الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: منهج التذوق الأدبي في التفسير
المراد به:
لا أقصد بالتذوق الأدبي إطلاق العنان لكل قارئ لإعمال ذهنه الذاتي لاستخراج معاني النص؛ لأن هذا سيؤدي بنا حتما وعلى أحسن الأحوال إلى أن نجد في تفسير الآية الواحدة ما يساوي عدد القراء بل أكثر منهم.
ولكن أقصد به الموازنة بين الذات والموضوع، فللذات حقها في جانب الاستغراق في النص والشعور به بحيث لا يصل إلى الاستغراق الصوفي التام الذي يطغى على النص وعلى جانب الجمال الاجتماعي فيه.
وللموضوع حقه في التزام مدلوله اللغوي وحدوده الشرعية والتنبيه الدقيق إلى المعنى الصحيح السليم والتزام أبعاد معانيه ومدلولاته بحيث لا يتجاوزها فيشطح.
إن الموازنة بين الذات والموضوع -في رأيي- هي التي تستقر بصاحبها في ميدان التذوق الأدبي وبقدر الموازنة يكون الاستقرار فيه، فإن طغت الذات على الموضوع خرج عن نطاقه إلى نطاق التفسير الصوفي الذي يعتمد على الأوهام أكثر مما يعتمد على الحقائق، وجنح بصاحبه إلى الخيال الجارف الذي لا يعتمد على قواعد ثابتة ولا أصول راسخة بل يموج ويضطرب كما تضطرب الريشة في الهواء، ومن هنا نفذ الباطنيون إلى الإلحاد في تفسير القرآن الكريم حيث لا ارتباط بالنص ولا بمدلوله بل انسلاخ منه!!.
وإن طغى الموضوع على الذات خرج عن نطاق التفسير العلمي البحت وضاقت جوانب جذبات النفس وارتباطها بالنص وأصبح المفسر والنص كتلتين منفصلتين لا تمازج بينهما ولا تجاذب، وحينئذ يكاد المفسر أن يكون مجرد آلة لا تفاعل بينها وبين معمولها.
إذًا فالتذوق الأدبي -عندي- يقوم على الموازنة بين الذات والموضوع.. هو وسط بينهما.
والتذوق للقرآن الكريم حركة نفسية وانطباع ذاتي لا يملك الإنسان له ردا ولا يستطيع له منعا، بل لا بد أن يظهر أثره في خلجات سامعه وسكناته شاء ذلك أم أبى وقد أدرك المشركون ذلك ولذلك سعوا إلى حسم سماعه أوَّلًا:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} 1؛ وإنما فعلوا ذلك لإدراكهم أنهم لا يملكون دفعا للتأثر بل قد يأخذ منهم بالألباب ويؤدي بهم إلى ما لا يريدون وكل ما يملكونه أن يتداعوا إلى عدم سماعه واللغو فيه عند تلاوته حتى لا يصل إلى شغاف قلوبهم، فإن وصل فإنهم لا يملكون إلا أن يقولوا -حقيقة- إن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق
…
إلخ، وقد يكابرون ويعاندون ويزعمون أنه سحر.
حتى الجن كانت النزعة الانطباعية عندهم عند سماعهم له أن قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} 2.
والنصارى عند سماعهم له تفيض أعينهم من الدمع: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} 3.
والذين يخشون ربهم تقشعر جلودهم عند سماعه ثم تلين وتلين قلوبهم
1 سورة فصلت: الآية 26.
2 سورة الجن: الآية الأولى.
3 سورة المائدة: الآية 83.
هذه وتلك بعض مظاهر التأثر بالقرآن الكريم وتذوق نصوصه، ظهرت بين الناس على اختلاف أنواعهم بل والجن أيضا، واختلفت بين فيض الدمع وقشعريرة الجلد ولين القلوب وإظهار علامات الدهش والعجب.
ولكن هذه المظاهر لم تتجاوز التأثر الذاتي فلم يترجمها أحد أحرفًا على الورق يفيض بها ذوقه السامي، ويسطرها قلمه الطاهر معالم يهتدي بها من قصر باعه وقلت بضاعته فلم يتذوق النص أو لم يستطع التعبير عنه.
وحين تظهر عبارة صادقة معبرة عن مظاهر تذوقه، فإن الألسن حينئذ تتداولها وإن الرواة يتناقلونها كما يتناقل الصاغة الجوهرة الثمينة، حتى وإن كانت العبارة قصيرة حتى وإن كانت مجملة.
وخذ مثلا عبارة قالها الوليد بن المغيرة حين استمع إلى آيات من القرآن وهو الكافر ما ملك من أمره إلا أن قال: "والله إن لقوله الذي يقول لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه ومغدق أسفله وإنه ليعلو وما يعلى وإنه ليحطم ما تحته"2.
تداول الرواة هذه العبارة لما فيها من تعبير صادق عن التذوق للنص القرآني وقدرة التعبير عنه، هذا والعبارة موجزة ومعناها مجمل.
كيف الأمر إذا وفق الله عز شأنه رجلا يخرج تفسيرا شاملا للقرآن الكريم يحمل مثل هذه المعاني السامية ويترجم دقائق جذور التأثر من أصولها أحرفا نيرة على الورق تحكى قمة من قمم التذوق الأدبي للنص القرآني الكريم.
لا أنكر بادئ ذي بدء أني وقففت طويلا وقفة شحيح ضاع في الترب
1 سورة الزمر: الآية 23.
2 انظر فتح القدير: الشوكاني ج5 ص329.
خاتمه، وقفت أدقق النظر وأرجع البصر ملتمسا أثرا يبصر أو لا يكاد يبصر لمعالم هذا المنهج وآثار السائرين فيه.
لم أكد أجد في الجادة إلا أثرا لقدمين هما لرجل واحد تمشيان فيه بعزيمة وثبات وكأنهما تسيران على خط شق لهما من قبل بل كأنهما تسيران على نور البصيرة والبصر.
وعدت أسائل نفسي ايعد طريق يبس إلا من قدمين اثنتين! من مناهج التفسير؟ وكان جوابها -وأحسبه حقا- أن المناهج كلها تبدأ كذلك ثم يكثر سالكوها، وهي من أول أمرها تعد منهجا.
إذًا فلا تثريب علي إن اعتبرت تفسير سيد قطب رحمه الله تعالى منهجا في تفسير القرآن الكريم وحده.
ولعل لمعترض أن يقول: كيف تقدم النتيجة على المقدمة؟ زعمك أن انفراد سيد قطب رحمه الله تعالى في المنهج لا يمنع من اعتباره منهجا، زعمك هذا نتيجة لمقدمة تثبت انفراده رحمه الله تعالى، فهل حقًّا انفرد سيد قطب رحمه الله تعالى في هذا المنهج؟
وجواب هذا المعترض ليس بإيراد التفاسير كلها وعرضها حتى أثبت به ما أقول، فهذا أمر يطول ويشق ولكنه بالشهود وهم كثير.
فهذا الدكتور محمد إبراهيم شريف يصف تفسير سيد قطب رحمه الله تعالى "في ظلال القرآن" بأنه "يمثل تيارا برأسه يجمع فيه بين الذاتية والذوقية، والفنية الجمالية"1.
ويصفه في موضع آخر بالندرة من اعتبارات كثيرة2.
1 اتجاهات التجديد في تفسير القرآن الكريم في مصر: د/ محمد إبراهيم شريف، ص583.
2 المرجع السابق: ص593.
ويصف الدكتورعدنان زرزور منحى سيد قطب رحمه الله تعالى بأنه "منحى خاص"1.
أما الدكتور محمد المبارك، فيعترف لسيد بأن له "فضل كبير في السبق إلى الكتابة والنشر في هذه الموضوعات على أسلوب حديث"2.
بل إن الدكتور عفت الشرقاوي الذي تحاشى الحديث عن سيد قطب، وهو يكتب عن "اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث" لم يجد بديلا لسيد قطب وحين اضطر لذلك وصفه بـ "أحد الدارسين"3 وكتب دراسة لكتابه "التصوير الفني في القرآن الكريم" في عشر صفحات4 ومع هذا تحاشى ذكره أيضا في المصادر والمراجع فلم يذكر اسم كتابه حتى لا يضطر لذكر اسمه.
وهو مع هذا يذكر في نهاية حديثه عنه قوله: "لا يعثر الباحث على نماذج كثيرة في جهود المفسرين المحدثين تتخذ التذوق وحده رائدا في التفسير كما رأينا في المحاولة السابقة"5، ولا نظنه وجد نماذج ولو قليلة ولو كان قد وجد لما ذكر سيد قطب مثلا وإنما وجد دراسة وصفها بأنها مماثلة إلى حد ماء"5.
ما قصدت من هذا أن أذكر موقف الدكتور عفت6 ولكني قصدت مكانة سيد رحمه الله حيث لم يجد من حاول أن يتحاشى ذكره بدًّا من الإشارة إليه إذ ليس في الساحة سواه.
وأصرح من هذا كله وأوضح ما كتبه الدكتور صلاح دحبور في رسالته
1 علوم القرآن: الدكتور عدنان زرزور، ص416.
2 دراسة أدبية لنصوص من القرآن: محمد المبارك ص8.
3 اتجاهات التفسير في مصر في العصر الحديث: د/ عفت حمد الشرقاوي الطبعة الأولى سنة 1972م، ص338.
4 المرجع السابق، انظر ص338 إلى 348.
5 المرجع السابق، ص348.
6 ولعل السبب في ذلك أن الشرقاوي ألف كتابه سنة 1963، وكان سيد قطب رحمه الله وقتها في سجن عبد الناصر.
التي قدمها لنيل درجة الدكتوراه عن "في ظلال القرآن" حيث وضع عنوانا "سيد قطب يؤسس مدرسة جديدة في التفسير" قال فيه: "يعتبر الظلال لونا جديدا خاصا فريدا من التفسير، ويعتبر نقلة جديدة بعيدة في التفسير. وإن الظلال يعتبر مدرسة خاصة في التفسير. يمكن أن نعتبر سيد قطب مفسرا موهوبا ومؤسسا لمدرسة متميزة فريدة في التفسير. لقد كان سيد قطب مجددا في الظلال حيث سار على منهج خاص"1.
ونحن نقول مثل قولهم إن سيد قطب رحمه الله تعالى صاحب مدرسة خاصة ومنهج خاص.
ولهذا فلا تثريب علي إذ لم أقدم كعادتي في كل منهج دراسة عامة للمنهج وأهم المؤلفات فيه ثم اختيار تفسير أو تفسيرين كنموذج للمنهج أقف عندهما وقفة أطول.
لا تثريب علي إذا كتبت عن "في ظلال القرآن" لسيد قطب رحمه الله تعالى مباشرة؛ لأنه يقف في الساحة وحده فهو والمنهج حتى الآن وجهان لعملة واحدة.
فإذا برع من بعده أحد في المنهج شاركه فيه وتفرد سيد بالأقدمية أما الآن فلسيد الأقدمية والانفراد.
1 في ظلال القرآن دراسة وتحقيق: د/ صلاح عبد الفتاح دحبور، ص212-213.