المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الأساس الثالث: الحركية - اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر - جـ ٣

[فهد الرومي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثالث

- ‌الباب الرابع: الإتجاه الأدبي في التفسير

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأول: المنهج البياني في التفسير

- ‌مدخل

- ‌تطور التفسير البياني:

- ‌قصة تأصيل هذا المنهج:

- ‌مراحله ومعالمه:

- ‌تقسيم الأستاذ أمين الخولي:

- ‌دراسة القرآن نفسه:

- ‌التفسير النفسي:

- ‌الدراسات التطبيقية

- ‌أمين الخولي

- ‌عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ

- ‌الدكتور محمد أحمد خلف الله

- ‌رأيي في هذا المنهج:

- ‌الفصل الثاني: منهج التذوق الأدبي في التفسير

- ‌المراد به:

- ‌في ظلال القرآن:

- ‌منهجه في التفسير

- ‌مدخل

- ‌الأساس الأول: الأسلوب الأدبي

- ‌الأساس الثاني: تذوق النص القرآني

- ‌الأساس الثالث: الحركية

- ‌الأساس الرابع: التفسير الجمالي الفني

- ‌الأساس الخامس: استيحاء النص دون مقررات سابقة

- ‌الأساس السادس: الوحدة الموضوعية

- ‌الأساس السابع: ترك الأطناب عما أبهم في القرآن الكريم

- ‌الأساس الثامن: التحذير من الإسرائيليات

- ‌الأساس التاسع: ترك الاختلافات الفقهية

- ‌الأساس العاشر: اجتناب الإغراق في المسائل اللغوية

- ‌الأساس الحادي عشر: رفض التفسير العلمي

- ‌ملاحظات على هذا التفسير:

- ‌الباب الخامس: الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن الكريم

- ‌تمهيد:

- ‌الفصل الأول: المنهج الإلحادي في تفسير القرآن الكريم

- ‌مدخل

- ‌الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن:

- ‌الفصل الثاني: منهج القاصرين في تفسير القرآن الكريم

- ‌تمهيد:

- ‌نماذج من هذا اللون في التفسير:

- ‌القرآن محاولة لفهم عصري:

- ‌أولا: المؤلف

- ‌ثانيا: الكتاب "القرآن محاولة لفهم عصري

- ‌الفصل الثالث: اللون اللامنهجي في التفسير

- ‌تمهيد:

- ‌رسالة الفتح:

- ‌الخاتمة:

- ‌الفهارس

- ‌دليل الآيات القرآنية

- ‌دليل الأحاديث النبوية:

- ‌دليل الأعلام:

- ‌دليل المصادر والمراجع

- ‌دليل المحتويات:

الفصل: ‌الأساس الثالث: الحركية

كان يتضح لسيد بعد ذلك كثير من المعاني وكثير من الأحداث التي استعصى عليه فهمها من قبل، وبهذا تميز تفسيره رحمه الله تعالى عن كثير من التفاسير المعاصرة والقديمة التي كانت تعني بالنص، بالنص وحده، من غير أن تعيش في جوه، ومن غير أن تتفاعل معه فيتولد العطاء.

حقا إن هذا الأساس ميزة من مزايا تفسيره لا يعرف أثره ولا يدرك ما يفتح من المعاني إلا من قرأ في ظلال القرآن فليقرأه من لم يفعل.

ص: 1011

‌الأساس الثالث: الحركية

الأساس الثالث: الواقعية الحركية

يتميز "في ظلال القرآن" أن صاحبه لم يكتبه مرة واحدة، بل كتبه مرة تحت ظلال المنبر ومرة تحت ظلال السيوف كتبه مرة بمداد قلمه وأخرى بدماء قلبه!!

قلت فيما سبق أن سيدا رحمه الله تعالى أصدر من الظلال ستة عشر جزءا ومن السجن أصدر باقية من أول أجزائه إلى الجزء السابع والعشرين منها، ثم وفقه الله إلى إدراك سمة من سمات هذا الدين وخصيصة من خصائصه واكتشف المنهج الحركي للقرآن الكريم، فالتزمه في الجزاء الأربعة الأخيرة ورأى أنه لا بد من إعادة النظر فيما كتب، وأن ينطلق في ذلك من إدراكه الجديد وقد كان له ذلك من الجزء الأول إلى نهاية الجزء الثالث عشر وأوائل الرابع عشر، ثم عاجله الطغاة.

وما ظنكم أيها الأحبة في قاعدة دعته إلى أن يعيد كتابة تفسيره من أوله وأن يكتبه من جديد. إنها وربي لقاعدة هامة ولأساس متين، بل وكيف نسمح لأنفسنا باستكشاف منزلتها وسيد نفسه قد بين ذلك، حيث يقول:

"ونحن نؤكد على هذه السمة في هذا القرآن سمة الواقعية الحركية؛ لأنها في نظرنا مفتاح التعامل مع هذا الكتاب وفهمه وفقهه وإدراك مراميه وأهدافه.

إنه لا بد من استصحاب الأحوال والملابسات والظروف والحاجات والمقتضيات الواقعية العملية التي صاحبت نزول النص القرآني.

ص: 1011

لا بد من هذا لإدراك وجهة النص وأبعاد مدلولاته، ولرؤية حيويته وهو يعمل في وسط حي، ويواجه حالة واقعة، كما يواجه أحياء يتحركون معه أو ضده وهذه الرؤية ضرورية لفقه أحكامه وتذوقها، كما هي ضرورية للانتفاع بتوجيهاته كلما تكررت تلك الظروف والملابسات في فترة تاريخية تالية، وعلى الأخص فيما يواجهنا اليوم، ونحن نستأنف الدعوة الإسلامية.

نقول هذه المقالة ونحن على يقين أنه لن يرى هذه الرؤية اليوم إلا الذين يتحركون فعلا بهذا الدين في مواجهة الجاهلية الحاضرة، ومن ثم يواجهون أحوالا وملابسات وظروفا وأحداثا كالتي كان يواجهها صاحب الدعوة الأولى صلوات الله وسلامه عليه، والعصبة المسلمة معه من الإعراض والتولي عن هذا الدين في حقيقته الكبيرة الشاملة، التي لا تتحقق إلا بالدينونة الكاملة لله وحده في كل شأن من شئون الحياة الاعتقادية والأخلاقية والتعبدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وما يلقونه كذلك من الإيذاء والمطاردة والتعذيب والتقتيل كالذي كانت تلك العصبة المختارة الأولى تُبتلى في سبيل الله به.

إن هؤلاء الذين يتحركون بهذا الدين في مواجهة الجاهلية ويواجهون به مما كانت تواجهه الجماعة المسلمة الأولى هم وحدهم الذين يرون تلك الرؤية وهم وحدهم الذين يفقهون هذا القرآن، ويدركون الأبعاد الحقيقية لمدلولات نصوصه على النحو الذي أسلفنا، وهم وحدهم الذين يملكون استنباط فقه الحركة الذي لا يغني عنه فقه الأوراق في مواجهة الحياة المتحركة التي لا تكف عن الحركة"1.

وكثيرا ما يؤكد رحمه الله تعالى على هذا المنهج في التعامل مع النص القرآني يقول: "ومرة أخرى نجد أن هذا القرآن لا يكشف عن أسراره إلا للذين يخوضون به المعركة ويجاهدون به جهادا كبيرا، إن هؤلاء وحدهم هم الذين يعيشون في مثل الجو الذي تنزل فيه القرآن، ومن ثم يتذوقونه ويدركونه؛ لأنهم

1 في ظلال القرآن: ج4 ص2122.

ص: 1012

يجدون أنفسهم مخاطبين خطابا مباشرا به ما خوطبت به الجماعة المسلمة الأولى، فتذوقته وأدركته وتحركت به"1.

ويؤكد رحمه الله تعالى أن القرآن كان دائما في المعركة؛ سواء أكان ميدانها القلوب بين تصورات الجاهلية وتصورات الإسلام أو كان الجو الخارجي بين الجماعة المسلمة وأعدائها، ويؤكد أن تلك المعركة ما تزال قائمة؛ فالنفس البشرية هي النفس البشرية وأعداء الأمة المسلمة هم أعداؤها والقرآن حاضر وبيَّن أنه لا نجاة للنفس البشرية ولا للأمة المسلمة إلا بإدخال هذا القرآن في المعركة؛ ليخوضها حية كاملة كما خاضها أول مرة وأنه لا فلاح ولا نجاح ما لم يستيقن المسلمون بهذه الحقيقة2.

ويصف القرآن بأنه كائن حي متحرك يعمل ويتحرك في وسط الجماعة المسلمة ويواجه حالات واقعة، فيدفع هذه ويقر هذه ويدفع الجماعة المسلمة ويوجهها فهو في عمل دائب وفي حركة دائرة إنه في ميدان المعركة وفي ميدان الحياة وهو العنصر الدافع المحرك الموجه في الميدان3.

وكما أن تذوق النص القرآني وتعاطف القلب معه له أثره في فهمه فإن الظروف والأحداث الواقعة تطلق الطاقة المكنونة في النص وهذا سيد رحمه الله تعالى يقرر هذا بقوله: "إن القرآن ليس كتابا للتلاوة ولا للثقافة.

وكفى إنما هو رصيد من الحيوية الدافعةن وإيحاء متجدد في المواقف والحوادث! ونصوصه مهيأة للعمل في كل لحظة، متى وجد القلب الذي يتعاطف معه ويتجاوب، ووجد الظرف الذي يطلق الطاقة المكنونة في تلك النصوص ذات السر العجيب"4.

وما قاله رحمه الله تعالى في التذوق وأثره وأنه يقرأ النص عدة مرات

1 في ظلال القرآن: ج4 ص1894.

2 في ظلال القرآن: ج1 ص180.

3 في ظلال القرآن: ج1 ص304-305.

4 في ظلال القرآن: ج5 ص2836.

ص: 1013

فلا يعرف منه ما يعرف إلا إذا تفاعل مع النص وتذوقه فإنه يقول هنا أيضا: "وإن الإنسان ليقرأ النص القرآني مئات المرات ثم يقف الموقف، أو يواجه الحادث، فإذا النص القرآني جديد، يوحي إليه بما لم يوح من قبل قط ويجيب على السؤال الحائر، ويفتي في المشكلة المعقدة، ويكشف الطريق الخافي، ويرسم الاتجاه القاصد، ويفيء بالقلب إلى اليقين الجازم في الأمر الذي يواجهه وإلى الاطمئنان العميق وليس ذلك لغير القرآن في قديم ولا حديث"1.

وإذا كانت الواقعية الحركية سمة من سمات هذا القرآن لها الأثر الكبير في تفسيره وجلاء معانيه فإنها سمة من سمات الدين كله، وهذا سيد قطب -رحمه الله تعالى- يجلو لنا ذلك بقوله: "والسمة الثانية في منهج هذا الدين هي الواقعية الحركية فهو حركة ذات مراحل. كل مرحلة لها وسائل مكافئة لمقتضياتها وحاجاتا الواقعية وكل مرحلة تسلم إلى المرحلة التي تليها.

فهو لا يقابل الواقع بنظريات مجردة. كما أنه لا يقابل مراحل هذا الواقع بوسائل متجمدة والذين يسوقون النصوص القرآنية للاستشهاد بها على منهج هذا الدين في الجهاد ولا يراعون هذه السمة فيه، ولا يدر كون طبيعة المراحل التي مر بها هذا المنهج، وعلاقة النصوص المختلفة بكل مرحلة منها، الذين يصنعون هذا يخلطون خلطا شديدا ويلبسون منهج هذا الدين لبسا مضللا ويحملون النصوص ما لا تحتمله من المبادئ والقواعد النهائية؛ ذلك أنهم يعتبرون كل نص منها كما لو كان نصا نهائيا يمثل القواعد النهائية في هذا الدين ويقولون -وهم مهزومون روحيا وعقليا تحت ضغط الواقع اليائع لذراري المسلمين الذين لم يبق لهم من الإسلام إلا العنوان: إن الإسلام لا يجاهد إلا للدفاع! ويحسبون أنهم يُسْدون إلى هذا الدين جميلا بتخليه عن منهجه وهو إزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعا، وتعبيد الناس لله وحده وإخراجهم من العبودية للعباد إلى العبودية لرب العباد! لا بقهرهم على اعتناق عقيدته ولكن بالتخلية بينهم وبين هذه العقيدة بعد تحطيم الأنظمة السياسية الحاكمة، أو قهرها حتى تدفع

1 المرجع السابق.

ص: 1014

الجزية وتعلن استسلامها والتخلية بين جماهيرها وهذه العقيدة تعتنقها أو لا تعنقها بكامل حريتها"1.

ويبقى سؤال أو سؤالان عن الواقعية واقعية من؟ والحركية في مواجهة من؟ ويجيب سيد رحمه الله تعالى على هذا بقوله: "وإذا كان "البيان" يواجه العقائد والتصورات، فإن "الحركة" تواجه العقبات المادية الأخرى -وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية، والعنصرية والطبقية والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة.

وهما معا -البيان والحركة- يواجهان "الواقع البشري" بجملتهن بوسائل مكافئة لكل مكوناته وهما معا لا بد منهما لانطلاق حركة التحرير للإنسان في الأرض "الإنسان" كله في "الأرض" كلها، وهذه نقطة هامة لا بد من تقريرها مرة أخرى2.

ثم وجه سيد رحمه الله تعالى دعوة أشعر من حيث لا أدري بأنه يعتصرها من سويداء قلبه دعانا فيها نحن معشر المسلمين المعاصرين إلى إزالة الفجوة العميقة بيننا وبين القرآن وإلى إزالة الحاجب السميك بيننا وبين القرآن، وسيظل هذا وذاك طالما نحن نتلوه أو نسمعه كأنه مجرد تراتيل تعبدية مهومة لا علاقة لها بواقعيات الحياة البشرية اليومية التي تواجه الإنسان، والتي تواجه هذه الأمة بينما هذه الآيات نزلت لتواجه نفوسا ووقائع وأحداثا حية، ذات كينونة واقعية حية ووجهت بالفعل تلك النفوس والوقائع والأحداث توجيها واقعيًّا حيًّا، نشأ عنه وجود ذو خصائص في حياة الإنسان، بصفة عامة وفي حياة الأمة المسلمة بوجه خاص.

ومن هنا فإن سيدا رحمه الله دعا هذه الأمة أن تتعامل مع القرآن كما تعاملت معه الأمة التي خاض بها معركة كبرى حولت تاريخها وتاريخ البشرية

1 في ظلال القرآن: ج3 ص1432-1433.

2 في ظلال القرآن: ج3 ص1434.

ص: 1015

كلها معها، وإن القرآن يملك أن يوجه الحياة الحاضرة وكأنما هو يتنزل اللحظة لمواجهتها في شئونها الجارية وفي صراعها الراهن مع الجاهلية من حولها بنفس الحيوية ونفس الواقعية التي كانت له هناك يومذاك1.

وأنظر إلى الجباه فأكاد أقرأ في قسماتها سؤالا وأنظر إلى الشفاه، فأكاد أسمعه عن الواقعية والحركية هذه.. أقرأ هناك وأسمع هنا نقدا مختفيا في سؤال.. قرأنا ما كتبت عنهما في الصفحات السابقة لكنا نراك مرة تنقل نصًّا لسيد رحمه الله تعالى يجعل الواقعية والحركية سمة من سمات الدين ونراك أنت تجعلها سمة من سمات تفسيره فهل هذا تناقض منك؟ أو هل بينهما من صلة؟

وأقول جوابا: نعم إن بينهما صلة؛ صلة الفرع بالأصل فالواقعية والحركية في الدين ولَّدتا عند سيد قطب رحمه الله تعالى التزامهما في تفسيره، فجاء تفسيره التزاما لمنهج الدين فيهما.

وإن شئت بعد هذا أن تلمسهما في تفسيره فاعلم أنهما أكثر ما يكونان فيه بل إن الواقعية عنده قد تولد عنهما قواعد أخرى برزت وعظمت حتى انفصلت.

ومن أغراض القرآن الأساسية ومنهجه الحركي انطلق سيد قطب -رحمه الله تعالى- لبناء منهجه الحركي التربوي وصارت الحركية والعمل والتفاعل مع النص المحوَّر الذي يدور عليه تفسيره، فلا ثمرة لترديد ألفاظ القرآن أو ترتيله تراتيل مهومة ما لم يتحول ذلك إلى قوة دافعة وإلى طاقة محركة تقود الإنسان وينقاد لها.

ونظرة عجلى لتفسير سيد قطب رحمه الله تعالى تظهر بلا شك أن وقفات سيد ونظراته وأفكاره ومناقشاته وعرضه وبيانه كلها تتحقق فيها الواقعية الجدية.

1 في ظلال القرآن: ج1 ص348 بتصرف.

ص: 1016

وتبرز معالم هذه الحقيقة في صور شتى ومواضع عديدة فلم يتناول إلا الأمور الجادة النافعة، ورتب عليها آثارا عملية نتاجها الفوائد الجمة، أما تلك الأمور التي لا يترتب عليها حكم أو فائدة فإنه يعرض عن الخوض فيها.

ولهذه القاعدة في التفسير عند سيد رحمه الله تعالى جاء تفسيره تحسبه -وقد استمده من القرآن- علاجا مفصلا دقيقا لقضايا العصر وكأنه إنما أنزل لهذا العصر ولعلاج أمراضه المختلفة.

ولعل مصدر الواقعية الجدية قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ} 1 وقد اهتم سيد رحمه الله تعالى بهذه الواقعية الجدية في هذه الآية فأورد ست روايات في سبب نزولها، وأحاديث ثلاثة في النهي عن كثرة الأسئلة وأربعة أقوال عن السلف في النهي عن ذلك ومنهج السلف الواقعي الجدي في السؤال والاستفتاء والفتوى الذي لا يجيب إلا على ما وقع من الأمور وترك ما لم يقع2 ولذلك وصفه رحمه الله تعالى "بأنه منهج واقعي جادٌّ. يواجه وقائع الحياة بالأحكام المشتقة لها من أصول شريعة الله مواجهة عملية واقعية"3.

وخذ مثلا لتطبيقات سيد رحمه الله تعالى لهذا الأساس ففي تفسير قوله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} 4 لم يتناول رحمه الله تعالى إلا الآثار الدعوية والعملية لهذا النص وإيحاءاته الاعتقادية والدلالات الحركية له، وأعرض عن الخوض في تفصيل كيفية اشتراك الملائكة في المعركة وعن حصر قتلاها من المشركين، ولا كيف قتلتهم الملائكة، وهو ما خاض به بعض المفسرين ولم يخرجوا بنتيجة واقعية جادة ويصف

1 سورة المائدة: الآية 101.

2 في ظلال القرآن: ج2 ص986-988.

3 في ظلال القرآن: ج2 ص987.

4 سورة الأنفال: الآية 12.

ص: 1017

سيد رحمه الله تعالى البحث في كيفية الأفعال كلها بأنه ليس من الجد الذي هو طابع هذه العقيدة وطابع الحركة الواقعية بهذه العقيدة، ولكن هذه المباحث صارت من مباحث الفرق الإسلامية ومباحث علم الكلام في العصور المتأخرة، عندما فرغ الناس من الاهتمامات الإيجابية في هذا الدين، وتسلط الترف العقلي على الناس والعقول، وإن وقفة أمام الدلالة الهائلة لمعية الله سبحانه للملائكة في المعركة، واشتراك الملائكة فيها مع العصبة المسلمة لهي أنفع وأجدى"1.

وفي تفسير قوله تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} 2 بين رحمه الله تعالى المراد بالتبصرة بأنها تبصرة تكشف الحجب وتنير البصيرة وتفتح القلوب، وتصل الأرواح بهذا الكون العجيب، وما وراءه من إبداع وحكمة وترتيب تبصرة ينتفع بها كل عبد منيب، يرجع إلى ربه من قريب" ولم يقف رحمه الله تعالى عند هذا البيان بل بين قيمة هذه التبصرة ومكانتها وكيف أهملتها مناهج البحث التي تسمى "علمية" حيث يقول:"وهذه هي الوصلة بين القلب البشري وإيقاعات هذا الكون الهائل الجميل هذه هي الوصلة التي تجعل للنظر في كتاب الكون والتعرف إليه أثرا في القلب البشري، وقيمة في الحياة البشرية هذه هي الوصلة التي يقيمها القرآن بين المعرفة والعلم وبين الإنسان الذي يعرف ويعلم. وهي التي تهملها مناهج البحث التي يسمونها "علمية" في هذا الزمان فتقطع ما وصل الله من وشيجة بين الناس والكون الذي يعيشون فيه وكل معرفة أو علم أو بحث يقف دون هذه الغاية الحية الموجهة المؤثرة في حياة البشر هي معرفة ناقصة، أو علم زائف، أو بحث عقيم"3.

ولهذا المنهج أثره في ترك سيد رحمه الله تعالى تفسير بعض الأحكام التي لا وجود لها في واقع عصرنا الحاضر بغض النظر عن وجودها قبله أو حدوثها بعده فهو ينطلق من الواقع الجاد، فلم يدخل في التفصيلات الفقهية الخاصة بالغنائم والأنفال وأخذ الجزية من الذميين من أهل الكتاب.

1 في ظلال القرآن: ج3 ص1486.

2 سورة ق: الآية 8.

3 في ظلال القرآن: ج6 ص3359-3360.

ص: 1018

وانطلاقا من هذا الأساس أيضا تَرَكَ الأطناب في كثير مما لا طائل تحته وليس له ثمرة، ولم يجهد نفسه في الكشف عما أبهمه القرآن. ولم يتوسع في التفسير العلمي بحيث يتجاوز واقع النص ومدلوله، وأعرض عن الخوض في الإسرائيليات، ولم يتناول الاختلافات الفقهية الدقيقة، ولم يتعمق في المفردات واشتقاقاتها وأصولها، ولم يعتنِ بإثارة المسائل اللغوية وكان وقافا عند حدود علم الغيب فلم يسمح لنفسه أن يخوض فيه وتلقى نصوصه بالقبول دون تأويل أو تحريف، كل هذا نراه أثرا من التزامه للواقعية الجدية مما لا أثر كبير له في بناء المجتمع المسلم فكان أن أعرض عنها وتناول ما له أثر جاد في واقع المسلمين.

وقد برزت هذه الأمور التي أشرت إليها في تفسيره حتى أصبحت أسسا من أسس منهجه في التفسير وهي أثر من آثار هذا الأساس، ولذا سنعرض لكل منها إن شاء الله بحديث موجز استكمالا للإشارة إليها هنا.

أما من ناحية الحركية وتطبيقاتها في تفسيره للقرآن الكريم فكثيرة منبثة في أغلب صفحاته وسطوره لا يترك الدعوة إليها ما وجد إلى ذلك سبيلا ولذلك أصبحت هذه سمة من سمات الظلال وأساس من أسس منهجه في التفسير.

لم يكد يمر بآية إلا وجعلها منطلقا للدعوة إلى الله سبحانه وإلى التحرك بالقرآن في موجهة الأعداء وإلى بيان طبيعة المنهج الحركي للدعوة الإسلامية المتجددة في كل زمان ومكان فهو يرسم بوحي من القرآن منهج الدعوة ومعالم الطريق وصفات القيادة يرسم الخطط ويوضح السبيل.

ويبدي اهتماما شديدا بذلك فلا يكاد يمر بآية أمرا كانت أو نهيا، خبرا أو قصة أو غير ذلك إلا وجعلها نبراسا في طريق الداعية ومَعلما من معالم الطريق.

وقف وقفاته تلك أمام قصة بني إسرائيل مع موسى عليه السلام وأول ما استوقفه فيها ورودها مفصلة أوسع تفصيل ومكررة في مواضع عديدة.

فذهب رحمه الله تعالى يستخرج بعض هذه المعالم ويرسم الخطط.

ص: 1019

إن بني إسرائيل هم أول من واجه الدعوة الإسلامية بالعداء والكيد والحرب في المدينة وفي الجزيرة العربية كلها فلم يكن بد من كشفهم للجماعة المسلمة؛ لتعرف من هم أعداؤها؛ ما طبيعتهم؟ وما تاريخهم؟ وما وسائلهم؟ وما حقيقة المعركة التي تخوض معهم؟

وقد علم الله أنهم سيكونون أعداء هذه الأمة في تاريخها كله كما كانوا أعداء هدى الله في ماضيهم كله، فعرض لهذه الأمة أمرهم كله مكشوفا ووسائلهم كلها مكشوفة.

وأنهم أصحاب آخر دين قبل دين الله الأخير، ووقع منهم الانحراف في العقيدة والنقض المتكرر لميثاق الله معهم، ووقع في حياتهم آثار هذا النقض وهذا الانحراف كما وقع في أخلاقهم وتقاليدهم فاقتضى هذا أن تلم الأمة المسلمة -وهي وارثة الرسالات كلها وحاضنة العقيدة الربانية بجملتها- بتاريخ القوم وتقلبات هذا التاريخ وتعرف مزالق الطريق وعواقبها ممثلة في حياة بني إسرائيل وأخلاقهم؛ لتضم هذه التجربة في حقل العقيدة والحياة إلى حصيلة تجاربها وتنتفع بهذا الرصيد وتنفع على مدار القرون.

وإن الأمة المسلمة التي سيمتد تاريخها حتى تقوم الساعة ستصادفها فترات تمثل فيها فترات من حياة بني إسرائيل، فجعل أمام أئمة هذه الأمة وقادتها ومجددي الدعوة في أجيالها الكثيرة نماذج من العقابيل التي تلم بالأمم يعرفون منها كيف يعالجون الداء بعد معرفة طبيعته.

وهناك جوانب شتى لحكمة الله تعالى في تفصيل قصة بني إسرائيل لا يملك معها -كما يقول- المضي أكثر من هذه الإشارات السريعة.

ثم بين رحمه الله تعالى بعض الجوانب التي قد يلاقيها الداعية وضرب أمثلة منها مما لاقاه موسى عليه السلام مع قومه.. جربهم وقد أخرجهم من أرض مصر وحررهم من الذل والهوان، باسم الله وبسلطان الله الذي فرق لهم البحر، وأغرق لهم فرعون وجنده. فإذا هم يمرون على قوم

ص: 1020

يعكفون على أصنام لهم، فيقولون:{يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} 1 وما يكاد يغيب عنهم في ميقاته مع ربه حتى يتخذ السامري من الحلي عجلا ذهبا له خوار، وجربهم وقد فجر لهم من الصخر ينابيع في جوف الصحراء وأنزل عليهم المن والسلوى طعاما سائغا فإذا هم يشتهون ما اعتادوا من أطعمة مصر -أرض الذل بالنسبة لهم- فيطلبون بقلها وقثاءها وفومها وعدسها وبصلها ولا يصبرون عما ألفوا من طعام وحياة في سبيل العزة والخلاص والهدف الأسمى الذي يسوقهم موسى إليه وهم يتسكعون! وجربهم في قصة البقرة التي أُمرو بذبحها فتلكأوا وتسكعوا في الطاعة والتنفيذ:{فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} 2، وجربهم وقد عاد من ميقات ربه ومعه الألواح وفيها ميثاق الله عليهم وعهده، فأبوا أن يعطوا الميثاق وأن يمضوا العهد مع ربهم.

حتى وجدوا الجبل منتوقا فوق رءوسهم {وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِم} 3.

واستمر سيد قطب رحمه الله تعالى في هذا العرض إلى أن وصل إلى قوله تعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 4 قال رحمه الله تعالى: "هنا تبرز قيمة الإيمان بالله والخوف منه، فهذا رجلان من الذين يخافون الله، ينشئ لهما الخوف من الله استهانة بالجبارين! ويرزقهما شجاعة في وجه الخطر الموهوم! وهذا هما يشهدان بقولتهما هذه بقيمة الإيمان في ساعة الشدة، وقيمة الخوف من الله في مواطن الخوف من الناس، فالله سبحانه لا يجمع في قلب واحد بين مخافتين مخافته جل جلاله ومخافة الناس، والذي يخاف الله لا يخاف أحدا بعده، ولا يخاف شيئا سواه {دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} قاعدة في علم القلوب وفي علم الحروب. أقدموا واقتحموا فمتى دخلتم على القوم في عقر دارهم انكسرت قلوبهم بقدر ما تقوى قلوبكم،

1 سورة الأعراف: 138.

2 سورة البقرة: 71.

3 سورة الأعراف: 171.

4 سورة المائدة: 23.

ص: 1021