الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وشعروا بالهزيمة في أرواحهم وكتب لكم الغلب عليهم
…
"1.
أرأيتم كيف ينظر سيد إلى القصة، ينظر إليها من زاوية الداعية، فيبرز سمات الداعية ويضرب الأمثال لبعض العقبات التي تواجه الدعوة وأثر الإيمان والخوف من الله في النصر ويعتصر من الآيات رحيقا يحقنه في شرايين القلوب فلا يملك صاحبها إلا أن يجد في نفسه عزيمة على الحركة وإصرارا على الثبات.
ولو أردت أن أُسَوِّد الصفحات بذكر الأمثلة لخشيت أن آتي على آخرها ولم أبلغ منه مبلغا، فمن أراد ذلك فليحمل أجزاء تفسير "في ظلال القرآن" الستة بين يده وليقرأها كلها فإنه واجد في كل ورقة منها مبتغاه، وإذا كان الأمر كذلك فلا أحسبني قد أطلت ولو فعلت فهل تعذرون؟
1 في ظلال القرآن: ج2 ص868-870 باختصار.
الأساس الرابع: التفسير الجمالي الفني
استغرقت الاهتمامات الأدبية فترة طويلة من حياة سيد قطب رحمه الله تعالى، ولم يحصرها في نطاقها الضيق بل حاول تطبيقها في رحاب نصوص القرآن الكريم، وكانت أول مؤلفاته في ذلك "التصوير الفني في القرآن" ثم "مشاهد القيامة في القرآن".
وحين شرع في تفسيره "في ظلال القرآن" بعد ذلك لم تغب عن باله تلك الصور الجمالية في القرآن الكريم، ووجد فيها وفي صحبتها المفتاح الذي أطلع به على كنوز من القرآن واهتدى به إلى قواعد وسمات وآفاق وموضوعات الجمال الفني في القرآن الكريم.
الفني؟! ما الفن؟ يرى سيد رحمه الله تعالى أن هناك إيضاحا واجبا ينبغي أن يقال بعد ما بدأت كلمة الفن يُساء استخدامها أو يساء فهمها، أو يساء تأويلها في مجال القرآن ويعترف بأنه حين اتخذها عنوانا لكتابه "التصوير الفني في القرآن" لم يكن لها في نفسه إلا مدلول واحد هو جمال العرض، وتنسيق الأداء وبراعة الإخراج، ولم يجل في خاطره قط أن "الفني"
بالقياس إلى القرآن معناه الملفق أو المخترع أو القائم على مجرد الخيال1.
وأكد هذا المفهوم في تفسير في ظلال القرآن حين وصف الجمال الفني الصادق بأنه "الذي لا يعتمد على الخلق والتزويق ولكن يعتمد على إبداع العرض وقوة الحق وجمال الأداء"2.
وكأني بسائل يقول في شبه اعتراض: أو ليس هذا الأساس هو الأساس الأول الذي تحدثت عنه في منهج سيد قطب رحمه الله تعالى؟ وأقول لهذا السائل: كَلَّا إجمالا أما إن شئت البيان فإن المراد بالجمال الفني هو تلك الصورة الرائعة التي ترسمها نصوص القرآن الكريم حتى لتحسب كل كلمة منه خطًّا من خطوط الصورة أو ذلك المعنى السامي الذي تسوقه تلك النصوص؛ أما الأساس الأول فهو حسن البيان والوصف لهذه الصورة القرآنية وحسن التعبير والبيان عن هذه المعاني السامية؛ أما أن بينهما تداخلا فنعم، وأما أنهم معنى واحد فلا.
وقد يكتشف مفسر الصورة الجمالية الفنية في القرآن الكريم ويبرز أطرافها ويوضح خطوطها ومعالمها وظلالها وإشراقها لكنه قد يسوق ذلك كله بأسلوب أدبي يزيد الصورة جمالا إلى جمالها وقد لا يستطيع فتبقى الصورة جميلة زاهية وحدها. وقد تميز تفسير سيد قطب رحمه الله تعالى بالجمع بين هذا وذاك.
وإذ وضح الأمر فإن منزلة الجمال في القرآن تالية لمنزلة الكمال "فالجمال في تصميم هذا الكون مقصود كالكمال. بل إنهما اعتباران لحقيقة واحدة.
فالكمال يبلغ درجة الجمال. ومن ثم يوجه القرآن النظر إلى جمال السماوات بعد أن وجه النظر إلى كمالها"3 {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ
1 التصوير الفني في القرآن: سيد قطب، ص204-205.
2 في ظلال القرآن: ج1 ص55.
3 في ظلال القرآن: ج6 ص3633.
الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ، وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} 1.
وقد عني سيد قطب بالعرض الجمالي الفني في القرآن الكريم فتوقف عند الجمال الفني في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} 2 حيث قال رحمه الله تعالى:
"إنها لفتة كونية عجيبة من اللفتات الدالة على مصدر هذا الكتاب. لفتة تطوف في الأرض كلها تتبع فيها الألوان والأصباغ في كل عوالمها. في الثمرات، وفي الجبال، وفي الناس وفي الدواب والأنعام. لفتة تجمع في كلمات قلائل بين الأحياء وغير الأحياء في هذه الأرض جميعا، وتدع القلب مأخوذا بذلك المعرض الإلهي الجميل الرائع الكبير الذي يشمل الأرض جميعا.
وتبدأ بإنزال الماء من السماء، وإخراج الثمرات المختلفات الألوان، ولأن المعرض معرض أصباغ وشيات فإنه لا يذكر هنا من الثمرات إلا ألوانها:{فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} وألوان الثمار معرض بديع للألوان يعجز عن إبداع جانب منه جميعُ الرسَّامين في جميع الأجيال فما من نوع من الثمار يماثل لونه لون نوع آخر. بل ما من ثمرة واحدة يماثل لونها لون أخواتها من النوع الواحد، فعند التدقيق في أي ثمرتين أختين يبدو شيء من اختلاف اللون!
وينتقل من ألوان الثمار إلى ألوان الجبال نقلة عجيبة في ظاهرها، ولكنها من ناحية دراسة الألوان تبدو طبيعية. ففي ألوان الصخور شبه عجيب بألوان الثمار وتنوعها وتعددها، بل إن فيها أحيانا ما يكون على شكل بعض الثمار وحجمها كذلك حتى ما تكاد تفرق من الثمار صغيرها وكبيرها!
1 سورة الملك 3-5.
2 سورة فاطر: 37-38.
{وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} .
والجدد الطرائق والشعاب. وهنا لفتة في النص صادقة؛ فالجدد البيض مختلف ألوانها فيما بينها. والجدد الحمر مختلف ألوانها فيما بينها. مختلف في درجة اللون والتظليل والألوان الأخرى المتداخلة فيه، وهناك جدد غرابيب سود، حالكة، شديدة السواد.
واللفتة إلى ألوان الصخور وتعددها وتنوعها داخل اللون الواحد، بعد ذكرها إلى جانب ألوان الثمار، تهز القلب هزا، وتوقظ فيه حاسة الذوق الجمالي العالي، التي تنظر إلى الجمال نظرة تجريدية، فتراه في الصخرة كما تراه في الثمرة، على بعد ما بين طبيعة الصخرة وطبيعة الثمرة، وعلى بعد ما بين وظيفتيهما في تقدير الإنسان. ولكن النظرة الجمالية المجردة ترى الجمال وحده عنصرا مشتركا بين هذه وتلك يستحق النظر والالتفاف.
ثم ألوان الناس وهي لا تقف عند الألوان المتميزة العامة لأجناس البشر. فكل فرد بعد ذلك متميز اللون بين بني جنسه. بل متميز من توأمه الذي شاركه حملًا واحدًا في بطن واحدة!
وكذلك ألوان الدواب والأنعام. والدواب أشمل والأنعام أخص فالدابة كل حيوان. والأنعام هي الإبل والبقر والغنم والماعز، خصصها من الدواب؛ لقربها من الإنسان والألوان والأصباغ فيها معرض كذلك جميل معرض الثمار ومعرض الصخور سواء.
هذا الكتاب الكوني الجميل الصفحات العجيب التكوين والتلوين يفتحه القرآن ويقلب صفحاته ويقول إن العلماء الذين يتلونه ويدركونه ويتدبرونه هم الذين يخشون الله:
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} إلى أن قال رحمه الله تعالى:
"إن عنصر الجمال يبدو مقصودا قصدا في تصميم هذا الكون وتنسيقه ومن كمال هذا الجمال أن وظائف الأشياء تؤدى عن طريق جمالها هذه الألوان
العجيبة في الأزهار تجذب النحل والفراش مع الرائحة الخاصة التي تفوح.
ووظيفة النحل والفراش بالقياس إلى الزهرة هي القيام بنقل اللقاح؛ لتنشأ الثمار. وهكذا تؤدي الزهرة وظيفتها عن طريق جمالها! والجمال في الجنس هو الوسيلة لجذب الجنس الآخر إليه؛ لأداء الوظيفة التي يقوم بها الجنسان.
وهكذا تتم الوظيفة عن طريق الجمال.
الجمال عنصر مقصود قصدا في تصميم هذا الكون وتنسيقه ومن ثم هذه اللفتات في كتاب الله المنزل إلى الجمال في كتاب الله المعروض"1.
وقد يكون الجمال الفني في استخدام التصوير وتشخيص المعاني كوسيلة لبيانها ولا شك أن لهذا التصوير الفني أثره البين في جلاء المعنى الكلي المجرد فـ "المعنى الكلي المجرد يظل حائرا في التصور البشري ومائعا حتى يتمثل في صور محسوسة، ومهما أوتي العقل البشري من القدرة على التجريد فإنه يظل في حاجة إلى تمثل المعنى المجرد في صورة وأشكال وخصائص ونماذج ذلك شأنه مع المعاني المجردة التي تمثل المحدود فكيف بغير المحدود؟
لذلك يضرب القرآن الأمثال للناس ويقرب إلى حسهم معانيه الكبرى بوضعها في صور ومشاهد ومحسوسات ذات مقومات وخصائص وأشكال"2.
وإن شئت مثلا لذلك فالأمثلة كثيرة أفردها رحمه الله تعالى بكتابه "التصوير الفني في القرآن" ثم سار عليها في الظلال وزادها صورا أخرى ومشاهدة أخرى نذكر منها تصويرا لمشهد من مشاهد يوم القيامة.
فمن ذلك تفسيره لقوله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ، مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ، يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} 3 حيث قال رحمه الله
1 في ظلال القرآن: ج5 ص2942-2943.
2 في ظلال القرآن: ج4 ص2296-2297.
3 سورة إبراهيم: 15-18.
تعالى: "والمشهد هنا عجيب أنه مشهد الخيبة لكل جبار عنيد مشهد الخيبة في الأرض. ولكنه يقف هذا الموقف ومن ورائه تخايل جهنم وصورته فيها وهو يسقى من الصديد السائل من الجسوم يسقاه بعنف فيتجرعه غصبا وكرها ولا يكاد يسيغه لقزازته ومرارته والتقذر والتكره بأديان نكاد نلمحهما من خلال الكلمات ويأتيه الموت بأسبابه المحيطة به من كل مكان، ولكنه لا يموت؛ ليستكمل عذابه ومن ورائه عذاب غليظ.
إنه مشهد عجيب، يرسم الجبال الخائب المهزوم ووراءه مصيره يخايل له على هذا النحو المروع الفظيع وتشترك كلمة "غليظ" في تقطيع المشهد، تنسيقا له مع القوة الغاشمة التي كانوا يهددون بها دعاة الحق والخير والصلاح واليقين" إلى أن قال في الآية التالية:
ومشهد الرماد تشتد به الريح في يوم عاصف مشهود معهود يجسم به السياق معنى ضياع الأعمال سدى لا يقدر أصحابها على الإمساك بشيء منها ولا الانتفاع به أصلا يجسمه في هذا المشهد العاصف المتحرك فيبلغ في تحريك المشاعر له ما لا يبلغه التعبير الذهني المجرد عن ضياع الأعمال وذهابها بددا.
هذا المشهد ينطوي على حقيقة ذاتية في أعمال الكفار فالأعمال التي لا تقوم على قاعدة من الإيمان ولا تمسكها العروة الوثقى التي تصل العمل بالباعث، وتصل الباعث بالله مفككة كالهباء والرماد لا قوام لها ولا نظام.
فليس المعول عليه هو العمل، ولكن باعث العمل. فالعمل حركة آلية لا يفترق فيها الإنسان عن الآلة إلا بالباعث والقصد والغاية.
وهكذا يلتقي المشهد المصور مع الحقيقة العميقة، وهو يؤدي المعنى في
1 سورة إبراهيم: 15-18.
أسلوب مشوق موحٍ مؤثر"1 وقد يكون المشهد تصويرًا لمعاني عقلية مجردة كالمنِّ والأذى والرياء في الصدقات.
فمن ذلك تفسيره لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ، وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} 2؛ حيث قال: "هذا هو المشهد الأول، مشهد كامل من منظرين متقابلين وشكلا ووضعا وثمرة. وفي كل منظر جزئيات يتسق بعضها مع بعض من ناحية فن الرسم وفن العرض، ويتسق كذلك مع ما يماثله من المشاعر والمعاني التي رسم المنظر كله لتمثيلها وتشخيصها وإحيائها.
نحن في المنظر الأول أمام قلب صلد:
{كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .
فهو لا يستشعر نداوة الإيمان وبشاشته. ولكنه يغطي هذه الصلادة بغشاء من الرياء.
هذا القلب الصلد المغشى بالرياء يمثله "صفوان عليه تراب" حجر لا خصب فيه ولا ليونة، يغطيه تراب خفيف يحجب صلادته عن العين، كما أن الرياء يحجب صلادة القلب الخالي من الإيمان {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا} .
وذهب المطر الغزير بالتراب القليل! فانكشف الحجر بجدبه وقساوته،
1 في ظلال القرآن: ج4 ص2093-2094.
ولم ينبت زرعة، ولم يثمر ثمرة كذلك القلب الذي أنفق ماله رئاء الناس، فلم يثمر خيرا ولم يعقب مثوبة! ".
أما المنظر الثاني المقابل له في المشهد فقلب عامر بالإيمان، نديٌّ ببشاشته. ينفق ماله {ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّه} وينفقه عن ثقة ثابتة في الخير، نابعة من الإيمان، عميقة الجذور في الضمير، وإذا كان القلب الصلد وعليه ستار من الرياء يمثله صفوان صلد عليه غشاء من التراب، فالقلب المؤمن تمثله جنة خصبة عميقة التربة في مقابل حفنة التراب على الصفوان؛ جنة تقوم على ربوة في مقابل الحجر الذي تقوم عليه حفنة التراب! ليكون المنظر متناسق الأشكال! فإذا جاء الوابل لم يذهب بالتربة الخصبة هنا كما ذهب بغشاء التراب هناك. بل أحياها وأخصبها ونماها.
{أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ}
أحياها كما تحيي الصدقة قلب المؤمن، فيزكو ويزداد صلة بالله، ويزكو ماله كذلك ويضاعف له الله ما يشاء وكما تزكو حياة الجماعة المسلمة بالإنفاق وتصلح وتنمو.
{فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ} غزير فـ {طَلٌّ} من الرذاذ يكفي في التربة الخصبة ويكفي منه القليل!
إنه المشهد الكامل، المتقابل المناظر، المنسق الجزئيات، المعروض بطريقة معجزة التناسق والأداء، الممثل بمناظره الشاخصة لكل خالجة في القلب وكل خاطرة، المصور للمشاعر والجدانات بما يقابلها من الحالات والمحسوسات، الموحى للقلب باختيار الطريق في يسر عجيب.
ولما كان المشهد مجالا للبصر وللبصيرة من جانب، ومرد الأمر فيه كذلك إلى رؤية الله ومعرفته بما وراء الظواهر، جاء التعقيب لمسة للقلوب:
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير} .
فأما المشهد الثاني فتمثيل لنهاية المن والأذى، كيف يمحق آثار الصدقة محقا
في وقت لا يملك صاحبها قوة ولا عونا ولا يستطيع لذلك المحق ردًّا تمثيل لهذه النهاية البائسة في صورة موحية عنيفة الإيحاء. كل ما فيها عاصف بعد أمن ورخاء.
هذه الصدقة في أصلها وفي آثارها تمثل في عالم المحسوسات.
إنها ظليلة وارفة مخصبة مثمرة. وكذلك الصدقة في طبيعتها وفي آثارها.
كذلك هي في حياة المعطي وفي حياة الآخذ وفي حياة الجماعة الإنسانية. كذلك هي ذات روح وظل وذات خير وبركة، وذات غذاء وري وذات زكاة ونماء!
فمن ذا الذي يود أن تكون له هذه الجنة -أو هذه الحسنة- ثم يرسل عليها المن والأذى يمحقها محقا، كما يمحق الجنة الإعصار فيه نار؟
ومتى؟ في أشد ساعاته عجزا عن إنقاذها، وحاجة إلى ظلها وعمائها!
{وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} .
"من ذا الذي يود هذا؟ ومن ذا الذي يفكر في ذلك المصير ثم لا يتقيه؟
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} .
وهكذا يقوم المشهد الحي الشاخص، بما فيه أول الأمر من رضى ورفه ومتعة، وما فيه من نضارة وروح وجمال ثم بما يعصف به عصفا من إعصار فيه
1 سورة البقرة: الآية 266.
نار. يقوم هذا المشهد العجيب بالإيحاء الشعوري الرعيب الذي لا يدع مجالا للتردد في الاختيار، قبل أن تذهب فرصة الاختيار وقبل أن يصيب الجنة الوارفة الظليلة المثمرة إعصار فيه نار!
وبعد؛ فإن التناسق الدقيق الجميل الملحوظ في تركيب كل مشهد على حدة، وفي طريقة عرضه وتنسيقه هذا التناسق لا يقف عند المشاهد فرادى.
بل إنه ليمد رواقه فيشمل المشاهد متجمعة من بدئها في هذا الدرس إلى منتهاها إنها جميعا تعرض في محيط متجانس محيط زراعي؛ حبة أنبتت سبع سنابل، صفوان عليه تراب فأصابه وابل، جنة بربوة فآتت أكلها ضعفين، جنة من نخيل وأعناب حتى الوابل والطل والإعصار التي تكمل محيط الزراعة لم يخل منها محيط العرض الفني المثير.
وهي الحقيقة الكبيرة وراء العرض الفني المثير حقيقة الصلة بين النفس البشرية والتربة الأرضية. حقيقة الأصل الواحد وحقيقة الطبيعة الواحدة، وحقيقة الحياة الثابتة في النفس وفي التربة على السواء وحقيقة المحق الذي يصيب هذه الحياة في النفس وفي التربة على السواء.
إنه القرآن كلمة الحق الجميلة من لدن حكيم خبير"1.
ومنها ما هو تصوير لمشاهد كونية للمتأمل فيها آية وأي آية فمن ذلك تفسيره لقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} 2، قال: "فلفظ عسعس مؤلف من مقطعين: عس عس. وهو يوحي بجرسه بحياة في هذا الليل، وهو يعس في الظلام بيده أو برجله لا يرى! وهو إيحاء عجيب واختيار للتعبير رائع. ومثله:{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} بل هو أظهر حيوية وأشد إيحاء والصبح حي يتنفس. أنفاسه النور والحياة والحركة التي تدب في كل حي وأكاد أجزم أن اللغة العربية بكل مأثوراتها التعبيرية لا تحتوي نظيرا لهذا التعبير الصبح. ورؤية الفجر تكاد تشعر القلب المتفتح أنه بالفعل يتنفس! ثم يجيء
1 في ظلال القرآن: ج1 ص308-310.
2 سورة التكوير: الآيتين 17-18.
هذا التعبير فيصور هذه الحقيقة التي يشعر بها القلب المتفتح. وكل متذوق لجمال التعبير والتصوير يدرك أن قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ، وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} 1. ثروة شعورية وتعبيرية فوق ما يشير إليه من حقائق كونية، ثروة جميلة بديعة رشيقة، تضاف إلى رصيد البشرية من المشاعر، وهي تستقبل هذه الظواهر الكونية بالحس الشاعر"2.
ولنقف مع سيد قطب رحمه الله تعالى عند مشهد من مشاهد تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس ضربه الله مثلا للمنافقين: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ، يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 3.
قال، رحمه الله تعالى:"إنه مشهد عجيب، حافل بالحركة مشوب بالاضطراب فيه تيه وضلال، وفيه هول ورعب، وفيه فزع وحيرة، وفيه أضواء وأصداء. إن الحركة التي تغمر المشهد كله: من الصيب الهاطل إلى الظلمات والرعد والبرق إلى الحائرين المفزعين فيه، إلى الخطوات المروعة الوجلة التي تقف عندما يختم الظلام، إن هذه الحركة في المشهد لترسم عن طريق التأثر الإيحائي حركة التيه والاضطراب والقلق والأرجحة التي يعيش فيها أولئك المنافقون. بين لقائهم للمؤمنين، وعودتهم للشياطين، بين ما يقولونه لحظة ثم ينكسون عنه فجأة. بين ما يطلبونه من هدى ونور وما يفيئون إليه من ضلال وظلام فهو مشهد حسي يرمز لحالة نفسية ويجسم صورة شعورية وهو طرف من طريقة القرآن العجيبة في تجسيم أحوال النفوس كأنها مشهد محسوس"4.
1 سورة التكوير: الآيتين 17-18.
2 في ظلال القرآن: ج6 ص3841-3842.
3 سورة البقرة: 19-20.
4 في ظلال القرآن: ج1 ص46.
قلت لكم: إن هذه المشاهد كثيرة، وإن عرض سيد رحمه الله تعالى كثير أيضا وما ذكرت ليس أوضحها وليس أجملها ولكنه منها على كل حال.
تلكم مشاهد مركبة من صور، وصور متعددة، وقد يكون الجمال التعبيري والجمال الفني في مفردة خذ مثلا كلمة "أفضى" من قوله سبحانه وتعالى:{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا، وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} 1 وقف رحمه الله تعالى وقفة عند كلمة أفضى استلهم منها كل الصور والظلال والإيحاءات التي تحتويها ولا يدركها إلا القليل قال: "ويدع الفعل "أفضى" بلا مفعول محدد. يدع اللفظ مطلقا يشع كل معانيه، ويلقي كل ظلاله، ويسكب كل إيحاءاته. ولا يقف عند حدود الجسد وإفضاءاته. بل يشمل العواطف والمشاعر والوجدانات والتصورات والأسرار والهموم، والتجاوب في كل صورة من صور التجاوب. يدع اللفظ يرسم عشرات الصور لتلك الحياة المشتركة آناء الليل وأطراف النهار، وعشرات الذكريات لتلك المؤسسة التي ضمتها فترة من الزمان وفي كل اختلاجة حب إفضاء، وفي كل نظرة ود إفضاء، وفي كل لمسة جسم إفضاء، وفي كل اشتراك في ألم أو أمل إفضاء، وفي كل تفكر في حاضر أو مستقبل إفضاء، وفي كل شوق إلى خلف إفضاء، وفي كل التقاء وفي وليد إفضاء كل هذا الحشد من التصورات والظلال والأنداء والمشاعر والعواطف يرسمه ذلك التعبير الموحي العجيب: {وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} فيتضاءل إلى جواره ذلك المعنى المادي الصغير ويخجل الرجل أن يطلب بعض ما دفع، وهو يستعرض في خياله وفي وجدانه ذلك الحشد من صور الماضي، وذكريات العشرة في لحظة الفراق الأسيف"2.
أفلا يحق لنا معشر الأحبة وقد تغنى الأدباء ببلاغة بشار بن برد حين قال وهو الأعمى يصف معركة:
1 سورة النساء: الآيتين 20-21.
2 في ظلال القرآن: ج1 ص606-607.
كأن مثار النقع فوق رءوسنا
…
وأسيافنا ليل تهاوى كواكبه
أن نتغنى بإدراك سيد لهذه المشاعر والصور بين الرجل وزوجته وهو الرجل الذي لم يتزوج؟! إن كثيرًا من المتزوجين لا يدركون بعضها، فكيف أدركها كلها؛ إنه توفيق الله وفضله.
ومن ذلك تفسيره لكلمة "كبكبوا" من قوله تعالى عن أصحاب الجحيم:
{فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ} 1 قال، رحمه الله تعالى:
"كبكبوا؛ وإننا لنكاد نسمع من جرس اللفظ صوت تدفعهم وتكفئهم وتساقطهم بلا عناية ولا نظام، وصوت الكركبة الناشئ من الكبكبة، كما ينهار الجرف فتتبعه الجروف. فهو لفظ مصور بجرسه لمعناه"2.
ومنه تفسيره لكلمة: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} من قوله تعالى على لسان نوح عليه السلام مخاطبا قومه: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} 3، قال، رحمه الله تعالى:"فتحس أن كلمة "أنلزمكموها" تصور جو الإكراه بإدماج كل هذه الضمائر في النطق وشد بعضها إلى بعض كما يدمج الكارهون مع ما يكرهون ويشدون إليه وهم نافرون! وهكذا يبدو لون من التناسق أعلى من البلاغة الظاهرية وأرفع من الفصاحة اللفظية"4.
والجمال الفني في القرآن ليس في تجسيم الأحداث وتشخيصها بصورة مركبة أو مفردة فحسب، ولكنه أيضا في انتقاء المشهد والتقاطه من الزاوية الجمالية فيه. خذ مثلا لذلك تفسيره لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} 5 وما بعدها.
1 سورة الشعراء: الآية 94.
2 في ظلال القرآن: ج5 ص2605
3 سورة هود: الآية 28.
4 في ظلال القرآن: ج4 ص1873 "الهامش".
5 سورة الأنعام: الآية 95.