الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن:
أولا- المؤلف:
هو: محمد أبو زيد.
أحمد الله أني لم أجد له ترجمة ولا ذكرا بعد بحث وتنقيب شديدين حتى اسمه كان يقع فيه اختلاف لولا أن كتابه بين يدي وعليه اسمه.
وكل ما عرفت عنه ما ذكره الأستاذ جمال البنا عنه، حيث قال: إنه التحق مدة بالأزهر ومدة أخرى بدار الدعوة والإرشاد التي كان قد أسسها بالقاهرة الشيخ رشيد رضا وأصدر عددا من الأبحاث اتسمت بالجرأة سواء كانت هذه الجرأة طلبا للشهرة أو انعكاسا لفكره واجتهاده، فأصدر كتيبا باسم "الزواج المدني" أنكر فيه التسري وملك اليمين. وأخيرا في الفترة ما بين 1347-1349هـ "1930-1931م" أصدر كتابه "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن، والكتاب ليس لدينا؛ لأنه صودر وأعدم في حينه"1.
هذا ما قاله الأستاذ جمال البنا، أما اسم صاحب هذا التفسير كما جاء على كتابه فهو "محمد أبو زيد" ومع الأسف أن صاحبه يذكر أنه ألفه بعد بلوغه الأربعين من عمره!! فإذا كان قد صدر سنة 1349 تكون ولادته سنة 1309 تقريبا.
ثانيا- الكتاب:
واسمه كما جاء على غلافه "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن".
ويقع في مجلد واحد ضمنه القرآن الكريم كاملا وجعل تفسيره
في هوامشه. وهو تفسير مختصر جدا كثيرا ما يكتفي صاحبه بالإحالة لتفسير آية على آية أو آيات أخرى يذكر أرقامها.
1 الأصلان العظيمان الكتاب والسنة: جمال البنا ص91.
وقد أحدث هذا التفسير عند صدوره ضجة كبرى وإنكارا شديدا من شيوخ الأزهر فألفت لجنة من العلماء؛ لتنظر في هذا الكتاب وتحكم عليه ورفعت اللجنة تقريرها إلى شيخ الأزهر ووصفوا المؤلف بأنه: "أفاك خراص، اشتهى أن يعرف فلم ير وسيلة أهون عليه وأوفى بغرضه من الإلحاد في الدين بتحريف كلام الله عن مواضعه؛ ليستفز الكثير من الناس إلى الحديث في شأنه وترديد سيرته"1.
وصدر الحكم بمصادرة الكتاب كما رفعت دعوى على الرجل أمام إحدى المحاكم فحكمت ابتدائيا بكفره وارتداده وتغير الحكم النهائي بعد أن أعلن توبته وإنابته2.
وقد أصدرت جمعية حياة الإسلام بدمنهور في شهر ذي الحجة سنة 1349 -أي بعد صدور الكتاب بخمسة أشهر تقريبا- كتابا بعنوان "تنوير الأذهان وتبصرة
أهل الإيمان في الرد على كتاب أبي زيد المسمى الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن".
والكتاب كما ذكر كل من كتب عنه مصادر والحمد لله، وغالب من كتب عنه بعد ذلك، إنما اعتمد على التقارير التي كتبت عنه مطالبة بمصادرته وقد تمكنت والحمد لله -الذي لا يحمد على مكروه سواه- من الحصول على نسخة من هذا التفسير.
منهجه في التفسير:
بدأ المؤلف تفسيره باتهام المفسرين بالدس والحشو فقال: "وقد بلغ الدس والحشو في التفاسير أنك لا تجد أصلا من أصول القرآن إلا وتجد بجانبه رواية موضوعة لهدمه وتبديله والمفسرون قد وضعوا هذا في كتبهم من حيث
1 انظر التفسير والمفسرون: محمد حسين الذهبي ج3 ص198، وقد نشر قرار اللجنة الأزهرية التي ألفت للرد على الكتاب في العدد الثالث والرابع من المجلد الثاني من مجلة نور الإسلام "الأزهر سنة 1350".
2 الأصلان العظيمان الكتاب والسنة: جمال البنا ص91.
لا يشعرون، وقد جعلوا الاصطلاحات والمذاهب الفقهية والكلامية أصولا حكموها في القرآن وأنزلوه عليها حتى صار ميدانا للجدل وأصبح غير صالح للحياة بما حملوه من الأثقال وبما وضعوا فيه من الجهود والعراقيل ووسائل التفريق والشقاق، فهدايته فقدت بالمجادلات في الألفاظ والمذاهب، ومعانيه ومقاصده ضاعت بالروايات الناسخة والتفسيرات المتحجرة العقيمة ولم يخلُ تفسير من هذا؛ لأن المفسرين يقلد بعضهم بعضا"1.
ثم وضح طريقته في التفسير فقال: "فهذا كله دعاني إلى تفسيري وأن تكون طريقتي فيه كشف معنى الآية وألفاظها بما ورد في موضوعاتها من الآيات والسور، فيكون من ذلك العلم بكل مواضيع القرآن، ويكون القرآن هو الذي يفسر نفسه كما أخبر الله، ولا يحتاج إلى شيء من الخارج غير الواقع الذي ينطبق عليه ويؤيده من سنن الله في الكون ونظامه في الاجتماع.
وقد اخترت أن يكون على عدد الآيات في المصحف لتبقى الهداية بالترتيب الذي اختاره الله، وليمكن للباحث عن معنى الآية أن يلاحظ سياقها، فيقرأ ما سبقها وما لحقها من الآيات؛ ليكون على علم تام وهداية واعظة"2.
ثم زعم أن هذه الطريقة في التفسير هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وطريقته، فقال: "فهذه كانت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أي طريقته في القرآن وهي الحكمة المذكورة في قول الله:{وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة} ، راجع [البقرة: 151] .
فالكتاب هو القانون الجامع لمواد الأحكام وإن شئت فقل إن الكتاب دستور فيه كل شيء من أصول القوانين وهو المرجع لأهل التشريع في كل عصر فيما يتجدد من الحوادث"3.
1 الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن: محمد أبو زيد ص "ب-ج".
2 الهداية والعرفانك محمد أبو زيد ص "ج-د".
3 المرجع السابق: ص "د".
وقد أدرك أن كتابه هذا سيجابه بالرفض والطعن، فقال في مقدمة تفسيره هذا:"ومن الغريب أن يكون لنا في القرآن هذه المزايا ونعرض عنه ولا نتمسك به، ثم الأغرب أننا نتفرق فيه فإذا رأى بعضنا رأيا أو فهم فهمًا انقض عليه المخالفون باللعن والطعن ولقد كان هذا التفرق من أعظم الأسباب التي خذلت المسلمين وجعلتهم مملوكين لغيرهم"1.
ثم أظهر هدفه السييء الذي يربأ المسلمون بالقرآن الكريم أن ينزلوه هذه المنزلة التي يريدها هذا الملحد الذي قال: "والواجب أن يفهم المسلمون أن القرآن شائع مشترك بين الناس وأن من آياته الدالة على أنه من عند الله اتساعه للأفهام وتحمله لاختلاف الآراء، والأنظار في كل زمن وهذا معنى أنه متشابه أي أنه من تعدد المعنى يتشابه ويختلف على الناظرين"1.
ولا شك أن إباحة تناول تفسير القرآن الكريم لكل من هب ودب ممن أوتي علما وممن لم يؤت علما ومن الصالح والفاسد هوالذي أدخل في تفسير القرآن الكريم ما ليس منه وما هذا التفسير الذي ألفه هذا الدعي للعلم وأهله إلا نتيجة لتجرؤ من ليسوا أهلا لتفسير القرآن على تفسيره فهل يريد إلحادا أكثر من إلحاده.
وقد نظرت في تفسيره بل في إلحاده، فوجدت أنه يقوم على قواعد التزمها في إلحاده استطعت أن أضبط منها:
أولا: إنكار التفسير بالسنة
عنوان هذا التفسير الهداية والعرفان في تفسير القرآن يشعر إذا أضيفت إليه قرائن أخرى أن صاحبه لا يعتد بالتفسير بالسنة، بله أقوال الصحابة والتابعين.
يشعر بهذا قول المؤلف في مقدمة تفسيره -ما نقلناه آنفا- ومنه قوله:
"ويكون القرآن هو الذي يفسر نفسه كما أخبر الله ولا يحتاج إلى شيء من الخارج
1 المرجع السابق: ص "ز".
غير الواقع الذي ينطبق عليه ويؤيده من سنن الله في الكون ونظامه في الاجتماع"1.
فإذا ما احتججت عليه بقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} 2. ألحد في تأويلها وزعم أن المراد بقوله تعالى: {مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} من الكتب السابقة، فالقرآن جامع لها وداعٍ إليها"3. فإن استشهدت بقوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 4 أجابك هذا الملحد بتأويله لهذه الآية، حيث يقول:{عَنْ أَمْرِهِ} يفيدك أن المخالفة المحذورة هي التي تكون للإعراض عن أمره. وأما التي تكون للرأي والمصلحة فلا مانع منها، بل هي من حكمة الشورى"5.
ومثل هذا لا يجهد الإنسان نفسه في جداله ما دام منطقه المغالطة واللغو الذي لا يستند إلى كتاب أو سنة.
لهذا فلا عجب أن يعرض عن تفسير القرآن بما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ورد عنه صلى الله عليه وسلم بيان المغضوب عليهم والضالين في سورة الفاتحة بأنهم اليهود والنصارى، لكن المؤلف هنا يقول:{الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} المعاندين الذين يكرهون الحق {الضَّالِينَ} التائهين عن الحق"6.
وكذا الصلاة الوسطى في قوله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} 7، فقد روى أحمد ومسلم وأبو داود مرفوعا:"شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر"، لكنه يقول في تفسيرها:"الوسطى خيرها وأقومها مؤنث الأوسط"8.
1 المرجع السابق: ص "ج".
2 سورة النحل: الآية 44.
3 الهداية والعرفان: محمد أبو زيد ص211.
4 سورة النور: من الآية 63.
5 الهداية والعرفان: ص281.
6 المرجع السابق: ص2.
7 سورة البقرة: من الآية 238.
8 الهداية والعرفان: ص32.
وكلمة التقوى في قوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} 1. ورد تفسيرها في السنة بأنها: "لا إله إلا الله"2. وأعرض محمد أبو زيد عن هذا التفسير وقال: كلمة "التقوى"، أي الكلمة التي تقيهم الوقوع في الشر والضرر والغرض أنهم كانوا حكماء فيما عملوا في مقابلة
حرارة الخصوم حميتهم الجاهلية"3؟!.
وكثيرة الأمثلة التي تثبت إعراضه عن التفسير بالمأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم للقرآن الكريم، ولا شك أن القرآن نفسه -لو كان هذا يفقه- يعلن أن محمد صلى الله عليه وسلم هو المبين له:{وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 4، وقوله سبحانه:{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} 5.
ثانيا: إنكار المعجزات
وهذا هو البحر المتلاطم الأمواج في هذا التفسير؛ إذ إنه يبدو للمتأمل أن صاحب هذا التفسير قد بذل جهده في إنكار المعجزات كلها وتأويلها تأويلا باطلا حتى لكأنه إنما ألفه لهذا الهدف دون سواه.
والنصوص في إنكار المعجزات في هذا التفسير كثيرة نذكر منها على سبيل المثال قوله: "وبعد هذا تعلم أن الله ينادي الناس بأنهم لا ينبغي أن ينتظروا من الرسول آية على صدقه في دعوته غير ما في سيرته ورسالته"6.
وقال في موضع آخر: "واعلم أن آيات الله في نصر أنبيائه لا تناقض سنته في خلقه وكونه"7.
1 سورة الفتح: من الآية 26.
2 مسند الإمام أحمد ج5 ص138؛ والترمذي ج5 ص386 كتاب التفسير، سورة الفتح.
3 الهداية والعرفان: ص407.
4 سورة النحل: من الآية 64.
5 سورة النحل: من الآية 44.
6 الهداية والعرفان: ص161.
7 الهداية والعرفان: ص290.
وقال أيضا: "إن كل الرسل رميت آياتهم بأنها سحر وقد كانت كل آياتهم حججا وبراهين من سيرتهم ورسالتهم فلا يمكن أن يأتوا بدليل على صدقهم من غير الدعوة نفسها"1.
وقال أيضا: "وإن آيتهم على صدق دعوتهم لا تخرج عن حسن سيرتهم وصلاح رسالتهم وإنهم لا يأتون بغير المعقول ولا بما يبدل سنة الله ونظامه في الكون"2.
هذه بعض أقواله في إنكار معجزات الأنبياء إجمالا، ثم أنكرها بعد ذلك آحادا وأولها تأويلا لا يقوم على دليل، من الكتاب أو من السنة أو من اللغة.
معجزات إبراهيم عليه السلام:
فمن ذلك مثلا أن قوم إبراهيم عليه السلام أوقدوا له نارا وألقوه فيها {وَقَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ} فجاءت المعجزة الإلهية: {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} 3، ومعنى الآية ظاهر واضح لكن محمد أبو زيد هذا ألحد في تفسير الآية وباقي القصة أن الله نجاه بالهجرة وخيب تدبيرهم"4.
وعلى هذا فعنده أن ابراهيم عليه السلام لم يلق في النار ولم تكن بردا وسلاما على إبراهيم، ولا أظنه يجهل أن من أنواع الإيجاز إيجاز الحذف وهو حذف ما يستغنى عنه بذكر ما يستلزمه ولا يستقر معناه في ذهن السامع إلا بتقديره، والبلاغيون يضربون لذلك مثلا بقوله تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَة} 5، أي واسأل أهل القرية، المحذوف في الآية موضع البحث هنا هي كلمة "فَأَلْقَوْهُ" لأن السياق يستلزمها. قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
1 المرجع السابق: ص297.
2 المرجع السابق: ص306.
3 سورة الأنبياء: من الآية 69.
4 الهداية والعرفان: ص256.
5 سورة يوسف: من الآية 82.
فَاعِلِينَ، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} 1، والتقدير فألقوه، فـ:{قُلْنَا يَا نَارُ}
…
الآية، ولا أظنه يجهل هذا؛ إذ لو كان الأمر كذلك لاستقام تفسيره في غيرها من المعجزات ولكنه ذهب يؤولها بما ينكرها به كلها.
معجزة داود عليه السلام:
وقد سخر الله لداود عليه السلام الجبال يسبحن معه والطير، فقال عز شأنه:{وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} 2، وقد أنكر محمد أبو زيد المعنى المتبادر من {يُسَبِّحْنَ} وصرفه إلى معنى آخر لغير قرينة، فقال:"يسبحن: يعبر عما تظهره الجبال من المعادن التي كان يسخرها داود في صناعته الحربية"3 ولا أدري لم كان هذا مزية لداود عليه السلام مع أن الناس في القديم والحديث يستخرجون المعادن من الجبال؛ فأي مزية لداود عليه السلام في هذا؟ فإن أراد أن الجبال هي التي تظهره من غير كسب ابن آدم وجهده فهي معجزة لا تقل عن الأولى لكنه لا يريد هذا ولا ذاك.
معجزات سليمان عليه السلام:
وما دام حديثنا هنا في سورة الأنبياء عليهم السلام، فلننظر إنكاره العجيب للمعجزة التي أوتيها سليمان عليه السلام، فقد جاء في هذه السورة قوله تعالى:{وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ} 4، قال تفسيرا عجيبا:"تجري بأمره: الآن تجري بأمر الدول الأوروبية وإشارتها في التلغرافات والتليفونات الهوائية"5، ولا تعليق على هذا التفسير؛ لأن المغايرة بين التفسير والمفسر لا تخفى، إلا التعليق بأنه أراد أن ينكر هذه المعجزة بأية وسيلة.
وكذا تعليم الله سبحانه وتعالى لسليمان عليه السلام منطق الطير
1 سورة الأنبياء: الآيتين 68-69.
2 سورة الأنبياء: الآية 79.
3 الهداية والعرفان: ص257.
4 سورة الأنبياء: الآية 81.
5 الهداية والعرفان: ص257.
وتحدث سليمان عليه السلام بهذه النعمة وشكر الله عليها: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ} 1.
ولكن محمد أبو زيد ينكر أن يكون هذا فضلا لسليمان عليه السلام، فيزعم أن:"كل من يربي الطير ويؤلفه يمكنهم أن يتعلموا منطقه، وماذا يريد، ويمكنهم أن يستعملوه في الرسائل وغيرها"2، وتنزلا مع منطق هذا المنكر نقول: إن من تعلم لغة طير واحد أو استعمل نوعا من الطير في الرسائل لجهات معينة محدودة لا يصح أن يوصف بأنه تعلم منطق الطير على الإطلاق، فيبقى هذا خاصا بسليمان عليه السلام، لكن محمد أبو زيد يرفض هذا ولأجله صرف كل معنى يدل عليه. فالنملة التي تحدثت مع سليمان عليه السلام مع أنها ليست طيرا، إلا أن محمد أبو زيد يقول:"نملة: قبيلة، من النمل: قبائل الوادي"3، وصرف لفظة النمل عن معناها الصحيح إلى أنها اسم قبيلة حتى لا يكون في الأمر عجبا ويكون أمرا مألوفا لا يبعد عن ذهنه القاصر، وكذا صرف حديث الهدهد مع سليمان عن حقيقته أو الهدهد نفسه عن أن يكون طائرا، فقال:"الهدهد: اسم طائر، فهل يكون من ذوي الجناحين ويكون كلامه كناية عما يحمل من الرسائل، أم من الخيالة: السواري، أو: الطيارين الآخرين"4؟! ولا ندري ماذا يقصد بالطيارين الآخرين والمهم في كل هذه التأويلات التي أوردها أنه أراد أن يصرفها عن أن تكون معجزة لسليمان عليه السلام.
ولم يترك هذا الرجل لسليمان عليه السلام أي أمر خارق للعادة حتى إحضار عرش ملكة سبأ إليه صرفه عن معناه الحقيق إلى معنى آخر، ففي قوله تعالى: {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ، قَالَ
1 سورة النمل: الآية 16.
2، 3، 4 الهداية والعرفان: ص297.
قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ، قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} 1. فقال في تفسيرها:"بعرشها: بملكها، يريد أن يضع خطط الحرب ونظام الدخول في البلاد فطلب الخريطة التي فيها مملكة سبأ؛ ليهاجمها ويريها أنه جاد غير هازل، {عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ} أحد القواد ويظهر أنه لم يفهم أن المسألة علمية جغرافية تحتاج إلى الذي عنده علم، {مِنَ الْكِتَابِ} من الكتابة والرسم والخطيط، {قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} الغرض أنه يأتي به حالا، وقد أتى به، ويحتمل أنه رسمه في الحال أو كان عنده مرسوما. ولو كان عهد الفتوغرافيا قديما لصح أن يكون ذلك الرسم بها، وترى أن سليمان يشكر الله على ما في مملكته من العلماء العاملين في كل فن"2.
ومن هذا ترى أن المؤلف صرف لفظ العرش عن مدلوله الحقيقي إلى معنى آخر وهو خارطة مملكة سبأ، لكنه لم يشر من قريب أو من بعيد إلى معنى قول سليمان، عليه السلام:{نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا} الآية 3 هل أراد أن ينكر الخارطة!! وما الفائدة من تنكير الخارطة الذي إن دل على شيء فإنما يدل على قصور في معرفة بلاد العدو، وذلك صفة ضعف لا صفة قوة مع أنه لا صلة بين العرش والخارطة إلا عند ذوي المآرب، ومآربه لا تخفى لكنه سلك طريقا مهلكا مكشوفا للأنظار.
معجزات موسى عليه السلام:
ومعجزات موسى عليه السلام أوَّلَها كما أول غيرها من المعجزات بما يبطلها، فقال مثلا عن قوله تعالى عن موسى عليه السلام: {فَأَلْقَى عَصَاهُ
1 سورة النمل: الآيات 38-40.
2 الهداية والعرفان: ص298-299.
3 سورة النمل: من الآية 41.
فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ، وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِين} 1 "مثال من قوة حجته وظهور برهانه"2 وهو يريد بهذا إنكار هاتين المعجزتين كما أنكر معجزاته الأخرى كضرب الحجر بعصاه وخروج عيون الماء وذلك في قوله تعالى:{فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} 5 حيث قال: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} اطرقه واذهب إليه {فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} هذا بيان لحالة البحر، يصوره لك بأنه مناطق بينها طرق ناشفة يابسة، راجع [الأعراف: 160] ثم راجع [طه: 77، 78] لتعرف كيف اهتدى إلى طريق يبس مر منه6" ولا ندري كيف يعلل مرور موسى عليه السلام ومن معه وغرق فرعون ومن معه كيف كان هذا الطريق يبسا عند مرور موسى عليه السلام ثم انقلب بحرا متلاطم الأمواج يغرق فيه فرعون ومن معه إن هذه وحدها لمعجزة إلهية في حفظ الله تعالى لنبي من أنبيائه حسبك بانفراج البحر عن طريق يبس بعد أن ضربه موسى عليه السلام امتثالا لأمر ربه.
معجزات عيسى عليه السلام:
وأول أمره عليه السلام أنه كلم الناس في المهد قال تعالى عن
1 سورة الأعراف: الآيتين 107-108.
2 الهداية والعرفان: ص126.
3 سورة الأعراف: الآية 160.
4 الهداية والعرفان: ص131.
5 سورة الشعراء: الآية 63.
6 الهداية والعرفان: ص290.
عيسى عليه السلام: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} 1 لكن محمد أبو زيد يحرف التفسير فيقول: {فِي الْمَهْدِ} : في دور التمهيد للحياة وهو دور الصبا -علامة على الجرأة وقوة الاستعداد في الصغر " {وَكَهْلًا} علامة على أنه لا يقل عزمه بالشيخوخة والكبر -ويصح أن يكون المعنى: يكلم الناس الصغير منهم والكبير علامة على تواضعه ومباشرة دعوته بنفسه"2.
فإذا ما قلت له -لو كان يفقه- أن قوله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} 3 يدل على أنه تحدث وهو صبي في المهد تحمله أمه إذا قلت هذا أجابك جهلا وسفاهة: "كان في المهد صبيا أي كان ذاك النهار ولدا صغيرا فكيف يأمرنا وينهانا ونحن كبار القوم، فهذا ابن حرام"4! وانحرف في تفسير حمل أمه له حتى يلائم تفسيره هذا فقال في: {تَحْمِلُهُ} على ما يحمل عليه المسافر ومنه تفهم أنها كانت في سياحة طويلة"5. فجعل حمل مريم لعيسى عليهما السلام وإتيانها به قومها كذلك حملا على ما يحمل عليه المسافر؟! وهو صرف للألفاظ عن مدلولها لا تعين عليه اللغة وسياق الكلام ولكنه الهوى.
وقد تَعْجَب إذا قلت لك أنه ينكر أن يكون عيسى عليه السلام قد ولد من غير أب، لكنه يفعل هذا بطريق غير مباشر وإنما بطريق التلميح الذي قد يبعد عند بعض الأذهان كما أنها إشارة ملموزة عند آخرين حيث قال في تفسير قوله تعالى:{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} الآية 6: أم موسى فيها ملحوظة ظريفة هي أن موسى لم يذكر له أب ولكن قومه لم ينكروا أباه، أو يقولوا فيه كما قالت النصارى في المسيح ابن الله، بناء على أن المسيح نسب إلى أمه
1 سورة آل عمران: الآية 46.
2 الهداية والعرفان: ص44.
3 سورة مريم: الآية 29.
4 الهداية والعرفان: ص239.
5 الهداية والعرفان: ص239.
6 سورة القصص: الآية 7.
ولم يذكر له أب. راجع مريم لتفهم المناسبة بينها وبين أم موسى في أن كل واحدة منهما جاءت بمولود عظيم، وكان لها الفضل في حسن تربيته والجهاد في المحافظة عليه"1 فهذه المقارنة بين قوم موسى وقوم عيسى ترمز إلى أن عيسى كموسى عليهما السلام له أب ويتأكد هذا إذا نظرت تفسيره لقوله تعالى:{فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} 2 قال: {فَتَمَثَّلَ} يفهمك أنها رؤيا تمثيلية وبشارة روحية"، وفي قوله تعالى عن مريم عليها السلام: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا} 3 قال: "استنكرت لما طرأ على فكرها أن الولد يأتيها من غير السبب المعروف" وقال في قوله تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} 4 وما بعدها "اختصار في التعبير لا يعوق دور الحمل الطبيعي والمقصود أن مريم لما أصابها ما يصيب النساء لجأت عند الوضع إلى جذع النخلة لتستند عليه وتمنت لو ماتت قبل أن تذوق آلام الولادة، فلم يكن عيسى ابن الله، ولم تخرج أمه ولا هو عن دائرة البشرية"5 إذا أضفت التفسير السابق لآية القصص مع هذا التفسير لآيات مريم تبين لك ما يرمز إليه رجل ينكر المعجزات. وعرفت أنه لا يعترف كما لا يعترف اليهود بأن عيسى عليه السلام خلق من غير أب6.
أما معجزات عيسى عليه السلام بعد ذلك التي تحدث عنها القرآن حكاية عن عيسى عليه السلام: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 7، فإن هذا الرجل قد تخبط في تفسيرها
1 الهداية والعرفان: ص303.
2 سورة مريم: الآية 17.
3 سورة مريم: الآية 20.
4 سورة مريم: الآية 22.
5 الهداية والعرفان: ص239.
6 بلاغة القرآن: محمد الخضر حسين، ص120.
7 سورة آل عمران: الآية 49.
فراح يضرب القول جزافا فقال: {كَهَيْئَةِ} يفيدك التمثيل لإخراج الناس من ثقل الجهل وظلمائه إلى خفة العلم ونوره، ومعنى الأكمة من ليس عنده نظر، والأبرص: المتلون بما يشوه الفطرة فهل عيسى يبرئ هذا بمعنى أنه يكمل التكوين الجسماني بالأعمال الطيبة أم بمعنى أنه يكمل التكوين الروحي والفكري بالهداية الدينية. {فِي بُيُوتِكُمْ} يعلمهم التدبير المنزلي"1؟!
وأكد هذا عند تفسيره لهذا في آخر سورة المائدة عند قوله تعالى "مخاطبا عيسى عليه السلام: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} 2.
فقال في تفسيرها: {الْمَوْتَى} : معناهم مشترك بين موتى الأجساد وموتى القلوب والنفوس، وموتى الجهل والاستعباد، وموتى الاتهام والحكم بالإعدام. من هذا تعرف أن عيسى نبي أرسله الله إلى بني إسرائيل؛ ليشفي مرض نفوسهم ويحيي موت قلوبهم فآيته في دعوته، وسيرته وهدايته، عاش ومات كغيره من الأنبياء في بشريته فلم يكن خارقا لله في سننه، ولا ممتازا بما يدعو إلى ألوهيته وعبادته"3.
وأحسب أن أمر إلحاده في تأويل هذه المعجزات بين بحيث لا يحتاج مع بيانه إلى بيان، فحسبه الله، وكفى.
معجزات محمد صلى الله عليه وسلم:
ويكفي أن تعرف معجزة الإسراء به صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المسجد الأقصى ثم عودته إلى مكة في نفس الليلة كما اتفقت النصوص الكثيرة.
1 الهداية والعرفان: ص45.
2 سورة المائدة: الآية 110.
3 الهداية والعرفان: ص97.
على ذلك. وقد جاء محمد أبو زيد برأي جديد لم يقل به أحد قبله -فيما أعلم- فقد زعم أن "الإسراء يستعمل في هجرة الأنبياء""المسجد الحرام الذي له حرمة يحترم بها عند جميع الناس""المسجد الأقصى" الأبعد -مسجد المدينة- وقد بارك حوله، فكان للنبي صلى الله عليه وسلم هناك ثمرة وقوة وكان بالإسراء الفتح والنصر
فكان كل ذلك من آيات الله"1.
إذًا فالمراد بالإسراء عنده الهجرة -من مكة إلى المدينة ولا أدري كيف يفسر المسجد الأقصى بالأبعد ثم يزعم أنه مسجد المدينة مع أنه لا مسجد هناك حينذاك، زد على هذا أن في القدس مسجدا هو أبعد من مسجد المدينة ومع أن هذه الآية مكية باتفاق العلماء أي قبل الهجرة لكن المؤلف لا يدرك فوائد معرفة ما نزل بمكة وما نزل بالمدينة وأثر ذلك في التفسير، وزد على هذا أيضا أن الإسراء من مكة إلى بيت المقدس قد ورد في السنة ورواه جمع عظيم من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنهم وجاءت هذه الروايات في الصحاح، ولكنه لا يفسر القرآن بالسنة ولو فعل لما ضل وتاه وألحد في تفسيره.
تلكم بعض الأمثلة على مواقفه الملحدة من المعجزات التي أظهرها الله على يد أنبيائه علامة على صدقهم أمام أقوامهم، فآمن بها طوائف منهم وأنزل الله العقاب الشديد على من لم يؤمن بعد نزولها دليلا على حجيتهان واحسب هذا دليلا كافيا على قوة الارتباط بين النبوة والمعجزة قال شيخ الأزهر محمد الخضر حسين عن منكري المعجزات "إنما ينكرها طائفة ممن أنكروا بعثة الرسل إذ قالوا إن الرسالة تتوقف على المعجزة والمعجزة خرق للعادة وخرق العادة محال"2.
ولهذا فإن شيخ الأزهر محمد الخضر حسين رحمه الله تعالى كثيرا ما يربط وهو يرد على محمد أبو زيد بينه وبين داعية البهائية المسمى أبا الفضل في كتابه المسمى "الدرر" فيورد إلحاد هذا ثم يورد إلحاد البهائي فلا تكاد تجد فرقا بينهما إلا في الألفاظ، ويزداد ظنك سوءا إذا علمت أن صدور الكتاب
1 الهداية والعرفان: ص219.
2 بلاغة القرآن: محمد الخضر حسين، ص114.
البهائي قبل صدور تفسير محمد أبو زيد بوقت قصير نسبيا، وبعد فلعل فيما ذكرنا من موقفه من المعجزات بيان لحقيقته.
ثالثا- إنكار الغيبيات:
ونكتفي من الحديث عن الغيبيات بثلاثة من معالمه التي ضل بها كثير من الناس "فنذكر تعريفه للملائكة والجن والشياطين".
الملائكة:
أما الملائكة فهم عنده رسل النظام وعالم السنن وسجودهم للإنسان معناه أن الكون مسخر له1 أما حملهم للتابوت في قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} 2 فقد فسر الحمل بقوله: {تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ} إشارة إلى أنه يأتي إليهم بسنن الله ونظامه أي بتغلبهم على العدو بقوة الحرب ونظامه والملائكة كما قلنا في 34 رسل النظام والسنن في الكون"3.
الشياطين:
قال تعالى: {قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُنَا وَلا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ} 4 فقال محمد أبو زيد في تفسير الشياطين: "الشياطين تطلق على الحيات والثعابين تستهوي من يتبعها؛ ليقتلها فيهوى معها وتضله بتعرجها"5؟!.
وفي قوله تعالى عن سليمان، عليه السلام: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي
1 الهداية والعرفان: ص7.
2 سورة البقرة: الآية 248.
3 الهداية والعرفان: ص33.
4 سورة الأنعام: الآية 71.
5 الهداية والعرفان: ص105 وانظر ص37 حيث قال: الشيطان يطلق على الثعبان كالجان.
بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ، وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} 1. فقال هذا في تفسيرها:"الشياطين يطلقون على الصناع الماهرين والأشقياء المجرمين"2.
أما وصف الشيطان وقبيله بأنهم يروننا من حيث لا نراهم وذلك في قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُم} 3 فقال في تفسيرها: {مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُم} أي من الجهة التي لا ترونهم فيها شياطين، فيخدعونكم بأنهم من الأولياء الصالحين"4 فصرف هذا الرؤية عن أن تكون إلى الأعيان والأبدان إلى أن تكون نفيا للرؤية المعنوية وهي رؤية حقيقتهم ومآربهم.
أما إبليس فعنده أنه: "اسم لكل مستكبر على الحق ويتبعه لفظ الشيطان والجان وهو النوع المستعصي على الإنسان تسخيره"5.
الجن:
قال تعالى في أول سورة الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} 6.
وزعم محمد أبو زيد أنه "يطلق الجِن والجِنة على الزعماء والمستكبرين من السادة المتبوعين، ويعبر عن الأنس بسائر المقلدين والتابعين المستضعفين"7 ولا أدري ماذا يسمى الإنس المتبوعين والسادة.
لكنه جاء بتعريف آخر للجن في تفسير قوله تعالى: {وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ} 8 فقال: "الجن يطلق على
1 سورة ص: الآية 36-37.
2 الهداية والعرفان: ج ص359.
3 سورة الأعراف: الآية 27.
4 الهداية والعرفان: ص118.
5 الهداية والعرفان: ص7.
6 سورة الجن: الآية الأولى.
7 الهداية والعرفان: ص458.
8 سورةالنمل: الآية 17.
العالم الخفي والظاهر القوي وجن كل شيء أوله ومقدمته وجن الجيش قواده ورؤساؤه"1.
وقال في تفسير قوله تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُوم} 2، "والجان: النوع المتشرد صاحب الطبع الناري الذي إذا قاربته يؤذيك ويغويك ولا تستطيع أن تمسكه وتعدله، والنوعان موجودا في كل أمة"3. وتأمل قوله والنوعان:"يقصد الإنسان والجان" موجودان في كل أمة فقد وصف الإنسان بأنه النوع الهادي، والجان بأنه النوع المتشرد، ثم وصفهما بأنهما موجودان في كل أمة. وإذا أضفت هذه النصوص إلى بعضها، وعرفت موقف صاحبها من الملائكة والشياطين أدركت أنه يجعل الجن نوعًا من أنواع البشر، ويقابله النوع الثاني من أنواع البشر وهم الإنس.
وهذان النوعان الجن والإنس موجودان في كل أمة من البشر، وهذا يعني خلاف الحق الذي اتفقت عليه الأمة من أن الجن نوع مستتر بخلاف الإنس وأن فيهم الصالح وفيهم الفاجر فيهم المؤمن وفيهم الكافر.
رابعا: إنكار بعض التشريعات المعلومة من الدين بالضرورة
وإنما وصفته بأنه ينكر ولم أصفه بالاجتهاد لأن الاجتهاد له شروطه التي لا تتوفر فيه أولا ولأن الاجتهاد ليس فيما أجمع عليه المسلمون وما هو معلوم من الدين بالضرورة؛ فلا يصح أن يجتهد إنسان في حكم الصلاة المفروضة مثلا لأن أمره لا يحتاج إلى ذلك الجهد واستقصاء الذهن في معرفته؛ إذ هو معلوم من الدين بالضرورة، كذلك المر في حكم السرقة والزنا وتعدد الزوجات والربا، ونحو ذلك؛ وإنما يسمى من أنكر شيئا من ذلك منكرا لتشريعه لا مجتهدا في حكمه، وعلى هذا فقد أنكر محمد أبو زيد عددا من الأحكام الشرعية المعلومة من الدين بالضرورة ومنها:
1 الهداية والعرفان: ص297.
2 سورة الحجر: الآية 27.
3 الهداية والعرفان: ص204.
حد السرقة:
قال تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} الآية1، ولم يذكر القرآن ولا السنة، ولم يرد عن أحد من الصحابة أو من التابعين اشتراط أن تتكرر السرقة من السارق حتى يقام عليه الحد؛ لكن محمد أبو زيد يشترط هذا افتياتا على الشريعة فيقول:"واعلم أن لفظ {السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} تعطي معنى التعود أي أن السرقة صفة من صفاتهم الملامة لهم، ويظهر لك من هذا المعنى أن من يسرق مرة أو مرتين ولا يستمر في السرقة ولم يتعود اللصوصية لا يعاقب بقطع يده؛ لأن قطعها فيه تعجيز له ولا يكن ذلك إلا بعد اليأس من علاجه"2.
حد الزنا:
ونحو تفسيره هذا قال في تفسير قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} الآية3؛ فزعم: "يطلق هذا الوصف على المرأة والرجل إذا كانا معروفين بالزنا وكان من عادتهما وخلقهما فهما بذلك يستحقان الجلد"4.
وهذا الزعم الباطل في تأويل هذه الآية جاء من بعده في تفاسير كثير من المنهزمين الذين تأثروا بكلام أعداء الحق حين زعموا أن قطع يد السارق وجلد الزاني -فضلا عن رجمه- فيه قسوة وعنف، وفيه تعطيل للفرد وتعجيز له، وفيه تشويه لأفراد البشر وهم بها ينظرون إلى المجتمع من زاويته الضيقة زاوية الفرد، ولو علم هؤلاء أن في قطع يد سارق حفظا لأرواح بله أيدي آخرين هم أكثر عددا، وأن في قطع يد سارق حفظا لأمن أمة، وأن في تشويه يد سارق جمالا لأمة، وأن القسوة ليست في الجزاء والقصاص؛ وإنما هي في الجريمة الأولى التي استحق صاحبها العقاب عليها؛ ولكنهم لا يفقهون أو يفقهون ويمكرون.
أما إن أرادوا الفقه الحق في تفسير الآية، فقد رد الشيخ محمد الخضر
1 سورة المائدة: من الآية 38.
2 الهداية والعرفان: ص88.
3 سورة النور: الآية 2.
4 الهداية والعرفان: ص274.
حسين على هذا وأمثاله بقوله: "وهذا الذي قاله في اسم الفاعل من أنه يدل على التكرار والتعود من بهتانه الذي لا يقف عند حد؟ فاسم الفاعل نحو السارق أو الزاني إنما يدل على ذات قامت بها السرقة أو الزنا، ولا دلالة له على تجدد قيام الوصف بالذات، ولا على تعودها عليه؛ هذا ما يقوله علماء العربية في القديم والحديث. قال ابن مالك في كتاب التسهيل معرفا اسم الفاعل: "اسم الفاعل هو الصفة الدالة على فاعل، جارية في التذكير والتأنيث على المضارع من أفعالها لمعناه أو معنى الماضي"؛ فقوله لمعناه أو معنى الماضي تنبيه على أنه لا يدل على أزيد مما يدل عليه الفعل، وهذا وجه الفرق بينه وبين صيغ المبالغة كفعال ومفعال ومفعول؛ فإن هذه الصيغ تدل على معنى زائد على حدوث الصفة لمن قامت به، وهو قوتها فيه أو كثرة دورها منه"، إلى أن قال رحمه الله تعالى:"فعلماء العربية من كوفيين وبصريين مجمعون على أن اسم الفاعل لا يدل على أكثر مما يدل عليه الفعل، وإذا كان علماء العربية الذين قضوا أعمارهم الطويلة في تقصي اللغة والتفقه في كلام العرب قد تظاهروا على أن اسم الفاعل لا يدل على مقدار من الوصف أكثر مما يدل عليه أصل المضارع والماضي؛ أفيستطيع المؤول أن ينقض بناءهم بكلمة لا تمت إلى البحث بسبب؛ وإنما هي وليدة الهوى والانهماك في مخالفة أهل العلم"1.
وإنما رددت على هذا التأويل لهذا الرجل؛ لأن هناك من انخدع بهذا التأويل فأخذ يردده ويكرره عن جهل حينا وعن فسق أحيانا؛ وإلا فالحق فيه كما هو الحق في كثير من التأويلات الأخرى بين واضح لا يحتاج إلى شرح وبيان كما لا يحتاج إلحاده فيه إلى إبطال ونقد.
الربا:
وحكم الربا أيضا معلوم من الدين بالضرورة ولئن قامت في المسلمين طائفة تبحث عن تأويل تبرر به واقع المسلمين اليوم فتلتمس الضرورة الاقتصادية سببا لإباحة الربا أو تخص المراد بالربا المحرم بأنه الربا
1 بلاغة القرآن: الشيخ محمد الخضر حسين ص126-127.
الفاحش، فإن هذه الترتيبات الباطلة لا تغني من الحق شيئا بعد أن اتفق المسلمون على تحريم الربا قليلة وكثيرة؛ أما محمد أبو زيد فقد زعم أن الربا المحرم هو الربا الفاحش ولم يحدد المقدار الذي يكون به الربا فاحشا؛ وإنما ترك هذا لتقدره كل أمة بعرفها؟! وبهذا يكون الربا محرما في مكان ومباحا في آخر؟!
فقال في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} 1: "أي الربا الفاحش، وبمعنى آخر: الربح الزائد عن حده في رأس المال وتقدره كل أمة بعرفها"2.
وعلى زعمه هذا إن قدرته أمة بما زاد على 20% وقدرته أخرى بما زاد عن 15%، فإن ربا 16% إلى 20% حرام عند طائفة من المسلمين مباح عند أخرى، ثم أين موقع السنة التي حرمت الربا قليله وكثيره من هذا التفسير؟! إنك لن تجد لها أثرا كما لم تجدها في سائر تفسيره وحسبك بهذا انحرافا في التفسير.
تعدد الزوجات:
وأما تعدد الزوجات؛ فقد جاء محمد أبو زيد في شرط إباحته بما هو أعجب من كل ما سلف؛ حيث اشترط شرطا لم يقل به أحد من قبله ولا من بعده حتى ساعتنا هذه فيما أعلم؛ حيث اشترط في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} 3. اشترط في "النساء" أن يكن من نساء اليتامى؛ فلا يجوز عنده التعدد من غير النساء اليتامى؟! قال: "من النساء: نساء اليتامى الذين فيهم الكلام لأن الزواج منهن يمنع الحرج في أموالهن، ومن هذا تفهم أن تعدد الزوجات لا يجوز إلا للضرورة التي يكون فيها التعدد مع العدل أقل ضررا
1 سورة آل عمران: الآية 130.
2 الهداية والعرفان: ص53.
3 سورة النساء: من الآية 3.
على المجتمع من تركه، ولتعلم أن التعدد لم يشرع إلا في هذه الآية بذلك الشرط السابق واللاحق"1.
ولنا مع هذا التفسير وقفات قصيرة فلا سند له أولا في اشتراط أن تكون النساء من اليتامى يكذب هذا إطلاق العبارة في الآية، وتكذبه السنة النبوية وفعل الرسول صلى الله عليه وسلم وفعل أصحابه؛ فقد عدد وعددوا من غير يتامى النساء، ولم يدر بخلد أحدهم هذا الشرط ولم يقل به أحد مهم ولا من سائر علماء المسلمين من بعدهم.
ووقفة أخرى مع هذا التفسير من أين جاء بقيد: "إنه لا يجوز إلا للضرورة" وليس في الآية مثل هذا القيد.
ووقفة ثالثة ماذا يقصد بقوله أن التعدد لم يشرع إلا في هذه الآية؟!
أليست الآية الواحدة كافية في التشريع أم لا بد من تكراره حتى يكون مشروعا؟! أم يريد التقليل من شأن التعدد؟! وحسبنا قدوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه من بعده.
التسري:
والآية السابقة تنص على أن من خاف ألا يعدل فليتزوج واحدة أو يتسرى بما ملكت يمينه. قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} 2.
لكن محمد أبو زيد ينكر التسري فيقول في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} الآية3، وبدلا من أن يستدل بها على إباحة التزوج مما ملكت الأيمان عكس المعنى؛ فقال: "وفي هذه الآية رد على الذين يتخذون ملك
1 الهداية والعرفان: ص61.
2 سورة النساء: الآية 3.
3 سورة النساء: من الآية 25.
اليمين من الخادمات والوصيفات للتمتع بهن كالزوجات بحجة أنهن مشتراة بالمال أو أسيرات بالحرب؛ فليس في الإسلام عرض امرأة يستباح بغير الزواج مملوكة كانت او مالكة"1.
وإذا قرأت قوله تعالى في وصف المؤمنين: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} 2، قال في تفسيرها:"أو ما ملكت أيمانهم من الخدم؛ فإن لهم ما ليس لغيرهم؛ فقد يكون في الإنسان فروج، أي نقائص وعيوب يسيئه أن يراها الناس فيه ولكن لا يسيئه أن يراها خدامة". ومن البلاغة في التعبير أن لفظ "أو" أفاد التنويع بين ما يباح للأزواج وما يباح لملك اليمين إذ يوجد من العيوب ما لا ينبغي كشفه على الخدم ويكفيك فاصلا: الذوق والعرف الجاري مع الفطرة"3.
وهو هنا صرف الآية عن أن تكون للحث على حفظ الفروج حقيقة من الوقوع في الحرام إلى أن يكون المراد بالفروج النقائص والعيوب وأن المراد بحفظها منع كشفها لغير الأزواج والخدم؟!
وقد ضحكت وشر البلية ما يضحك لقوله "إن"، "أو" بلاغة في التعبير وتساءلت هل يعرف هذا التعبير فضلا عن بليغه؟! ثم لا ندري كيف يستدل بأو العاطفة "ما ملكت أيمانهم" على "أزواجهم" على التنويع بين ما يباح كشفه للأزوج وما يباح كشفه لملك اليمين مع أنه لم يذكر في الآية ما يباح للصنفين فيما زعم.
وخلاصة الأمر أنه يحرم التسري، بل وملك اليمين أصلا ويفسر الفروج بالعيوب وهو أمر لا تعين عليه اللغة ولا يدل عليه الشرع.
1 الهداية والعرفان: ص64.
2 المؤمنون: الآيتين 5، 6؛ والمعارج: الآيتين 29-30.
3 الهداية والعرفان: 455.
الطلاق:
وكما اشترط في التعدد شرطا جديدا لم يقل به أحد من قبله، فإنه جاء أيضا هنا بشرط عجيب لا أعلم أحد قال به من قبله أيضا، وهو أن الطلاق لا يقع من الزوج لزوجته إلا إذا جاءت بما يخل بنظام العشرة الزوجية. وعبارة لا يقع تدل على أنه فيما لو نطق بالطلاق من غير هذا السبب فإن زوجته لا تطلق، وهاك نص عبارته:"إن الطلاق وإن كان في يد الرجل لا يخل بنظام العشرة الزوجية"1.
قال: "تسهيل على الرجل فإنه يصعب عليه أن يعاشر امرأته وهو يعتقد عدم عفتها، وتفهم من هذا أن ليس له أن يطلقها إلا بسبب يخل بالعشرة الزوجية؛ وإلا ما احتاج إلى هذا الإشهاد"3، وهو يجهل أن هذه الشهادة من الزوج ليست لإيقاع الطلاق؛ وإنما لإيقاع العقاب عليها، ولذلك قال تعالى بعد هاتين الآيتين مباشرة:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ} الآية4؛ ولكنه لا يفقه هذا وألحد في تفسير الآية.
مصارف الزكاة:
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى مصارف الزكاة في قوله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} 5،
1 الهداية والعرفان: ص445.
2 سورة النور: الآيتين 6-7.
3 الهداية والعرفان: ص274.
4 سورة النور: الآية 8.
5 سورة التوبة: الآية 60.
ومحمد أبو زيد يفسر بعض هذه المصارف -كعادته- تفسيرا جديدا فيقول:
{وَفِي الرِّقَابِ} : في خلاصها من الاستعباد، وفي هذا الزمان تجد أكثر المسلمين رقابهم مملوكة للأجانب؛ فيجب أن يتعاونوا على فك رقابهم، وفي الصدقات حق لهذا التعاون والغارمين ما يصيبهم، وكل من يغرم للمصلحة العامة؛ فهو من الغارمين، {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} منه نشر الدعوة باللسان والقلم لحرية العقيدة والوطن والقتال للدفاع عن الحرية والاستقلال والتربية والتعليم الباعثان على تكوين أمة معمرة في الكون، ويتبع ذلك المستشفيات والملاجئ للمرضى والمحتاجين والمعامل والمصانع للعمال والعاطلين "وابن السبيل" السائح المكتشف؟! واللقيط الذي يوجد في الطريق ولا يعرف له عائل"1.
وهو في تأويله هذا خلط حقا بباطل. وكلاهما معلوم لا يخفى أظنه لا يحتاج إلى بيان.
زكاة الزروع:
ذكرنا رأيه في الربا وأنه يقول بإباحة الربا غير الفاحش، وأن مقدار الفاحش متروك للأمة تقدره بحسب حالها، ورأيه هنا في زكاة الزروع لا يبعد عن هذا؛ حيث يقول في تفسير قوله تعالى:{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} 2، قال:"زمن تحصيله وكما أمر المالكين بإيتاء هذا الحق أمر الحاكم العام بأخذه والعمل على جبابته لبيت المال، وقد ترك التقدير للأمة بحسب الحالة"3 وكل من أوتي حظا من الفقه يعلم أن السنة لم تترك هذا، بل قدر زكاتها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولكن محمد أبو زيد هذا لا يعترف بالتفسير بالسنة.
خامسا: إهمال المدلول اللغوي:
ولأنه يأتي بما لم يقل به أحد من قبله، فإن اللغة لا تطاوعه في كثير من أقواله فلا يبالي بذلك ولا يلقي له حسابا، بل صرح في مقدمة تفسيره بهذا،
1 الهداية والعرفان: ص150.
2 سورة الأنعام: من الآية 141.
3 الهداية والعرفان: ص113.
حيث قال: "وقد تغيرت معاني القرآن أيضا، وتبدلت مقاصده باعتمال المفسرين على بعض كتب اللغة التي تفسر الألفاظ بلازمها، وتقصرها على بعض معانيها، وقد سرى التقليد واستعمال الاصطلاحات في قواميس اللغة كما سرى في غيرها؛ حتى أنك لتجد كثيرا من ألفاظ القرآن في تلك القواميس مفسرة بما فسرت به في كتب فقه الأحكام فتكون بذلك بعيدة عن فقه اللغة فيتغير معناها المراد في القرآن"1.
ولا عجب بعد أن يتحرر من يزعم نفسه مفسرا من السنة الصحيحة واللغة أن يفسر الآيات بما يشاء؛ فأي ضابط للتفسير بعدهما فليقل ما يشاء وليقل غيره ما يشاء فلا ميزان توزن به الأقوال ولا ملاذ تلجأ إليه الآراء وهذا ما يريده الملحدون وأعداء هذا الدين ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
ولقد ذكرنا -فيما سلف- أمثلة يظهر فيها عدم التزامه المدلول اللغوي الصحيح للألفاظ في تفسيره المزعوم، ومن ذلك مثلا معنى كلمة الفروج في مثل:{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} 3.
السوءة وغلب عليها4، والسياق في الكلام يحدد المعنى المراد الأصلي أم الكناية؛ ففي الآية الأولى هنا المراد بها "العورة"، وفي الآية الثاني على المعنى الأصلي.
وإذا ما نظرت بعد هذا في تفسير محمد أبو زيد وجدته لا يفرق بين هذا وذاك فيذكر لهما معنى واحدا وزيادة على هذا؛ فالمعنى الذي يذكره ليس هو المعنى الأصلي ولا الكناية به؛ فقال في تفسير الأولى: "فروج أي نقائض
1 المرجع السابق: ص "ج".
2 سورة المعارج: الآية29.
3 سورة ق: الآية6.
4 انظر المعجم الوسيط ج2 ص685.
وعيوب"1؟!. وقال في تفسير الآية الثانية: "{فُرُوجٍ} : عيوب ونقائص"2 وهو دليل على جهله في اللغة؛ بل وعلى عدم اعتداده بها في التفسير.
وخذ مثلا آخر اسم "الطير" لا يخفى معناه والمراد به في قوله تعالى: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ} 3 لكنه يقول في معناه: "والطير يطلق على ذي الجناح وكل سريع السير من الخيل والقطارات البخارية والطيارات الهوائية"4.
سادسا: تفسير القرآن بالقرآن
وقد ألصق المؤلف نفسه بهذا النوع من التفسير إلصاقا، مكرا وخبثا فهو يعلم قيمة هذا النوع من التفسير لدى المسلمين فسمى تفسيره "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن".
وقد جعلت الحديث عن هذا الأساس المزعوم هو الأخير لأنه آخر ما تجده في هذا التفسير، وكيف يصح أن يسمى تفسيره تفسيرا بالقرآن وهو يعصي القرآن نفسه في أمره بالأخذ بالسنة في تفسيره؟! هذا فيما لو صح ما يسميه تفسيرا للقرآن بالقرآن.
وإن شئتم أمثلة على ذلك سقت لكم منه كثيرا كثيرا؛ ولكن لا تطمعوا بفائدة منه في هذا فإشارته إلى ما يفسر به ليس لآية أو آيات إنما يشير لسورة أو سور كثيرة أي أنها إشارات مجملة وأذكر أمثلة يتضح بها المراد.
في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} 5. قال في
1 الهداية والعرفان ص455.
2 الهداية والعرفان: ص410.
3 سورة الأنبياء: الآية 79.
4 الهداية والعرفان: ص257.
5 سورة الأنفال: الآية 29.
تفسيره: "اقرأ الطلاق"1، أي اقرأ سورة الطلاق؟!
وفي تفسير قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} 2 الآية، يقول:"اقرأ الأحقاف ولقمان"3.
وفي تفسير قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} 4، قال:{جَاثِمِينَ} : باركين اقرأ هود والحجر والشعراء"5.
وفي تفسير قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} 6، قال:"13-54 اقرأ الأعراف والحاقة والواقعة والنمل"7.
وفي تفسير قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْأِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} الآيات: 8، قال:"6-10 اقرأ الصافات وتدبرها آية آية، ثم الأعراف إلى 38، 39 وما بعدها إلى آخرها، ثم سبأ وغافر وإبراهيم والأنعام ويس والشعراء، ثم الإسراء والكهف والحجر والرحمن والنمل وفصلت والذاريات وأواخر الأحزاب، ثم هود والسجدة والناس، ثم الفاتحة، ثم146، 165-167 في البقرة. بعد هذا تفهم أنه يطلق الجن والجنة على الزعماء والمستكبرين من السادة المتبوعين ويعبر عن الإنس بسائر الناس المقلدين والتابعين المستضعفين"9.
وإذا عرفت أن تفسيره مكتوب على هامش القرآن وأن هوامش كثيرة من الصفحات تكاد تكون بيضاء إلا من إحالة إلى قراءة سورة أو سور لمعرفة معنى
1 الهداية والعرفان ص138.
2 سورة العنكبوت: الآية 8.
3 الهداية والعرفان ص312.
4 سورة العنكبوت: الآية 37.
5 الهداية والعرفان ص314.
6 سورة فصلت: الآية 13.
7 الهداية والعرفان: ص376.
8 سورة الجن: الآية 6-10.
9 الهداية والعرفان: ص458.
كلمة أو آية عرفت صغر حجم هذا التفسير ومع هذا فلو مليء بهذه الانحرافات، ولهذا فإنه يخيل إلي أن صاحب هذا التفسير قد وزع أفكاره الإلحادية على آيات القرآن الكريم أولا، ثم للغش والتدليس نمق بعض الصفحات بمثل هذه الإحالات التي توهم تفسير القرآن بالقرآن؟! وماهو بتفسير ولكنه ابتلاء وامتحان للمؤمنين قيض الله له طائفة من العلماء كشفوا عواره وأظهروا إلحاده، فحكم على صاحبه بالردة، ولم يصدر الحكم النهائي من المحكمة لإعلانه رجوعه وتوبته، ويبقى الحكم دائما وأبدا لله سبحانه وتعالى؛ فهو الذي يعلم ظاهره وباطنة وما تخفي الصدور.
ومما يؤسف له ويحز في النفس أن كثير من آراء هذا الرجل في تفسيره قد انتشرت بين بعض من أصابهم داء ضعف الإيمان أو فقده وهم حين يقولون بها لا يشيرون إليه ولا يؤمنون، وما لنا ولإشارتهم أو عدمها وآراؤهم متماثلة ينكرون مثله المعجزات ويؤولونها بما يبطلها ويجهرون جهرا باشتراط تكرار السرقة والزنا حتى يقام على السارق والزاني الحد وإلا فلا حد؟! وينكرون الملائكة والجن والشياطين وينكرون سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ويقولون بملء أفواههم الإسلام هو القرآن وحده، ويريدون منه بصريح عباراتهم عدم الاحتجاج بالسنة وإنكارها، وهم حين يقولون هذا وذاك يعيشون بيننا ولا يمنع ذلك كثيرا منا من أن يكون أكيله وجليسه؛ بل وصديقه الملحد وأي مؤمن يصادق ملحدا؟! ولكنها الجاهلية التي غشت على كثير من الأبصار غشاوة أعمتها عن التماس السبيل فذهبت تلتمسه يمنة ويسرة فتعثر هنا وتعثر هناك، وقد تهلك إن لم يدركها الله بنور من عنده.