الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذه -فيما أرى- أهم الأسس التي يقوم عليها منهج سيد قطب رحمه الله تعالى في تفسيره "في ظلال القرآن" ولا أنكر أن هناك من الأسس ما يعد وجهًا آخر أو مماثلا لما ذكرت من الأسس، ولكني رأيت أن أدمج ما تماثل منها وحسبت أني لو أفردت كل واحد منها مستقلا عن الآخر لعدَّ هذا علي أطنابا مملا وتفريقا مخلا رأيت أن الأفضل تحاشيه والبعد عنه.
ملاحظات على هذا التفسير:
جلَّ من لا عيب فيه وعلا، ما كتب أحد من البشر كتابا إلا وبدا فيه موضع نقص وموضع عيب، ولو أعاد بنفسه النظر فيما كتب لوجد من ذلك شيئا منها ما يعرف عذره فيه، ومنها ما لا يرى فيه عذرا.
كتب سيد قطب رحمه الله تعالى تفسيره وطبعه الطبعة الأولى ولما أعاد النظر فيه كادت التعديلات أن تكون تفسيرا جديدا وجاءت بأكثر من ضعف حجم الكتاب أولا.
ولا شك أنَّا لا ندعي عصمة لسيد قطب رحمه الله تعالى ولا لتفسيره ولكن هذا لا يبرر لنا أن ننفخ بأفواهنا في هفواته الصغيرة حتى تبدو كبيرة، فليست هذه من شيم المؤمنين وليست من أخلاقهم.
والله سبحانه وتعالى جعل للميزان كفتين كفة للحسنات وكفة للسيئات ويخطئ منا نحن البشر من لا يجعل للناس إلا كفة واحدة يزن بها أعمالهم؛ فإنه حينئذ لن يصل إلى الوزن الحق، ويخطئ من ينظر إلى كفة الحسنات وقد ثقلت وينظر إلى كفة السيئات وقد خفت فيذم بالثانية ولا يحمد بالأولى؛ أوَليست الحسنات يذهبن السيئات إذا فما باله كذلك.
ولقد أشرت إلى بعض محاسن تفسير سيد قطب رحمه الله تعالى وأبرزت وجهها الناصع وما لم أذكر أكثر مما ذكرت.
ومن الحق أن أشير إشارة سريعة إلى بعض المآخذ التي أخذت على سيد قطب رحمه الله تعالى في تفسيره وكان حقها أن تهمل ولا تذكر تطمسها
محاسن تفسيره ومزاياه الكبرى كالشمس تطلع فتخفي النجم، ولكننا ننظر بعين من يقول هذا ويقول ذاك؛ التماسا للحق.
ففي التفسير بالمأثور نرى سيد قطب رحمه الله تعالى يوليه اهتماما ويورد كثيرا من الأحاديث في تفسيره لكنه أحيانا يورد تفسيره خاليا من أحاديث صريحة صحيحة وأحيانا يورد بعض الأحاديث الضعيفة من غير بيان درجتها وينسبها أحيانا لغير كتب الرواية.
ولتعلقه رحمه الله تعالى بالأسلوب الأدبي فقد كان غفر الله لنا وله يقع أحيانا في أساليب أدبية بحتة لم تهذبها العقيدة الصحيحة، ولعل مرد ذلك أن ثقافة سيد رحمه الله تعالى كانت في أولها ثقافة أدبية تحول بعدها إلى الدراسة الشرعية وراح يستدرك بالأخيرة ما أوقعته فيه الأولى وفات عليه في استدراكه هذا عبارات ومنها قوله عن توكل المؤمن على ربه واطمئنانه إلى موقفه وطريقه "إنها كلمة المطمئن إلى موقفه وطريقه. المالئ يديه من وليه وناصره"1 ومنها وصفه للبشرية بأنها:"لن تجد السعادة إلا حين ترد الفطرة البشرية إلى صانعها الكبير كما ترد الجهاز الزهيد إلى صانعه الصغير"2 ومنها وصفه للصلة بين العبد وربه: "حين يرفع الله عباده الذين يؤثرونه ويحبونه إلى مرتبة يتحرج القلم من وصفها لولا أن فضل الله يجود بها مرتبة الصداقة.. الصداقة بين الرب والعبد"3!! ونحو ذلك من العبارات التي لا نرتضيها، ولا نظنه رحمه الله تعالى وغفر لنا وله إلا وقد كتبها أثناء تأثره بالثقافة الأدبية وقبل أن تصقل فكره الدراسة الشرعية وفات عليه استدراكها بعد ذلك.
ومن الملاحظات أيضا تحديده وقت الإمساك للصائم في قوله تعالى:
{كُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} 4 بأنه قبل طلوع الشمس بقليل وإننا نمسك الآن وفق المواعيد المعروفة في قطرنا
1 في ظلال القرآن: ج4 ص2091.
2 في ظلال القرآن: ج1 ص15.
3 في ظلال القرآن: ج6 ص3875.
4 سورة البقرة: 187.
هذا قبل أوان الإمساك الشرعي ببعض الوقت ربما زيادة في الاحتياط1 وهذا القول لم يقل به أحد من قبله.
ومن الملاحظات أيضا أن التزامه لمنهج الواقعية في التفسير -كما أشرت إليه- قد أوقعه في موقف من الفقه غير سليم، ففي تفسيره مثلا لقوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} 2 قال رحمه الله تعالى: "إن موضوع الغنائم بجملته ليس واقعا إسلاميا يواجهنا اليوم أصلا، فنحن اليوم لسنا أمام قضية واقعة، لسنا أمام دولة مسلمة وإمامة مسلمة وأمة مسلمة تجاهد في سبيل الله ثم تقع لها غنائم تحتاج إلى التصرف فيها.. ليس هناك قضية غنائم؛ لأنه ليس هناك قضية جهاد.. والمنهج الإسلامي منهج واقعي، لا يشتغل بقضايا ليست قائمة بالفعل، ومن ثم لا يشتغل أصلا بأحكام تتعلق بهذه القضايا التي لا وجود لها من ناحية الواقع! إنه منهج أكثر جدية وواقعية من أن يشتغل بالأحكام! هذا ليس منهج هذا الدين، هذا منهج الفارغين الذين ينفقون أوقات الفراغ في البحوث النظرية وفي الأحكام الفقهية، حيث لا مقابل لها من الواقع أصلا بدلا من أن ينفقوا هذه الجهود في إعادة إنشاء المجتمع المسلم من أجل هذا الإدراك لجدية المنهج الحي الواقعي الحركي لهذا الدين لا ندخل هنا في تلك التفصيلات الفقهية الخاصة بالأنفال والغنائم حتى يحين وقتها عندما يشاء الله وينشأ المجتمع الإسلامي، ويواجه حالة جهاد فعلي، تنشأ عنه غنائم تحتاج إلى أحكام"3.
وينبغي أن أبين أنه لا يريد بالفقه هنا كل الفقه بدليل أنه عرض لكثير من مسائله -وإن كان في إيجاز- وإنما يريد به المسائل الفقهية التي لا وجود لها في واقع المسلمين المعاصر.
ثم إن هذه المسائل التي عاب الخوض فيها لم يطلب إلغاءها وإنما تأجيل الحديث عنها إلى أن توجد الحاجة لها في أرض الواقع.
1 في ظلال القرآن: ج1 ص175.
2 سورة الأنفال: 41.
3 في ظلال القرآن: ج3 ص1518-1519 باختصار.
وقد ظنه بعض الناس -لأجل هذا- ومنهم مغرض ينطوي على كيد ومكر ومنهم غيور على الحق لم يستوعب الأمر من أطرافه. ظن هؤلاء أن سيد رحمه الله تعالى يسعى للقضاء على الفقه، وإلى إهدار الجهود الكبيرة التي بذلها الفقهاء على مدار القرون.
وعلى كل حال نحن لا نبرئ سيد قطب رحمه الله تعالى، ولكنا لا نؤيد أولئك الذين نفخوا في زلته حتى بدت كالجبال.
ونلتمس له عذرا بأن كلامه هذا صدر عن انفعال وحماس وتأثر وأنه نفسه مصدور وزفرة مكلوم1 اطلع على واقع العالم الإسلامي من زاوية لم ينظر منها أولئك فقال ما قال، وكان الأولى أن لا تصدر عنه مثل هذه العبارات أما وقد صدرت فإنا ندعو لنا وله بالرحمة والمغرفة ونلتمس له عذرًا ما دام لم يقل كفرًا.
ومن ناحية منهجية فإنا نلاحظ على سيد قطب رحمه الله تعالى الاستطراد في أبحاث لا رابطة قوية لها بالآية التي يفسرها وكأنه رحمه الله تعالى يلتمس منفذا ينفذ منه إلى تشخيص داء العالم الإسلامي المعاصر وإظهار علاجه وكأنه يخشى أن يهرب منه المريض قبل أن يسمع منه علاجه، فلا يترك سانحة إلا ويشحنها بكل ما في نفسه من علاج حتى وإن كان إيرادها في غير موضعها تماما وحتى إن كان استدرادا وترتب على هذا أيضا أمر آخر هو التكرار وإعادة الحديث مرارا ونحسب سببها واحدا.
ولعل سبب هذه الأخطاء جملة من سيد قطب رحمه الله تعالى ما أشرت إليه آنفا أن الرجل كان أدبي الثقافة واتجه إلى تفسير القرآن الكريم من هذا المنطلق ومن هذا الواقع، فكان تفسيره ما كان ومر حينٌ اتجه رحمه الله تعالى إلى استدراك ما فاته، فسعى للدراسات الشرعية وانطلق من واقعها إلى تنقيح ما كتب وتقويم ما اعوج، فكان له ذلك في أكثره وبقي أقله وهو القليل لا يزال بحاجة إلى هذا التنقيح، لكنه لقلته لا يكاد يذكر بجانب محاسنه.
وغفر الله لنا وله. إنه سميع مجيب.
1 في ظلال القرآن "دراسة وتقويم" صلاح عبد الفتاح دحبور ج2 ص1037.