بل يضع إلى جانب العزة المغفرة، وعدم المؤاخذة على الإساءة والذنب:{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُور} 3.
وطالما يقرن العزة بالرحمة وفيض التلطف والترفق: {يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 4 كما يقرن القوة بالأمانة: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} 5؛ القوي بأبعد معاني القوة نفسا وعقلا وجسما، والأمين بأخطر معاني الأمانة وأكمل استعداد للمسؤولية -هو القوي الأمين الذي يشير إليه القرآن ورجل القرآن الذي يحقق القوة الجامعة، ويمثل العزة التي يجمل مثلها لله ولرسوله، هو الرجل الذي يبني منه القرآن أمة هي: خير ما أخرج للناس؛ أمة تحقق السلام القائم على العدل، السلام الذي أصبح شعار هذه الأمة، يلقى الناس به إخوانهم في الغدو والرواح، السلام الذي "يأسوا جراح الإنسانية ويسعفها في صراع الغرائز، وقتال الشهوات". السلام الذي سمى الله به نفسه وجعل الجنة "دار السلام" وأهل الجنة: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلام} 6، 7
1 سورة آل عمران: الآية 62.
2 سورة الأنعام: الآية 96.
3 سورة الملك: الآية 2.
4 سورة الروم: الآية 5.
5 سورة القصص: الآية 26.
6 سورة يونس: الآية 10.
7 المنهج البياني في تفسير القرآن الكريم: د/ كامل علي سعفان، ص164-166.
تلكم هي الصورة التفسيرية التي قدمها في "الجندية والسلم" وهي مرحلة لا نكاد نستبين بينها وبين المنهج الذي دعا إليه من صلة.
المرحلة الثانية: القادة الرسل
وهي مجموعة أحاديث أذاعها بين عامي 1941-1942م وجاءت أحاديثه عنهم عليهم السلام في عدة حلقات تحدث عن "رسل ورسالات" وعن "القادة الرسل" وعن "عزمات القادة" وعن "شمائل القادة" وعن "تبعات القادة" وعن "قادة لا جبابرة".
نختار منها مثالا أولها: "رسل ورسالات" وقد ألقاه إذاعة في حلقتين، قال في الأولى:
{رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} 1 لقد جاءكم من هدي القرآن ما يمس مشكلات كثارا من عقد الحياة العاملة، ورأيتموه يتولى التنسيق الاجتماعي ماضيا إلى أغوار المصاعب ماسًّا أصولها البعيدة، وفي القرآن من ذلك كما سلف كثير وكثير والآن يلتمس هدى القرآن في تقدير قيم الأشخاص والأشياء والأعمال، ووزن البواعث والغايات التي ينبعث الناس بها في حياتهم ويصدرون عنها في تصرفهم، ويرمون إليها في سلوكهم ويجعلونها هدفهم في سعيهم، فقد اضطربت في ذلك الأهواء، ولاذ الناس في تقديرهم وتأثرهم بأحكام ومذاهب أبت إلا أن تقيس كل ما في الوجود بالعروض والنقود ورأت ألا تقدر كل أجر إلا بالرطل والمتر ولم يرضها وراء ذلك جزاء، ولا قبلت دونه ثمنا، واطمأن من حولنا وفيهم كثير من الخاصة إلى متع من الحياة يشركهم فيها الحيوان الأعجم وقد يغلبهم عليها الإنسان الأول2 ساكن الغابة والمجهل، فأفاضوا بذلك على دنياهم، ودنيا غيرهم، قسوة وقتاما، وزادوها برودا وظلاما؛ إذ حالوا بين أنفسهم وبين متع من الروح والنعيم، ومباهج من السنا والنور،
1 سورة النساء: الآية 165.
2 وهل كان الإنسان الأول كذلك؟!
ولذائذ من الرضا والحبور، وحينما أنكروا ذلك وحقروه لم يحرموا أنفسهم منه فحسب، بل شوشروه1 على من يبتغيه، وشوهوه على من يؤثره ففسدوا وأفسدوا، وتأذوا وآذوا، وعُذبوا وعذبوا معهم غيرهم والله المستعان" إلى أن قال: فيأتيها القلوب المؤمنة كيف تناول القرآن أصول التقدير وما هديه في بيان الغايات الكريمة، وأي اللذائذ الراقية قد تخير لكرام الناس في حياتنا المشهودة؟ التمسوا الجواب عن ذلك فيما علمه لرسله وهداهم إلى أن يقولوه لقومهم، وأن يعلنوا أنه الغاية من أدائهم لرسالاتهم مع أنهم أولئك البشر الذين قرر القرآن بشريتهم ولم يثبت لهم وراءها شيئا فستجدون في ذلك ما تريدون من هدي القرآن في هذه المشكلات الدقيقة ستجدون حقيقة ثابتة مطردة في الأديان كلها وستعرفون المطلب الذي ابتغاه الرسل جميعا من أدائهم رسالاتهم جميعا، ستستمعون نوحا صلى الله عليه وسلم منذ الدهر الأول يقول لقومه:{وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} 2، {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3 {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} 4 إلى أن قال الأستاذ أمين:
"واسمعوا كذلك في الرسالات الأولى هودا يقول لقومه: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ} 5 {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِين} 3 وهكذا قال صالح لقومه، تلك المقالة، وقالها لوط، كما قالها شعيب عليهم السلام جميعا، فتقرأ في سورة الشعراء من قصص هؤلاء الأنبياء تلك النغمة السماوية
1 بحثت في القواميس عن "ششر" أصل هذه الكلمة فلم أجد لها ذكرا، ولعلها صوابها "شوشوه" والتشويش: التخليط، وتشوش عليه الأمر اختلط والتبس.
2 سورة هود: الآية 29.
3 سورة الشعراء: الآية: 109.
4 سورة يونس: الآية 72.
5 سورة هود: الآية 51.
المرددة: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} 1 تردد بضع مرات في سورة واحدة1 وأن يقلها سالفوا الأنبياء مرة ومرة فقد قالها رسول القرآن صلى الله عليه وسلم مرارا في صورة متفننة متعددة فحينا ينفي ابتغاء الأجر بأن يهبهم ما يطلبه في مثل قوله: {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} 2، وحينا ينفي الأجر بأن يطلب منهم ما هو خير لهم هم لا له هو في مثل:{مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} 3، {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} 4 أي بِرَّهُمْ قرابتَهم بهن وصلتهم ما بينه وبينهم من رحم، وآنا يؤمر أن يجهر بنفي ابتغاء الأجر في مثل قوله:{وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} 5، {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} 6، {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} 7 وطورا ينفي هذا الطلب في صورة الاستفهام المبعد له مثل قوله في غير موضع: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} 8 وهكذا يصف القرآن الرسل بهذا العزوف عن الأجر فيقول: {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُون} 9.
أيتها القلوب المؤمنة تلك الرسالة التي أداها الأنبياء طوال حياتهم، ولقوا فيها من العنت والإيذاء ما لقوا، واحتملوا بسببها ما احتملوا، وهي بعد
1 سورة الشعراء: الآيات 109، 127، 145، 164، 180.
2 سورة سبأ: الآية 47.
3 سورة الفرقان: الآية57، وأولها:{قل} .
4 سورة الشورى: الآية 23.
5 سورة يوسف: 104.
6 سورة الأنعام: الآية 90.
7 سورة ص: الآيات 86-88.
8 سورة الطور: الآية 40.
9 سورة يس: الآية 21.
ذلك عمل لا مال فيه ولا أجر من حطام الدنيا عليه، ثم هم آخر الأمر كما قال خاتمهم عليه السلام:"نحن معاشر الأنبياء لا نورث؛ ما تركناه صدقة"1 وكذلك ترقى النفس البشرية، فترقى لذتها ويهون عندها ما حببت إلى النفس من زينة الدنيا، وهكذا بسط القرآن هديه".
إلى أن قال: "وإن ما أحدث عنه من اللذات الراقية والتي اكتفى بها رسل الله الكرام فيما أدوا من رسالات تلك اللذات الراقية ليست من بعيد الفلسفة ولا عسير الآمال وممنع المطالب بل هي منزلة قد ارتقى إليها الكرام جميعا وبلغها في الأمم السعيدة، رجال العلم ورواد الكشف وأهل الجهاد، ولولاها ما أقدم رجل العلم على تجاريب يجربها حتى في نفسه، ولما جازف رجل الكشف يقتحم المجاهيل والمخاطر ولما حمل المجاهد يجالد المنايا ويعانق الفواتك المدمرة وما خطت الإنسانية خطوة واحدة في سبيل رقيها إلا على يد أولئك الذين استهوتهم اللذائذ الراقية فنسوا أنفسهم، وسعدوا بخير من حولهم، أولئك رسل الحضارة وتلك رسالاتهم"2.
وواصل الأستاذ أمين حديثه هذا في الحلقة الثانية حيث قال: "وإذا ما عرفنا كيف نختار غايتنا الكريمة في هذه الحياة فقد بقي أن نعرف هدي القرآن في السير إلى تحقيق تلك الغاية المرجوة والوصول إلى المقصد الجليل كيف يخوض الناس الصعاب إلى أهدافهم؟ كيف يواجهون ما يعترضهم من عقبات، ماذا يعدون لتذليلها والتغلب عليها؟ تجد هدي القرآن عن هذا في حديث الرسل الكرام وما لقوا في سبيل تحقيق رسالاتهم وكيف واجهوا ذلك واحتملوه وماذا علمهم الله أن يفعلوا في هذا السبيل فتقرأ في غير موضع أخبار تكذيبهم وسبهم في إقذاع جريء من مثل قول قومهم لواحد منهم: {إِنَّا لَنَرَاكَ
1 رواه البخاري ومسلم بلفظ: "لا نورث ما تركناه صدقة" انظر ما نقلنا عن الشيخ الشنقيطي رحمه الله تعالى في الباب الثاني، الفصل الأول، عن دراستنا لفقه أهل السنة والجماعة.
2 من هدي القرآن: القادة الرسل، أمين الخولي، ص14-19 باختصار.
فِي ضَلالٍ مُبِين} 1، {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَة} 2، {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِين} 3، {سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُون} 4 إلخ.
بل نراهم يكيدون لهم بالقوة الباطشة الطائشة: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} 5، {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوك} أي يعجزوك عن الحركة {أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} 6، كان ذلك وما يشبهه من عنف أهوج نصيب الرسل ممن يدعون، فإذا القرآن يعالجه بتهوين وقعه على الرسل وإصلاح نفسيتهم وإرشادهم إلى ما يحفظ طمأنينتهم من مثل قوله:{فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} 7، {وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} 8 واسمعه إذ يأمر الرسول بالصبر على ما يقال فيعينه على الصبر بأن يكره بالقدوة الصالحة من أسلافه الأقوياء فيقول:{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ} 9 والأيد القوة والاضطلاع بالأعباء والمشاق، ويقول:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} 10، واستمع إذ يغريه بتسبيح الله؛ ليعتز بعزته ويستمد القوة من قوته ويحتفظ بالمقاومة والاحتمال في قوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ
1 سورة الأعراف: الآية 60.
2 سورة الأعراف: الآية 66.
3 سورة الذاريات: الآية 52.
4 سورة إبراهيم: الآية 13.
5 سورة الأنفال: الآية 30.
6 سورة هود: الآية 36.
7 سورة آل عمران: الآية 176.
8 سورة ص: الآية 17.
9 سورة الأحقاف: الآية 35.
10 سورة ق: الآيتان 39-40.
وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} 1. والشعر بقسمات الحسن الفني في نظم القرآن والمدرك لإشارته النفسية يقف عند خاتمة الآية الخيرة يترجى الرضا، وقوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك} .... {لَعَلَّكَ تَرْضَى} يقف وقفة يتمثل فيها ذلك المعنى النفسي الذي أدرنا عليه هذا الحديث من تقبل الألم والشعور في ذلك باللذة؛ إذ لا يكون هذا إلا حين يكون الرضا النفسي ويظهر به الإنسان فتكون العظمة الروحية والمقاومة النبيلة وجلال الترفع ولأصحاب هذه النفوس يكون الأمر بالصبر"2.
وهذه الخلاصة لحديث الأستاذ الخولي عن "رسل ورسالات" من سلسلة أحاديثه عن "القادة الرسل" تلمح فيها أنها أقرب من سابقتها "المرحلة الأولى" إلى تمثل منهجه والتزامه، فنرى فيها هنا شيئا من الموضوعية في التفسير التي يدعو إليها هذ المنهج ونرى فيها أيضا إبراز الجانب النفسي في التفسير، وإن كان هذا وذاك لم ينالا حظا كبيرا كما يتطلب المنهج، لكنهما وردا على كل حال.
وما زالت هذه المرحلة بعيدة عن التزام خط المنهج.
المرحلة الثالثة: في رمضان
وهي مجموعة أحاديث أذاعها في شهر رمضان خلال ثمانية عشر عاما امتدت من سنة 1360 إلى سنة 1378هـ، وسأختار من هذه الأحاديث موضوعين أما أولهما فعنونه صاحبه بـ "في رمضان" وثانيهما في حلقتين عنوانهما "عن فلسفة الجوع" ولعل فيما اخترت دلالة على ما أردت.
تحدث الخولي في الأولى عن "معنى حي -كما وصفه- لنزول القرآن في رمضان"، بين فيه المراد بإنزال القرآن في شهر رمضان الوارد في قوله تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} 3، وذكر أن المفسرين منذ أولهم إلى اليوم يدورون حول أقوال بعينها
1 سورة طه: الآية 130.
2 من هدى القرآن: القادة الرسل، أمين الخولي، ص22-24 باختصار.
3 سورة البقرة: الآية 185.
التماسا لبيان كيف أن القرآن أنزل في شهر رمضان مع أنه إنما نزل مفرقا في عشرين سنة أو أكثر عند المناسبات وليس في شهر رمضان فقط، وذكر أن هؤلاء المفسرين تارة يقولون: إن القرآن نزل جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، فجعل في بيت العزة وكان ذلك في رمضان، ورد الأستاذ الخولي هذا القول بأنه:"ما كان القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان"، بنزوله من سماء إلى سماء حتى يفسر بذلك نزوله في رمضان"1، وذكر أنهم تارة أخرى يقولون أن القرآن نزل في سائر الشهور لكن جبريل كان يعارض الرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن في رمضان ويقابله معه فيه، ورد هذا القول أيضا بقوله: "لكن هل المقابلة هي النزول أو هي بعد النزول؟ وهل يسهل تفسير النزول بالمقابلة أو المعارضة أو المدارسة؟ ما أظن"1 وقال: أنهم حينا يرون أن المراد أنزل بشأن رمضان قرآن أي جاءت عنه في القرآن آية الصيام، ورد على هذا الرأي بأن هذا ليس مما يمتاز به رمضان، كما أن آية الصيام لا يظهر وصفها خاصة بما ورد بعد من هدى وبينات من الهدى والفرقان بل هو وصف للقرآن كله وذكر أنه يفسرون المراد بالإنزال بابتداء النزول، ورد هذا القول أيضا بما فيه ضعف حيث شكك في معرفة البدء بالنزول حيث قال: "وهل هذا البدء معين محدد فيشبه بمبادئ الدول والملل في انضباطها؟ وأين كان هذا التاريخ بذلك البدء"1، وفات على الأستاذ الخولي أن الذي حدد البدء ليس بشرا وإنما هو الله الذي أنزل القرآن فهو أعلم ببدء نزوله وبتاريخ نزوله. وزاد الأستاذ الخولي ردًّا آخر حيث قال: "ثم قبل هذا وذاك لم عبر بالنزول عن بدء النزول وبأي شيء صرفوه إلى ذلك؟ وهم يرون أن فائدة وصف الشهر "بإنزال القرآن فيه" هي التنبيه على علة تخصيصه بالصوم فيه"1.
وبعد هذا العرض للأقوال في المراد بالنزول والردود عليها قال: "وهكذا لا تجد من هذه الأقوال التي دار حولها المفسرون جميعا في فهم آية رمضان هذه رأيا ترتاح إليه"، ثم ساق رايه في المراد بالنزول:
1 من هدي القرآن في رمضان: أمين الخولي ص126-127.
"أيها الشاعرون بروعة القرآن: لقد قصروا النزول على المعنى المادي في الانتقال، والهبوط، والانحدار، ونحوه، وليس هذا كل معنى الكلمة، وليس هذا كل ما استعمل فيه القرآن هذه الكلمة لقد استعملها القرآن في حسيات ليس فيها انتقال، ولا هبوط. فهو يقول:{أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيد} 1.
وليس هابطا من السماء، وهو يقول:{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا} 2، وليس يعني انحدار هذا من الأعلى إلى الأرض.
بل يلاحظ أنه حين يقصد هذا الانتقال المادي يذكر مبداه ويصرح به فيقول:
{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاء} 3، {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} 4، {أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاء} 5، ولم يذكر هذا المبدأ في آية رمضان ونزول القرآن فيه!!
ومن المفروغ منه أن الألفاظ لا تقتصر على معناها الحسي أبدا، بل تنتقل عنه انتقالات كثيرة إلى إطلاقات معنوية وهم أنفسهم قالوا: الإنزال تقريب الشيء والهداية إليه، وإنزال الله نعمه، ونعمه على الخلق إعطاؤهم إياها ففيم إذنْ هذا الوقوف عند معنى النزول المادي من سماء إلى سماء أو الوصول إلى الأرض والإبلاغ إلى شخص".
وكأن الأستاذ أحس بأن هناك اعتراضا يقول: إذا كان المراد بالنزول: التقريب والهداية فلم خصه الله بشهر رمضان مع أن هداية القرآن غير مخصوصة به؟! فذهب الأستاذ الخولي يلتمس ما حسبه مستمسكا وما هو بمستمسك قال: "القرآن نعمة وهداية، تعطى للناس، وتقرب إليهم، وتيسر لهم ظروف ومناسبات مع رياضة خاصة، أو عبادة خاصة فإنزال القرآن في رمضان يمكن أن
1 سورة الحديد: الآية 25.
2 سورة الأعراف: الآية 26.
3 سورة الحج: الآية 63.
4 سورة النبأ: الآية 14.
5 سورة المائدة: الآية 114.
يكون بتقريبه إلى الناس، وأنسهم به في شهر رمضان عندما يرتاضون بالصوم ويدركون من الصوم ما رأينا من غاية تتسق مع الفكرة الجامعة في فهم الدين وفهم الحياة، ففي كل رمضان إذ الناس يشعرون من الصوم بما يشعرون به، يقرب القرآن إلى نفوسهم، ويستبينون منه الهدى والبينات من الهدى في تفسير الحياة وتدبير الحياة والقرآن في ذلك فرقان واضح، يتميز به تاريخ الإنسانية عصر عن أعصر قبله، وهذا معنى الفرق والتميز في كلمة الفرقان الذي فيه منه بينات.
على هذا الوجه يفهم أن نزول القرآن في رمضان هو تقريبه والإيناس به فيزيد الاستشفاف لهداه، وبيناته"1.
ولا أحسب أن هذا التعليل الذي جاء به الأستاذ الخولي مقنعا؛ إذ إن الهداية بالقرآن الكريم وتقريبه إلى الناس وأنسهم به ليس خاصا بشهر رمضان حتى يقصر عليه. زد على هذا أن النصوص كثية من الكتاب والسنة في نزول القرآن الكريم في شهر رمضان، ولا يلزم اقتران النزول المادي بذكر المبدأ خذ مثلا:{وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَة} 2، {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلائِكَة} 3، {وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ} 4، {حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ} 5، {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} 6، {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} 7، والآيات الدالة على هذا كثير.
وفي حديثين آخرين تناول الأستاذ الخولي معنى الجوع وصلته بالصيام
1 من هدي القرآن: في رمضان: أمين الخولي ص127-128.
2 سورة المؤمنون: الآية 24.
3 سورة فصلت: الآية 14.
4 سورة الأنعام: الآية 8.
5 سورة الأعراف: الآية 57.
6 سورة الحج: الآية 5.
7 سورة فصلت: الآية 39.
وذلك تحت عنوان "عن فلسفة الجوع" ذكر فيه أن الجوع ليس طابع الصوم، وقال في الحلقة الثانية: "حدثتكم قبل عن الفقهاء وتعريفهم الصوم بالجوع وترك الأكل والشرب
…
إلخ، وإدارتهم الشاهد العقلي لفرضية الصوم على فعل الجوع بالنفس وردهم حكمة الصوم إلى أثر الجوع أيضا، كما رأينا الصوفية يفلسفون هذا الجوع، فيسببون به كل خير كما ينسبون إلى شهوة الطعام كل شر، ويروون في فضل الجوع ما يرووون مما يعدونه حديثًا، ويذكرون مآثر العابدين في الصوم ومدته ونريد هنا أن نعرض هذه الآراء على هدي القرآن لنرى إلى أي مدى يؤيدها أو يرفضها فاستمع إليه حين يقول لقريش:{فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} 1، فيعد نعمتي الإطعام والإيمان اللتين خلص بهما قريشا من نقمتي الجوع والخوف. وهو بمثل هذا يعد نعم الجنة. دارالنعيم المقيم والسعادة الكبرى فيقول لآدم:{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى، وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} 2، فالجوع والعري والظمأ والضحو -بالتعرض للشمس وحرها- كلها آلام يأمن منها من يكون في الجنة وإذا نعم أهل الجنة بألا يجوعوا فقد شقى أهل الجحيم في وصف القرآن بألا يجدوا إلا ما لا يشبع فقال عنهم:{لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} 3.
وعلى هذا ندرك أن الجوع والحرمان من الطعام لون من العذاب القاسي في تعبير القرآن الأدبي، وحسه الفني، الذي نفرغ إليه كما اتفقنا لمعرفة نظرة القرآن إلى الجوع.
ولعلنا نستطيع أن نقول؛ بعد الذي أنسنا إليه من هدي القرآن: إن ما اتجه إليه القوم من تلمس الآثار في فضل الجوع وفلسفتهم لذلك الجوع على ما سمعناها منهم ليس مما يرحب به هدي القرآن كثيرا وليس بكثير أن
1 سورة قريش: الآية 3-4.
2 سورة طه: الآية 118-119.
3 سورة الغاشية: الآية 6-7.
نقول: إن نظرية القوم في الجوع ليس ذات أساس سليم وهي غريبة عن الروح الإسلامية؛ بل إنها ليست في شيء من روح القرآن في مثل قوله: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} 1، أيها المهتدون بهدي القرآن: أحسبكم تقدرون ما قصد إليه هذان الحديثان عن فلسفة الجوع في عمل الفقهاء ورياضة الصوفية، وأن هذا الجوع ليس أفضل العبادة ولا مخ الطاعة بل نقول في طمأنينة: إن هذا الجوع ليس مخ الصوم نفسه، وليس من الصواب أن يكون الجوع طابع الصوم الظاهر عند المتكلمين في الحكمة وفضل الصوم وحبذا الصوم إمساكا عن جميع الأهواء والأخطاء والعوائد الواهمة والفاسدة؛ ليكون الصوم رياضة مُصلِحة للنفوس، مجدية على الفرد والجماعة مروضة على ما لا يسهل الارتياض عليه في سائر الأوقات؛ لضعف أو إهمال أو عدم رقابة، فيكون رمضان وسيلة إلى التقوى التي رجاها القرآن وختم بها آية هذا الفرض:{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَْ} 2، 3.
وها أنت ترى الأستاذ يقترب أكثر من قبل إلى أسس منهجه، وإن كان الفاصل لا يزال بعيدا.
تراه في هذه المرحلة الثالثة يولي المفردات عناية خاصة، فينظر لكلمة النزول ويقارن بين ورودها في الآية التي يتناولها وبين ورودها في آيات أخرى ثم يستنبط المعنى الذي هداه إليه عمله ويظهره وإن خالف فيه كل من سبقه.
وفي الجوع نظر نظرة موضوعية وصل بها إلى أن الجوع ليس طابعا وليس هدفا بل هو لون من العذاب القاسي في تعبير القرآن الأدبي وحسه الفني، ويصل من هذا إلى أن الصوم إمساك عن جميع الأهواء والأخطاء والعوائد الواهمة والفاسدة؛ ليكون الصوم رياضة مُصلِحة للنفوس مجدية على الفرد والجماعة
…
إلخ.
1 سورة هود: الآية 52.
2 سورة البقرة: الآية 18.
3 من هدي القرآن في رمضان: أمين الخولي ص136-142 باختصار.
المرحلة الرابعة: في أموالهم.. مثالية لا مذهبية
وهي أحاديث إذاعية تباعدت سنوها -كما يقول الخولي- من سنة 1944م، إلى سنة 1952م.
ولا يسعني بحال من الأحوال أن أستوفي عناصر المنهج من دراسة جاءت في حوالي 130 صفحة في عرض سريع كهذا؛ أقول هذا؛ عذرا لقصور مؤكد فإن قبل هذا مني عذرا فإني أقول:
إن الأستاذ الخولي قدم لأحاديثه هذه التي وصفها بأن في ثناياها إشارات متعددة للمعالم الكبرى لهذا المنهج الأدبي في تفسير القرآن -قدم لها بذكر طائفة من الآيات في موضوع المال من نحو قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} 1، و {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} 2، {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} 3، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} 4، وغير ذلك من الآيات، لكنه لم يرتبها حسب نزولها كما هو الأصل في المنهج الذي يدعو إليه.
ثم- وبعد ذلك نظر نظرة عامة عنوانها: "لمحات عامة" وهي التزام منه للأساس الذي دعا إليه وهو الدراسة العامة لكن هذه اللمحات العامة لم تأتِ من الزوايا التي دعا إلى النظر منها تمامًا بين ما يريده في هذه اللمحات فقال: "نريد لنتذكر ما يشف به الحس القرآني الكريم في ذكر القرض الحسنن إذ يسمى هذا الإعطاء والنضال في سبيل الخير العام قرضًا حسنًا وقرضا لله تعالى فلا يسميه منحا ولا تفضلا أو ما يشبه هذا"5.
1 سورة النور: الآية 33.
2 سورة الحديد: الآية 7.
3 سورة آل عمران: 92.
4 سورة البقرة: الآية 254.
5 من هدي القرآن، في أموالهم: ص205.
ثم عرض لبيان نظرة القرآن إلى هذا المال في أيدي الواجدين وصفته التي يعطونها به للفاقدين وأنهم إنما يعطونه حين يقرضونه إعطاء التارك المتجاوز غير المحدد لأجل للرد ولا الدائن بما يقرض.
ثم عرض الأستاذ الخولي لبيان غريزة حب التملك في الإنسان منذ الطفولة إلى الشيخوخة وآثارها الحسنة وآثارها السيئة، ثم بين هدي القرآن في حل تلك المشكلة الكبرى؟ وبين كيف عالجها القرآن وأن علاجه لم يكن دخولا في مشكلاته الاقتصادية أو مذهبيات اجتماعية يزيد بها الآراء رأيا والمذاهب مذهبا ويدعنا في حيرة لا نعرف الأصوب والأصلح؟ ووصف العلاج القرآني لهذه الفطرة نفساني دقيق يمسها مساسًا خبيرًا رشيدًا، فيجعل التدين والتأليه والمسئولية الآخرة عوامل فعالة في إحياء المضير وتقوية الإحساس بالكرامة وبالخير وتأسيس الشعور بالمسئولية على المراقبة الداخلية والرضا النفسي.
تلكم هي أبرز ملامح اللمحات العامة التي قدمها الأستاذ الخولي أمام دراسته تلك.
لكنه عاد في الحلقة التالية إلى "حب المال" وتحدث فيها عن نظرة القرآن إليه، وأن القرآن لم يعمد من ذلك إلى تجاهل أو كبت يصادم الواقع من قوة هذه الرغبة في البشر فهو يقول:{وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} 1.
ثم بيَّن أن أصحاب القرآن يدركون أن هذا الهدى الخالد قد عرف للبشرية حبها للتملك، فأرضها لونا من الإرضاء يوفر ثقتها بما يوجهها إليه في تعلية هذه الغريزة ولا تحس معه بشك فيما يلقى إليها؛ لأنها قد عرفته مقدرا للواقع خبيرا به لطيفا في تناوله، فلتصغ إلى ما سيلقي إليها من حديث عن هذه الرغبة2
…
إلخ.
1 سورة الفجر: الآيتين 19-20.
2 من هدي القرآن، في أموالهم: أمين الخولي ص214.
وتحت عنوان "بين القصد والجور"
أورد المؤلف قوله تعالى: {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِر} 1.
تحدث فيه أيضا عن هذه الفطرة "حب التملك" وعما تحتاجه من مراقبة وملاحظة؛ لأنها حين تجنح إلى ما لا خير فيه تكون وبالًا على الفرد والأمة ومضيعة لما هي وسيلة إليه وسبب من العزة والغلبة والكرة والدولة فهي إذن بحاجة ماسة إلى التوجيه السديد وهذه المراقبة ليست يسيرة المؤونة ولا سهلة الممارسة.
وقد التفت القرآن التفاتا قويًّا لهذه الغريزة وهو يحد من شرها عند هذا الجموح في مثل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} 2، كما يسوق للعبرة حال من أفسد أمره ماله وولده في قوله عن نوح عليه السلام:{رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} 3، وفي مثل قوله تعالى:{وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ، هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ، مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ، عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ، أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} 4، بمثل هذه الحالة من فساد الحال بجموح نزعة التملك والتمول ينفي القرآن أن يكون المال والولد وسيلة إلى القربى والزلفى عند الله، فيقول:{وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} 5.
وبهذا القصد والاعتدال ينهى القرآن عن الإعجاب والاغترار بالأموال والأولاد: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} 6،
1 سورة الرعد: الآية 26.
2 سورة المنافقون: الآية 9.
3 سورة نوح: الآية 21.
4 سورة القلم: الآيتين 10-13.
5 سورة سبأ: الآية 37.
6 سورة التوبة: الآية 55.
ففي هذه الآيات وما إليها لفت واضح إلى حال هذه النزعة البشرية للتملك والاقتناء إذا جنحت إلى الشر، ثم جعل الأستاذ أمين هذا الأساس ميزانا يزن به أقوال المفسرين.
ثم بين أن القرآن لفت إلى الرشاد والصواب في السلوك الذي يريده من أصحاب الأموال: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 1 الآية، {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} 2، ولن يكون الإنفاق بالليل والنهار، وفي السر وفي العلن إلا من مال كثير يجدُّ في سبيل جمعه أولئك المنفقون.
بهذه الآيات وأمثالها لفت القرآن أقوى لفت إلى خيرية غريزة التملك المهذبة الموفقة، فالقرآن بعد مسلكه النفسي في تقرير هذه الحقيقة عن الفطرة يشير إلى أنها في حاجة إلى رقابة مرشدة وتوجيه سديد.
ووضَّح في "تحويل نفسي" أن القرآن حين يقصد إلى تعلية غريزة التملك وتوجيهها لم يعمد قط إلى هذا القمع الكابت فلم يجعل المال لعنة، ولا الغنى خطيئة ولا طد الغني من ملكوت الله ولا وجه إلى الزهد المنقطع عن الحياة"؛ بل "فتح مسالك ومنافذ للتحويل النفسي ببعض ما سمعنا من توجبه لا يضمن ويبخل ولا يبدد ويسرف ولا يغتر ويستكبر ولا ينكر القيم ويجحد اليقين ولا يحسب المال هو الدنيا والآخرة جميعا ولا ينسى ما هو خير ثوابا وخير أملا3.
ثم تكلم الخولي عن "تعديل البيئة" فإذا كان أصحاب النفسيات يقدرون في تهذيب الغريزة تأثير التحويل النفسي، والتبديل النفسي، والاستعانة بغريزة على غريزة فإنهم يقدرون كذلك فعل المؤثرات الخارجية في هذا التهذيب،
1 سورة التوبة: الآية 88.
2 سورة البقرة: الآية 274.
3 من هدي القرآن، في أموالهم: أمين الخولي ص224، 226.
ويقررون أن الإنسان يتأثر بما حوله من نُظُم وأوضاع يخضع لها، وفي الحق أن القرآن قد قدر الأثر النفسي للبيئة حينما قدر الوحدة الاجتماعية والصلة الوثيقة بين الفرد والجماعة، وفي الحق أيضا أن القول عن عمل القرآن في "تعديل البيئة" التعديل الخاص بتهذيب غريزة التملك قول تتسع آفاقه وينبسط مداه حتى ليقضينا النظر في أصول النظام المالي.
والقرآن حين يهذب غريزة التملك في أصحاب القرآن يجمع بين الواقعية والمثالية.
فهو حين يحمي الملكية الفردية واقعي لا يفجأ الناس بتجريدهم من أموالهم تجريدًا يفتر همتهم وينثي عزائمهم، ويقعدهم فلا يبتكرون، ولا يجدون ولا يذودون عن حماهم.
ثم هو حين يهز أسس هذه الملكية الخاصة يكون مثاليا يكف من غلواء الأغنياء، ويزلزل صلتهم بأموالهم ويجعلها للناس جميعا هم عليها أمناء مستخلفون وهي مال الله لا مالُهم.
بهذا التعديل الدينيّ الأساس، السماويّ الصبغة، الإلهيّ الروح يوقِّيهم أخطار الجموح في التملك والوصول إليه بأي وسيلة وإهدار الخلق والفضيلة"1.
و"استمع إليه حين يحدث كثيرا عن أداء هؤلاء الواجدين لما عليهم من واجبات الزكاة فيستعمل في ذلك كله كلمة من "الإيتاء" لا يغيرها في بضع وعشرين مرة استعمل فيها مادة واحدة هي: {آتَى} لم يغيرها على كثرة ما قال عن الزكاة فتراها في صورة متعددة: {أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاة} 2، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} 3، {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} 4، {وَالْمُقِيمِينَ
1 المرجع السابق، ص227-231 باختصار.
2 سورة الحج: الآية 41.
3 سورة البقرة: الآية 43.
4 سورة الأنبياء: الآية 73.
الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} 1. وتقرأ هذا، فتسأل هل للكلمة حس فني خاص يجعل استعمالها موحيا بشعور نفسي يجده من ينصت لهذا القرآن المعجز؟
وإذا الجواب عن هذا السؤال: نعم إن المادة ترجع في أصل معناها جملة إلى الاستقامة في السير والسرعة في العطاء كما أن منها المجيء بسهولة ومن هنا تحس إيحاء التعبير القرآني حينما يخصها بالتعبير عن أداء الواجدين لزكاة أموالهم حين يؤدونها لأصحاب الحق فيها. ويؤدونها من مال الله الذي آتاهم وينفقون مما جعلهم مستخلفين فيه فما أقوى أن يشعر التالي المتأمل من قريب وفي قوة أن الحرص على استعمال هذه المادة في أداء الزكاة إنما هو التعبير عن إعطاء في سرعة واتجاه إلى الإعطاء يتم في سهولة"2.
وفي قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 3. قال الخولي: "نشعر في مادة الأخذ بأنها التناول الجاد الحازم القوي تحسه واضحا في مثل قوله: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُم} 4 {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ} 4 {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} 5، فنستشف هذا الجد المتناول6 وبهذا يخرج الصدقة عن مفهوم الامتنان والتفضل، بل إن الإحسان في عامة استعماله هو ضد الإساءة: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لَأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} 7، {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} 8، وبذلك ينفر الحس القرآني الدقيق دائما من أن يستعمل في ذكر المال المصلح لحياة الجماعة هذا الإحسان بمعنى الإعطاء المتفضل، والبذل المنعم والأداء المترفع
1 سورة النساء: الآية 162.
2 من هدي القرآن، في أموالهم: أمين الخولي، ص240-241.
3 سورة التوبة: الآية 103.
4 سورة النساء: الآية 102.
5 سورة الرحمن: الآية 41.
6 من هدى القرآن: في أموالهم، أمين الخولي، ص247،
7 سورة الإسراء: الآية 7.
8 سورة البقرة: الآية 83.
المستعلي الذي يحز في القلوب ويهيج النفوس ويفسد ما بين المؤمنين وإنما المؤمنون إخوة"1.
وبين الخولي عناية القرآن بـ "الوسط" أي "الاتزان" في المال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} 2، {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} 3. وهذا الاتزان هو الأساس الأول والفكرة العامة في حل مشكلة المال حلًّا يوقِّي الحياة وَيْلَاتِ الآراء الخاطئة4.
ذلكم عرض سريع وسريع لما جاء به الأستاذ أمين الخولي مما سماه التفسير الأدبي للقرآن الكريم وجعل موضوعه "في أموالهم" وعددناه المرحلة الرابعة من خطوات التفسير التي خطاها الأستاذ الخولي في سبيل تطبيق المنهج الذي دعا إليه.
وسبق القول مني أن الأستاذ الخولي قدم لموضوعه هذا بآيات في موضوع المال، وأنه لم يرتبها حسب النزول وهذه مخالفة للمنهج الذي يدعو إليه.
ثم قدم دراسة عامة لهذه الآيات لكنها كما قلنا دراسة غير شاملة وغير وافية بما أوجبه الأستاذ للدراسة الأدبية.
ثم نظر في هذه الآيات وغيرها نظرة شاملة. وقلَّ نظره في مفرداتها -وهو تجاوز آخر لعناصر منهجه ثم نظر في معانيها المركبة لا ينظر إليها آية آية بل نظر إليها جميعا مفردا كل نظرة بحديث.
ولست أوافق الدكتور كامل علي سعفان في التماسه العذر للأستاذ أمين الخولي في مخالفاته هذه وقصوره عن تطبيق منهجه في أحاديثه تلك بأنها طبيعة أحاديث الإذاعة5 باعتبار أن الأستاذ الخولي كان يبثها عبر الإذاعة عند كتابتها.
1 من هدي القرآن، في أموالهم: أمين الخولي ص252.
2 سورة الفرقان: الآية 67.
3 سورة الإسراء: الآية 29.
4 من هدى القرآن، في أموالهم: أمين الخولي ص257-259 باختصار.
5 المنهج البياني في تفسير القرآني الكريم: كامل سعفان، ص176.