الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6-
التوراة: دراسة كتبت عام 1972".
7-
رأيت الله: دراسة كتبت عام 1973".
8-
الروح والجسد: دراسة كتبت عام 1973".
9-
حوار مع صديقي الملحد: دراسة كتبت عام 1974".
10-
الماركسية والإسلامية: دراسة كتبت عام 1975".
11-
محمد: دراسة كتبت عام 1975".
12-
السر الأعظم: دراسة كتبت عام 1975".
13-
من أسرار القرآن: دراسة كتبت عام 1976".
14-
الوجود والعدم: دراسة كتبت عام 1976".
15-
لماذا رفضت الماركسية: دراسة كتبت عام 1976".
16-
القرآن محاولة لفهم عصري: وهوموضوع بحثنا هنا".
هذه أهم مؤلفاته فيما نرى ولم نذكر منها أسماء رواياته ومسرحياته ورحلاته وقصصه التي صدرت في مجموعات أربع في بيروت سنة 1972م. يكفي أن أقول إن عدد مؤلفاته كما يذكرها في آخر كتابه من أسرار القرآن 45 مؤلفا فضلا عن المجموعات الكاملة التي أشرت إليها آنفا، وسأتحدث بعد هذا عن تفسيره.
ثانيا: الكتاب "القرآن محاولة لفهم عصري
"
وتقع طبعة دار المعارف بمصر سنة 1976م لهذا الكتاب في حوالي 280 صفحة من الحجم المتوسط وطبع قبلها وبعدها عدة مرات.
والمهم في الأمر أن الكتاب قد لاقى لا القبول عند كثير من المثقفين وقراء مصطفى محمود كما لاقى الرفض عند كثير من المختصين بعلوم القرآن، وقد توسط بعض العلماء فقبلوا بعضه وأنكروا بعضه وردوه، وأفرده بعضهم بمؤلفات مستقلة.
ومن الذين نقدوه بدراسة مستقلة:
1-
الأستاذ عبد المتعال محمد الجبري في كتابه "شطحات مصطفى محمود في تفسيراته العصرية للقرآن الكريم" ويقع في حوالي 250 صفحة.
2-
الأستاذ مصطفى إسماعيل الرج في كتابه "رد على محاولة الفهم عصري للقرآن"، ويقع في 127 صفحة.
3-
"الملحد" محمود محمد طه في كتابه "القرآن ومصطفى محمود والفهم العصري" والعجيب أن المؤلف من أشهر الملحدين في هذا العصر ومن الذين ادعوا الرسالة، ويقع كتابه في 213 صفحة.
ومن الذين نقدوه نقدرا موسعا:
1-
الدكتورة عائشة عبد الرحمن "بنت الشاطئ" في كتابيها:
"أ" القرآن والتفسير العصري.
"ب" القرآن وقضايا الإنسان.
2-
الشيخ مصطفى محمد الحديدي الطير في كتابه "اتجاه التفسير في العصر الحديث منذ عهد الإمام محمد عبده إلى مشروع التفسير الوسيط".
3-
الأستاذ أحمد محمد جمال في كتابه "على مائدة القرآن مع المفسرين والكتاب".
4-
الأستاذ توفيق علي وهبه في كتابه "شبهات وانحرافات في التفكير الإسلامي المعاصر".
وغير هؤلاء كثير نقدوه في كتبهم أو في مقالات نشرت في الجرائد والمجلات.
والكتاب في أصله مجموعة مقالات نشرت في مجلة "صباح الخير" في ديسمبر 1969م وأوائل 1970م بعنوان تفسير عصري للقرآن؛ فلما قامت الاعتراضات على تفسيره هذا جمعها في كتاب وزاد كلمة حسبها تبرر عمله هذا وسماه محاولة لفهم عصري للقرآن.
واستنكرت طائفة كتابة هذا التفسير في مجلة صباح الخير لجلال الموضوع وهبوط المجلة فلا تناسب بينهما.
واستبشرت طائفة أخرى ليس لما أصاب فيه المؤلف؛ وإنما لما أخطأ فيه وانحرف فهي تصفق إعجابا لكل تأويل باطل أو شرح منحرف لقضية من القضايا الإسلامية، وكأنما أسند إليها القيام بتحريف الإسلام فهي تدافع عن كل ملحد وتشجع كل منحرف وتبرر كل خطيئة.
وطائفة رفضت هذا التفسير لعدم تخصص المؤلف وعدم توفر شروط المفسر فيه؛ فإذا قيل هم إن الإسلام ليس حكرا على أحد ألقموه حجرا، وقالوا: حقا الإسلام ليس حكرا على أحد؛ ولكن تفسير نصوصه ليس مباحا لكل أحد كالدواء تماما، العلاج به ليس حكرا على أحد كن وصفه وتركيبه ليس مباحا لكل أحد.
وسأذكر بعد هذا أمثلة من الانحرافات والشطحات التي ارتكبها الدكتور مصطفى محمود في محاولته هذه.
نماذج من تفسيره:
يحتوي كتابه هذا على أربعة عشر بحثا جعل لكل منها عنوانا وختم هذه الأبحاث بمناقشات، أما هذه البحاث إجمالا فهي:
1-
المعمار القرآني.
2-
مخير أم مسير.
3-
قصة الخلق.
4-
الجنة والجحيم.
5-
الحلال والحرام.
6-
العلم والعمل.
7-
أسماء الله.
8-
رب واحد ودين واحد.
9-
الغيب.
10-
الساعة.
11-
البعث.
12-
لا كهنوت.
13-
لا إله إلا الله.
14-
لماذا إعجاز القرآن؟
ولا يحتاج القول إن المؤلف لم يفسر القرآن على الطريقة المألوفة في تفسيره آية آية وسورة سورة؛ بل جاء تفسيره عصريا يختار الموضوع سلفا، ثم يضع فيه
من الآيات ما يختار ويتناولها فيه تفسيرا وشرحا وحتى عناوين البحاث تبدو فيها العصرية.
بقي أن أقول إن الكتاب مليء بالأمثلة على الانحراف في التفسير؛ فما الذي أذكر وما الذي أدع. أأذكرها كلها وإذا لو فعلت لجاء في كتاب كامل، وقد كفيت هذان أو أذكر بعضها ففيه مرادي هنا من ضرب المثل للتفسير المنحرف للمفسر القاصر. وعلى هذا الخير أكتب فعذرا إذا لم أستوف وأستوعب.
خلق الإنسان:
من أهم القضايا التي خاض فيا الدكتور مصطفى في كتابه مسألة خلق الإنسان؛ بل خلق آدم وحواء عليهما السلام وهو أمر لا شك أنه غيبي لا سبيل إلى إدراكه ومعرفته إلا عن طريق الوحي.
وقد بسط القرآن الكريم الحديث عن ذلك في آيات شتى. علينا أن نؤمن بها ولا نصرفها بما لا تحتمله ألفاظها حتى توافق نظرية علمية ما زالت تتأرجح يمنة ويسرة إن لم تكن قد سقطت.
وقد أفاض الدكتور الحديث عن هذه المسألة وأطال وأصاب فيه وأخطأ ورجع في طبعات الكتاب الأخيرة "دار المعارف" عن أقوال سجلها في طبعاته الأولى "طبعة القاهرة" وهو أمر نشكره عليه وندعو الله أن يزيده إيمانا ورجوعا إلى الحق.
وبدأ الدكتور حديثه بذكر قصة داروين وطوافه حول العالم وجمعه العينات من البر والبحر وملاحظاته وتأملاته، ثم ذكر بعضا من ملاحظات داروين أعقبها بتساؤل: "هل الحكاية أن الحيوانات أصلها واحد ثم تطور هذا الأصل وتباين واختلف إلى هذه الفصائل المتباينة بسبب تباين الظروف والبيئات والحيوانات التي دبت على الأرض طورت لنفسها أرجلا.
والتي نزلت إلى البحر تحورت فيها الأرجل إلى زعانف، والتي طارت في الجو تحورت فيها الأطراف إلى أجنحة.
إذا كان هذا الاستنتاج صحيحا فلا بد أن يكشف لنا تشابها في بنية الجميع وهذا هو ما قاله المشرط الفعل"1.
ثم ذكر أمثلة لما كشفه المشرط عند داروين؛ ففي الثعبان يكشف عن أرجل ضامرة وفي الطيور يكشف أن أنحتها هي الوجه الثاني من الأطراف.
وفي الأسماك يكشف أن زعانفها الأربع هي أطرافها الأربع، وهكذا إلى أن قال: لم يبق إلا أن يكتب داروين نظريته في أصل الأنواع؛ بل إن النظرية لتكتب نفسها فتقول إن الأنواع انحدرت كلها في أصل واحد تباين واختلف إلى شجرة من الفصائل والأنواع نتيجة تباين الظروف والبيئات"2.
ثم نفى أن يكون داروين قال: إن الإنسان انحدر من القرد وإنما هي نكتة روجتا الصحف، ووصف هذه النظرية بأنها في أصلها المكتوب لا تقول بأن أيا من الأجناس الموجودة خرج من الآخر؛ وإنما كل جنس هو بذاته نهاية فرع مستقل من الشجرة لم يخرج فرع من فرع.
وقامت الزوبعة على داروين ومضت سنون وسنون من التمحيص وإعادة النظر. وعاش من نظرية داروين بعضها ومات بعضها.
ثم بين الدكتور مصطفى ما عاش منها وما مات فقال: "حكاية أن الأنواع انحدرت من أصل واحد، وأنها تباينت غلى شجرة من الفصائل والأنواع نتيجة تباين الظروف والبيئات كانت احتمالا مرجحا أقرب إلى الصحة تقوم عليه الشواهد فالوشيجة العائلية تربط كل الخلائق بالفعل".
والتشريح يقول: إنها ترتبط بعضها ببعض بصلة رحم وقربي.
أما حكاية أن الترقي حدث بالحوافز الحياتية وبدون يد هادية؛ فلم تعد مقنعة، وسقطت من غربال الفكر المدقق المحقق"3.
1 القرآن محاولة لفهم عصري: مصطفى محمود ص49.
2 المرجع السابق: ص52.
3 المرجع السابق: ص52.
خلاصة الأمر أن الدكتور مصطفى يخالف هذه النظرية في جزئية شكلية -وأنا أقول شكلية ليس في ناحية العقيدة وإنما من ناحية النظرية نفسها -شكلية لأن داورين- حسب قول الدكتور مصطفى زعم أن عوامل التطور هي عوامل داخلية، وقال الدكتور أنها بيد هادية ترشدها1 وما عدا هذه الجزئية فلا اعتراض على هذه النظرية.
وبعد هذا العرض الطويل الذي أوردت خلاصته وصل الدكتور مصطفى إلى مرحلة إلصاق هذه النظرية بالقرآن الكريم، وهو يدرك أن العبارات والنصوص لا تطاوعه على ما أراد فمهد للأمر بأن قال: القرآن له أسلوبه المختلف عن كل الأساليب.
وهو حينما يشير إلى مسألة علمية لا يعرضها كما يعرضها أينشتين بالمعادلات ولا كما يعرضها بيولوجي برواية التفاصيل التشريحية؛ وإنما يقدمها بالإشارة والرمز والمجاز والاستعارة واللمحة الخاطفة والعبارة التي تومض في العقل كبرق خاطف. إنه يلقي بكلمة قد يفوت فهمها وتفسيرها على معاصريها؛ ولكنه يعلم أن التاريخ والمستقبل سوف يشرح هذه الكلمة ويثبتها تفصيلا"2.
ولا شك أن مثل هذا يوحي بأن الدكتور قد عجز عن أن يجد كلمة صريحة أو عبارة واضحة أو دلالة بينة على ما ذهب إليه؛ فلم يجد بدا من أن يحمل ما فهمه على الإشارة والرمز والمجاز والاستعارة واللمحة الخاطفة وأي مانع لمن أراد أن يقول في القرآن ما يريد أن يقول أنه فهمه بهذه المصطلحات.
إن مثل هذه القضية في أهميتها لا تكفي مثل هذه الإشارات والرموز لإقامتها؛ هذا إن سلم له أن في الآيات رمزا وإشارة.
ولنر بعد هذا ما حسبه رموزا وإشارات، فقد قال في تفسير قوله تعالى:
1 المرجع السابق: ص54.
2 المرجع السابق: ص55.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} 1 قال: "وفي هذه الآية يحدد أن خلق الإنسان تم على مراحل زمنية "{خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} والزمن بالمعنى الإلهي طويل جدا {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} 2؛ فإذا قال الله: {خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} ، ثم اكتملت الصورة بتخليق آدم فقلنا للملائكة اسجدوا لآدم؛ معنى هذا أن آدم جاء عبر مراحل من التخليق والتصوير والتسوية استغرقت ملايين السنين بزماننا وأياما بزمن الله الأبدي.
{وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} 3، ومعناها أنه كانت هناك قبل آدم صور وصنوف من الخلائق جاء هو ذروه لها.
{هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} 4 إشارة إلى مرحلة بائدة من الدهر لم يكن الإنسان يساوي فيها شيا يذكر.
ويقول القرآن عن الله أنه هو: {الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 5 أي أنه هدى مسيرة التطور حتى بلغت ذروتها في آدم {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِين} 6، وهي إشارة صريحة بأن الإنسان لم يخلق من الطين ابتداء؛ وإنما خلق من سلالات جاءت من الطين هناك مرحلة متوسطة بين الإنسان والطين هي سلالات عديدة متلاحقة كانت تمهيدا لظهور نوع الإنسان المتفوق، ثم يحدثنا القرآن عن تخلق الجنين فيحكى لنا أن خلق العظام سابق على خلق العضلات {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ
1 سورة الأعراف: الآية 11.
2 سورة الحج: الآية 47.
3 سورة نوح: الآية 14.
4 سورة الإنسان: الآية الأولى.
5 سورة طه: الآية 50.
6 سورة المؤمنون: الآية 12.
لَحْمًا} 1 ومعلوم في علم الأجنة أن نشأة العمود الفقري سابقة على نشأة العضلات"2.
تلكم خلاصة ما قاله الدكتور في خلق الإنسان، وظاهر أن المؤلف يخلط بين الآيات التي تتحدث عن خلق آدم عليه السلام وبين الآيات التي تتحدث عن خلق الإنسان كل إنسان فالآية التي استدل بها {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} ؛ إنما هي من قول نوح عليه السلام يخاطب قومه ويحدثهم عن خلقهم لا عن خلق آدم عليه السلام ويعجب كيف لا يرجون لله وقارا وهو الذي خلقهم أطوارا، وكان مقتضى خلقه لهم كذلك أن يوقروه عز وجل؛ فلما لم يفعلوا عاتبهم وهذا هو الذي يدل عليه السياق، ولا دلالة في الآية على أن المراد بالأطوار صنوفا وصورا من الخلائق جاء آدم ذروه لها بل لم يرد ذكر آدم عليه السلام في هذه الآيات فكيف يرجع الضمير إليه.
ونحو هذا تفسيره لقوله تعالى على لسان موسى، عليه السلام:{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} 3؛ حيث فسرها الدكتور مصطفى بقوله، أي أنه هدى مسيرة التطور حتى بلغت ذروتها في آدم وهو تفسير غريب فلا علاقة لهذه الآية بحكاية التطور في خلق آدم؛ وإنما وردت لبيان قدرة الله سبحانه وتعالى وحكمته خلقا وتقديرا أو خلقا وهداية، ولهذه الآية قرائن أخرى كقوله عز وجل:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} 4 وقوله سبحانه: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} 5 وقوله سبحانه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} 6 ومع هذا فلا يصح أن يستدل بهذه الآيات على تطور خلق آدم. حتى ولا على سبيل الرمز والإشارة كما يفعل الدكتور.
1 سورة المؤمنون: في الآية 14.
2 القرآن محاولة لفهم عصري: مصطفى محمود، ص58-59 باختصار.
3 سورة طه: 50.
4 سورةالأعلى: الآيات 1-3.
5 سورة البلد: الآيات 8-10.
6 سورة الإنسان: الآية 3.
أما زعمه أن قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِين} 1 إشارة صريحة بأن الإنسان لم يخل من الطين ابتداء فغير صحيح بل هو مخالف لصريح القرآن الكريم، قال تعالى:{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْأِنْسَانِ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} 2. هذه هي الدلالة الصريحة في أن خلق الإنسان بدأ من الطين، إذًا فلا يصح للدكتور مصطفى ولا لغيره أن يزعم أن الإنسان لم يخلق من الطين ابتداء، ثم يخطئ مرة أخرى حين يقول: "وإنما خلق من سلالات" إلخ. والآية تنص على: {مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} فكيف يعدد ما أفرده القرآن.
وعلى كل حال فالدكتور مصطفى قد أخطأ مرات فيما ذكرنا وفيما لم نذكر من أقواله في خلق الإنسان ولعله يعود مرة أخرى فيستغفر الله ويتوب إليه.
هبوط آدم:
ومما يتعلق بخلق آدم عليه السلام ويرد عند الحديث عن خلقه وسجود الملائكة له هبوطه من السماء إلى الأرض جزاء معصيته.
وقد استدل بهذا بعض منكري نظرية التطور المزعومة حين فرقوا بين خلق آدم وسائر المخلوقات؛ فقالوا أن آدم خلق في السماء، ثم عصى فأنزل إلى الأرض وكان على من يقول بنظرية التطور أن ينكر خلق آدم في السماء وهبوطه وكان هذا هو ما فعله الدكتور مصطفى حيث أنكر الهبوط فقال:
"والذين لا يوافقونا على القول بالتطور يسألون. ماذا يكون معنى الإهباط من الجنة في النظرة التفسيرية الجديدة ومعنى مشهد إسجاد الملائكة.
بأن الإهباط ورد في القرآن بمعنى الانتقال من كان إلى مكان دون مغادرة الأرض في مخاطبة الله لقوم إسرائيل {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُم} 3
1 سورة المؤمنون: الآية 12.
2 سورة السجدة: الآيتين 7-8.
3 سورة البقرة: من الآية 61.
وكذلك وردت الجنة بمعنى البستان والحديقة على الأرض: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} 1، {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ} 2 ويكون المعنى المقصود من الإهباط إذن هو الإهباط المعنوي من مقام الرضا إلى مقام المعصية، وأنه قد تحقق بانتقال آدم عن حياة سهلة في بساتين يانعة وافرة الخصب والرزق إلى مكان جديب وهو على الأرض ما يزال ودونما إهباط من سماوات.
أما مشهد إسجاد الملائكة فقد حدث هو الآخر على الأرض من قبيل التسخير كما سخر الله الجن لسليمان على الأرض. أو من قبيل الكشف والاطلاع على الملكوت كما اطلع نبيه محمدا على الملكوت والمعراج وهي معجزات يختص بها الله أنبياءه وكلها دلالات كاشفة على مقام آدم العالي عند ربه. وقد كشف له هذه الأمور كشفا وهو على الأرض لم يزايلها إنها الأرض لم يبرحها آدم منذ اختاره الله من أزكى فرع في شجرة الحياة التي أنبتها نباتا من طين الأرض وهداها في انتقالها من سلالة إلى سلالة إلى أن بلغ الذروة المختارة.
وتؤيدنا في ذلك آيات كثيرة عن الأرض: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ} 3، {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا} 4 {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} 5.
إنها الأرض لم نبرحها والإهباط هو إهباط من الأرض إلى الأرض"6.
وهذه المزاعم الثلاث التي زعمها الدكتور مصطفى:
1-
إن الجنة في الأرض.
1 سورة سبأ: من الآية 15.
2 سورة الرعد: من الاية 4.
3 سورة الأعراف: الآية 25.
4 سورة نوح: الآيتين 17-18.
5 سورة طه: الآية 55.
6 القرآن محاولة لفهم عصري: د/ مصطفى محمود، ص68-69.
2-
إن الإهباط هو الإهباط من الأرض إلى الأرض.
3-
سجود الملائكة حدث على الأرض وهو من قبيل التسخير.
أمور خطيرة فيها من الجرأة على النصوص الشرعية ما يخشى على صالحه ولهذا ولعظم هذا القول وعظم الحكم عليه أسوق كلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- حيث قال:
"والجنة التي أسكنها آدم وزوجته عند سلف الأمة، وأهل السنة والجماعة هي جنة الخلد، ومن قال أنها جنة في الأرض بأرض الهند أو بأرض جدة أو غير ذلك؛ فهو من المتفلسفة والملحدين أو من إخوانهم المتكلمين المبتدعين فإن هذا يقوله من يقوله من المتلفسفة والمعتزلة.
والكتاب والسنة يرد هذا القول وسلف الأمة وأئمتها متفقون على بطلان هذا القول. قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ، وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} إلى قوله: {قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} .
وهذا يبين أنهم لم يكونوا في الأرض؛ وإنما أهبطوا إلى الأرض فإنهم لو كانوا في الأرض وانتقلوا إلى أرض أخرى كانتقال قوم موسى من أرض إلى أرض لكان مستقرهم ومتاعهم إلى حين في الأرض قبل الهبوط وبعده، وكذا قال في الأعراف لما قال إبليس:{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} . فقوله: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا} يبين اختصاص السماء بالجنة بهذا الحكم فإن الضمير في قوله: {مِنْهَا} عاد إلى معلوم غير مذكور في اللفظ -هذا بخلاف قوله: {اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ} فإنه لم يذكر هناك ما أهبطوا فيه وقال هنا: "اهبطوا" لأن الهبوط يكون من علو إلى أسفل، وعند أرض السراة حيث كان بنو إسرائيل حيال السراة المشرفة على المصر الذي يهبطون إليه. ومن هبط من جبل إلى واد
قيل له: هبط" إلى أن قال ابن تيمية -رحمه الله تعالى- "وقوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} قال: اهبطوا الآيتين فقوله هنا بعد قوله: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} يبين أنهم هبطوا إلى الرض من غيرها وقال: {فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُون} ؛ دليل على أنهم لم يكونوا قبل ذلك بمكان فيه يحيون وفيه يموتون ومنه يخرجون؛ وإنما صاروا إليه لما أهبطوا من الجنة والنصوص في ذلك كثيرة وكذلك كلام السلف والأئمة"1.
هذا جواب ابن تيمية -رحمه الله تعالى- لمنكر الهبوط ولمنكر أن تكن جنة آدم هي جنة الخلد أما جوابه لمن أول سجود الملائكة بغير معناه المتبادر فقال: "فمن قال إنه لم يسجد له جميع الملائكة بل ملائكة الأرض؛ فقد رد القرآن بالكذب والبهتان وهذا القول ونحوه ليس من أقوال المسلمين واليهود والنصارى وإنما هو من أقوال الملاحدة المتفلسفة الذين يجعلون "الملائكة" قوى النفس الصالحة"، والشياطين قوى النفس الخبيثة للعقل ونحو ذلك من المقالات التي يقولها أصحاب "رسائل إخوان الصفا"، وأمثالهم من القرامطة والباطنية ومن سلك سبيلهم من ضلال المتكلمة والمتعبدة وقد يوجد نحو هذه الأقوال في أقوال المفسرين التي لا إسناد لها يعتمد عليه"2.
وبعد هذاما قاله الدكتور مصطفى وهذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية وحسبك به.
حد السارق:
وللدكتور مصطفى في حد السارق ثلاثة مواقف، أما أحدها فنشره في إحدى المجلات بعد صدور الطبعة الأخيرة من كتابه؛ وكأنها إضافة جديدة، وأما ثانيها فحذفه من الطبعة التي بين يدي وأما ثالثها فلا يزال، لم يرجع عنه.
1 مجموع فاوي ابن تيمية: جمع عبد الرحمن بن قاسم وابنه محمد ج4 ص347-349 باختصار.
2 مجموع فتاوي ابن تيمية: عبد الرحمن بن قاسم ج4 ص345-346.
وللبيان فإن أولها زعم اشتهر عن الدكتور مصطفى، وإن كان قاله قبله كثير من الملحدين والمنحرفين والجاهلين ذلكم هو الزعم بأن اليد لا تقطع لمن يسرق مرة واحدة فلا بد أن تتكرر منه السرقة حتى يوصف بأنه "السارق"؛ فيصح حينئذ قطع يده1 وهذا أمر سبق عرضه والرد عليه فلا داعي لإعادته.
أما ثانيها فما ذكره من أنه إذا تاب السارق، وقال صادقا تبت ولن أسرق بعد الآن يعطي لولي الأمر مجالا لرفع الحد عنه؛ لكن الدكتور مصطفى حذف هذا في الطبعة التي بين يدي لعله بعد أن قرأ ردود أهل العلم عليه.
وثالثها زعمه أن "من سرق للجوع أو للحاجة لا يصح شرعا إقامة الحد عليه حتى لو كان يسرق عن إصرار وعمد"2، وهو حين يقول هذا لا يفرق بين مجاعة تعم المسلمين ومجاعة يزعمها كل سارق فيسقط عنه الحد ويكون التشريع به باطلا؟! سبحانك هذا بهتان عظيم.
الجنة والجحيم:
وهذا الموضوع في كتابه كغيره من المواضيع مليء بالانحرافات في التفسير والتأويلات البعيدة والمتناقضة والسطحية؛ بل عد الدكتور من أسباب انصرافه عن القرآن في شبابه ما قرأ عن أنهار العسل وأنهار الخمر في الجنة وهو لا يحب العسل ولا يحب الخمر وعد هذا سذاجة! وانسحب حكمه على القرآن، ثم على الدين كله والساذج في واقع الأمر لم يكن إلا هو، كذا قال3.
وقد ظن خاطئا أن تأويل ما في الجنة وما في النار بأنه ضرب مثل ولون من التقريب وألوان من الرمز ثم تخبط فمرة يقول أن النعيم والعذاب معنويان لا حسيان ومرة عكس هذا ومرة عنويان وحسيان ولا تدري أيها عقيدته.
1 انظر مجلة صاح الخير العدد 1093 في 16 ديسمبر 1976م مقال: قطع اليد في القرآن مصطفى محمود.
2 القرآن محاولة لفهم عصري: د/ مصطفى محمود، ص212.
3 المرجع السابق: ص81.
قال: "فماذا يقول القرآن في الجنة؟ {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفّىً} 1.
والاية تبدأ بأنها ضرب مثل {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} وليست إيرادا لأوصاف حرفية؛ فهذا أمر مستحيل لأن الجنة والجحيم أمور غيبية بالنسبة لنا لا يمكن تصويرها في كلمات من قاموسنا فكل الغاية هي تقريب تلك المعاني المستحيلة بقدر الإمكان وكل ما جاء عن الجنة والجحيم ما هو إلا ألوان من ضرب المثال وألوان من التقريب وألوان من الرمز"2.
ويقول أيضا: "الله لا يعذب للعذاب وإنما يأتي العذاب واحتراق الصدر من إحساس من هم في أسافل الدرجات بالغيرة والحسد والهوان والخسران الأبدي الذي لا مخرج منه، وسوف يحرق هذا الإحساس الصدور كما تحرقها النار وأكثر، وسوف يكون هو النكال والتنكيل ينكل الواحد منا بنفسه بالدرجة التي وضع نفسه فيها والتي انحدر إليها بأعماله في الدنيا"3.
وفي قوله تعالى عن المعذبين في النار: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} 4 قال الدكتور مصطفى: "إنه حوار ومكالمة في النار يجري بين المعذبين، وفي مثل نارنا لا يمكن أن يجري حوار بين اثنين يحترقان، والمعنى الثاني العميق في الآية و {لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} أن أمامنا اثنين "كذا" يتعذب الواحد منها ضعف الآخر مع أنهما في المكان نفسه: ومعنى هذا أن العذاب يكون في الشخص وليس في المكان ذاته وهذا لا ينفي أن العذاب المذكور حسيا بل أنه من الممكن أن يكون
1 سورة محمد: الآية 15.
2 القرآن محاولة لفهم عصري: د/ مصطفى محمود، ص81-82.
3 المرجع السابق: ص87-88.
4 سورة الأعراف: من الآية 38.
معنويا وحسيا في نفس الوقت"1.
لكنه يرجع إلى القول بأن العذاب معنوي حين يفسر قوله تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} 2 فيقول: "والحساب هنا يبدو أنه حساب النفس للنفس وتنكيل النفس بالنفس ومواجهة النفس للنفس، لقد لزم كل واحد عمله كظله ولإخلاص وحق القول ونفذ العدل الأزلي"3.
ولعل الذي حمله على العتقاد بأن العذاب معنوي اعتقاده الآخر في بعث الأجساد يوم القيامة حيث يقول: "وبالمثل ما يروي القرآن عن النار فهي نار لا كما نعرف من نار، نار تنبت فيها شجرة لها ثمر، {شَجَرَةَ الزَّقُّومِ} وفيها ماء حميم يشربه أهلا والمعذبون فيها يتكلمون ويتحاورون؛ فأجسادهم لا يمكن أن تكون لها نفس كيمياء الأجساد كما نعلمها وإلا لتبخرت دخانا في لحظات، ولما استطاعوا أن يتبادلوا كلمة".
ومعنى هذا أننا سوف نبعث أجسادا؛ ولكن لا كالأجساد ربما كيانات لها ذات الهيئة والصورة؛ ولكن من مادة مختلفة هي بالنسبة لنا غيب إنها لن تكون الأجساد الترابية التي نتكون منها الآن في حياتنا الآضية ولهذا يمكن أن تتضاعف المتع حسيا ومعنويا بطريقة نجهلها كما تتضاعف درجات العذاب حسيا ومعنويا عما نعلم"4.
ويؤكد هذا رده على حجة لمن ينكر رؤية الله يوم القيامة فيقول: "وهي حجة واهية وتصور مادي دنيوي فهم يتصورون أن الروح سوف تبصر بعين مادية في الآخرة وستكون لها حدقة وأجفان وستظل ملابسة للزمان والمكان المعروف في الدنيا. وهو أمر ينكره القرآن!، فيقول عن النشأة الأخرى:
1 القرآن محاولة لفهم عصري: د/ مصطفى محمود، ص88.
2 سورة الإسراء: الآية 14.
3 القرآن محاولة لفهم عصري: ص96.
4 المرجع المسابق: ص89.
{وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} 1، أي إنه سوف ينشئنا نشأة مختلفة تماما عن كل ما نعلم ولا غرابة في أن يكون للروح بصر شامل يدرك اللامحدود وأن ترى الله في الآخرة"2.
والحقيقة إنك لا تكاد تجد لهذا الرجل قاعدة ينطلق منها الحوا؛ فبينما تراه في أقصى الشرق لا تلبث أن تراه في أقصى الغرب تراه أمامك مسلما في أمر، فإذا بك ترى قفاه رافضا، ثم يلتفت إليك مترددا حائرا يستدل أحيانا بالآيات في غير مدلولها ويبتر حينا الآية بترا عن سياقها.
ودعونا نأخذ من حديثه السالف الطويل آخره. استدل بقوله تعالى: {وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ} على أن البعث يكون في نشأة مختلفة عن أجسادنا في الدنيا.
فهذه الآيات رد على منكري البعث بأنه قدر عليهم الموت وأنه قادر على أن يأتي بآخرين من جنسهم بعد مهلكهم، وأن يخلقهم هم في صور أخرى غير الصور التي كذبوا بالبعث وهم عليها صورا وأشكالا أخرى. قال الأستاذ أحمد محمد جمال: "أي ينشئهم خلقا آخر قردة مثلا، أو خنازير أو أي صنف من أصناف مخلوقاته فهو تبارك وتعالى يهدد المنكرين للبعث بأنه قادر على تبديل خلقتهم الإنسانية وإنشائهم في خلقة أخرى ويذكرهم بالخلقة الأولى
…
خلقتهم الطين أو خلقتهم من ماء مهين والذي بدأ الخلق يعيده من غير شك"3.
1 سورة الواقعة: الآيات 57-62.
2 محاولة لفهم عصري للقرآن: ج/ مصطفى محمود ص137.
3 على مائدة القرآن مع المفسرين والكتاب: أحمد محمد جمال ص471.
وقال القاسمي: "قال الشهاب: والظاهر أن قوله {وَنُنْشِئَكُمْ} المراد به إذا بدلناكم بغيركم، لا في الدار الآخرة كما توهم وهذا كقوله تعالى:{إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِين} 1، 2.
تفسيره الباطني:
ومع أن الدكتور مصطفى يحذر من التفسير الباطني ويذمه ويذكر أمثلة من تفسير ميرزا حسين على الذي لقب نفسه بـ "بهاء الله"3 إلا أنه مع هذا يفسر القرآن أحيانا تفسيرا باطنيا.
فقال مثلا في تفسير قوله تعالى مخاطبا نبيه موسى، عليه السلام:{إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} 4، قال الدكتور:"ويقول الله لموسى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} ، فلا يمكن الوقوف في حضرة الله إلا بخلع النفس والجسد وخلع شواغل النفس وشواغل الجسد كشرط للوصول"؟! 5.
وهو حين يقول هذا لا يجهل أنه تفسير باطني لبعض الصوفية؛ حيث كرر هذا التفسير في موضع آخر ودافع عنه فقال: "وفي هذا يفسر بعض المتصوفة كلام الله لموسى في القرآن: "فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى" إن المقصود بالنعلين هما النفس والجسد هوى النفس وملذات الجسد فلا لقاء بالله إلا بعد أن يخلع الإنسان النعلين: نفسه وجسده بالموت أو بالزهد والله يصورهما كنعلين لأنهما القدمان اللتان تخوض بهما الروح في عالم المادة وعن طريقهما نزلت من سماواتها إلى الأرض.
وقد يعترض معترض قائلا: وما الضرورة لصرف اللفظين عن معناهما
1 سورة النساء: الآية 133.
2 محاسن التأويل: تفسير القاسمي ج16 ص5655.
3 القرآن محاولة لفهم عصري: ص154-156.
4 سورة طه: الآية 12.
5 القرآن محاولة لفهم عصري: ص108.
الظاهر والواقع أن هناك ضرورة؛ فالحضرة الربانية لا يكفي لدخولها خلع نعلين؛ وإنما التجرد الكامل هو شرطها دائما وهو أقل ما يليق بالحضرة الجلالية، ولا يتم التجرد إلا بخلع شواغل النفس والجسد. فالمعنى هنا وارد والتأويل له ضرورة، وهو لا يناقض المدلول الظاهر للألفاظ؛ ولهذا يبادر المتصوف بأن يخلع النعلين ليخطو أول خطوة في الوادي المقدس"1.
ونحمد الله أن الدكتور لم يستند فيما قال إلى كتاب ولا إلى سنة ولا إلى لغة ولا إلى قول سلف وإنما إلى قول المتصوفة وفعل المتصوفة، فأراحنا من عناء الرد عليه.
ومن تفسيره الباطني أيضا تفسيره للشجرة التي أكل منها آدم عليه السلام في الجنة بأنها التلاقح الجنسي، وأنها رمز للجنس والموت، حيث قال:"وأنا أرى أنها رمز للجنس والموت الذين تلازما في قصة البيولوجيا حينما أخذت الكائنات الحية بطريقة التلاقح الجنسي لتتكاثر فكتبت على نفسها طارئ الموت، ولم تكن الكائنات قبل ذلك تموت، بل تتجدد وتعود إلى الشباب بالانقسام الذاتي. كان التلاقح الجنسي هو الشجرة المحرمة التي أكلت منها الحياة فهوت من الخلود إلى العدم"2.
ومعلوم أن هذا التفسير صرف للفظ عن ظاهره من غير دليل فهو تفسير باطني.
ومن تفسيره الباطني تفسيره لهبوط آدم وحواء عليهما السلام إلى الأرض بعد أن ذاقا الشجرة بأن: "المقصود من الإهباط أنه هو الإهباط المعنوي من مقام الرضا إلى مقام المعصية"3.
هذه أمثلة من تفسيره الباطني الذي أنكره ووقع فيه في مواطن كثيرة من كتابه هذا.
1 المرجع السابق: ص135-136.
2 المرجع السابق: ص66.
3 المرجع السابق: ص68.
صفات الله:
والمؤلف يقع كثيرا في أسر الرغبة في التعبير المتحرر الذي لا يلتزم صاحبه العقيدة الصحيحة في جنب الله، ولم تهذب عبارته مجالي الدراسات الإسلامية، ولا يعرف الالتزام الذي يقتضيه مقام الحديث عن الله عز شأنه، فيورد عبارات وأوصافا بقدر ما تبتعد عن العقيدة معنى تلتصق بالعصرية لفظا، فقد غلب عليه الحرص على التجديد في العبارات والصفات غلبة أبعدته عن المنهج الحق.
لن أسترسل في هذا من غير أن أعلق بحديثي مثالا يجلو غامضه؛ بل أمثلة أولها قول الدكتور عن الله عز شأنه: "والله هو العقل الكلي المحيط"1، ولا يخفى على أحد أن هذا وصف لم يصف الله به نفسه ولم يصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فمن أين جاء به أيا كان مصدره من سواهما فمردود؛ لأن عقيدة السلف أن لا يصفوا الله سبحانه وتعالى إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه من الغيب وهما مصدر المؤمنين في معرفة الغيب وجلائه.
ومثالا آخر يشبه إدراك النملة لسليمان عليه السلام بإدراك سليمان عليه السلام لله سبحانه وتعالى فيقول: "وإدراك نملة لسليمان أمر ممكن مثل إدراك سليمان الله"2.
ومثالا ثالثا يقول: "ومن التسابيح السنسكريتية أن يتلو اليوجي في خشوع كلمة "رهيم رهام" آلاف المرات "!! " وهي كلمات تقابل: رحيم.. رحمن، عندنا، وهي من أسماء الله بالسنسكريتية"3؟!
ومثالا رابعا وهو يرد على ميرزا حسين علي الذي ادعى النبوة من غير معجزة فيقول: "إنها اختلافات النبي الذي أراد أن يدخل منتدى الأنبياء بلا مؤهلات، ويتسلل إلى مائدة الخالدين دون أن يمتحن فأنكر المعجزة
1 المرجع السابق: ص110.
2 المرجع السابق: ص166.
3 المرجع السابق: ص134.
والغيب حتى لا يطالبه أحد بأوراق اعتماده في السفارة الإلهية التي ادعاها"1، وهو بهذه العبارة أيا كان قصده جاء بما هو ممجوج.
وبمناسبة الحديث عن الممجوج من حديثه الذي حشا به كتابه سخريته من الذي يدعو ربه أن يرزقه مائة جنيه ويرشده إلى الطريقة التي يحل بها مشكلته فقال: "أما الذي يقول: يا رب ارزقني مائة جنيه فهو رجل يمزح مزاحا سخيفا؛ فهذه أمور يمكن أن يسعى إليها بأسبابها الدنيوية المعروفة وليس طريقها التصوف؟! وكشك سجاير على ناصية عماد الدين يحل المشكلة"2.
وملاحظة هامة أنه في تفسيره يذكر الله عز وجل ويذكر أنبيائه عليهم الصلاة والسلام فلا يسبح الله ولا يصلي على أنبيائه وليس هكذا أدبنا الإسلام.
تصوفه:
وقد أخذ الدكتور من خرافات الصوفية نصيبا وافرا؛ فمن اعتقادات بعض الصوفية أن التوجيه إلى الله بالدعاء هو مشاركة لله في إرادته، وأنه طلب لما لم يرد الله أن يفعله ويشيد الدكتور في كتابه هذا ويثني كثيرا على هؤلاء الصوفية؛ فيصف عملهم هذا بالتجرد وبالأدب؟! فيقول: "والمتصوف متجرد وهو قد نفي المطلب الدنيوي من باله لأنه يريد مطلبا أعظم والمتصوف متأدب وهو يمرض؛ فلا يسأل الله الشفاء حياء وأدبا ويقول: كيف أجعل لنفسي إرادة إلى جانب إرادة الله فأسأله ما لم يفعل وأنا الذي لا أعلم ما ينفعني مما يضرني كيف يعترض الذي لا يعلم على الذي يعلم ومن يدريني أن مرضي وآلامي ليست الوسيلة إلى خلاصي، وهذه مبالغة غير مطلوبة من المسلم؛ فالله يحب منا أن نسأله؛ ولكن الصوفي من باب الخوف والأدب لا يطلب من الله إلا ما يطلبه الله منه فيقول كما قال النبي إبراهيم:{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ} 3،
1 المرجع السابق: ص155.
2 المرجع السابق: ص138.
3 سورة ابراهيم: من الآية 40.
فهو يجعل من إرادة الله إرادته ومسعاه. حبا واحتراما لخالقه والحب هدف المتصوف الأسمى.
ليس لي في الجنان والنار حظ
…
أنا لا ابتغي بحبي بديلا
والتناقض ظاهر في حديث الدكتور؛ فمع أنه يصفه بأنه "مبالغه غير مطلوبة من المسلم" إلا أنه يثني على الصوفية ويمجد طريقهم هذا؛ فكيف يثني على ما هو "غير مطلوب من المسلم"؟.
وتناقض آخر، حيث يعترف أن "الله يحب منا أن نسأله"، فكيف يكون الأدب والحياء في ترك ما يحب الله أن نفعله؛ بل إذا كان الله يحب أن نسأله فهو يريد أن نسأله لأنه سبحانه لا يحب ما لا يريد فإذا كانت إرادة الله أن نسأله فكيف يكون الأدب في إرادة غير إرادة الله؟! هذا إذا أردنا الجواب حسب منطقه، أما إذا أردنا الدليل الحق فكتاب الله وسنته مليئة بالأمر بالدعاء وأنه مخ العبادة؟! فهل يتأدبون مع الله.
وكثيرا ما يشيد ويثني على الصوفية؛ فيصفهم بأنهم أهل الحضرة وأن علمهم لدني، من لدن الله وليسوا كالفقهاء علمهم علي نقلي من الكتب، وأنهم أهل السر والقرب والشهود وأنهم الأولياء الصالحون حقا وأنهم الأتقياء الأخفياء2، وأثنى عليهم في فصل "أسماء الله" ثناء كبيرا وعد الوصول إلى أرقى درجاتهم أشق من الصعود إلى القمر.
ورد عليه في هذا الأستاذ أحمد محمد جمال بقوله: "إنهم هم السخفاء حقا؛ لأنهم يزعمون لأنفسهم أنهم أنبياء يتلقون علمهم اللدني من الله مباشرة، وأنهم لا يحتاجون إلى القرآن وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم اللذين فيهما علم العقيدة وعلم الشريعة ألا إنهم هم الجهلاء والسفهاء. ولكن لا يشعرون"3.
1 القرآن محاولة الفهم عصري: د/ مصطفى محمود ص138.
2 انظر مثلا الصفحات 1389-141
3 على مائدة القرآن مع المفسرين والكتاب: أحمد محمد جمال ص475.
والذي يظهر لي أن الدكتور مصطفى وهو في طريق أوبته وتوبته لا يزال متأرجحا يمنة ويسرة يبحث عن المكان الذي يستقر فيه؛ ولذا برزت طاهرة في تفسيره أكدها كل من كتب عنه فيما قرأت ظاهرة التناقض ولو عدت لما كتبت عنه في الصفحات السابقة لوجدت بعضا منها، وإن دل هذا على شيء، فإنه يدل على أن فكره لا يزال يبحث عن الحقيقة التي فقدها فيحسبها حينا هناك فيقررها ويحسبها حينا هناك فيقررها، وقد يكون مخطئا في الحالتين؛ فعليه إن أراد كتابة جادة أن يعيد النظر فيما كتب ويستقر على رأي فيما تناقض فيه، ولا ينسى ما قرره في موضع عند خوضه غمار قضية أخرى.
وبعد:
ليس ما ذكرت هو كل مواضع انحرافه، وليس ما ذكرت هو أهمها؛ ففيما لم أذكر أكثر وأخطر مما ذكرت؛ وإنما صرفني عن بيانه أني قد كفيت ذلك، فإن كان عند الدكتور رغبة في الحق فقد بينه غيري ممن هو أرفع مني درجة وأعلى مقاما ولا أظنه إلا كذلك إن شاء الله يؤيد هذا رجوعه عن كثير من آرائه في الطبعات الأولى.
وهو في غير تخصصه رجل مثقف1 بمدلولها الحديث وهو الرجل الذي أخذ من كل علم بطرف؛ لكن هل هذا بهذه الصفة يصلح لتفسير القرآن الكريم؟! لندع أمر التفسير، رجل كمثله تخصص في الأمراض الصدرية هل يحق له أن يعالج أمراض العين والسنان والعظام و.. و.. إلخ؟ فضلا عن أن يكون مهندسا للطرق أو الإنشاءات أو خبيرا زراعيا أو عالما في طبقات الأرض أو طيارا إلخ؟ إن مثل هذا لو فعل ذلك سيجني في عمله جناية كبيرة سيفسد العين والأسنان ويتلف الزرع والثمار، وسيعتبر دخيلا في مهنته وسيلومه الناس صغيرهم وكبيرهم عالمهم وجاهلهم إن لم توضع في كفيه القيود ويدخل السجون.
1 قال ابن منظور في لسان العرب ج9 ص19: رجل ثقف وثقف وثقف: حاذق فهم.
وليعلم هذا وغيره أن أمر تفسير القرآن الكريم أخطر من كل هذه الأمور على صاحبه وعلى المجتمع، أما أولئك الذين يزعمون أن تفسير القرآن الكريم والحديث عن الدين أمر مشاع للمسلمين كافة فهم مخطئون أو جاهلون.
ونحن نقول: إن الدين ليس حكرا على أحد، وإن تفسيره ليس مباحا لكل أحد، ليس الدين حكرا على أحد؛ فلا يجوز أن نمنع أحدا من الدخول فيه، بل يلزمنا الاعتراف بإسلامه متى أعلن ذلك ما لم يأت بأمر مخرج من الدين، أما الذين لهم حق تفسير القرآن فهم الذين توفرت فيهم شروط المفسر وآدابه؛ فإذا ما توفرت فيهم هذه جاز لهم تفسير القرآن الكريم. أما قبل ذلك فلا وكان حقا أن يعاملوا كأدعياء الطب. إلخ؛ بل أشد.
ونحن لا ننكر أن الدكتور مصطفى حريص على صوغ المفاهيم الإسلامية في عبارات ومعان حديثه تقرب إلى الأذهان لكن هذا الهدف لا يبرر له خوض غمار التفسير من غير سلاح، تماما كالشخص الجاهل في الطب الذي ترتعد جوانبه إشفاقا وعطفا على المريض فيصف له دواءا هو أجهل الناس به؛ فليست شفقته ونصحه بمبرر كاف لوصف الدواء والعلاج.
أما أسلوب العصر والعصرية الحديثة فقد جنت على الأمة الإسلامية جناية كبيرة؛ فقد اتخذها دثارا كل من أراد أن يغير في الدين ويخل فيه ما ليس منه!! فقطع يد السارق وتعدد الزوجات والربا ورجم الزاني المحصن وجلد شارب الخمر.. و.. و
…
إلخ، كلها أمور لا تناسب العصر الحديث؛ فلتغير ولتبدل فلا تقطع يد السارق حتى تتعدد سرقاته ويقيد تعدد الزوجات بشروط ثقيلة لا يستطيعها أحد، بل ليختصر الأمر فيمنع التعدد، أما الربا فالمراد به الربا الفاحش؟! أما رجم الزاني المحصن فلم يرد في الكتاب؟! كلها أمور بزعمهم تتنافى مع العصر الحديث.
وبهذا يكون هذا الأسلوب مطية يركبها الناصح الجاهل والملحد الخبيث، وهو أمر ما زالت الأمة الإسلامية تعاني منه، وقد صرحت بهذا المستشرقة الأمريكية مريم جميلة؛ حيث قالت: "إن البلاد الإسلامية قد وقعت فريسة مصطلحات خاطئة ومنها مصطلح العصرية وقد جنى هذا المصطلح
على الإسلام جناية كبرى"1.
أولئك الذين يبدون تعاطفهم مع الدكتور مصطفى محمود ويمسون عباراته مسا خفيفا، وهم يعتقدون أن توبة مصطفى من الإلحاد إلى الإيمان كافية لالتماس كل عذر له في انحرافاته وتأويلاته الباطلة، وما هكذا تورد الإبل يا سعد.
أما توبته فليس تفضلا منه علينا فهي له في الدنيا والآخرة، وله علينا حق الدعوة الصالحة وحق الأخوة الإسلامية بأن يثبتنا وإياه على الصراط المستقيم حتى نلقاه.
وأما أن تكون توبته هذه مبررا للتجاوز عن انحرافاته فأمر مرفوض مرفوض؛ مرفوض لأن صاحبه ما زال لم تتروض عباراته في ميدان الفكر الإسلامي ولم تنصهر ألفاظه في بوتقة العقيدة الإسلامية ولم تنجل عقائدة في مجال الإسلام، فلا زال يستعمل عبارات وألفاظ يحسب المسلم لها ألف حساب قبل أن يتفوه بها. ولئن كنا ندعو الله أن يغفر له فإن هذا لا يعفيه من الخطأ ولا يعفينا من التنبيه.
ومرفوض لأن صاحبه لا يزال يجهل كثيرا من أحكام الإسلام وعقائده التي تدور لتقريرها آيات القرآن الكريم فيبعد فهمه حينا.
ومرفوض لأن صاحبه يجهل العلوم الواجب توفرها في المفسر فلا يعرف أسباب النزول ولا أول ما نزل وآخره ولا الناسخ والمنسوخ ولا المحكم والمتشابه ولا ما ورد تفسيره بالسنة ولا.. ولا..
ومرفوض لأن صاحبه لا يعرف قواعد اللغة العربية ولا مدلولات ألفاظها اللهم إلا ما يعرفه العامة فياللغة من المدلولات السائرة في أحاديثهم ومنتدياتهم. أما خصائص الأساليب التي يدرك بها الفرق بين عبارة وأخرى وغير ذلك من خصائص الغة فلا يعرفها.
وبالجملة مرفوض لأن صاحبه حتى الآن لا تتوفر فيه شروط المفسر
1 شطحات مصطفى محمود في تفسيراته العصرية للقرآن الكريم: عبد المتعال الجبري ص1.
ولا آدابه فإذا ما التزمها فإن الحق له كل الحق في أن يفسر القرآن ما دام تفسيره يقوم على الأسس والقواعد، أما والحالة هذه فلا وألف لا.
وإني أوجه له ولأمثاله النصح من قلب خالص صادق أن يدع تفسير القرآن الكريم لأهله، وأن يتناول إذا أراد المشاركة ما قرره أولئك الإعلام في التفسير بالشرح والبسط وبأسلوبه الخاص في مخاطبة الطبقة العامة، وأن لا يبتدئه ابتداء لا يدانيه شرف الشهرة ولا شرف المادة إن كان فيهما من شرف.
وأهمس في أذنه وأذن غيره ممن يتناولون آيات القرآن الكريم بالتفسير بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار" 1، وكفى به وعيدا لمن ألقى السمع وهو شهيد والله أعلم.
هذا ما أردت قوله عن منهج القاصرين في التفسير وهم وإن كان فيهم المغرض؛ فإن فيهم ذا النية الصالحة الصادقة لكنه أخطأ الطريق، فليعد هؤلاء إلى الحق وليعلموا أن من قال في القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ ونسأل الله لنا ولهم السلامة.
1 رواه الإمام أحمد في مسنده ج1 ص233؛ ورواه الترمذي في سننه ج5 ص199 كتاب تفسير القرآن، وقال:"حديث حسن صحيح".