المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ - اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر - جـ ٣

[فهد الرومي]

فهرس الكتاب

- ‌المجلد الثالث

- ‌الباب الرابع: الإتجاه الأدبي في التفسير

- ‌تمهيد

- ‌الفصل الأول: المنهج البياني في التفسير

- ‌مدخل

- ‌تطور التفسير البياني:

- ‌قصة تأصيل هذا المنهج:

- ‌مراحله ومعالمه:

- ‌تقسيم الأستاذ أمين الخولي:

- ‌دراسة القرآن نفسه:

- ‌التفسير النفسي:

- ‌الدراسات التطبيقية

- ‌أمين الخولي

- ‌عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ

- ‌الدكتور محمد أحمد خلف الله

- ‌رأيي في هذا المنهج:

- ‌الفصل الثاني: منهج التذوق الأدبي في التفسير

- ‌المراد به:

- ‌في ظلال القرآن:

- ‌منهجه في التفسير

- ‌مدخل

- ‌الأساس الأول: الأسلوب الأدبي

- ‌الأساس الثاني: تذوق النص القرآني

- ‌الأساس الثالث: الحركية

- ‌الأساس الرابع: التفسير الجمالي الفني

- ‌الأساس الخامس: استيحاء النص دون مقررات سابقة

- ‌الأساس السادس: الوحدة الموضوعية

- ‌الأساس السابع: ترك الأطناب عما أبهم في القرآن الكريم

- ‌الأساس الثامن: التحذير من الإسرائيليات

- ‌الأساس التاسع: ترك الاختلافات الفقهية

- ‌الأساس العاشر: اجتناب الإغراق في المسائل اللغوية

- ‌الأساس الحادي عشر: رفض التفسير العلمي

- ‌ملاحظات على هذا التفسير:

- ‌الباب الخامس: الاتجاهات المنحرفة في تفسير القرآن الكريم

- ‌تمهيد:

- ‌الفصل الأول: المنهج الإلحادي في تفسير القرآن الكريم

- ‌مدخل

- ‌الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن:

- ‌الفصل الثاني: منهج القاصرين في تفسير القرآن الكريم

- ‌تمهيد:

- ‌نماذج من هذا اللون في التفسير:

- ‌القرآن محاولة لفهم عصري:

- ‌أولا: المؤلف

- ‌ثانيا: الكتاب "القرآن محاولة لفهم عصري

- ‌الفصل الثالث: اللون اللامنهجي في التفسير

- ‌تمهيد:

- ‌رسالة الفتح:

- ‌الخاتمة:

- ‌الفهارس

- ‌دليل الآيات القرآنية

- ‌دليل الأحاديث النبوية:

- ‌دليل الأعلام:

- ‌دليل المصادر والمراجع

- ‌دليل المحتويات:

الفصل: ‌عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ

لا أوافقه لأني أرى أن عناصر المنهج كلها ملائمة للإذاعة لا تنبو عنها ولا تثقل بها؛ خاصة أنه أحيانا يتحدث عن المفردات -مثلا- في موضع لكنه في مواضع أخرى يهملها. ولا أعرف سببا لذلك. والله أعلم.. ومن الأستاذ إلى تلميذته.

ص: 924

‌عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ

":

تلقت علوم الإسلام والعربية على مناهج الأزهر الشريف على والدها وزملائه الشيوخ بالمعهد الديني الأزهري بدمياط وتقدمت من المنزل لامتحان كفاءة المعلمات سنة 1929م ثم الشهادة العامة الابتدائية سنة 1931م والكفاءة والثانوية سنة 1932م والبكالوريا أدبي سنة 1934م دون أن تلتحق بأية مدرسة لهذه المراحل.

ثم تابعت الدراسة الجامعية في قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة القاهرة حتى نالت:

الليسانس الممتازة في اللغة العربية سنة 1939م.

الماجستير في الآداب سنة 1941م.

الدكتوراه في الآداب، تخصص نصوص سنة 1950م.

وتدرجت في المناصب الجامعية من معيدة بقسم اللغة العربية بآداب القاهرة سنة 1939م ومدرس مساعد بالقسم سنة 1942-1944م إلى مدرس أ. بجامعة عين شمس سنة 1952م وأستاذ مساعد سنة 1957م ثم أستاذ كرسي اللغة العربية وآدابها سنة 1962م حتى استقرت أستاذا للتفسير والدراسات العليا بكلية الشريعة جامعة القرويين سنة 1970 إلى اليوم.

مؤلفاتها:

قدمت المؤلفة إلى المكتبة العربية نحو أربعين كتابا؛ منها: في الدراسات القرآنية والإسلامية:

1-

التفسير البياني للقرآني الكريم: في جزءين "طبع خمس طبعات".

ص: 924

2-

الإعجاز البياني للقرآن ومسائل ابن الأزرق "طبعتان".

3-

مقال في الإنسان "دراسة قرآنية".

4-

القرآن والتفسير العصري، سلسلة اقرأ "335".

5-

القرآن وقضايا الإنسان: "ست طبعات".

6-

الشخصية الإسلامية "دراسة قرآنية""خمس طبعات".

7-

مع المصطفى عليه الصلاة والسلام "أربع طبعات".

8-

تراجم سيدات بيت النبوة في "خمسة أجزاء""خمس عشرة طبعة".

9-

الإسرائيليات في الغزو الفكري.

10-

مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث "نص محقق".

11-

محاسن الإصطلاح للسراج البلقيني "نص محقق".

في الدراسات اللغوية والأدبية والتاريخية لها عدد من المؤلفات أذكر منها:

1-

لغتنا والحياة.

2-

تراثنا بين ماضٍ وحاضر.

3-

الخنساء.

4-

أبو العلاء المعري.

5-

الحياة الإنسانية عند أبي العلاء.

6-

مع أبي العلاء في رحلة حياته.

7-

قراءة جديدة في رسالة الغفران.

8-

الغفران دراسة نقدية.

9-

رسالة الغفران لأبي العلاء "تحقيق".

10-

أرض المعجزات.

ولها غير ذلك من المؤلفات والبحوث وأشرفت على عدد كبير من الرسائل العلمية في مختلف البلدان العربية وشاركت في عدد من المؤتمرات1.

1 أخذت هذه الترجمة من "بيان وتقرير عن الأستاذة الدكتورة عائشة عبد الرحمن المرشحة من جامعة عين شمس لجائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام سنة 1403" ولم تظفر بها.

ص: 925

تفسيرها:

تصف بنت الشاطئ الأصل في المنهج الذي تلقته عن أستاذها بقولها: "والأصل في منهج التفسير الأدبي كما تلقيته عن أستاذي هو التناول الموضوعي الذي يفرغ لدراسة الموضوع الواحد فيه، فيجمع كل ما في القرآن عنه ويهتدي بمألوف استعماله للألفاظ والأساليب بعد تحديد الدلالة اللغوية لكل ذاك، وهو منهج يختلف تماما عن الطريقة المعروفة، في تفسير القرآن سورة سورة، يؤخذ اللفظ أو الآية فيه مقتطعا من سياقه العام في القرآن كله مما لا سبيل معه إلى الاهتداء إلى الدلالة القرآنية لألفاظه أو استجلاء ظواهره الأسلوبية وخصائصه البيانية"1.

وإذا ما أردنا أن نستقرئ تفسير الدكتورة عائشة منهجًا فيه فإنا سنجد له معالم واضحة، أهمها أن الأستاذ الخولي جعل "المقصد الأول للتفسير أدبيا محضا صرفا" كما نقلناه عنه وجاءت تلميذته لتؤكد هذا بقولها:"إن الذين يعنون بدراسة نواحٍ أخرى فيه -أي في القرآن- والتماس مقاصد بعينها منه لا يستطيعون أن يبلغوا من تلك المقاصد شيئا دون أن يفقهوا أسلوبه الفذ ويهتدوا إلى أسراره البيانية كي لا يغيب عنه شيء من دلالاته فسواء أكان الدارس يريد أن يستخرج من القرآن أحكامه الفقهية أو يستبين موقفه من القضايا الاجتماعية أو اللغوية أو البلاغية أم كان يريد أن يفسر آيات الذكر الحكيم تفسيرا عاما على النحو الذي ألفناه في كتب التفسير فهو مطالب بأن يتهيأ أولا لما يريد ويعد لمقصده عدته من فهم مفردات القرآن وأساليبه فَهْمًا يقوم على الدرس المنهجي الاستقرائي ولمح أسراره في التعبير"2.

وتأتي بعد ذلك قواعد منهجها في التفسير، وأهمها3:

1 التفسير البياني للقرآن الكريم: د/ عائشة عبد الرحمن، ج1 ص18.

2 المرجع السابق، ج1 ص15.

3 استفدنا جمع هذه القواعد مما كتبه الدكتور كامل سعفان في كتابه "المنهج البياني في تفسير القرآن الكريم"، ص115-119.

ص: 926

أولا- العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب:

وقررت هذا في مقدمة تفسيرها ورتبت عليه نظرتها إلى أسباب النزول حيث قالت: "إن المرويات في أسباب النزول موضع اعتبار في فهم الظروف التي لابست نزول الآية مع تقدير أن الصحابة الذين عاصروا نزولها ورويت عنهم أقوال فيها ربطها كل منهم بما وهم أو فهم أنه السبب في نزولها وهذا هو معنى قول علماء القرآن: إن المرويات في أسباب النزول يكثر فيها الوهم، ونقدر معه أن السببية فيها ليست بمعنى العلية التي لولاها لما نزلت الآية وأن العبرة في كل حال بعموم اللفظ المفهوم من صريح نصها لا بخصوص السبب الذي نزلت فيه"1.

أما المرحلة التطبيقية عندها فهي تورد سبب النزول ثم تعقب عليه بقاعدة الأصوليين هذه وتعلق عليه، وخذ مثلا لذلك ما قالته في تفسير قوله تعالى:{إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} 2، قالت:"وللمفسرين في الإنسان قولان: أنه لعموم الجنس أو أن "أل" للعهد مرادا بالإنسان جماعة من المشركين: الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل والأسود بن عبد المطلب ولا نقف عند ما اختلفوا فيه فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب الذي نزلت فيه الآية، والسياق ظاهره لا يخص الإنسان بفلان أو بآخر والتعميم فيه مستفاد صراحة من الإطلاق ثم استثناء {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات} 3.

فهي كما ترى لا تكتفي بإيراد القاعدة الأصولية بل تحرر سبب رفضها، ولكنها أحيانا تكتفي بإيراد القاعدة خذ مثلا لذلك ما قالته في ما ورد من سبب نزول قوله تعالى:{أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّين} 4، قالت: "وقالوا في أسباب

1 التفسير البياني للقرآن الكريم: د/ عائشة عبد الرحمن، ج2، ص9.

2 سورة العصر: الآية 2.

3 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن، ج2 ص81.

4 سورة الماعون: الآية الأولى.

ص: 927

النزول أنها نزلت في: أبي سفيان أو العاص بن وائل السهمي أو الوليد بن المغيرة، أو أبي جهل وقال ابن عباس:"نزلت في منافق جمع بين البخل والمراءاة" والعبرة على كل حال بعموم اللفظ"1.

وهذا الأخير هو أكثر عملها في أسباب النزول تكتفي بإيراد القاعدة.

ثانيًا- استقراء اللفظ القرآني في كل مواضع وُرُودِه:

وقد بسطت هذا الأصل في مقدمة تفسيرها حيث قالت عنه: "والمنهج المتبع هنا هو الذي خضعت له فيما قدمت من قبل، بضوابطه الصارمة التي تأخذنا باستقراء اللفظ القرآني في كل مواضع وروده للوصول إلى دلالته، وإذ نضع معاجم العربية وكتب التفسير في خدمة هذا المنهج، فإننا نحاول أن ندرك حس العربية للألفاظ التي نتدربها من النص القرآني عن طريق لمح الدلالة المشتركة في شتى وجوه استعمالها لكل لفظ وواضح أنه لا سبيل إلى دراسة أي نص في لغة ما دون فقه لألفاظه في لغته، ثم يكون للنص بعد ذلك أن يحدد لكل لفظ دلالته الخاصة من شتى الدلالات المعجمية أو يضيف إليها ملحظا ينفرد به"2.

ثم توضح بعد ذلك أن القول بدلالة خاصة للكلمة القرآنية لا يعني تخطئة سائر الدلالات المعجمية وإنما يعني أن لهذا القرآن معجمه الخاص وبيانه المعجز فلا يعترض معترض بأن العربية تعرف صيغا ودلالات أخرى للكلمة.

وقد اعتنت الدكتورة عائشة عبد الرحمن بهذا الأصل عناية كبيرة فجاء تفسيرها محتويا على معجم لألفاظ السور التي تناولتها بالتفسير، بل إن عنايتها تلك جاءت فيما أعتقد على حساب فكرة الموضوع التي طال ما دعت إليها كما سيأتي بيانه. إن شاء الله.

وهي حين تدرس كلمة قرآنية تبذل وسعها في استقراء معانيها في القرآن ومدلولاتها حتى تصل حسب فهمها إلى ما ترى أنه الصواب ولا شك أنها قد تصيب وقد تخطئ.

1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن، ج2 ص185.

2 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن، ج2 ص7-8.

ص: 928

تقول الدكتور عائشة في معنى الساعة من قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} 1: "ولفظ ساعة في العربية يعني الجزء من الوقت، وأضيف إليه حديثا استعمالها في جزء محدد منه بستين دقيقة.

ويستعمل معرفا بـ "أل" للعهد في الوقت الحاضر فيقال: أزورك الساعة أي الآن، ثم غلب على الساعة استعمالها في الآلة الضابطة للوقت، بعد اختراعها.

لكن للقرآن استعماله الخاص للساعة، فهو لا يستعملها نكرة إلا في برهة من الوقت قصيرة دون تحديد لها بالدقائق والثواني:

{يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَة} . [الروم: 55] .

{فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [النحل: 61]، و [الأعراف: 34] ، و [سبأ: 30] ، و [يونس: 49] .

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ} [يونس: 45] .

{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف: 35] .

أما حين يستعمل القرآن الساعة معرفة بـ "أل" فتلك دائما هي ساعة الآخرة، ولم يتخلف هذا في أي موضع من المواضع الأربعين التي: جاءت الساعة فيها في القرآن الكريم.

والملحظ البياني في هذا الاستعمال المطرد أن هذه الساعة تنفرد دون ساعات الزمان كله بأنها الحاسمة الفاصلة التي يتغير فيها نظام الزمن وسير الكون، لما يحدث فيها من حدث هائل خطير وهو معنى يقوى ويتضح بإسناد القيام والإتيان والمجيء إلى هذه الساعة المتميزة الحاسمة دلالة على بروزها وشخوصها وفاعليتها.

{حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} [الأنعام: 31] .

{أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَة} [الأنعام: 40] .

1 سورة النازعات: الآية 42.

ص: 929

{أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} [يوسف: 107]، ومعها:[الحج: 55]، و [الزخرف: 66] ، و [محمد: 18] .

{وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَة} [الروم: 12، 14، 55]، ومعها [المؤمنون: 46] ، و [الجاثية: 27] .

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] .

{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] .

{وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا، وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} [الكهف: 36] .

{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} 1 [فصلت: 50] .

وبمثل استقرائها للفظ "ساعة" و"الساعة" في القرآن الكريم كان استقراؤها لألفاظ أخرى كثيرة، منها "يتيما" في قوله تعالى:{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} 2 لكنها هنا زادت عن ذاك بإيراد أقوال المفسرين في المراد باليتيم قالت: "ففي اليتم والإيواء قال "الرازي": إنه من قولهم درة يتيمة، والمعنى: ألم يجدك واحدا في قريش عديم النظير، فآواك أي جعل لك من تأوي إليه وهو أبو طالب، وقرئ: "فَأَوَى" بالتخفيف؛ أي رحم.

ويقول الزمخشري، محقًّا:"إن تفسير يتيم هنا بالدرة اليتيمة من بدع التفاسير" وإنما اليتم عنده فقدان الأب، ومثله أبو حيان في البحر، والشيخ محمد عبده.

وقال "الراغب" في المفردات: اليتم في آية الضحى انقطاع الصبي من أبيه قبل بلوغه.

1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن، ج1 ص144-145.

2 سورة الضحى: الآية 6.

ص: 930

وهذا هو الأصل في اليتم لغة، ثم قيل لكل منفرد:"يتيم ومنه الدرة اليتيمة أي المنفردة".

ثم بعد أن ساقت الدكتورة هذه الأقوال للمفسرين قالت: "ونحتكم إلى القرآن، فنراه استعمل اليتيم، مفردًا ومثنى وجمعًا ثلاثا وعشرين مرة كلها بمعنى اليتم الذي هو فقدان الأب ويلحظ فيه اقتران اليتم بالمسكنة في عشرة مواضع:

البقرة: 93، 176، 215، والنساء: 7، 35، والأنفال: 41، والحشر: 7، والدهر: 8، والفجر: 17، والبلد:15.

كما ذكر فيه من آثار اليتم: الجور، وأكل المال:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء: 10]، ومعها الأنعام: 152، والإسراء: 34، والنساء: 2، 6. وعدم الإكرام:{كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر: 17، 18] .

والدع: الذي هو الدفع العنيف مع جفوة: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون: 1-3] . والقهر، في آية الضحى:9.

ثم قالت الدكتورة عائشة بعد هذا: "وأمام هذا التتبع لا نملك إلا أن نستبعد تفسير اليتم بغير ذاك الذي في القرآن وقد ولد محمد يتيما، ثم تضاعف يتمه بموت أمه وجده، لكنه تعالى نجاه من آثار اليتم التي هي: بشواهد من آيات الكتاب الكريم: الدع، والقهر، والانكسار، والجور، مما كان مظنة أن يكسر نفسه، فلا يتطلع إلى بعيد الآفاق، فذلك هو قوله تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} ، ترشيحا بهذا الإيواء الإلهي -غير المقيد بمتعلق- إلى ما بعده من نعمة الهداية بعد حيرة، وتهيئة لحمل الرسالة الكبرى"1.

1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص43-44.

ص: 931

وبهذا ترفض الدكتورة عائشة ما أوردته من تفسير الرازي لليتم، وتقصره على فقدان الأب.

ومثلا ثالثا نظهر به مدى عناية الدكتورة باستقراء ألفاظ القرآن ومدى انتشاره في تفسيرها فهي تفعل ذلك حتى ولو لم يرد اللفظ في القرآن إلا مرة واحدة كيف؟! خذ مثلا كلمة "المقابر" من قوله تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} 1 قالت: "وفي المقابر سر بياني آخر لفتني إليه أن المقابر لم يأتِ قط في غير آية التكاثر، على حين جاءت "القبور" خمس مرات، كما جاء "القبر" مفردا في المخلفين الذين قعدوا عن الخروج للجهاد مع الرسول: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة: 84] .

وقد تجد الصنعة البلاغية في استعمال المقابر هنا مجرد ملاءمة صوتية للتكاثر، وقد يحس أهل هذه الصنعة ونحس معهم فيها نسق الإيقاع وانسجام النغم لكن أهذا كل ما في الاستعمال القرآني للفظ المقابر في آية التكاثر؟

الذي أراه أن وراء هذا الملحظ البلاغي اللفظي، ملحظا بيانيا يتصل بالمعنى: فالمقابر جمع مقبرة وهي مجتمع القبور واستعمالها هنا ملائم معنوي لهذا التكاثر، دالٌّ على مصير ما يتكالب عليه المتكاثرون من متاع دنيوي فان

هناك حيث مجتمع القبور ومحتشد الرمم ومساكن الموتى على اختلاف أعمارهم وطبقاتهم ودرجاتهم وأزمنتهم. وهذه الدلالة من السعة والعموم والشمول لا يمكن أن يقوم بها لفظ "القبور" بما هي جمع لقبر. فبقدر ما بين قبر ومقبرة من تفاوت يتجلى إيثار البيان القرآني "المقابر" على "القبور" حين يتحدث عن غاية ما يتكاثر به المتكاثرون وحين يلفت إلى مصير هذه الحشود من ناس يلهيهم تكاثرهم عن الاعتبار بتلكم المقابر التي هي مجتمع الموتى ومساكن الراحلين الفانين.

1 التكاثر: 1-2.

ص: 932

فتأويل المفسرين -فيما قرأت- المقابر بالقبور ليس إلا أثرا لمنهجهم في تناول مفردات القرآن تناولًا لفظيًّا معجميًّا مجردًا عن إيحاء سياقه وسره البياني، معزولا عن الاستعمال القرآني الذي لم يجئ بالمقابر هنا لمجرد المشاكلة اللفظية والرنين الصوتي، وإنما هي الملاءمة المعنوية أيضا بين التكاثر والمقابر بما فيهما من سعة وشمول وعموم وهو هو الإعجاز البياني لا يقوم فيه لفظ القبور مقام المقابر بما تلفت إليه من مصير للحشد والتكاثر، وبما تضع أمام المتكاثرين من عبرة رادعة زاجرة حين تصدمهم بذكر المقابر إثر {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} 1.

وكون الدكتورة عائشة تستنبط هذا مع أن اللفظة هذه لم ترد في القرآن إلا مرة واحدة يدل على مدى حرصها على جلاء معاني المفردات جلاءا لا ينظر صاحبه إلى اللفظة المفردة مجردة من مثيلاتها أو حتى من جملتها.

ومثلا أخيرا من عنايتها بالمفردات نذكره لتأكيد اهتمامها في ذلك، ذلكم تفسيرها لـ "السعي" في قوله تعالى:{إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} 2، أوردت المعنى اللغوي أولًا:"والسعي في اللغة المشي، لحظ فيه أن الساعي يبتغي عملا أو يتجه إلى مقصد يدأب له، فكان السعي بمعنى العمل مع القصد والدأب".

ثم أوردت الاستعمال القرآني فقالت: "وفي الاستعمال القرآني للمادة نجد الدلالة الأولى للسعي بمعنى: المشي والحركة على الحقيقة أو التخييل والمجاز، في آيتي "طه" عن عصا موسى ألقاها: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} 3، وحبال السحرة وعصيهم ألقوها:{يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} 4، وفي آيتي التحريم والحديد، في نور المؤمنين:{يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِم} يوم القيامة، كما نجد دلالة السعي على العمل مع الدأب في آيات:{فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} [الأنبياء: 94] ،

1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص207-208.

2 سورة الليل: 4.

3 سورة طه: 20.

4 سورة طه: 66.

ص: 933

{وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19] ، {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] .

ودلالة القصد أوضح في آيات:

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة: 114] .

{وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33، 64] . وواضح أن السعي في آية الليل هو من العمل الكسبي مع القصد والدأب ومثله السعي في آيات "الإنسان: 22، النجم: 40، الغاشية: 9"1.

ولا أظن الدكتورة عائشة مصيبة في تصنيفها آية البقرة السالفة "114"، وآيتي المائدة "33، 64" على أن السعي فيهما بمعنى القصد، ذلكم أن الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعوا في خرابها، لم يقفوا عند درجة القصد وإنما جاوزوها إلى العمل وزادوا عليه الدأب. وقل مثل ذلك في الذين يسعون في الأرض فسادا؛ فإنهم جاوزوا القصد إلى العمل والدأب عليه فلا يصح أن يجعل هذا معنى للسعي هنا.

ولعل حماسها الشديد لتقرير هذا الأساس في التفسير أوقعها من حيث لا تدري في أنواع ثلاثة من الأخطاء:

أولها- القصور في الاستقراء:

وذلك بأن تنظر في بعض الآيات المشتركة في لفظ واحد وتقرر المعنى على ضوئها ويفوتها أن تنظر في آيات أخرى مشتملة على اللفظ ذاته، ولو أدركت ذلك ونظرت فيه لاختلف الحكم الذي وصلت إليه أولا.

ومن الأمثلة على ذلك أنها في تفسيرها لقوله تعالى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا

1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج2 ص104.

ص: 934

سَجَى} 1: "ترددت في تأويله بـ "أقسم بالضحى وأقسم بالليل إذا سجى"، قالت: "لأن القرآن الكريم لا يستعمل القسم مسندًا إلى الله سبحانه إلا مع لا النافية، باستقراء كل آيات القسم في القرآن، فكان لي من هذا الاستقراء ما يؤذن بأنه سبحانه في غير حاجة إلى القسم"2.

وإذا نظرنا في آيات القسم هذه التي تقول الدكتورة عائشة أنها لم تجد القسم فيها مسندا إلى الله إلا مع لا النافية وجدنا الأمر غير ذلك فهناك مواضع أقسم الله بها بنفسه من غير أن ينفيها بـ "لا"، فمن ذلك قوله سبحانه:{فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} 3، وقوله:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} 4، وقوله:{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} 5. فهذه كلها أقسام مسندة إلى الرب وهو الله سبحانه وتعالى وغير منفية بـ "لا"، وعلى هذا يظهر قصورها في الاستقراء.

ونذكر مثلا آخر على ذلك عندها أنها ممن يرفض القول بالترادف اللغوي وترفض تفسير القسم بالحلف وتقول: "وفي القاموس: حلف: أي أقسم

لكن التتبع للاستعمال القرآني يمنع هذا الترادف: فلقد جاءت مادة "حلف" في القرآن الكريم في ثلاثة عشر موضعا كلها بغير استثناء في مقام الحنث باليمين وأكثرها مسند إلى المنافقين"6، ثم ساقت المؤلفة الآيات تلك وقالت: "أما القسم فيغلب مجيئه في الأيمان الصادقة"6.

1 سورة الضحى: 1، 2.

2 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص25.

3 سورة مريم: 68.

4 سورة الحجر: 92.

5 سورة الذاريات: 23.

6 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن: 1 ص173-174.

ص: 935

ولنا معها وقفة عند آيات من القرآن الكريم جاء فيها القسم في مقام الحنث باليمين وهو خلاف ما توصلت إليه، نذكر من هذه الآيات:

قوله تعالى: {أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} 1.

وقال سبحانه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوت} 2.

وقال سبحانه: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَة} 3.

وقال سبحانه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا} 4.

وقال سبحانه: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} 5.

وقال سبحانه: {أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ} 6.

وقال سبحانه: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} 7.

هذه بعض الآيات في القسم التي جاءت في مقام الحنث، صحيح أن الدكتورة عائشة عدت هذا النوع وقالت:"وحين يسند القسم في القرآن إلى المجرمين فإنهم في ظنهم غير حانثين"8.

1 سورة المائدة: 53.

2 سورة النحل: 38.

3 سورة الروم: 55.

5 سورة الأنعام: 109.

6 سورة الأعراف: 49.

7 سورة إبراهيم: 44.

8 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص174.

ص: 936

لكن هل يصح القول أنهم يظنون أنهم كذلك في آية المائدة السالفة:

{أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} ، لا شك أنهم وهم يقسمون يعلمون أنهم حانثون؛ لأن ما أقسموا عليه ليس في درجة الظن، بل حقيقته بينة في قلوبهم.

وهل يصح ذلك أيضا في آية سورة إبراهيم: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} ، فهل كانوا يعتقدون حقيقة الخلود؟! أم أنهم كانوا يقسمون وهم يعلمون كذبهم وحنثهم، عنادا واستكبارا.

وبهذا الذي قلناه وغيره يظهر لنا أن الحلف والقسم على معنى سواء من ناحية الحنث وعدمه، ولا تصح هذه التفرقة التي توصلت إليها الدكتورة عائشة.

وتخطئ الدكتورة عائشة -وكلنا يخطئ ويصيب- أحيانا بعد أن تستقرئ آيات القرآن في لفظة واحدة لكنها والحماس يدفعها لا تصيب البيان الصحيح لبعض الآيات وذلك كالمثال السابق مباشرة، حيث ظنت أن المجرمين في ظنهم غير حانثين بالقسم، فبنت على ذلك ما بنت.

ومنه المثال الذي ذكرته قبل صفحات في استقرائها لدلالة "السعي" في القرآن الكريم.

ومنه أيضا ما قالته في معنى "مثقال" في قوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} 1، فقد ذكرت أن "مثقال" وردت في القرآن الكريم ثماني مرات في اثنتين منها أضيف مثقال إلى حبة من خردل. ثم رجحت أن المقصود بمثقال حبة من خردل هنا ليس خفة الوزن وإنما ضآلة الحجم. وفي المرات الست الباقية أضيف "مثقال" إلى ذرة رجحت في اثنتين منها "ضآلة الحجم"، ثم قالت:"على حين تتعين دلالة "مثقال ذرة" على خفة الوزن في الآيات الأربع2 الباقية.

1 سورة الزلزلة: 7.

2 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص100-101.

ص: 937

وحين ننظر في استقرائها هذا فإنا نجدها جعلت المراد بـ "مثقال" في قوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} 1، ضآلة الحجم وليس خفة الوزن، ولا أدري ما الذي جعلها تحمله على ذلك مع أن الآية تتحدث عن وضع الموازين لوزن الأعمال، فكان هذا قرينة على أن المراد بالحبة من خردل الوزن، وليس الحجم.

وفي مقابل هذا جزمت الدكتورة عائشة بأن المراد بـ "مثقال" في قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} 2، جزمت بغير قرينة بأن المراد خفة الوزن مع أنه قابل لضآلة الحجم أيضا.

والأمثلة على أخطائها في الاستقراء كثيرة نكتفي بما ذكرنا منها.

ثانيها- تحديد المعنى قبل الاستقراء اللغوي:

وقد سبقني بإدراك هذا الدكتور كامل سعفان، حيث قال:"إن الدكتورة عائشة تمضي في الاستقراء اللغوي بعد تحديد المعنى فيبدو عملا لا مبرر له"3.

والأمثلة أيضا على هذا كثيرة.

في تفسير قوله تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} 4، حددت معنى الطغيان أوَّلًا، ثم اتجهت إلى الاستقراء ثانيا، فقالت: "والطغيان تجاوز الحد، ويستعمل لغة في الماء يتجاوز الحد إلى الخطر، ومنه في القرآن:{إِنَّا لَمَّا طَغَا الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} 5، وفسروا الطاغية كذلك بالطوفان في قوله تعالى:

1 سورة الأنبياء: 47.

2 سورة سبأ: 22.

3 المنهج البياني في تفسير القرآن الكريم: د/ كامل علي سعفان ص121.

4 سورة النازعات: 17.

5 سورة الحاقة: 11.

ص: 938

{فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَة} 1.

على أن أكثر استعماله القرآني: في تجاوز الحد في العصيان والكفر وهو المعنى القريب في آيات ذكرت المؤلفة عددًا منها، ثم قالت: كما جاء بمعنى تجاوز الحد في التجبر والعتو والظلم في آيات"2.

وهي كما ترى حددت المعنى أولًا، ثم استقرأت الآيات ثانيا ووصلت بها إلى أن أكثر استعماله القرآني في تجاوز الحد وهو ما ذكرته أولًا فبدا عملها لا مبرر له.

ومثلا آخر تفسير الشَّدّ حيث قالت في: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيد} 3:

"الأصل في الشد قوة العقد والوثاق والإحكام ماديا كما في آية محمد: 4، ومعنويا في مثل آيات: يونس: 88، الدهر: 28، طه: 31، القصص: 35، ص: 20 كما يعبر القرآن عن بلوغ الرشد والقوة بصيغة بلغ، أو يبلغ أشده في مثل آيات: الأنعام: 152، الإسراء: 34، يوسف: 22، القصص: 14، غافر: 67، الأحقاف: 15، الكهف: 82، الحج:5.

أما صيغة شديد فجاءت في القرآن في نحو أربعين موضعا4.

وهي هنا أيضا -كما ترى- قدمت تحديد المعنى على الاستقراء وهو خلاف الأصل في هذا المنهج، لكنها والحق يقال كثيرا ما تلتزم الأصل في ذلك.

ثالثها- اعتدادها الشديد باستقرائها:

وظهر هذا بصور متعددة وأنماط مختلفة منها:

1-

أنها تتيه بما توصلت إليه من معنى لكلمة قرآنية على المفسرين وأنها لم تقرأ لأحد منهم مثل هذا، وكثيرا ما تفعل هي ذلك.

1 سورة الحاقة: 5.

2 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص128.

3 سورة العاديات: 8.

4 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص162-163.

ص: 939

2-

تقلل وتستصغر بصيغ متعددة متنوعة من شأن المفسرين السابقين وما توصلوا إليه من آراء.

3-

جزمها بصحة ما وصلت إليه وأنه هو المتعين وتخطئتها كل قول سواه.

4-

أنها تضع نفسها في مقابل المفسرين، فتذكر إجماعهم على معنى أو تسوق القول منسوبا إليهم بصيغة الجمع. ثم تذكر مقابل ذلك رأيها المخالف لما جاءوا به.

هذه أهم صور اعتدادها برأيها أذكرها هنا إجمالا وللتفصيل موضعه عند بيان رأيي في تفسيرها إجمالا وإنما ذكرته هنا؛ لأن جهودها في استقراء ألفاظ القرآن هي مبعث ذلك وسببه، بل إنا نجده في هذه المواضع التي تستقرئ بها كلمة أو كلمات قرآنية.

هذه -فيما أرى- أهم الأمور التي أوقعها فيها حماسها الشديد لتقرير أساس "الاستقراء لألفاظ القرآن الكريم عند التفسير".

ولئن أطلت الحديث عن هذا الأساس فلأنه جوهر منهجها وأصله؛ بل عموده الذي يقوم عليه. ولعلي بعد هذا أذكر الأساس الثالث الذي يقوم عليه تفسيرها.

ثالثا- الاهتمام بدلالة السياق:

وهي سمة قصرتها المؤلفة على منهجها الموضوعي وقطعت السبيل على المناهج الأخرى للاهتداء إلى تفسير القرآن إن لم تسلك منهجها وأنهم لم يبلغوا مبلغا لذلك.

قالت: "والأصل في منهج التفسير الأدبي كما تلقيته عن أستاذي هو التناول الموضوعي الذي يفرغ لدراسة الموضوع الواحد فيه، فيجمع كل ما في القرآن عنه ويهتدي بمألوف استعماله للألفاظ والأساليب بعد تحديد الدلالة اللغوية لكل ذاك، وهو منهج يختلف تماما عن الطريقة المعروفة في تفسير القرآن سورة سورة، يؤخذ اللفظ أو الآية فيه مقتطعًا من سياقه العام في القرآن كله مما لا سبيل معه إلى الاهتداء إلى الدلالة القرآنية لألفاظه، أو استجلاء

ص: 940

ظواهره الأسلوبية وخصائصه البيانية ويلتزم في دقة بالغة قولة السلف الصالح: "القرآن يفسر بعضه بعضا" -وقد قالها المفسرون ثم لم يبلغوا منها مبلغا- ويحرر مفهومه من كل العناصر الدخيلة والشوائب المقحمة على أصالته البيانية"1.

وإذا نظرنا إلى الجانب التطبيقي عندها وجدنا مجموعة من الأمثلة منها:

"العقبة" في قوله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَة} 2 قالت: "لكن ما العقبة التي يتحدث عنها القرآن هنا؟ أتعب المفسرون أنفسهم في تأويلها: ففي الطبري عن الحسن: عقبة والله شديدة، مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوه الشيطان، وقريب منه ما قاله الزمخشري ونقله الشيخ محمد عبده، وقيل: العقبة جهنم أو جبل فيها إلى أن قالت الدكتورة: والواقع أننا في غير حاجة إلى شيء من هذا ومثله، فالقرآن نفسه قد تولى بيان "العقبة" حين أتبعها بالسؤال اللافت: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} فهذا بيان مفصل للعقبة التي يجب أن يقتحمها الإنسان بما تهيأ له من وسائل المكابدة والنضال والإدراك والتمييز وهو كذلك بيان لأوضاع ظالمة نشأت عن غرور القادرين وطغيان أصحاب المال في "هذا البلد" فليس ما كان المجتمع المكي يعانيه من مآسي الرق ومن التصدع الطبقي ومن البغي والاستبداد إلى حد انتهاك حرمة الرسول في البلد الحرام وليس هذا كله إلا أثرا لطغيان هذا الإنسان الذي غرته قوته فاستعبد مخلوقين مثله وملك رقابهم بأغلال الاسترقاق المهين، كما زين له جاه الثراء أن يباهي بأنه أهلك مالا لبدا، وعلى مقربة منه يتيم محتاج أو مسكين لاصق بالتراب؛ أوضاع مريضة استقرت على مر الأجيال وتوارثها "هذا البلد" ولدًا عن والد وطبقة في إثر طبقة، وكان الإنسان جديرا بأن يقاوم طغيان المال وغرور القوة، وأن يحتمل أعباء البذل والإيثار من أجل خير

1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص18.

2 سورة البلد: الآية 11.

ص: 941

الجماعة على ما في ذلك من مشقة وعناء"1.

ومثلا آخر "الكبد" في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَد} 2 فهي تذكر أن المفسرين لم يختلفوا في أن معناها في آية البلد هو: الشدة لكن أقوالهم شتى في تحديد هذه الشدة، ثم ساقت المؤلفة عددا من الأقوال وعقبت عليها بقولها:"ما نظن المكابدة هنا تنصرف إلى ما ذكروه من مشاق الحمل والنمو والعيش والموت والحساب كما نأبى أن يكون "الكبد" في الآية هو مرض القلب وفساد الباطن كما قال الزمخشري".

ثم أبدت الدكتورة رأيها: "وإنما الكبد فيما نرجح هو ما هُيِءَ له الإنسان بفطرته من احتمال المسئولية ومشقة الاختيار بين الخير والشر".

وعللت ذلك بـ "ووجه ارتباطه بالقسم قبله، بحال أهل مكة وما اختاروا لأنفسهم من استحلال أذى الرسول وهو مقيم بالبلد الحرام واضح ظاهر

وهو أوضح ارتباطا بالآيات بعده من ضلال الغرور بهذا الإنسان الذي وهبه الله وسائل الإدراك والتمييز وبيَّن له معالم الطريقين: الخير والشر"3.

وفي تفسير النازعات لم تطمئن الدكتورة إلى ما اطمأن إليه أكثر المفسرين كما تقول من أنها الملائكة تنزع الأرواح واختارت أنها الخيل وما نطمئن إليه من تفسير النازعات بالخيل يوجه الآيات بعدها في يسر وبلا تكلف فهي تنزع في عدوها وتغرق فيه وهو الملحظ نفسه في السبح الذي يجمع له السابح قوته وبهذا النزع السابح تسبق إلى الغاية فتدبر من الأمر ما أجمعت له في معاناة"4.

رابعًا- القرآن هو القاعدة:

ففي التفسير تقول: "نحتكم إلى سياق النص في الكتاب المحكم ملتزمين

1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص192-193.

2 سورة البلد: الآية 4.

3 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص185.

4 المرجع السابق: ج1 ص109.

ص: 942

ما يحتمله نصا وروحا ونعرض عليه أقوال المفسرين فنقبل منها ما يقبله النص، ونتحاشى ما أقحم على كتب التفسير من مدسوس الإسرائيليات والتأويلات المذهبية"1.

وليس الأمر كذلك في التفسير بل في كل قاعدة لغوية أو بلاغية حيث تقول: "يكفي أن يأتي التعبير في القرآن معجزة البيان؛ ليكون هو الشاهد والحجة والأصل الذي تعرض عليه كل قاعدة لغوية أو بلاغية لا أن نحكم فيه قواعد من صنع النحاة والبلاغيين وأكثرهم طارئون على العربية لم يكسبوها ذوقا وسليقة وإن أجادوها علما وصنعة"2.

ولهذا فهي ترفض كثيرا من تأويلات المفسرين؛ لتوافق قواعد النحو ولا يسعنا إلا أن نأتي ولو بمثال واحد لهذا.

ففي تفسير قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} 3 قالت: "وفي الصنعة الإعرابية: أثار بعض المفسرين هنا مشكلات ما أغنى البيان القرآني عنها: القاعدة النحوية عندهم أن اللام في "سوف" إن كانت للقسم لا تدخل على المضارع إلا مع نون التوكيد، وإن كانت اللام للابتداء فإنها لا تدخل إلا على الجملة من المبتدأ والخبر".

لا بد إذن من تكلف واحتيال؛ لتسوية الصنعة!

وقد رأى الزمخشري أنه: "لا بد من تقدير مبتدأ محذوف وأن يكون أصل العبارة: ولأنت سوف يعطيك ربك فترضى وكذلك قال أبو حيان: "إن اللام هنا لام ابتداء أكدت مضمون الجملة على إضمار مبتدأ؛ أي: ولأنت سوف يعطيك.

وندرك جور الصنعة الإعرابية على هذا البيان العالي إذا احتكمنا إلى حس

1 المرجع السابق: ج1 ص10.

2 المرجع السابق: ج1 ص42، وانظر ج1 ص10-11.

3 سورة الضحى: الآية 5.

ص: 943

العربية، ووازنَّا بين وقع التعبير القرآني:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} ، ووقع ذلك التعبير الآخر المقدر: ولأنت سوف يعطيك الذي قال عنه "الزمخشري" إنه الأصل!!

وأنَّى لبشر يعجزه أن يأتي بسورة من مثل هذا القرآن أن يقول في آية منه ما يقول "الزمخشري" في آية الضحى لا بد من تقدير كذا؛ لأن أصل التعبير كذا!! 1.

وكما قلت: الأمثلة على هذا كثيرة والغرض البيان لا الاستقصاء ولعله فيما ذكرنا إن شاء الله.

خامسا- ترك الإطناب عما أُبهم في القرآن الكريم:

وكثيرا ما تَذُمُّ أولئك الذين يطنبون في بيان أمر أغفله النص القرآني، إذ لو كان في ذكره فائدة أو ترتب عليه معنى لذكره القرآن.

ففي النعيم في قوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيم} 2 تقول: "وقد اختلف المفسرون في هذا السؤال عن النعيم، ممن يكون؟ ولمن يكون؟ وأين يكون؟ فمنهم من قال: إن السؤال يكون من الملائكة ومنهم من قال أن السؤال من الله.

واعجبا! آثر القرآن أن يسكت عن ذكر السائل، تركيزا للاهتمام في السؤال نفسه، ويأبى المفسرون إلا أن يختلفوا فيمن يكون السائل، مع أن صنيع القرآن صريح في الصرف عمدا عن مثل هذا"3.

وفي قوله تعالى: {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} 4، قالت: "ونؤثر ألا نحدد الآية هنا ما دام القرآن نفسه لم ير تعيينها في هذا الموضع، مكتفيًا بوصفها بالكبرى

1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص41-42.

2 سورة التكاثر: الآية8.

3 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص218.

4 سورة النازعات: الآية 20.

ص: 944

وهي صيغة تشهد بمبلغ دلالة الآية على صدق موسى وعلى قدرة ربه، رب فرعون والناس جميعا"1.

وفي قوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} 2 قالت: "ولا نرى أن نقف هنا عند ما ورد في بعض كتب التفسير من تحديد سبب الإبطاء في الوحي بتأويلات دخيلة وما نراها وأشباهها مما يتعلق به النظم القرآني، وإلا لما سكت عنها كذلك لا نرى وجهًا للوقوف عندما ذكر مفسرون في تحديد مدة الإبطاء؛ إذ يغنينا عن مثل هذا سكوت القرآن نفسه عن تحديد فترة الوحي باليوم أو بالشهر، ولو كان البيان القرآني يرى حاجة إلى هذا التحديد؛ ليزيد في اليقين النفسي أو يبلغ غايته من البيان لما أمسك عن ذلك؛ لأن مقتضى البيان أن يستوفي كل ما يدعو إليه المقام مما يتصل بغايته، فإذا أمسك هنا عن ذكر سبب الإبطاء وتحديد مدته فلأن الذي يعنيه من الموقف هو جوهر الموقف لا تفصيلاته الجزئية فالمهم هنا هو جوهر الموقف ولا شيء من جزئياته بذي جدوى على المعنى وإلا لكان إهماله والسكوت عنه قصورا في حساب البلاغة باعتراف أصحابها أنفسهم ومعاذ البيان المعجز أن يظن به أي وجه من القصور"3.

لكن ما نأخذه عليها في هذا أنها وهي تعيب على هؤلاء المفسرين خوضهم فيما أبهمه القرآن نراها أحيانا تورد أقوالهم وتوازن بينها وتنقل نصوص أصحابها من مصادرها الأصلية ثم بعد هذا كله تقول: "والأليق بجلال الموقف أن يكتفى فيه بالرضى على ما أراد له البيان القرآني فوق كل تحديد ووراء كل وصف"، وتدعو إلى عدم الخوض في مثل هذا وكان الأولى أن لا تورد هذه القوال التي عابتها عليهم وتكتفي بالإشارة إليها وانظر مثلا لذلك ما أوردته لهم في بيان ما أعطاه الله لنبيه في قوله تعالى:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} 5.

1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص130.

2 سورة الضحى: الآية 3.

3 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص36-37.

4 سورة الضحى: الآية 5.

5 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص39-41.

ص: 945

سادسا- رفض التفسير العلمي التجريبي:

لا أعرف أحدًا في العصر الحديث فيما قرأت رفض التفسير العلمي بقدر رفض الدكتورة عائشة له فهي تبدي حماسا شديدا للرفض، فلها في ذلك كتاب مستقل وفصول في كتاب ومقالات في مجلات.

ويبدو أن موقفها هذا متأثر بموقف أستاذها أمين الخولي الذي علمها هذا المنهج في التفسير في ضميرها وقلبها وعقلها كما تقول في إهداء غالب مؤلفاتها.

ولا يخفى أن رفض التفسير العلمي من أول ما يرد بناءا على أصول منهجهم وهم يرفضونه لثلاثة أسباب:

الأول: الناحية اللغوية في حياة الألفاظ وتدرج دلالتها لو ملكنا منها -ما لا بد أن نملكه- في تحديد هذا التدرج وتأريخ ظهور المعاني المختلفة للكلمة الواحدة، وعهد استعمالها فيها لوجدنا من ذلك ما يحول بيننا وبين هذا التوسع العجيب في فهم ألفاظ القرآن وجعلها تدل على معانٍ وإطلاقات لم تعرف لها ولم تستعمل فيها.

الثاني: الناحية الأدبية أو البلاغية، والبلاغة فيما يقال مطابقة الكلام لمقتضى الحال فهل كان القرآن على هذا النحو المتوسع في التفسير العلمي كلاما يوجه إلى من خوطب به من الناس في ذلك العهد مرادا به تلك المعاني المذكورة مع أنها معانٍ من العلم لم تعرفها الدنيا إلا بعد ما جازت آمادا فسيحة.

الثالث: الناحية الدينية أو الاعتقادية: وهي التي تبين مهمة كتاب الدين وهل هو كتاب يتحدث إلى عقول الناس وقواهم العالمة عن مشكلات الكون وحقائق الوجود العلمية؟ والحق البين أن كتاب الدين لا يعني بهذا من حياة الناس ولا يتولاه بالبيان ولا يكفيهم مؤنته حتى يلتسموه عنده ويعدوه مصدرا فيه"1.

ولئن كان هذا قول الأستاذ فلقد وصفت التلميذة التفسير العلمي بأنه

1 التفسير معالم حياته منهجه اليوم: أمين الخولي، 25-26.

ص: 946

"خطر على عقلية الجماهير أن نخايلها بهذه الألفاظ المضخمة من بدع التأويلات العصرية العلمية، تمسخ عقليتهم ويختل بها منطقهم وتخدر وعيهم بغرور السبق إلى علوم العصر"1.

وانظر ما قالته الدكتورة في تفسير قوله تعالى: {خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَق} 2 فقد أوردت تفسير الزمخشري: "إن في الآية تفخيما لخلق الإنسان ودلالة على عجيب فطرته" قالت: "وقد نقله الرازي ثم أضاف إليه في تأويل {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} كون الإنسان من علقة وهي أخس الأشياء ثم صيرورته عالما والعلم أشرف المراتب ثم أوردت الدكتورة عائشة قول أبي حيان وعقبت على هذه الأقوال بقوله: "وكل هذا مما يمكن أن يقال، وليس هو على أي حال بأبعد مما ابتدعه محدثون اتجهوا بهذه الآية إلى مجال البحث في علم الأجنة والتمسوا المراجع الأجنبية لعلماء الفسيولوجيا والبيولوجيا لفهم آية نزلت على النبي الأمي في قوم أميين لم يسمعوا قط ولا سمع عصرهم بعلم الأجنة، وغير متصور أن يكون القرآن الكريم قدم لهم من آيات ربوبية الخالق وقدرته ما لا سبيل لأحد منهم إلى تصوره فضلا عن فهمه وإدراكه.

وإنما فهموا من العلق ما تعرفه لغتهم وبيئتهم وعصرهم، والعربية قد استعملت العلق ماديًّا في كل ما يعلق وينشب: كالدم، والمحور الذي تعلق عليه البكرة، وعلقت المرأة: حملت، ومعنويا في العلاقة تنشب بين إثنين حبًّا أو بغضًا وفي الصلة تربط بينهما.

ولم يكونوا في حاجة إلى درس في علم الأجنة أو مراجعة كتاب في المكتبة الأميركية التي ظهرت بعدهم بقرون؛ ليفهموا آية خلق هذا الإنسان من علق في أرحام الأمهات وهم الذين ألفوا استعمال: علقت المرأة، بمعنى حملت.

واستعمال العلق هنا، جمع علقة، إيذان بما ذهبنا إليه من إطلاق في عموم لفظ الإنسان.

1 القرآن وقضايا الإنسان: د/ عائشة عبد الرحمن، ص428.

2 سورة العلق: الآية 2.

ص: 947

ولا يشير السياق إلى أن القصد من: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} توجيه المصطفى ومن يؤمنون برسالته إلى النظر في علم الأجنة، وإنما هي آية الله في هذا الإنسان؛ خلقه من علق وخصه بالعلم، واحتمل أمانة التكليف، فازدهاه الغرور وأطغاه الشعور بوهم الاستغناء عن خالقه، فنسي أن إليه سبحانه الرجعى والمصير"1.

وتصف الدكتورة عائشة التفسير العلمي بأنه "بدعة" عند تناولها بالتفسير لقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} 2 حيث تقول: "وجاء محدثون ببدعة التفسير العلمي فذهبوا إلى أنها الذرة التي اكتشف العلم سرها في القرن العشرين!!

ثم علقت على هذا قائلة: "والواقع أن مثل هذا التحديد ليس مراد، القرآن ولا هو من مألوف بيانه. والعربية قد عرفت الذر في كل ما يمثل الضآلة والصغر وخفة الوزن؛ تقول: ذررت الملح والدقيق والفتات: نثرته بأطراف الأصابع والذر الهباء يُرى في شعاع الشمس وبولغ في وصف تناثر النمل الصغير المنبث فقيل: ذر، وفي لسان العرب نص صريح على أن "الذرة ليس لها وزن"؛ لفرط صغرها وخفتها.

ونؤثر أن نفهمها في ضوء هذا الحس اللغوي وعلى هدى البيان القرآني دون تكلف لتقدير الأوزان والأحجام والألوان وما فهم العرب الذين بعث فيهم رسول منهم من قوله تعالى: {مِثْقَالُ ذَرَّةٍ} إلا أنه التناهي في الضآلة والخفة والصغر، حتى ليكون من الهباء الذي لا وزن له.

وهو ما يتلاءم ماديًّا وفنيًّا مع جو الموقف ونسق السياق من الزلزلة والانفجار والتفتيت والتشتيت فهم يخرجون أثقالا ويصدرون أشتاتا ويرون أعمالهم مثقال ذرة من خير أو شر"3.

1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج2 ص18-19.

2 سورة الزلزلة: الآية 7.

3 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص102.

ص: 948

ولعل فيما ذكرناه ما يظهر حقيقة موقفها من التفسير العلمي ترفضه كل الرفض وتذمه كل الذم؛ لأنه يخالف قواعد وأصول منهجها الأدبي ولا شك أنها وفَّقَها الله قد تطرفت في الرفض دفعها إلى ذلك فيما أحسب تطرف خصومها في التفسير العلمي والحق وسط بينها وبينهم، وقد أفردناه بدراسة خاصة في حديثنا عن المنهج العلمي التجريبي ولا نرى موجبا لإعادته هنا، فلينظر هناك.

سابعًا- التفسير الموضوعي:

لا شك أن الأسس -أي أسس- ليست على درجة واحدة دائما فقد يكون بينها تباين في القيمة، وإن استوت في النوع، وإذا نظرنا إلى أسس منهج التفسير البياني فإنا ولا شك نرى أن أهم هذه الأسس اثنان:

1-

الاستقراء للمفردات.

2-

التفسير الموضوعي.

وللتناول الموضوعي عند الدكتورة عائشة منزلته أيضا بل عدته في مقدمة تفسيرها الأصل الذي يقوم عليه المنهج في التفسير قالت: "والأصل في منهج التفسر الأدبي -كما تلقيته عن أستاذي- هو التناول الموضوعي الذي يفرغ لدراسة الموضوع الواحد فيه فيجمع كل ما في القرآن عنه، ويهتدي بمألوف استعماله لألفاظ والأساليب بعد تحديد الدلالة اللغوية لكل ذاك واتجه بمحاولتي اليوم إلى تطبيق المنهج في تفسير بعض سور قصار ملحوظ فيها وحدة الموضوع فضلا عن كونها من السور المكية حيث العناية بالأصول الكبرى للدعوة الإسلامية"1.

لكن هل التزمت الدكتورة عائشة هذا الأصل الذي دعت إليه؟ سجل مخالفتها لهذا الدكتور عفت الشرقاوي ومن بعده الدكتور محمد إبراهيم شريف فقال الأول ونقل عنه الثاني: "ولقد نلاحظ أن المؤلفة قد خالفت أستاذها

1 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص18.

ص: 949

فلم ترتبط بفكرة الموضوع التي طال دعوته إليها، ولو فعلت لكان أمامها فسحة من الدراسات المنتجة الخصبة ذلك أن التحديد الموضوعي يسعف على تنبُّه دقيق إلى الدلالات المستخدمة في الموضوع، وعلى كل حال فإن المؤلفة فسرت هذه السور القصار، فلم تبعد كثيرا عن التفسير الموضوعي؛ لأن الوحدة الموضوعية ملحوظة في كل سورة على حدة إلى حد ما، وفوق ذلك فإن تفسير السور يفتح مجالات أخرى أمام المفسر، قد تختلف عن الدراسة الموضوعية، ومن ذلك مثلا مسألة المناسبة بين الآيات وملاحظة السياق في السورة الواحدة"1.

وكان من ذلك ما قدمته الدكتورة عائشة في تفسير سورة العاديات حيث قالت: وتبدأ بعرض صورة مثيرة لغارة عنيفة مفاجئة، تباغت القوم صبحا فلا ينتبهون إليها إلا وقد توسطت جمعهم فبعثرتهم وسط عاصفة من النقع المثار.

وتقع هذه الصورة العنيفة بعد واو القسم لافتة إلى ما عهد القوم من مثل تلك الغارات المفاجئة المصبحة، وما تحدث من بعثرة وحيرة

وارتباك ثم تأتي بعدها صورة أخرى لغيب غير مشهود، ولكنه واقع حتما ذلك هو البعث يفجأ على غير موعد فإذا هم في حيرة وبعثرة وارتباك، وقد لفظتهم القبور لليوم الآخر كالفراش المبثوث، وإذا كل ما في صدورهم قد حصل لم تفلت منه خافية مضمرة، مطوية في أعماق الصدور ومستكن الضمير.

وفي كل لفظ من الصورة2 بل في كل حرف منها سره البياني الرائع فيما قصد إليه القرآن من إحضار مشهد ليوم البعث شاخصا مجسما، وتأكيد وقوعه، والإنذار بما ينتظر الإنسان فيه من حساب دقيق عسير"3.

هذا مثل من الأمثلة القليلة لتطبيق التناول الموضوعي في التفسير عند الدكتورة عائشة.

1 اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث: د/ عفت محمد الشرقاوي، ص317 "واتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر": د/ محمد إبراهيم شريف، ص597.

2 كذا وردت، ولعلها تريد:"السورة".

3 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص151.

ص: 950

رأيي في تفسيرها:

ذكرت أثناء عرض أسس منهجها بعض المخالفات للمنهج أو الأخطاء التي أحسب أن الدكتورة عائشة قد وقعت فيها، ولعلي أذكر هنا الملاحظات العامة.

فمنها ما سبق أيضا أن أشرت إليه وإلى صوره إجمالا ووعدت بضرب الأمثلة فيما بعد وهذا أوان إنفاذ الوعد.

قلت هناك إن من عيوبها -وجلَّ من لا عيب فيه- اعتدادها الشديد بآرائها وذكرت له أربع صور:

أولها: إنها تتيه بما وصلت إليه من معنى لكلمة قرآنية على المفسرين.

والأمثلة على هذا كثيرة منها قولها: "هذا ما نطمئن إليه في التفسير البياني للقسم بالضحى والليل إذا سجى، ولا أعرف -فيما قرأت- أحدا من المفسرين التفت إلى هذا الملحظ التفاتا واضحا متميزا، وإن يكن بعضهم قد استشرف له من بعيد، لكن وسط حشد من تأويلات شتى، لا تخلو من تكلف وإغراب"1.

وفي موضع آخر تقول: "ولا أعرف أحدا من المفسرين أو البلاغيين التفت إلى إطراد هذه الظاهرة الأسلوبية في القرآن مع وضوحها إلى درجة العمد والإصرار"2 قالت هذا في طبعة تفسيرها الأولى ولما أعادت طبعه عدلت العبارة إلى: "وقد شغل أكثر المفسرين والبلاغيين بتأويل الفاعل عن الالتفات إلى اطِّراد هذه الظاهرة الأسلوبية في هذا الموقف مع وضوحها إلى درجة العمد والإصرار، وسرها البياني دقيق جليل"3.

وثانيها: أنها تقلل بصيغ شتى من شأن المفسرين السابقين وتفسيرهم

1 التفسر الباني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص26-27.

2 المرجع السابق الطبعة الأولى ج1 ص70 والطبعة الثالثة ج1 ص85.

3 المرجع السابق الطبعة الأولى ج1 ص70 والطبعة الثالثة ج1 ص85.

ص: 951

وتسوق عباراتها عنهم أحيانا بما يشبه السخرية؛ بل لم أجد كلمة "المفسرين" في كتابها إلا وسياقها كذلك وهو أمر خطير خطير.

ولست بالأول ولا بالوحيد الذي أدرك ذلك منها، فهذا الدكتور محمد إبراهيم شريف يقول:"ما كان هناك من مبرر لحملتها السافرة على قدامى المفسرين واعتدادها الشديد بما تحقق من نتائج، ووصفها المفسرين بالدأب على إفساد البيان القرآني"1 ومن قبله الدكتور عفت الشرقاوي قال: "ولكن ما يلفت النظر في منهج المؤلفة حملتها السافرة على قدامى المفسرين واعتدادها الشديد بما تحقق من نتائج"2.

وتصف كثيرا نتاج المفسرين بصيغة الجمع بصفات تستغرب من ذلك قولها: "وأكثر المفسرين على أن "يصدر الناس" هنا بمعنى يخرجون من القبور.

وتفسير يصدر بـ "يخرج أو ينصرف بعيد عن حس العربية

"3 وقالت: "ولكن كثيرا من المفسرين ذكروا في "أشتات" أقوالا بعيدة لا يعين عليها الحس اللغوي للمادة"4 وتقول: "ولشد ما تكلف المفسرون في تأويل الساهرة"5 وقالت: "وأيان: للبعد ولا أدري لم فات جمهرة المفسرين أن يلحظوا موقعها هنا على كثرة تعلقهم بما له اتصال بالصنعة النحوية"6 وقالت: "وتدبر هذه الآيات يرينا ما في قول المفسرين من جور على المعنى القوي المثير"7 وقالت: "لكن ما العقبة التي يتحدث عنها القرآن هنا؟ أتعب المفسرون أنفسهم في تأويلها. والواقع أننا في غير حاجة إلى شيء من هذا ومثله"8، وقالت: "وليس بعجيب أن يفوت هذا السر البياني جمهرة المفسرين الذين كان جهدهم أن يجمعوا كل

1 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف، ص607.

2 اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث: د/ عفت محمد الشرقاوي، ص317.

3 إلى "6" انظر التفسير البياني: عائشة عبد الرحمن الصفحات حسب الترتيب ج1 ص97، 99، 125، 145.

7 إلى 8 انظر التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن الصفحات حسب الترتيب ج1 ص165، 192.

ص: 952

ما يمكن أن يحتمله المدلول المعجمي للفظة، وكل ما قيل في تأويله دون أن يلتفتوا إلى الإيحاء الباهر للفظ "زرتم"1 وقالت:"فتأويل المفسرين -فيما قرأت- المقابر بالقبور ليس إلا أثرا لمنهجهم في تناول مفردات القرآن تناولا لفظيًّا معجميًّا مجردًا عن إيحاء سياقه وسره البياني معزولا عن الاستعمال القرآني"2، وقالت: وليس النص القرآني في وضوح بيانه بمسئول عن هذا الخلاف؛ وإنما يسأل عنه منهجهم في التفسير وهو منهج لا يرى بأسا في تفسير الآية الواحدة بالنقيضين؛ كيلا تفوته الإحاطة بما قيل في الآية"3، وتقول بلهجة ساخرة: "ثم يجيء المفسرون غفر الله لهم؛ فيقولون

وفاتهم النذير العالي الصادع

واعجبا؛ آثر القرآن أن يسكت عن ذكر السائل ويأبى المفسرون إلا أن يختلفوا فيمن يكون السائل لكن كيف يمكن إدخال المؤمنين مع الكفار في سؤال واحد؟ الجواب عند المفسرين حاضر"4.

معذرة إن أطلت فما ذكرت إلا القليل من عباراتها بل لم أجدها في أي موضع -فيما قرأت- تذكر المفسرين أو قولا لهم موضع الثناء والقبول اللهم إلا مرة واحدة قالتها في المقدمة؛ قالت هناك: "وما يجرؤ منصف على أن يجحد فضل أحد من هؤلاء جميعا، وهم الذين بذلوا في خدمة القرآن جهودا جليلة وتركوا آثارهم من بعدهم شاهدة بمقدار ما عانوا"5.

ولكن هل تشفع لها هذه الكلمة في المقدمة أن تقف هذه الوقفات الكثيرة في تفسيرها منهم وهل يشفع لها هذا أن تذكر أقوالهم دائما بصيغة الرفض والإنكار و

و

على كل حال -غفر الله لنا ولها- ولعلها تعيد النظر فيما قالت ما دام في العمر بقية وفي الأجل فسحة.

ثالثها: جزمها بصحة ما توصلت إليه وتعين القول به ورفض ما سواه.

حتى وإن كان لم يورده أحد من المفسرين من قبل وعلى هذا فكل من سبقها

1، 2، 3 انظر التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن الصفحات حسب الترتيب ج1 ص206، 208، 209.

4 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن ج1 ص218-219.

5 المرجع السابق: ج1 ص17.

ص: 953

وسبق عصرها لم يصل إلى الحق حتى قالته واقرأ معي قولها: "ولكن هذا المعنى المتعين، هو الوحيد الذي لم يذكره المفسرون -فيما قرأت- وهم يعدون كل ما يمكن أن يقال في تفسير "النعيم" ويذكرون فيه ذلك الحشد المختلط إلا نعيم الآخرة الذي يصر القرآن على تخصيص لفظ النعيم به، والذي يجب أن يحتكم وحده في توجيه آية التكاثر"1.

والحق أن المفسر القديم كان أكثر حيطة منها حين وضع في اعتباره أن التفسير قول على الله وخشي دائما القطع بقول لا يعلم أنه مراد الله من قوله، فلم يكن يجرؤ على الجزم بتأويل واحد -يكون ما عداه خطأ- ما لم يرد في ذلك نص صريح وإنما فهم أن النص الذي يقبل التأويل هو طائفة من الإمكانات وقد يرجح بعضها مستعينا في ذلك بالسياق العام للنص، ولكنه لم يجزم بمعنى واحد يخطئ ما سواه كما فعلت الباحثة"2، ولا يمكن -كما يقول الدكتور عفت الشرقاوي- أن يبلغ اعتزاز المفسر المنصف برأيه حدًّا يجعله يخطِّئ بصرامة وَحِدَّةٍ آراءَ الآخرين أمام هذا النص، إلا إذا كان صاحب نحلة أو هوى خاص"3.

رابعها: اعتدادها بنفسها إلى درجة أنها تذكر أقوالهم مقابل قولها فتقول مثلا: لا نستطيع أن نطمئن إلى تفسير "النازعات" بما اطمأن إليه أكثر المفسرين

"4 وكان الأولى أن تذكر رأيها بغير هذه الصيغة، وتقول في موضع آخر: "ونتفق مع المفسرين في

"5 وقالت: "ولا حاجة بنا بعد هذا إلى الوقوف عندما قاله بعض المفسرين في

"6.

وقالت: "لكن المفسرين أجمعوا على

إلى أن تقول: وعندي

1 المرجع السابق: ج1 ص223.

2 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف، ص607.

3 اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث: د/ عفت الشرقاوي، ص318.

4، 5، 6 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن وهي حسب الترتيب ج1 ص108، 113، 147.

ص: 954

وتقول: وحين نلوذ بكتاب العربية الأكبر ومعجزاته البيانية الخالدة نهتدي إلى هذا الملحظ الذي غاب عمن قيدهم جمود المصطلح النحوي، فطبقوه صنعة شكلية بعيدا عن ذوق العربية"1 وتقول أخيرا: "واختلفوا كذلك في

وأمام هذا الاختلاف نلوذ بالقرآن الكريم هذا المعنى المتعين هو الوحيد الذي لم يذكره المفسرون"2.

هذه صور أربع لاعتدادها بتفسيرها وما توصلت إليه من آراء حبذا لو تخلصت منها الدكتورة عائشة حتى تظهر صورة تفسيرها أكثر جلاء وأكثر قبولًا وما أجملها من صورة.

وإذا ما أردنا أن نقوم هذا التفسير في هذا المنهج فإن هذا يذكرنا بملاحظة سبق ذكرها إلا وهي تخلف النتائج عن المقدمات أعني قصور المحاولات التطبيقية عن الأسس الموضوعة والقواعد المرسومة لهذا المنهج؛ ذلكم أن هذا المنهج حتى ساعتنا هذه -فيما قرأت- لم يشهد تطبيقًا كاملًا في إحدى محاولات التفسير ذلكم أن بعضها يأخذ بشق ويأخذ بعضها بالآخر.

"فعلى حين يركز بعضها على الموضوع ويختار كثيرا من آياتها نجده يتعثر في المعجم والاستعمال وتفتر جهوده في هذه المجالات، وعلى حين تنجح بعض المحاولات في الدراسة المعجمية والاستعمال القرآني والسياق تتعثر في الموضوع فلا تلتفت إليه أو تستغني عنه أصلا وهذا ما وقع فعلا من بنت الشاطئ، فلم ترتبط بفكرة الموضوع الذي طالت دعوة أستاذها إليها وتحمست هي كثيرا في الترويج لها"3.

لكنها والحق يقال جاءت بمنحىً آخر في هذا، فعندما لم تلتزم موضوعا بعينه اختارت سورا قصارا لاحظت فيها وحدة الموضوع إلى حد ما.

1، 2 التفسير البياني: د/ عائشة عبد الرحمن وهي حسب الترتيب ج1 ص214، 216، 220-223.

3 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد ابراهيم شريف، ص597-598.

ص: 955

فهي بذلك لم تخرج عن التفسير التقليدي بالتزامها للسورة إطارا لتفسيرها، وهي أيضا لم تبعد كثيرا عن التفسير الموضوعي؛ لمراعاتها وحدة الموضوع في كل سورة تناولتها بالتفسير.

وبهذا يمكن أن نقول: إنها قد جمعت في محاولتها بين "التحديد" الموضوعي1 وبين التناول الأدبي التقليدي للسور التي فسرتها2.

ولا يفوتني في ختام حديثي عن هذا التفسير أن أبدي إعجابي بما بذلته الدكتورة عائشة، وبكثير مما توصلت إليه من آراء قيلت من قبل، فجاءت بما يدعمها أو كشفت وجها آخر في التفسير له أصالته وذلك عن طريق تتبع الأسلوب القرآني ومفردات القرآن حيث يجد القارئ حقا أن للقرآن الكريم قواعده، وأن له استعمالات ينبغي أن لا تغيب عن ذهن مفسر القرآن الكريم.

وكم أتمنى أن تعاود الدكتورة عائشة النظر فيما قيل في تفسيرها من مآخذ وسقطات وتواصل من بعد هذا التفسير، سدد الله الخطى وعفا عنا الزلل. إنه سميع مجيب.

وقد كنت وعدت أن أتبع هذه الدراسة بدراسة أخرى لكتاب آخر في هذا المنهج ذا لون آخر وهذا أوان الوفاء.

1 نعني به الموضوعية الجزئية؛ ذلكم أن المواضيع في السور التي تناولتها الدكتورة لها ما يماثلها ويكملها في سور أخرى لكن الدكتورة اكتفت بما في سورة عما في السور الأخرى وليس هذا بالموضوعية الشاملة.

2 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف ص597-598.

ص: 956