الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نماذج من هذا اللون في التفسير:
ويمتاز هذا اللون عن سابقه بكثرة الذين كتبوا فيه مقالات ودراسات ومؤلفات، وأكثر ما يدخل تحته التفسير العلمي، وقد سبق أن أفردنا هذا بمنهج خاص لكن هذا المنهج قد تطرف فيه بعض من تناولوا التفسير وخرجوا عن حدود التفسير المقبول إلى منطقة التفسير المردود؛ فأصبح تفسيرهم باللون الإلحادي ألصق وإن كانت صبغته علمية.
ثم يليه في الكثرة آيات الأحكام التي ولج إليها طائفة أرادوا أن يعدلوا في الأحكام الرعية حسب ما يرونه ملائما للعصر حتى وإن لم تطاوعهم الآية؛ فإنهم يلوونها ليلا، وكأنهم قد قرروا الحكم الذي يريدون قبل أن ينظروا في الآية، ثم أرادوا أن يطبقوا الآية بعد ذلك على الحكم الذي قرروه قبل، ولا شك أن هذا إلحاد بالآية إلى غير مدلولها.
خذ مثلا عباس محمود العقاد -عفا الله عنا وعنه- يقول في قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 1: "من هو السارق؟ هل هو من يسرق مرة واحدة أو من تعود السرقة؟ فإن كلمة الكاتب مثلا لا تطلق على كل من يكتب، ويقرأ وإنما تطلق على من تعود الكتابة وأكثر منها والإشارة إلى النكال وإلى عزة الله في الآية الكريمة قد تفيد معنى الاستشراء والاستفحال الذي يقضي بالنكال وأيا كان المقصود
1 سورة المائدة: من الآية 38.
بالسارق في الآية الكريمة فالتوبة والاستصلاح تفيان من إقامة الحد، ويوكل الأمر فيهما إلى الإمام في رأي جملة الفقهاء"1.
ولئن سبق في بحثنا هذا إيراد مثل هذا التفسير والرد عليه؛ فإني أحبذ أن أقف مع العقاد هنا وقفة في ثلاثة مواضع من حديثه.
أما زعمه أن السارق تطلق على من تعود السرقة كالكاتب تطلق على من تعود الكتابة؛ فإن هذا غير مسلم وسبق بيان ذلك ويكفي هنا أن أضرب له مثلا واحدا، له من الرواج ما يفهم غير ذوي المعروفة باللغة وخصائصها لو طرق عليك الباب طارق فإنك تهتف "من الطارق"، حتى ولو لم يطرق الباب إلا مرة واحدة.
أما أن الإشارة إلى عزة الله وإلى النكال؛ فإنه لا يدل على ما زعمه بل الذي أحسبه أنه عكس ما ذكر والله أعلم.
بقي أمر توبة السارق والاستصلاح؛ فقد ذكر أنهما تعفيان من إقامة الحد ولكنه لم يفرق بين ما إذا رفع الأمر إلى الإمام أو قبل أن يرفع والذي لا يخفى أنه إذا رفع أمر السارق إلى الإمام؛ فلا يسقط الحد حتى ولو أعلن توبته؛ وإلا أصبح الأمر عبثا فأي سارق لن يعلن توبته ولو كذبا إذا كان هذا يدرؤ قطع يده، ثم يصبح الأمر عنده بردا وسلاما يسرق ثم يتوب ولا أظن ذا لب يقبل هذا؟!
وفي آية أخرى يفسرها الأستاذ العقاد تفسيرا منحرفا تلكم قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ، عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ، مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ، بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ، لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنْزِفُونَ} 2 الآيات.
حيث ذهب مذهب الفلاسفة في القول بأن الجزاء الأخروي نعيما وجحيما روحاني لا جسماني.
1 الفلسفة القرآنية: عباس محمود العقاد، ص101.
2 سورة الواقعة: الآيات 10-19.
ويعلل ورود هذا النعيم في هذه الآيات وأمثالها بصيغ لا تقبل إلا أن يكون العقاب والثواب جسماني لا رواحاني بقوله: "فالحقيقة الاعتقادية لا بد أن تمتزج بتصور المؤمنين بها لأن الخطاب فيها موجه إلا ملايين من البشر منهم العارف والجاهل، ومنهم الذكي والغبي ومنهم كبير النفس وصغيرها ورفيع الحس ووضيعه ومنهم من يطلب الكمال، ومن لا يعرف كمالا يطمح إليه؛ فلا بد من توضيح الحقيقة الاعتقادية بالمحسوسات في كثير من الأحوال وعلى هذا ينبغي أن يروض فكره كل من ينظر إلى عقيدة الحياة الأخرى في القرآن الكريم.
فالقرآن الكريم يفرض على المؤمنين عقيدة البعث والحساب ويدعوهم إلى الإيمان بالنعيم والعذاب والجنة هي مقر النعيم والنار هي مقر العذاب وفي القرآن أوصاف محسوسة للجنة كما وصفت في سورة الواقعة وفي القرآن أوصاف محسوسة للنار كما وصفت في سورة الفرقان؛ ولكن في المتفق عليه بنص القرآن ونص الحديث النبوي الشريف أن هذه الموصوفات غير ما يرى ويعهد في هذه الحياة والواقع أن المسلمين يفهمون من هذه الصفات معنى التنعيم ومعنى العذاب ولا يخل فهمهم لهذا أو لذاك بالغرض المقصود من وعد الله ووعيده بالمثوبة والعقاب"1، ثم ذهب يستدل لهذا الذي قرره بدليلين أحدهما: فلسفي والثاني صوفي، أما الأول فقال؛ فالإمام فخر الدين الرازي مثلا يقول في تفسير الاتكاء على السرر المرفوعة: "معناه أن كل أحد يقابل كل أحد في زمان واحد، ولا يفهم هذا إلا فيما لا يكون فيه اختلاف جهات، وعلى هذا فيكون معنى الكلام أنهم أرواح ليس لهم أدبار وظهور؛ فيكون المراد من السابقين هم الذين أجسامهم أرواح نورانية: جميع جهاتهم وجه، كالنور الذي يقابل كل شيء"، وهذا فهم فيلسوف باحث في الجواهر والأعراض، وفي مطالب الأرواح والأجسام".
وأما الثاني وهو الفهم الصوفي فقال عنه: "ويفهم المتصوفة أن نعيم الحياة الباقية كله هو الوصول إلى الله ولا يتطلعون إلى جزاء غير هذا الجزاء سمعت
1 الفلسفة القرآنية: عباس العقاد ص183-184 باختصار.
رابعة العدوية قارئا يتلو قوله تعالى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ، وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} 1 فقالت: نحن إذن صغار حتى نفرح بالفاكهة والطير"، وسمع الشبلي قوله تعالى: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} 2؛ فصاح صيحة عظيمة، وقال: "فأين الذين يريدون الله تعالى؟ ".
إلى أن قال -العقاد- فوصف الحقائق بالمحسوسات -كما رأينا- تعبير يفهمه الخواص الذين يرتفعون بالفهم وبمطالب النفس الباقية عن مطالب الجهلاء؛ ولكن هل التعبير بالمعاني المجردة والحقائق المثالية مفهوم عند هؤلاء الجهلاء؟ "3.
ثم ذكر أن الجهلاء هم أحوج الناس إلى الإيمان بالحساب ووصفهم بأنهم لا يعتقدون إلا بما يحسون ويفقهون، وأنه لا معدي إذن من إحدى صورتين للعقائد، أما أن تساق بأسلوب يحقق الحكمة من العقيدة عند جميع الناس خاصة وعامة، ولا بد فيه من العبير عن المعاني بالمحسوسات، وأما أسلوب يترك الخاصة لأنفسهم وينفي العامة عن حظيرة الاعتقاد وهو لا يحقق الحكمة من العقيدة بحال.
ثم قال: "في ذلك الأسلوب لا خسارة على أحد من الخاصة أو العامة، وفي هذا الأسلوب لا فائدة للخاصة ولا للعامة لأن الخاصة متروكون لأنفسهم يفهمون ما يفهمون بمعزل عن الوحي والرسالة، ولأن العامة محجوبون عن الوحي والرسالة بكل حجاب"4.
تلكم خلاصة ما قاله الأستاذ عباس محمود العقاد ولنا معه أيضا وقفات:
الأولى: أنه استدل برأي الفلاسفة ومفاهيم الصوفية، ومن المعلوم أن العقائد لا تؤخذ من هؤلاء ولا من هؤلاء وإنما من الكتاب والسنة.
1 سورة الواقعة: الآيتين 20-21.
2 سورة آل عمران: من الآية 152.
3 الفلسفة القرآنية: عباس العقاد ص185.
4 الفلسفة القرآنية: عباس محمود العقاد، ص185-186.
الثانية: إن ما ذكره ونسبه للرازي إنما هو أحد قولين أوردهما الرازي إيرادا، ورجح الثاني الذي لم يذكره العقاد وهو أن التقابل يعني أنهم متساوون في المكانة والرتبة لا يرى أحدهم نفسه دون الآخر.
الثالثة: إن ما ذكره عن رابعة والشبلي -إن صح عنهما- فلا يدل على فهمه هذا؛ ذلكم أن الصوفية حين يقولون مثل هذه المواجد ويلهجون بالنعيم الروحي وهو الوصول إلى الله تعالى لا ينكرون أهناك مع هذا نعيما محسوسا وعقابا كذلك؛ وإنما يتحدثون عن أمانيهم وليس عن الواقع وحده.
والوقفة الرابعة وهي الأخطر زعمه "أن الخاصة متروكون لأنفسهم يفهمون ما يفهمون بمعزل عن الوحي والرسالة"، وهو كلام خطير لا أظن الأستاذ العقاد يقصد ممعناه بكل أبعاده؛ وإلا لأدى إلى إنكار الدين من أصله وترك -الخاصة- يقررون لأنفسهم من العقائد ما شاؤوا بعيدا عن الوحي والرسالة وحينذاك يكون الهلاك.
ولعل في هذه الوقفات القصيرة ما يظهر الحقيقة التي غابت عنه فيما ادعاه من النص الذي سقناه له وحرصنا على استيفاء معانيه فجاء طويلا.
وغير العقاد كثيرون أولوا الآيات على غير مدلولها الصحيح من ذلك -كما أشرنا- التفسير العلمي خاض فيه كثير من هؤلاء فجاؤوا بتفاسير منها ما هو مقبول، ومنها ما هو مردود ومنها ما هو إلحاد أو انحراف، ومنها ما هو كفر وضلال.
لن أذكر أمثلة للمقبول والمردود؛ فقد إفرداه بدراسة خاصة ومنهج خاص هو المنهج العلمي في التفسير وإنا أشير إلى ما فيه انحراف أو كفر بل أشير إلى بعضه.
فمن ذلك الأستاذ عبد الرزاق نوفل رحمه الله وغفر له وعفا عنا وعنه أكثر من التفسير العلمي أحسبه بدافع الحرص على هداية الناس وجذبهم إلى الإسلام، وما علينا ونيته فأمرها إلى الله؛ وإنما علينا أن نذكر مواضع انحرافه فمن ذلك تفسيره للنفس الواحدة في قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} 1؛ ففسر النفس الواحدة بالبروتون وزوجها الإلكترون واقرأ تفسيره قال: وقد اعتبر اكتشاف الإلكترون أكبر نصر علمي أمكن العقل البشري أن يصل إليه حتى أنهم يطلقون على هذا العصر الذي نعيش فيه الآن العصر الإلكتروني؛ إذ يعتبر أن هذا أروع وأهم اكتشاف تميز به عصر من العصور؛ إذ أمكن الوصول إلى الجوهر الفرد وحدة الخلق التي منها خلق كل شيء في الوجود: الإنسان والحيوان والماء والهواء الحي والجماد والأرض والسماء؛ فوجد أنها وحده تناهت في الصغر إلى درجة لا يقبل الفكر أن يتمثلها، وهذه الحقيقة العلمية التي يتيه بها العصر الحديث قد جاء بالقرآن الكريم منذ 1400 سنة في صراحة ووضوح؛ إذ تقرر الآية 189 من سورة الأعراف أن كل ما خلق الله إنما خلقه من نفس واحدة وجعل منها زوجها:{هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} 1 أليست هذه هي البروتونات والإلكترونات الكهارب الواحدة موجبة وسالبة أي النفس الواحدة.. الزوجية الجنس بين موجب وسالب"2.
فهل يقبل ذو لب أن يوصف هذا التفسير بأن الآية تدل عليه بصراحة ووضوح ومع هذا يخفى على علماء المسلمين حتى القرن الرابع عشر الهجري؟! أين الصراحة والوضوح، وكان يكفي الأستاذ نوفل -عفى الله عنه- أن يكمل الآية ليعرف مدلولها الصريح والواضح {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} 3.
وهذا الشاب أحمد شعبان محمد شاب مغمور لعله أراد أن يصبح مشهورا فكتب ما زعمه "إعجاز علمي في سورة النور" تناول فيه قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ
1 سورة الأعراف: من الآية 189.
2 القرآن والعلم الحديث: عبد الرزاق نوفل، ص156.
3 سورة الأعراف: الآيتين 189-190.
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} 1 زعم أن في هذه الآية بيانا لـ "نوع من أشعة "الليزر" يسير الجبال ويقطع الأرض ويكلم به الموتى"؟! وقد بلغت هذه الدراسة 31 صفحة قدمها صاحبها إلى إدارة البحوث والنشر في مجمع البحوث الإسلامية وأحيلت إلى فضيلة الشيخ مصطفى محمد الحديدي الطير فكتب تقريرا في 22 صفحة ختمه بأن هذا البحث لا يصلح للطبع والنشر.
ولا أخفي أني غبطت الشيخ مصطفى الطير على سعة صدره وطول نفسه في قراءة هذه الرسالة كلها وكتابته نقدا شاملا لها مع أن كل صفحة فيها مليئة بما يبرر منعها من الطبع والنشر، ومع هذا فإن الشيخ مصطفى قدر قرأها كاملة، وكتب نقدا شاملا وزودني جزاه الله خيرا بنسخة من الرسالة وصوره من التقرير الذي كتبه وجاء فيه قوله:"يشتمل هذا الكتاب على إحدى وثلاثين صفحة من القطع الكبير وقد حاول فيه أن يستخرج أشعة الليزر من الآية الخامسة والثلاثين من سورة النور"2.
قال المؤلف عن الآية 35 المذكورة من سورة النور: "أحسست بوجود تطابق بين هذه الآية الكريمة وبين أجهزة الليزر عموما. كما لو كانت الآية تصميم "كذا" لجهاز من تلك الأجهزة"3.
أما تفسير الآية فقال ما خلاصته: {مِشْكَاةٌ} هو "كذا" الكوة التي ليست بنافذة وهي عبارة عن جسم مفرغ من الداخل وليس له إلا فتحة واحدة كشباك أي أن هذه الفتحة لها سدادة أقل سمكا من باقي الجسم ويعتمد تصميم
1 سورة النور: الآية 35.
2 الصفحة الأولى من التقرير الذي أعده الشيخ مصطفى محمد الحديدي الطير عن هذه الرسالة.
3 دراسة حول النور من كتاب الله: أحمد شعبان محمد، ص2.
المشكاة على درجة الحرارة داخلها وعلى مسارات الأشعة وانكساراتها، ويجب كذلك أن تكون على درجة عالية من الصقل بالنسبة للسطح الداخلي؛ وذلك لاتخاذ الأشعة مساراتها المحددة حسب النظريات المعروفة، {فِيهَا} : بمعنى آخر هذه المشكاة، {مِصْبَاحٌ} : إشارة إلى كلمة المصباح السابقة، وعلى حسب التصورات العلمية المتاحة لنا يتحدد تصميم المصباح؛ فيكون هذا المصباح مماثلا لدائرة مصابيح الزئبق؛ بحيث ترفع طاقة الزيت من خلال تيار كهربي ويكون الزيت بمعزل عن أي مواد أخرى مثل الهواء لكي لا يحترق الزيت؛ فيكون في أنبوبة زجاجية مفرغة فعند رفع طاقة الزيت يتحول من الحالة السائلة إلى الحالة الغازية، ويتسبب ذلك في وجود ضغط داخل الأنبوبة، ونستمر في رفع طاقة بخار الزيت الذي يكون في هذه الحالة متأنيا "كذا" حتى نصل به إلى درجة الاشتعال؛ فيصدر ضوءا دون أن يحترق لعدم وجود أكسجين داخل الأنبوبة، {فِي زُجَاجَةٍ} : أي أن هذا المصباح بداخل الزجاجة، ويجب عمل تفريغ بين المصباح والزجاجة لتكون بمثابة عازل يمنع أجزاء المصباح وهي الدائرة الكهربة "كذا" الخارجة عن أنبوبة الزيت من التأكسد، وبالتالي التلف وكذلك لتعمل كعازل لعزل الجسيمات الموجودة في الضوء الخارج من الزيت وعدم السماح إلا بمرور الموجبات فقط من خلال الزجاجة"1، إلى أن قال:{يُوقَدُ مِنْ شَجَرَة} والبركة معناها الوفرة والكثرة أي الشيء المحدود يتكاثر بغير حدود، ومن الممكن أن نصل إلى أدنى هذه الحدود وذلك بالمقارنة عن طريق الآيات الآتية:
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3] .
{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1] .
ففي الآيتين السابقتين وردت كلمة مباركة في الآية الأولى مرادفة لكلمة القدر في الآية الثانية وبتعريف قيمة القدر {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 2] فليلة القدر خير من ألف شهر أي أنها خير من
1 المرجع السابق: ص16-20 باختصار.
نظيرها بـ 60.000 على اعتبار الليلة نصف يوم فنصف اليوم خير من 1000×30×2= 60.000 نظيرها، وبالمثل فإن كلمة مباركة تعني الخير لأكثر من 60.000 نظير، وهذا يعني أن الاستفادة من هذه الشجرة خير من 60.000 شجرة في مكان آخر وشعاع النور الذي يخرج من هذه الشجرة خير من 60.000 شعاع يخرج من شجرة أخرى؛ لأن هذه الأشعة مركزة في نقطة واحدة وليست مشتتة بعيدا عن بعضها".
ثم وصف هذه الأشعة المركزة في نقطة واحدة بأنها {نُورٌ عَلَى نُورٍ} وعندما تسير موجات نور على نور في خطوات منتظمة؛ فإنها تستطيع أن تحقق آثارا مذهلة والسبب هو أن طاقتها لا تتشتت كما لا تنتشر الحزمة نحو الخارج وهو يدعو إلى تكثيف تركيزا لطاقة عند نقطة محددة تماما وتوسع أيضا بدرجة عظيمة مدى مصدر الضوء، ثم ذكر بعض الإنجازات المثيرة لأشعة {نُورٌ عَلَى نُورٍ} ، ومنها أنه يمكن لهذا الشعاع أن يحدث ثقوبا في لوح من الصلب سمكة 3/8 بوصة على بعد عدة أقدام وقال:"ويستخدم هذا الشعاع "نور على نور لضبط المدى حيث تستخدم في سلاح المدفعية لتوجيه المدافع، وكذلك الصواريخ وكذلك المساحون في الفضاء الخارجي وستحل الأجهزة التي تصدر هذا الشعاع محل أجهزة الرادار التقليدية واللاسلكي لملاحة سفن الفضاء والاتصالات، ويستطيع هذا الشعاع أن يقطع المعادن والمواد الأخرى ويستخدم حاليا في أحكام ميكنة المعادن والمواد الهشة مثل التي بالماس وكذلك نستطيع أن نلح المعادن ونستخدم كذلك في صناعة دوائر ميكروإلكترونية ومن ثم فإن الأجهزة الضخمة التي تخرج هذا الشعاع التي تركب فوق قمم الجبال العالية يصفها على أنها وسيلة للدفاع ضد الرؤوس النووية للقذائف الموجهة الحربية من عابرات القارات" إلخ1.
هذه خلاصة سريعة لهذا البحث عن "الليزر" الذي زعمه صاحبه تفسيرا للآية 35 من سورة النور وهل مثل هذا يحتاج إلى نقد؟! لا أحسبه كذلك فأمر بطلانه ظاهر لا يخفى.
1 المرجع السابق، ص29-30 باختصار.
ولا يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل، ومن المؤسف أن تنشر مثل هذه الخرافات جريدة "النور" المصرية في عددها 42 بعنوان:"إعجاز علمي في سورة النور نوع أشعة الليزر يسير الجبال ويقطع الأرض ويكلم به الموتى! وهذا المقال خلاصة لهذا البحث قدمها الكاتب نفسه".
بقي أمر طريف أحببت الإشارة إليه لطرافته وأترك بيان العلاقة بينه وبين البحث لعلماء النفس ذلكم أن عنوان الباحث كما هو أمامي شارع طنطاوي الجوهري؟! وهل لاسم الشارع أثر على اتجاه أهله أم لا.
وكما أن الإلحاد يكون في التطرف -إيجابا- في ربط الحقائق والنظريات العلمية بآيات القرآن الكريم؛ فإن الإلحاد أيضا يكون في التطرف -سلبا- في زعم مخالفة الآية لحقائق علمية؛ فهذا الأستاذ إسماعيل مظهر يكتب في العدد الأسبوعي لمجلة العصور الصادر في 24 فبراير سنة 1930م تحت عنوان "استفتاء" وجاء في مقاله: "جاء في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيح} 1، وقد دل العلم الصحيح على أن السماء غير مزينة بمصابيح بل هي فضاء غير متناه، تناثرت فيه كرات عظيمة هائلة الأبعاد، ومها ما يستمد ضوءه من غيرهن، ومنها ما هو ملتهب كشمسنا؛ فهل الاعتقاد بأنها ليست مصابيح مخالف للدين؟ "2. وقلنا لهذا، بل هو مخالف للحواس أيضا وليس للدين فحسب، وأينا لم ينظر إلى السماء في ليلة مظلمة وقد انتثرت فيها النجوم وأطل من بينها وجه القمر فلم تأخذ بلبه، وكم تغنى في هذا المنظر الشعراء وأبدع فيه الأدباء وكم اهتدى بهذا المنظر رجل تأمل وتفكر في هذا الخلق البديع؛ فلم يجد بدا من الإذعان والاعتراف بأن هذا لا يكون إلا من الخلاق العليم.
وليعلم هذا أن القرآن وهو يصف السماء والمصابيح؛ فإنما يخاطب أناسا ينظرون إليهما من الأرض فتبدوا مطابقة كل المطابقة لهذا الوصف ولا أظنه يجهل أن اللوحات الجميلة والمناظر البديعة لا يحسن النظر إليهما إلا من بعد وإلا
1 سورة الملك: الآية 5.
2 ذيل الملل والنحل: محمد سيد كيلاني ص101.
فلو قرب حدقة عينه حتى تكون داخل اللوحة أو قريبة منها؛ فإنه لن يرى إلا نتوءات وحفرا، بل ويرى الألوان مشوهة فهل له وهو في هذه الحالة أن يصف هذه اللوحة بما هي منه بريئة وليجرب هذا الرجل وأمثاله أن يقرب عينه من أرض حديقة جميلة أو يضع حدقة عينه في قلب وردة زاهية الألوان، وليصف ما يرى وليسمع رأي الناس في وصفه إنهم لن يصفوه بأكثر من أحد وصفين إما الجنون أوالمكابرة وحسبك بهما وصفا لما زعمه في الآية.
وإلحاد آخر في قوله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} 1، قال فيه:"وقد أثبت العلم أن السماء لا أبواب لها، وأن الماء إنما يتساقط على الأرض بعد أن يتكاثف سحابا وبعد أن يعلو متبخرا من مياه الأرض فهل هذا الاعتقاد تجديف؟ وهل يجب أن نعتقد أن للسماء أبوابا من فوقها بحار، إذا فتحت انهمر المطر، وإذا أقلت أمسك عن الانهمار؟ "2.
والرجل في إلحاده هذا يجهل اللغة والبلاغة. أما اللغة فاعتقاده أن المراد بالسماء السماء حقيقة؛ وإنما المراد بها العلو والارتفاع وهو الجو هنا وهو مقر السحاب. أما جهله البلاغة فإن في الآية استعارة تمثيلية بتشبيه تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت لها أبواب السماء وشق لها أديم الخضراء3 ولو علم اللغة والبلاغة لما قال ما قال.
بقي أن أقول هنا أن إسماعيل مظهر هذا قد رجع إلى حظيرة الإسلام مرة أخرى والحمد لله4، إذا هو قد خرج عنه في أمور كثيرة منها ما هو صريح لا يشك في أمره فيها. والحمد لله أولا وآخرا.
ولعلي أكتفي بهذا في سياق الأمثلة على التفاسير المنحرفة في منهج القاصرين في تفسير القرآن الكريم واذكر بعد هذا مثالا للؤلفات في هذا المنهج.
1 سورة القمر: من الآية11.
2 ذيل الملل والنحل: محمد سيد الكيلاني ص101.
3 انظر تفسير القاسمي: ج15 ص5598.
4 ذيل الملل والنحل: محمد سيد كيلاني ص108.