المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌رأيي في هذا المنهج: - اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر - جـ ٣

[فهد الرومي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثالث

- ‌الباب الرابع: الإتجاه الأدبي في التفسير

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأول: المنهج البياني في التفسير

- ‌مدخل

- ‌تطور التفسير البياني:

- ‌قصة تأصيل هذا المنهج:

- ‌مراحله ومعالمه:

- ‌تقسيم الأستاذ أمين الخولي:

- ‌دراسة القرآن نفسه:

- ‌التفسير النفسي:

- ‌الدراسات التطبيقية

- ‌أمين الخولي

- ‌عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ

- ‌الدكتور محمد أحمد خلف الله

- ‌رأيي في هذا المنهج:

- ‌الفصل الثاني: منهج التذوق الأدبي في التفسير

- ‌المراد به:

- ‌في ظلال القرآن:

- ‌منهجه في التفسير

- ‌مدخل

- ‌الأساس الأول: الأسلوب الأدبي

- ‌الأساس الثاني: تذوق النص القرآني

- ‌الأساس الثالث: الحركية

- ‌الأساس الرابع: التفسير الجمالي الفني

- ‌الأساس الخامس: استيحاء النص دون مقررات سابقة

- ‌الأساس السادس: الوحدة الموضوعية

- ‌الأساس السابع: ترك الأطناب عما أبهم في القرآن الكريم

- ‌الأساس الثامن: التحذير من الإسرائيليات

- ‌الأساس التاسع: ترك الاختلافات الفقهية

- ‌الأساس العاشر: اجتناب الإغراق في المسائل اللغوية

- ‌الأساس الحادي عشر: رفض التفسير العلمي

- ‌ملاحظات على هذا التفسير:

- ‌الباب الخامس: الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن الكريم

- ‌تمهيد:

- ‌الفصل الأول: المنهج الإلحادي في تفسير القرآن الكريم

- ‌مدخل

- ‌الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن:

- ‌الفصل الثاني: منهج القاصرين في تفسير القرآن الكريم

- ‌تمهيد:

- ‌نماذج من هذا اللون في التفسير:

- ‌القرآن محاولة لفهم عصري:

- ‌أولا: المؤلف

- ‌ثانيا: الكتاب "القرآن محاولة لفهم عصري

- ‌الفصل الثالث: اللون اللامنهجي في التفسير

- ‌تمهيد:

- ‌رسالة الفتح:

- ‌الخاتمة:

- ‌الفهارس

- ‌دليل الآيات القرآنية

- ‌دليل الأحاديث النبوية:

- ‌دليل الأعلام:

- ‌دليل المصادر والمراجع

- ‌دليل المحتويات:

الفصل: ‌رأيي في هذا المنهج:

‌رأيي في هذا المنهج:

كأي منهج في التفسير لا شك أن لهذا اللون من التفسير محاسنه وله عيوبه. ولئن ذكرنا في بعض أسسه وقواعده ما قد نحسبه خللا، فإنه بحسابنا يغني عن إعادته كرة أخرى في هذا الموضع.

ومع هذا فإني مورد هنا ما لم أورده هناك وسأرتبها هنا حسب ترتيبها المنهجي فمن ذلك مثلا:

أولا- التفسير الموضوعي:

ولنا في دعوة الأستاذ أمين إلى التفسير الموضوعي أكثر من وقفة؛ أولها: أن التفسير الأدبي وهو يدعو إلى سلوك سبيل التفسير الموضوعي لا يقدم خطة مثالية لسلوكه وإنما يكتفي بإبراز محاسن التفسير الموضوعي دون أن يخطو إلى رسم خطوات السير فيه.

وإذا نظرنا إلى الدراسات الأدبية التطبيقية لهذا المنهج وجدناها تسلك التفسير الموضوعي حقيقة أو اعتقادا، ووجدناها أيضا لا تلتزم موضوعا واحدا بعينه، فيكتب أحدهم مثلا عن قصص القرآن وآخر عن جدله وآخر عن أمثاله أو اقسامه وآخر عن الأموال وعن القادة الرسل أو عن السلام في الإسلام أو عن الدولة ونظام الحكم في الإسلام وغير ذلك من الموضوعات.

ولا شك أن هذا التفاوت والتباين والتعدد في الموضوعات يخدم المفسر الفرد في اختيار ما يلائم رغبته، فيختار من هذا البحر من الموضوعات ما يناسب رغبته، لكن وهنا المحك؛ كيف ستختار أو تكتب هيئة أو منظمة أو لجنة تسعى لتفسير القرآن الكريم كله -أكرر كله- تفسيرا موضوعيا. الملاءمة الشخصية والمناسبة للرغبة الفردية مفقودة فيها وهي مجموعة أفرادا؟! ولا يبقى من سبيل

ص: 972

إلا سبيل واحد هو حصر الموضوعات التي تناولها القرآن الكريم وجاء بالحلول الصحيحة لها هنا يتسع الباب ولا أظن أن في درة إنسان أو لجنة أو هيئة أن تحصر كل هذه الموضوعات والقضايا التي عالجها القرآن الكريم لأن من الآيات وهي محدودة معدودة ما يعالج قضايا وموضعات شتى فتبقى كالدواء الواحد الذي يعالج به ألف مرض ومرض أو تبقى كالميزان الذي يوزن به ألف موزون وموزون فهل يستطيع هؤلاء أن يحصروا تلك الموضوعات التي عالجتها تلك الآيات المحدودة وإذا ما تجاوزوا هل سيفعلون في آيات أخرى ثم أخرى ثم أخرى.

لست أقول هذا؛ تعجيزا ولا تثبيطا عن سلوك التفسير الموضوعي، لكني أردت أن أبين أن لا ننتظر تفسيرًا موضوعيًّا كاملا للقرآن الكريم؛ لأنه -في اعتقادي- ليس في قدرة أحد حصر كل الموضوعات التي عالجها القرآن في هذه الحياة.

وأردت أيضا أن أبين أن دعاة المنهج الأدبي في التفسير لم يرسموا خطوطا عريضة ولا دقيقة لحصر هذه الموضوعات ولو من ناحية أبوابها العامة الواسعة الشاملة وهذا ولا شك يعد قصورا في تأسيس المنهج أحببت الإشارة إليه؛ لتلافيه ما أمكن.

هذا من ناحية المنهجية في التفسير الموضوعي وموقف دعاة التفسير الأدبي منها وإذا ما نظرنا نظرة أخرى هي أعمق من الأولى، وتساءلنا عن الدافع لدعاة التفسير الأدبي إلى التزام التفسير الموضوعي وجدنا أنهم يفعلون ذلك لأمور عددت منها ثلاثة:

أولها: اعتقادهم أن طريقة السلف في تفسيره مرتبا لا تمكن من الفهم الدقيق والإدراك الصحيح لمعانيه وأغراضه. وسبق لي إيراد هذا الاعتقاد عندهم ورددت عليه هناك بإيجاز.

ثانيها: أن دعاة التفسير الأدبي أرادوا أن يتلافوا بالتفسير الموضوعي التلون المذهبي في التفسير أو الانجراف به من تفسير إلى مباحث في الفقه أو الإسرائيليات أو النحو أو العلوم التجريبية أو غير ذلك مما انتشر في التفاسير القديمة.

ص: 973

وثالثها: أراد دعاة المنهج الأدبي من الدعوة إلى التفسير الموضوعي والتحذير من التناول المتفرق للموضوع الواحد مما يشتت الذهن فيه ولا يؤدي إلى الفهم الكامل لعلاج القرآن الكريم واستحضاره كاملا.

هذه في اعتقادي أهم ثلاثة أمور أرادوا بدعوتهم للتفسير الموضوعي أن لا يقع فيها المفسر فهل أصابوا الحق في ذلك؟!

أما أولها: فسبق بيان الرد عليهم فيما وصفوا فيه تفاسير السلف فقد بينت هناك أن السلف وإن لم يتناولوا التفسير الموضوعي تطبيقا فإنهم قد استفادوا منه نظريا، فلا يفسر أحدهم آية إلا ويستحضر إنْ في ذهنه أو في مقاله الآيات الأخرى المشابهة ويزيدون أيضا أنهم يستحضرون معها ما هو خارج عن كلماتها؛ أعني بذلك السنة النبوية وهذا هو مضمون التفسير الموضوعي.

أما ثانيها: فإني أعتقد أن التفسير الموضوعي والالتزام به ليس هو الذي يمنع من التلون المذهبي والانحراف في التفسير عن الحق إلى الضلال والذي يمنع من ذلك إنما هو شيء بعيد عن القواعد المنهجية والأطر المحبوكة وإنما يكمن في سويداء القلب.

والواقع كما يقول الدكتور الفاضل محمد إبراهيم شريف أن التفسير القرآني حديثا لم يشهد ما خرج به عن حده وطبيعته إلا من أشهر محاولات الاتجاه الأدبي؛ تمسكًا والتزامًا وعصمة بالموضوعية ولم يشهد تاريخ التفسير على طوله ما يزلزل يقين الاطمئنان إلى معطيات النص القرآني التاريخية مثلما شهد من هذه المحاولة"1.

ونحمد الله أن هذه المحاولة لم يجفَّ مداد قلمي بعد من الحديث عنها تلكم هي "الفن القصصي في القرآن الكريم" للدكتور محمد أحمد خلف الله.

أما ثالثها: فلقد وقع دعاة التفسير الأدبي فيما فروا منه ووقعوا في نفس الحفرة التي حذروا منها.

1 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف ص517.

ص: 974

فإذا كان دعاة المنهج الأدبي قد حذروا من التفسير المرتب؛ لأنه يؤدي إلى التناول المفرق للموضوع الواحد حسب وروده في السور مما يشتت الذهن، فإنهم قد تناولوا بالتفسير موضوعات ذات شعب شتَّتَ تناولهم لتلك الشعب الذهن أكثر مما شتته أولئك.

وتفصيل ذلك وبيانه يطول ولعل في ضرب المثال ما يغني عن كثير من المقال، وإذا كان الأمر كذلك فإنا نضرب المثل بالدراسة الموضوعية لـ "الظلم في القرآن الكريم"، قد يبدو ظاهرا أنه موضوع منفصل بذاته لكنه كغيره من الموضوعات بينه وبينها تداخل وترابط لا تصل إلى الحق فيه إلا عبر مسالك وممرات الموضوعات الأخرى.

فدراسة الظلم توجب بيان الشرك وهو في أبواب العقائد؛ لأن الشرك ظلم عظيم ولنفسك عليك حق ولجسدك عليك حق وإرهاقهما بالتكاليف ظلم فدخلت من هنا العبادات ولزوجك ولولدك ولجارك عليك حق والتقصير فيها ظلم فدخلت من ذلك المعاملات كما لا تنفصل عنها معانٍ أخرى؛ كعمل السوء، والافتراء، وتعدي حدود الله، والانحراف عن الصراط المستقيم.

ومنع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه، وكتم الشهادة، والكذب على الله، والتكذيب بآياته، والإعراض عنها، واتباع الهوى، وأكل الربا، وأخذ مال الآخرين بغير حق، وأكل أموال اليتامى، وترك الحكم بما أنزل الله، وتولى الكفار، وخيانة الأمانة، واتهام البريء و

و

وغير ذلك كثير.

كل هذه معانٍ تدخل تحت الظلم ولا تتم دراسته إلا ببيانها وبهذا يظهر جليًّا أن موضوع الظلم ليس مستقلا بذاته وليس منفصلا عن الموضوعات الأخرى وإنما هو موضوع متصل مترابط معها تحدث في داخله كل هذه الموضوعات وإن كانت صبغته الخارجية ذات موضوع واحد.

ومن هنا فإن المفسر الموضوعي يخطئ حين يتصور أنه بدراسة الظلم في القرآن الكريم إنما يتناول موضوعا واحدا حقيقة بل الحق أنه يتناول موضوعات عدة ومن هنا أيضا يخطئ صاحب المنهج الأدبي إن اعتقد أنه بالدعوة إلى

ص: 975

التفسير الموضوعي قد تحاشى تشتيت الذهن المزعوم هناك بل وقع فيما حذر منه.

وبهذا نعتقد بأن الدعوة إلى هذا اللون من التفسير لهذا الهدف قد أصبحت غير ذات جدوى.

ثانيا- الترتيب الزمني:

يرى دعاة المنهج الأدبي في التفسير أن ترتيب آيات القرآن الكريم حسب تاريخ نزولها أمر ضروري للتفسير وخطوة لا بد منها قبل الإقدام عليه. ولي في هذا ملاحظتان أذكرهما هنا:

الأولى: أن لا أحد ينكر ما لمعرفة ترتيب النزول من منزلة كبيرة ودرجة عالية في التفسير؛ إذ يترتب على ذلك أمور قد تقلب الحكم رأسا على عقب كيف لا والناسخ والمنسوخ إنما يعرف بهذا وسواه كذلك. لكن وما أصعب لكن هذه هل اتفق السلف أو الخلف على ترتيب معين لنزول آيات القرآن الكريم؟ قد نعرف تقدم آيات وتأخر أخرى لكنا لا نعرف يقينا ترتيبا كاملا لها.

وإذا كنا نجزم بذلك جزما، فإن بناء المنهج الأدبي على أساس عُلِمَ يقينا فَقْدُه أمر يحتاج إلى إعادة نظر.

الثانية: أن أحدًا من دعاة المنهج البياني أو الأدبي في التفسير لم يحل إلى ترتيب معين لا في القديم ولا في الحديث، ولم أر أحدا منهم قدم محاولة لهذا الترتيب، ولئن كان إهمالهم للخطة في التفسير الموضوعي قد يلتمس له عذر بأن النص موجود لكنه يحتاج إلى جهود وجهود، فإن الأمر هنا يختلف؛ إذ إن الجهود فيه مهما توافرت فإنها تفتقد السند والأدلة التي تأخذ بيدها إلى الصواب وإلا كانت كجهود من ينفخ في رماد.

ثالثا- النظر في المفردات وتدرج دلالة الألفاظ:

يَعتبر دعاة المنهج البياني في التفسير تتبع تدرج دلالة الألفاظ الأصل الأول في فهم دلالة ألفاظ القرآن وهم يقصدون من هذا الوصول إلى معناها في الوقت الذي تليت فيه أول ما تليت وتفسيرها به، ولنا في هذا وقفات:

ص: 976

الأولى: أن العربي لا يفهم بعربيته كل ألفاظ القرآن الكريم؛ ذلكم أن القرآن الكريم خالق لمعناه في كثير من الأحايين وليس انعكاسا للعقل العربي أو الظروف التاريخية المحدودة1، فمن الألفاظ القرآنية ما يطابق كل المطابقة مدلولها في وقت نزولها، ومنها ما لا يطابقه كذلك فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقف -وهو العربي القح- حائرا في مدلول كلمة "أَبَّا" وهذا رجل عربي آخر يفهم الخيط الأبيض والخيط الأسود أنهما خيطان يلمسهما بيده ويضعهما تحت وسادته وعلى مستوى الجماعة أولئك الصحابة رضي الله عنهم لم يفهموا مدلول الظلم في إحدى الآيات حتى بينه المصطفى صلى الله عليه وسلم:"إنه ليس الذي تعنون" 2، ومن هذا وأمثلة أخرى كثيرة ندرك أن القرآن وإن كان نزل بلسان عربي مبين وإن كان العرب الخلص يفهمون ويدركون مراميه بمقتضى سليقتهم العربية إلا أن ألفاظه الكريمة ليست صماء خالصة؛ بل إن فيها من المعاني الجديدة ما يضفي على اللغة إشراقة أخرى من المدلول الصحيح بحيث لا تنكرها اللغة ولا يعافها الذوق، وهذه قد يقصر عنها أحيانا معناها وقت نزولها فلا يكفي وحده لجلاء معناها الصحيح، فيحتاج مع ذلك إلى النظر في المركبات واستِكْنَاه معنى هذه المفردة على ضوئها.

خلاصة الأمر أن الاستعمال القرآني للمفردة قد يحمل معه معاني متجددة ليست مطابقة كل المطابقة لمدلولها الوضعي في وقت نزول القرآن الكريم.

الثانية: إن تتابع العلماء في تفسير القرآن الكريم يشهد أنهم لم يقفوا في ألفاظ اللغة على معنى واحد لا يتجدد، ولو فعلوا لانقطع مسار التفسير ولما تسلسل إلى عصرنا هذا وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولما أوردوا في الكلمة الواحدة معانٍ متعددة، ولما حرص كل واحد منهم أن يسوق مع رأيه آراء العلماء الآخرين.

1 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د. محمد إبراهيم شريف ص528.

2 رواه الإمام أحمد في مسنده رقم 3589 عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقال أحمد شاكر: إسناده صحيح؛ مسند الإمام أحمد ج5 ص207، وبمعناه رواه البخاري وغيره.

ص: 977

وهذا اعتراف منطوق حينا ومفهوم أن معاني الكلمات القرآنية غنية ومتجددة يضفي كل مفسر منهم ما يراه مناسبا ويروض ثقافته وتصوره للمعنى في حرية حتى يستخرج ما قد يستنبطه من معانٍ جديدة وإلا فلا فائدة فيما جاء به إلا التكرار والترديد.

وإذا كان الأمر كذلك فإن التزام المنهج البياني لمدلول الكلمة ومعناها وقت نزول القرآن الكريم تعطيل لها عن معانٍ أخرى لم تظهر بعد تحمل معها مطابقة القرآن الكريم لمقتضى حال كل عصر من العصور معلنة إعجازا مستمرا متجددا لا ينقطع وداعية إلى زيادة التأمل والتدبر في آيات الله.

وليس هناك ما يمنع أن تحتمل ألفاظ القرآن الكريم وهي كلام الله سبحانه وتعالى الذي لا يشابهه كلام بشر معاني لم تظهر بعد ادخرها الله سبحانه وتعالى لأهل العصور التالية؛ ليكون ما فيها من مفاهيم وحقائق إعجازا لهم وأي إعجاز"1.

الثالثة: إن الدعوة إلى معرفة مدلول الألفاظ وقت نزول القرآن لا شك تعين على معرفة رأي صائب لكن هل الوصول إلى هذا من السهولة بمكان؟

لست أنكر أن تفسير الصحابة رضي الله عنهم، والشعر الجاهلي مما يساعد على الوصول إلى شيء من هذا، لكنه حتما لن يفسر الكثير منها.

لست أقول هذا تعجيزا ولا تثبيطا للهمم فالأستاذ أمين الخولي يعترف بهذا حين يقول: "وإذا كان هذا هو الأصل الأول في فهم دلالة الفاظ القرآن فمن لنا به مع أن معاجمنا لا تسعف عليه ولا تعين.. فليس أمام مفسر القرآن حين يبتغي المعنى الأول لألفاظه إلا أن يقوم بعمل في ذلك مهما يكن مؤقتا وقاصرا فإنه هو كل ما يمكن اليوم"2.

1 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف ص536.

2 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي ص42-43.

ص: 978

لكن الحق الذي أراه في هذا أن لا يجعل الوصول إلى هذا المعنى هو الأصل الأول في فهم الألفاظ القرآنية وإنما يعتبر معنيا للوصول إلى رأي صائب لا يمنع من معانٍ أخرى صائبة يحملها كلام حكيم خبير أنزل كتابه للأمة في عصر الرسول ولها في سائر العصور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

ولئن كانت مطابقة النص القرآني لمقتضى الحال وقت نزول القرآن أمرا مطلوبا فإن مطابقتها لمقتضى أحوال الأمم والعصور التالية وهي مخاطبة به على حد سواء مع العصر الأول أمر أيضا مطلوب ومن الخير أن نسعى لبيان الأخير سعينا لبيان الأول.

رابعا- قبول التفسير النفسي ورفض العلمي التجريبي:

والحديث عن مطابقة الكلام لمقتضى الحال حديث عن البلاغة في القرآن الكريم، ومن هنا انطلق الأستاذ الخولي؛ ليقرر أمرا آخر على هذا سقنا نصه في حديثنا عن أسس المنهج ومنه قوله:"إن ما استقر من تقدير صلة البلاغة بعلم النفس قد مهد السبيل إلى القول بإعجاز القرآن النفسي للقرآن.. إلخ"1.

ولأن أرباب المنهج البياني ينظرون إلى مفردات القرآن من زاوية معانيها وقت نزوله فإنهم يرفضون كل ما تفسر به من نظريات أو حقائق علمية حديثة؛ لأنها لم تكن من مدلول المفردة حينذاك.

ومن هنا نرى ثغرة في منهجهم أو سمها إن شئت اضطرابا في المنهج كان الموقف الحق أن يرفضوا النظريات الحديثة لعلم النفس والنظريات العلمية الحديثة جميعا أو أن يقبلوها جميعا.

إذ كيف يسوغون تفسير النص القرآني الكريم بنظريات علم النفس الحديثة التي لم تكن من مدلول المفردة وقت نزول القرآن الكريم في نفس الوقت الذي يرفضون تفسيرها تفسيرا علميًّا كذلك.

1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي ص45.

ص: 979

خامسًا- بين النظرية والتطبيق:

أبرز أسس المنهج البياني في التفسير هي النظر في المفردات ثم الدراسة الموضوعية.

وإذا نظرنا إلى نتائج اتباع هذا المنهج وأصحابه وجدا بعضها يهتم بالموضوع وقد يجيد التطبيق لكنه يتعثر في أول درجات النظر في المفردات فلا يكاد يخطو فيها خطوة.

وفي الجانب الآخر نجد دراسات نجحت في النظر في المفردات لكنها إذا حاولت -إن حاولت- التفسير الموضوعي تعثرت فيه ولم تكد تخطو خطوة واحدة!!.

وبهذا يكون المنهج البياني في التفسير حتى ساعتنا هذه مجرد نظرية لم تطبق بعد تطبيقا كاملا وآتي على هذا بشاهدين:

الأول الدكتور عفت محمد الشرقاوي حيث قال: "لكن الذي لا نفهمه أن آثار الشيخ أمين الخولي نفسه في التفسير لا تحتكم إلى هذا المنهج طويلا في استخراج الدلالة وهكذا ظل الفارق بعيدا بين الواقع والمثال في آثارهم جميعا"1.

الثاني الدكتور محمد إبراهيم شريف الذي قال: "تجدر الإشارة إلى أن المنهج بهذه الصورة من القيود والمتطلبات لم يرَ النور في محاولة ما من محاولات أتباعه وإنما وقعت محاولاتهم موقعا بعيدا عن الأمل الطموح بصورة أو بأخرى"2.

وقال أيضا بـ "تخلف النتائج عن المقدمات العريضة في دعوة المنهج الأدبي الموضوعي وقصور محاولاته ووقوعها في منزلة أدنى بكثير من طموح أصحابها، فلم تشهد الدعوة تطبيقا كاملا في إحدى محاولات التفسير"3.

1 اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث د/ عفت محمد الشرقاوي ص310.

2، 3 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف الصفحات على التوالي 508، 597.

ص: 980

بل قال ما هو أشد: "وفي تصورنا الآن أن أمين الخولي إذا كان قد بدأ نظريته التفسيرية ليجدد منهج التفسير القرآني فلقد انتهى الأمر بالتفسير في نهاية نظريته إلى أن أصبح علما لم يبدأ بعد ولكن من الممكن له أن يبدأ بل أن ينمو وينضج إذا ما سار على ذلك الدرب الشاق بكل صعوباته ومسئولياته"1.

بقي أمر ينبغي أن لا أغفله وإن كان حقه أن أذكره في أول حديثي عن المنهج.. كان حقه كذلك لو أن الأستاذ أمين الخولي صرح به، لكنه؛ لأمر لا أدريه كَتَمَه وأحسب هذا يخولني ذكره في الملاحظات على المنهج.

ذلكم الأمر هو جانب التأثر ومصدره عند أمين الخولي في تقرير هذا المنهج

حقيقة أن الأستاذ أمين الخولي تأثر -فيما أرى- بثلاثة أشخاص؛ الأول والثاني منهما كان جانب التأثر بهما غير كبير جدًّا، ولعله لهذا أشار أو لمح إليهما وهما:

1-

الراغب الأصفهاني في كتابه "مفردات القرآن".

2-

الأستاذ الإمام محمد عبده في تفسير "المنار".

لكنه لم يذكر الثالث ولم يشر إليه من قريب ولا من بعيد مع أنَّا كما يقول الدكتور السيد أحمد خليل -لا نكاد نظفر بجديد عنده يختلف عما دعا إليه "شلاير ماشر"2.

ويقول الدكتور في موضع آخر عن القواعد التي أصلها شلاير ماشر الألماني لتفسير أي نص: "وقد كان لهذه القواعد والأصول مكانها البارز في حركة مجددة

1 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف، ص510.

2 دراسات في القرآن: الدكتور السيد أحمد خليل ص145-146.

ص: 981

قام بها الأستاذ أمين الخولي في الجامعة دون أن يشير رحمه الله تعالى إلى تأثره بهذه القواعد واستفادته منها"1.

ومن المعلوم كما أشرنا في ترجمته أن الأستاذ أمين الخولي عمل في المفوضية المصرية في برلين وأنه ألمَّ باللغة الألمانية.

ويبقى السؤال حائرا يبحث عن إجابة: لِمَ لَمْ يذكر الأستاذ أمين الخولي تأثره بقواعد التفسير عند شلاير ماشر الألماني الجنسية؟.

ومع هذه الملاحظات على هذا المنهج فإنه يبقى له وجه آخر مشرق حيث خط سبيلا بينا إلى الحقيقة القرآنية وأرشد إلى أسلوب أدبي صحيح في تذوق أساليب القرآن.

وأهم من هذا كله أنه كشف عن آفاق جديدة للإعجاز في القرآن الكريم وجدد في الأدباء المعارضين الحس الفني حيث الإبداع في العرض وقوة الحق وجمال الأداء وهو حس كادت أن تنطفئ ناره في مجتمع ألهته تيارات المادة في العصر الحديث.

وفوق هذا كله قدم بعض أرباب المنهج البياني نماذج أصيلة لتفسير المفردات حيث التتبع للفظة في القرآن الكريم واستخراج معناها من وحي السياق.

وإذا ما ابتعد أصحاب هذا اللون في التفسير عن تلك المزالق والمتاهات التي أشرنا إلى بعضها فإنه يؤمل لهذا المنهج أن يحتل في العصر الحديث مكانة سامية. سدد الله الخطى وأصلح النوايا. إنه سميع مجيب.

1 المرجع السابق: ص13.

ص: 982