الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدكتور محمد أحمد خلف الله
الكتاب: الفن القصصي في القرآن
أولا- المؤلف:
هو الدكتور محمد أحمد خلف الله، أما حياته الشخصية فلا أعرف عنها شيئا ولم أجد لها ذكرا، أما فكره ونتاج قلمه فله عدد من المؤلفات والمقالات.
وهو من الذين أرادوا الشهرة في فترة كان الإلحاد أقصر طريق إليها، فأصدر عددا من المؤلفات حشاها به حشوا.
كان أولها -كما سيأتي- كتاب الفن القصصي في القرآن الكريم؛ زعم فيه أن قصص القرآن أساطير، وأنها لا تلتزم الحقائق وغير واقعة وغير ذلك.
ومنها القرآن ومشكلات حياتنا المعاصرة، وكتاب القرآن والدولة، وكتاب هكذا يبنى الإسلام وشارك في كتاب "محمد والقوى المضادة" وغير ذلك من كتب الدراسات الأدبية واللغوية والتراجم.
ولا أريد أن أسترسل في الحديث عن الرجل فليس هذا مقام محاكمته أو كشف زيف فكره وإنما هو مقام التعريف الموجز والإشارة السريعة.
وكم وقفت مبتسما -ابتسامة أسى وأسف- وأنا أقرأ مقالة سطرها دكتور فاضل نقد فيها الكتاب الأخير للدكتور محمد أحمد خلف الله: "الأسس القرآنية للتقدم" ويبدو أن الدكتور الفاضل لا يعرف كثيرا الدكتور محمد أو أنه يحسن الظن أكثر من حد القبول؛ ذلكم أنه يقف أمام عبارة من عبارات الدكتور خلف الله المألوفة منه ويعتقد أنها من أخطاء المطبعة!! العبارة تلك تقول: "وهنا سؤال يطرح نفسه: ألا يزال العقل البشري مقيدا بسلطان الله الواحد الأحد
الذي يدعو الإسلام إلى عبادته واتقاء غضبه"؟ وينقل القارئ إلى إجابة من تفسر المنار ولكنه قبل أن ينقله إلى هذه الإجابة يقول: "وأنا حين أنقل عن هذا الكتاب إنما أرجو أن يطمئن القارئ إلى الأساس الذي بني عليه التوحيد، وكيف كان تحريرا للعقل البشري من سلطة الآلهة بما فيهم الله"1؟!!.
أرأيتم إلحاد كهذا؟! لو نسب هذه الفكرة لنفسه لعد هذا إلحادا وأي إلحاد فكيف وهو يزعم أن هذا هو الأساس الذي يبنى عليه التوحيد في الدين الإسلامي؟!!
قلت أني ابتسمت أسىً وأسفًا عند وصف الدكتور الفاضل كاتب النقد لهذا بأن المطبعة وحدها قد تكون مسئولة عن هذا الارتباك الفكري والأسلوبي الذي يجسد اتجاها غير إسلامي بالتأكيد1، ولو قرأ بقية مؤلفاته لوجد فيها نحو هذا وأشد منه.
قصدت من هذا الذي أوردته أن المؤلف لا يزال حتى آخر ما صدر من مؤلفاته يبث الإلحاد، وما زال بعض المخدوعين يعده مفكرًا إسلاميًّا؟!
نسأل الله له الهداية وأن يفتح قلبه للحق وأن يجعله سيفًا على الباطل
فيما بقي من عمره.
ثانيا- الكتاب:
عانت مصر وعانى علماؤها في القرن الرابع عشر الهجري معاناة شديدة من فئة جعلت سبيل الإلحاد وسيلة لاشتهارها وباعت دينها بدنياها.
عانت دعوة قاسم أمين حين أصدر كتابيه "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة" وكانت ضجة ثم سكون كسكون المقابر!!
1 مجلة الأمة القطرية العدد الخمسون صفر 1405 ص15 مقال، "الأسس القرآنية للتقدم وحوار حول بعض مقولاته" للدكتور محمد أحمد العزب والنص المنقول عن كتاب "الأسس القرآنية للتقدم"، ص36.
وكانت دعوى طه حسين "في الشعر الجاهلي" مزمارًا من مزامير المستشرقين وجاء من بعده علي عبد الرازق وأظهر كتابه "الإسلام وأصول الحكم" ثم المدعو محمود أبو رية وأضواءه بل ظلماته على السنة المحمدية وفي عام 1947 كتب محمد أحمد خلف الله كتابه "الفن القصصي في القرآن الكريم" وبعده بسنتين اثنتين أصدر محمد أبو زيد تفسيره "الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن". بتنظيم عجيب وترتيب دقيق كأنه مرسوم توالت هذه المؤلفات وتتابعت ما إن يسترد العلماء الصالحون أنفاسهم في الرد على ملحد حتى يكون الآخر قد نشر ونثر ما في جعبته، فيبدأ أولئك المعركة من جديد وهكذا دواليك.
وبين ملحد وآخر يخرج من لا يقل عنهم خبثا بما يشغل المجاهدين ويفت من عضدهم وهم كثير وكثير منهم المسلم نسبا ومنهم النصراني عقيدة، ومنهم من تاب من بعد ومنهم من ينتظر.
وهذا الكتاب إذًا له قصة نحكيها قبل أن ندرسه.
قصة الكتاب:
في سنة 1947م قدم محمد أحمد خلف الله، الطالب في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول رسالة للحصول على الدكتوراه عنوانها:"الفن القصصي في القرآن الكريم".
قرر فيها أن القرآن أساطير وأن ورود الخبر في القرآن الكريم لا يقتضي وقوعه، ويخشى على القرآن من مقارنة أخباره بحقائق التاريخ ويقول: إن التاريخ ليس من مقاصد القرآن، إن التمسك به خطر أي خطر على النبي عليه السلام وعلى القرآن. بل هو جدير بأن يدفع الناس إلى الكفر بالقرآن كما كفروا من قبل بالتوراة، وإن المعاني التاريخية ليست مما بلغ على أنه دين يتبع وليست من مقاصد القرآن في شيء ومن هنا أهمل القرآن مقومات التاريخ من زمان ومكان وترتيب للأحداث1، ويقول: إنا لا نتحرج من القول بأن القرآن
1 الفن القصصي في القرآن الكريم: د/ محمد أحمد خلف الله، ص42، 44.
أساطير؛ لأنا في ذلك لا نقول قولا يعارض نصا من نصوص القرآن1، وقال
…
وقال
…
وقامت الاحتجاجات وكتبت الردود ورفعت البرقيات للمسئولين ورفضت الرسالة وطالب أولئك بتطبيق أحكام الردة على خلف الله ولكن
…
وكان ما كان؛ يقوم الفينة بعد الفينة من سولت له نفسه بالخروج على الإسلام في ناحية من نواحيه الاعتقادية، فيثور احتجاجا عليه فئة من الغيورين على دينهم ويحميه منهم رجال من الوزراء، وفي مستقبل قريب ينال الرجل مكافأة خروجه أضعاف ما كان له من المراكز والمناصب، ويكون هذا المصير غبطة لآخرين، فتتكرر المهزلة في أيام أخرى على مسائل أخرى مماثلة2.
أما مصير الكتاب فقد طبع طبعته الأولى سنة 1953 ثم توالت طبعاته بعد ذلك سنة 1957، سنة 1972. وإنا لله وإنا إلي راجعون.
منهجه:
نحمد الله أن المؤلف بيَّن بنفسه سبب سلوكه الدراسة الأدبية ومنهجه فيها.
أما الأول فقال عنه: "أما الأسباب التي جعلتني أعنى بالدراسة الأدبية، وأجعل من القرآن ميدان ابحاثي، فترجع قبل كل شيء إلى نوع من الاستهواء عمل على إذاعته في نفسي درس أستاذنا الخولي عن المنهج الأدبي في فهم القرآن وتفسيره، فقد كانت تلك اللفتات تستقر في نفسي استقرارا يجعلني أتخيل تمثل هذا المنهج والسير عليه في تفسير كتاب الله"3.
أما صلة أمين الخولي بالرسالة بعد ذلك وحين قامت الاعتراضات عليها
1 المرجع السابق: ص179-180.
2 موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين: مصطفى صبري ج1 ص318.
3 الفن القصصي في القرآن الكريم: د/ محمد أحمد خلف الله، ص1.
فقد أعلنها بنفسه حين قال: "فلو لم يبقَ في مصر والشرق أحد يقول إنه حق لقلت وحدي وأنا أقذف في النار: إنه حق حق"1.
أما صلته بالرسالة وصاحبها قبل ذلك، فقد بينها الأستاذ محمد سيد كيلاني حين تحدث عن الأستاذ أمين الخولي وقال:"بأنه كان يدرس مادتي التفسير والبلاغة وظل أمره مستورا إلى سنة 1947، لا يدري أحد في خارج الكلية ما يلقنه أمين لتلاميذه من أنواع الكفر والضلال"2.
وأما الثاني -أعني منهجه في التفسير- فقد عدد خطواته حيث قال:
أولا- جمع النصوص:
إذا كانت معرفة نص ما تستلزم حتما وجوده كانت3 أولى الخطوات، من غير شك، هي الوقوف على النصوص وجمعها، وإني لأعترف بأني لم أجد موضوعي4 هذا من حيث هذه الناحية عناء يذكر ذلك؛ لأن القصص القرآني موجود في القرآن، ومن هنا لم يكن عملي في هذه المرحلة إلا الرجوع إلى المصحف.
ثانيا- الترتيب التاريخي للنصوص:
وهذا الترتيب يدل الباحثين على التطور في الفنون والآداب، ويستوي في ذلك عندهم التطور الداخلي، والتطور الخارجي. ونقصد بالأول أن يدلنا هذا الترتيب على تطور ذوق الكاتب وأفكاره أو ميادينه الفنية ونشاطه النفسي.
ونقصد بالثاني: دلالة النص على التطور العام لتاريخ الآداب والفنون من حيث صلته بالسابق واللاحق والدور الذي لعبه النص في الحياة الأدبية ومجراها العام.
وإني لأعترف هنا أيضا بأن هذه الخطوة -وإن تكن أشق من الأولى
1 المرجع السابق: ص: ح.
2 ذيل الملل والنحل: محمد سيد كيلاني ص86-87.
3 لعل العبارة: "فقد كانت" أو: "فإن أولى".
4 لعل العبارة في "موضوعي".
وأعسر- إلا أني لم أبذل فيها جهدا يذكر؛ ذلك لأني اعتمدت في هذا الترتيب التاريخي للقصص القرآني على المصحف الملكي1، وإن كنت أعلم أنه ليس بالترتيب التاريخي الدقيق. لكن ليس في الإمكان أبدع مما كان.
وعلى كل، فقد أفادني هذا الترتيب التاريخي فيما يخص القصص القرآني بدراسة التطور الداخلي لهذا القصص2.
أما التطور الخارجي فقد حالت بيني وبينه عقبات منها أن الوقوف على النصوص السابقة للقصص القرآني من أقاصيص الجاهليين لا سبيل إليها ومنها أن صلة القصص القرآني باللاحق يتوقف أولا على صلته بالمعاصر من أحاديث "الرسول صلى الله عليه وسلم"، وهذه من الأمور التي سأفرغ لها بعد بحثي هذا إن شاء الله.
وقفت من هذه الخطوة إذًا عند الفائدة التي نجنيها من التطور الداخل، وحسبي هذا في هذا الموضع.
ثالثًا- فهم النصوص:
وهنا لا بد من التفرقة بين نوعين من الفهم:
الأول- الحرفي:
وهو الذي يقوم على دراسة معنى الألفاظ والتراكيب والجمل، كما يقوم على توضيح العلاقات الغامضة والإشارات التاريخية وكل تلك أمور تتوقف إلى حد كبير على ثقافة الدارس، تلك الثقافة التي شرطها بالنسبة لموضوعنا هذا المفسرون في المفسر والتي حدد ميادينها الأصوليون في مقدمات كتبهم.
وإني لأعترف هنا بأني قد وقفت على الكثير من هذه الأمور من كتب التفسير المختلفة، وكان الجهد الذي أبذله يقوم على المقارنة والترجيح والوقوف عند بعض اللمسات التي تفتح آفاقا واسعة أو تصحيح أخطاء بعض الأقدمين.
1 هو مصحف طبع في عهد الملك فاروق وأطلقت عليه هذه النسبة.
2 سبق أن ذكر المؤلف أنه يعني بالتطور الداخلي: تطور ذوق الكاتب وأفكاره أو ميادينه الفنية ونشاطه الحسي النفسي"، فهل يطلب هذا في كلام الله عز شأنه؟!
الثاني- الفهم الأدبي:
وهو ذلك الفهم الذي يقوم على تحديد ما في النص من قيم عقلية وعاطفية وفنية، فنقف على ما في النص من صور وآراء ونبحث عما خلف هذه الصور وهذه الآراء من أخرى لم يشعر صاحب النص بالحاجة إلى التعبير عنها. إما لأنه كان يفهمها في نفسه، وإما لأن المعاصرين له كانوا يفهمونها عنه، وأعتقد أن هذا الصنيع في الفهم الأدبي كان جديدا بالنسبة لموضوعي هذان اللهم إلا في القليل النادر.
رابعا- التقسيم والتبويب:
ثم قال المؤلف: "عندما يصل الباحث إلى هذا الحد من الفهم الأدبي يكون قد أقام من العلاقات ما تسمح له بأن يقسم بحثه أبوابا وفصولا يقيم كل واحد منها على نوع من العلاقات التي يرجى بها المنهج أو القصد من الدراسة.
فقد تجمع النصوص لما بينها من علاقات في الموضوع، وقد تجمع لما بينها من علاقات في الصياغة، وقد تجمع لما يتسلط عليها من مقاصد وأغراض.
خامسا- الأصالة والتقليد:
وهذه مسألة من أهم المسائل عند الدراسين لحياة العلوم والفنون وعند من يريدون الفهم الدقيق العميق للمسائل العلمية والأدبية؛ ذلك لأنها هي التي ستدلنا على المواد التي تكون منها النص وعلى كيفية تكوينه وعلى أي منها من عند الأديب وأيها سبق إليه.. لقد درست هذه المسائل وكانت لها نتائج قيمة.
بعضها يخص إثبات التجديد في الحياة المكية الأدبية -وذلك كمسألة القصة الأسطورية ووجودها في القرآن الكريم، وبعضها الآخر يخص القوة القادرة على تحويل المواد من تاريخية إلى أدبية أو إلى قصصية حتى لتصبح سحرًا من السحر أو أشد تلك هي الخطوات المنهجية التي سرت عليها والتي انتهت بي إلى البحث"1.
ولا شك أن هذه الخطوات التي قدمها المؤلف بنفسه هي قواعد التفسير
1 الفن القصصي في القرآن الكريم: د/ محمد أحمد خلف الله ص13-17 باختصار.
البياني في القرآن الكريم كما وضعها أستاذه أمين الخولي. إذًا؛ فلم يأتِ الدكتور خلف الله بما هو جديد في التأصيل وإن جاء بما هو جديد في الإنتاج.
وما دام الأمر كذلك فلا أظن الأمر يحتاج إلى أن أضرب أمثلة من تفسيره أستخرج لها منهجه، بل يحتاج إلى التمثيل فحسب.
أمثلة من تفسيره:
ليس من السهل على باحث مثلي أن يتجه إلى دراسة موضوعية "ذات موضوع واحد"، ثم يقتطف منها أمثلة "وافية" في سطور قليلة كيف يفعل هذا وصاحب الدراسة لا يقرر الفكرة الواحدة إلا في فصل كامل، لا ريب علي بعد هذا إذا ما جاء ضرب الأمثلة هنا مختصرا "كما وكيفما"، فلم أوجه العناية لهذا الكتاب استيفاء دراسة ولا استيفاء نقد، وإن كنت أبذل وسعي في أن آتي بشيء من هذا وذاك.
وإذا كان الأمر كذلك فإني أرى لزاما علي أن أبين مدلول كلمتين قبل أن ألج في ظلمات هذا الكتاب وصاحبه؛ أما أولاهما فهي "الحرية"، وأما الثانية فكلمة حملها زورا عنوان الكتاب "الفن".
أذكر بيانهما هنا، وإن كان مكان ذلك آخر الدراسة كما جرت عادتي بذلك؛ لأن الأمر هنا يختلف؛ هنا ظلمة بل ظلمات، وهنا عدو متربص يتحين غفلة، فكان حمل السلاح واجبا وتأخيره تقصيرًا.
أما الحرية -كما أرى- فكلمة ذات جانبين؛ جانب أصيل وجانب زائف، ونحن في عصرنا هذا نعاني من جانبها الزائف.
لا أريد بالجانب الزائف جانب استعمالها المشلول فحسب، فحين تمسّ بعض المجلات والجرائد الذات الإلهية يقال: حرية، وحين تمس من بعيد بعض الذوات تقوم الدنيا ولا تقعد. لا أريد هذا الجانب فحسب، بل أريد جانبا زائفا آخر هو الأصل فيها ذلك الفهم السيء لمدلول الحرية، فكم من جريمة ارتكبت باسم الحرية وكم من ظلم ارتكب باسم الحرية وكم من رق ارتكب باسم الحرية؛ يا لها من حرية؟!
مدلول الحرية الصحيح لا يعني شيوعية امتلاكها وحوزها إلا لمن أقام شروطها وإلا فلا حرية.
الحرية الأصيلة تحمل معها مبرراتها وحججها القوية التي تخوض بها في عباب البحار لا تخاف دركا ولا تخشى غرقا. أما الحرية الزائفة فهي التي لا تقوم على سند ولا على برهان إلا سند الهوى وانحراف الفكر عن جادة الصواب.
وعلى درجات هذه الحرية يتربع هذا الكتاب "الفن القصصي في القرآن الكريم"؛ لأنه لا يحمل من الأدلة الصحيحة والبراهين القوية ما يؤهله للتحدث باسم الحرية الأصيلة.
لست -والحمد لله- ممن يلقي التهمة جزافا ولكني رأيت شخصا ينظر في كتاب الله القرآن الكريم، ثم بغير حجة ولا برهان يجعله متهما ويحاكمه بغير حجة ولا برهان إلى كتب محرفة وتاريخ محرف ثم يحكم بغير حجة ولا برهان للثاني على الأول.
دعوا -جدلا- ثبوت سلامة القرآن وتحريف التوراة والإنجيل، وسلموا كذلك أنها على درجة واحدة -وحاشا- فكيف تأتَّى له أن يحكم لهذا على ذاك أو لذاك على هذا إن لم يكن صاحب هوى أو انحراف فكر؟!
كان عليه قبل أن يحاكم بينها أن يأتي بالدلالة على صحة وثبوت أحدهما وتحريف الآخر، ثم بعد ذلك يجعل من الصحيح
حكما ومن المحرف متهما. أما إذا ارتد إليه طرفه وهو حسير ولم يستطع إثبات هذا ولا ذاك، فليحذر استعمال الحرية، فإنها ستكون حينئذ حدًّا في ظهره.
أما الكلمة الثانية والتي استعملها بغير حق فكلمة "الفن" في عنوان كتابه. وقد بين هذا من قبلي من نرجو له الشهادة سيد قطب رحمه الله تعالى، حيث قال:"ويزيغ أناس فيزعمون أن هنالك خلقا للحوادث أو تصرفا فيها يقصد به إلى مجرد الفن، بمعنى التزويق الذي لا يتقيد بواقع"، ثم جلا رحمه الله تعالى الصواب، فقال: "والقرآن كتاب دعوة، ودستور نظام، ومنهج حياة، لا كتاب رواية ولا تسلية ولا تاريخ، وفي سياق الدعوة يجيء القصص
المختار بالقدر وبالطريقة التي تناسب الجو والسياق، وتحقق الجمال الفني الصادق الذي لا يعتمد على الخلق والتزويق، ولكن يعتمد على إبداع العرض وقوة الحق، وجمال الأداء"1.
إذًا؛ فالفن عند سيد رحمه الله تعالى هو إبداع العرض وقوة الحق وجمال الأداء ومعناه عند ذاك التزويق الذي لا يتقيد بواقع.
وفي الحقيقة إنا لا نجد في قواميس اللغة إلا أن "الفن: واحد الفنون وهي الأنواع، والأفانين: الأساليب وهي أجناس الكلام وطرقه"2. ولا نجزم أن اللغة مع هذا أو مع ذاك لكنا نجزم أن قدسية القرآن الكريم تشكل أقوى سياج عند المؤمنين يمنع وصف الفن فيه بالتزويق الذي لا يتقيد بالواقع.
لكن هذا المفهوم للفن هو الذي قصده الدكتور محمد أحمد خلف الله، بل ولم يجد كلمة تماثل الكذب والاختلاق والأسطورة ومخالفة الواقع إلخ، إلا كلمة الفن فاختارها؛ ليزيف بها كتابه ويدلس بها.
أقول هذا أولا حتى يدرك القارئ مدى شرعية "الحرية" العلمية التي يزعم امتلاكها خلف الله وأمثاله، ويدرك أيضا مفهوم الفن عنده، وليس عليه بعد هذا أن يخوض وإياي في لغو هذا الكتاب وباطله، فإلى ذاك.
الحرية الفنية:
ويقصد بها مسألة الخلق الفني أي أن للقاص أن يختار بعض الأحداث التاريخية دون بعض وأن يهمل مقومات التاريخ من زمان ومكان وترتيب للأحداث والقرب أو البعد من الواقع التاريخي وبعبارة أخرى تحري الصدق والصحة أو المجاوزة عن هذا التحري3، يعني اختراع أو اختلاق الأحداث!!
1 في ظلال القرآن: سيد قطب ج1 ص55.
2 الصحاح: الجوهري ج6 ص2177.
3 الفن القصصي في القرآن الكريم: د/ محمد أحمد خلف الله ص47.
وزعم أنه قام -حسب المنهج الأدبي في التفسير- باستقراء قصص القرآن لمعرفة وجود هذه الظاهرة "الحرية الفنية" فيه أم لا، وتوصل إلى أنها موجودة قال:"يدلنا الاستقراء على أن ظواهر كثيرة من ظاهرات الحرية الفنية توجد في القرآن الكريم"1.
ويعدد الدكتور خلف الله ما يحسبه أدلة لذلك ومنها: "إهمال القرآن حين يقص لمقومات التاريخ من زمان ومكان1.
ونحن لا ننكر أن القرآن كثيرا ما يهمل في قصصه الزمان والمكان لكنا نرفض كل الرفض أن يكون إهمال ذلك؛ لاختلاق القصة، فليس بين هذا وذاك هذا التلازم إلا عند من عدم الحجة.
وقل مثل ذلك فيما زعمه من أدلة أخرى عد منها: "اختيار القرآن لبعض الأحداث دون بعض، فلم يعنَ القرآن بتصوير الأحداث الدائرة حول شخص أو الحاصلة في أمة تصويرا تاما كاملا"2.
والغريب في هذا أن الدكتور خلف الله نفسه يعترف بأن القرآن كان يكتفي باختيار ما يساعده على الوصول إلى أغراضه، أي ما يلفت الذهن إلى مكان العظة وموطن الهداية"2. وما دام المؤلف يعرف أن هذا غرض القرآن من القصة، فكيف يرتب على إهمال القرآن لا حاجة إلى الغرض به. إن هذا من الحرية الفنية التي تدل على اختراع القصة أو الحدث؟!
ومما عده كذلك إهمال القرآن الترتيب الزمني أو الطبيعي في إيراد الأحداث وتصويرها"2، وما قلنا هناك نقوله هنا.
وعد منها إسناد القرآن بعض الأحداث لأناس بأعينهم في موطن، ثم إسناده نفس الأحداث لغير الأشخاص في موطن آخر.
وضرب مثلا: "ومن ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: {قَالَ الْمَلَأُ مِن
1 المرجع السابق: ص51.
2 المرجع السابق: ص51.
قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيم} 1، إذ نراه في سورة الشعراء مقولا على لسان فرعون نفسه:{قَالَ لِلْمَلأِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} 2، وكذلك نجد في قصة إبراهيم من سورة هود أن البشرى بالغلام كانت لامرأته بينما نجد البشرى لإبراهيم في سورة الحجر وفي سورة الذاريات"3.
وما رأيت من يجادل في عقيم مثله!! فما المانع في القصة أن يكون فرعون وقومه قد تبادلوا هذا القول في مجلسهم وقالوا به جميعا وهم في هرجهم ومرجهم. وما المانع في أن يكون فرعون قال ذلك وردده ملؤه من بعده وهل نسبة قول إلى شخص أو طائفة تدل على اختصاصهم به دون سواهم. خذ مثلا أوسع: حدثنا القرآن عن مواقف الأمم من أنبيائها: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} 4، فإذا كانت الأمم تتفق على قول واحد ألا يتفق ملأ وملكهم على قول واحد يردده كل واحد منهم، أي اختلاف أو أي اختلاف في هذا. كبرت كلمة تخرج من أفواههم.
ولا مانع أيضا أن تكون الملائكة قد بشرت إبراهيم وامرأته معا بإسحاق، أو أن تكون بشرت أحدهم أولا، ثم الآخر ثانيا، ثم جاء القرآن يخبر ببشراهم لإبراهيم في سورة ولامرأته في سورة أخرى، وهل يعد هذا دليلا على الاختلاق؟!
واستدل أيضا لدعواه الزائفة بإنطاق القرآن في قصصه الشخص الواحد في الموقف الواحد بعبارات مختلفة حين يكرر القصة تصويره للموقف الواحد بعبارات مختلفة. وضرب مثلا للأول تصوير القرآن لموقف الإله من موسى حين رؤيته النار، فقد نودي في سورة النمل:{أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا} 5،
1 سورة الأعراف: 109.
2 سورة الشعراء: 43 "والمؤسف أن المؤلف أخطأ في الآيتين فكتب "لساحر عظيم"!!.
3 الفن القصصي في القرآن الكريم: د/ محمد أحمد خلف الله ص52.
4 سورة الذاريات: 52-53.
5 سورة النمل: 8.
وفي سورة القصص: {أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} 1، وفي سورة طه:{إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} 2، 3.
يقول هذا وهو الذي لم يجف مداد قلمه، حيث قال قبل سطور:"إن القرآن لم يعن بتصوير الأحداث الدائرة حول شخص أو الحاصلة في أمة تصويرا كاملا"4. إذا كان قال هذا قبل أسطر فكيف يستغرب أن يذكر في سورة النمل بعض نداء الله سبحانه وتعالى لنبيه موسى عليه السلام. وفي طه بعضه الآخر، وفي القصص بعضه الآخر أيضا لم لا يكون هذا وأكثر منه هو حديث الله سبحانه لموسى عليه السلام في ذلك الموقف ذكر في كل سورة بعضه!!
وضرب مثلا للثاني بقول الله تعالى لموسى، عليه السلام:{خُذْهَا وَلا تَخَف} 5، ومرة أخرى:{يَا مُوسَى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ} 6. ولا شك أن القول في هذا كالقول فيما سبقه، لو كان يفقه؟! وضرب مثلا آخر بتعبير القرآن بالرجفة مرة وبالصيحة أخرى، وبالطاغية في غيرهما وتعبيره في انشقاق الحجر عن الماء في قصة موسى فانفجرت مرة وانبجست أخرى7.
والغريب أن هذا الذي يعده هذا الدكتور تناقضا واختلافا؟! يعده العلماء حقًّا وجهًا من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم هو التكرار في القصص القرآني، حيث تتكرر القصة الواحدة بألفاظ وأساليب متعددة تحقق في كل مقام أسلوبا يتسق مع أسلوب القصة ونظمها من غير تنافٍ ولا تجافٍ، بل إن بينها من
1 سورة القصص: 30.
2 سورة طه: 12.
3 الفن القصصي: د/ محمد أحمد خلف الله ص52-53.
4 المرجع السابق: ص51.
5 سورة طه: 21.
6 سورة النمل: 10.
7 الفن القصصي: د/ محمد أحمد خلف الله ص53.
التناسق والترابط ما دعا علماء البلاغة إلى التحلق جثوا على الركب للتزود من هذه الأساليب الباهرة والتسلح بها في ميادينهم.
والحديث عن هذه الشبهات والترهات التي قذفها الدكتور خلف الله طويل لا تخرج كلها عن دائرة قصور الفهم إن أحسنَّا به الظن.
كل هذه الشبهات التي جاء بها أراد بها تقرير الحرية الفنية في القرآن الكريم وفهم أن وجود الحرية الفنية يعني الاختلاق للأحداث والوقائع.
والذي يدعوه -في رأيي- لكل هذا الحرص على إثبات الحرية الفنية في القرآن بهذا المفهوم الخاص عنده أن كل ما ألصقه بالقرآن من شبهات واتهامات باطلة لا يثبت إلا بهذا وإلا لما أصبح له من مستمسك.
حيث رتب على الحرية الفنية في القرآن أمورا عديدة لا يسعنا أن نذكرها مفصلة وهي إجمالا:
1-
أن القرآن أساطير.
تماما كما قال المشركون: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} 1.
2-
أن القرآن يجاري عقائد أهل الكتاب؟!
فمن ذلك التردد في بيان عدد أهل الكهف؛ لأن القرآن لم يرد ذكر الحقيقة وإنما أراد مجاراة اليهود؛ لأن اليهود اختلفوا في أمر العدد، فنزل القرآن بهذه الأقوال حتى يكون التصديق من المشركين بأن محمدا عليه السلام نبي، ومثله عدد السنين التي لبثوها في الكهف، وغير ذلك من الأحداث3.
1 سورة الفرقان: 5.
2 الفن القصصي: د/ محمد أحمد خلف الله ص57.
3 المرجع السابق: ص54-55.
4-
أن أخبار القرآن قابلة للنسخ1.
5-
أن في القرآن أخطاء تاريخية2.
6-
إنكار الوحدة القصصية في القرآن الكريم.
ولأن القصص عنده متضاربة مختلفة، فإنه لا ينظر للقصة المتكررة في القرآن على أنها قصة واحدة، بل: "على أنها أقاصيص مستقلة وليست من قبيل الأجزاء فهي عرض أدبي للحادث تختلف ألوانه باختلاف أغراضه3.
خلاصة الأمر أن المؤلف أراد أن يرد على شبهات المستشرقين والملاحدة، فسلم لهم كل ما قالوا وزاد عليه وزعم أن هذا كله لا يمس من قيمة القرآن ولا من مكانته؛ لأن القرآن كتاب هداية وإرشاد لا كتاب تاريخ، وعلى هذا فله أن يسلك الحرية الفنية، فيخترع من الأحداث ما يخترع وكأن القرآن كلام بشر عجز عن الإقناع والحجة بالواقع، فجنح إلى الخيال وعجزت مداركه عن الحق فمالت إلى الاختلاق. سبحانك هذا بهتان عظيم.
ولا شك أن هذا أمر خطير يكشف ضعف عقيدة صاحبها وأنه أراد أن يعرف، فجاء بما لا يعرف وباع دينه بدنياه، أدعو الله سبحانه أن يهديه ويمن عليه بالتوبة والعودة إلى الإسلام.
وكما قلت، فلست أقصد من هذا الحديث عن هذا الكتاب الدراسة المستوعبة له، ولكني قصدت بيان نوع من التفاسير الأدبية التي سلك صاحبها الاستقراء لنوع من آيات القرآن الكريم هي آيات القصص، فأخطأ الطريق وضل السبيل.
1 المرجع السابق: ص60.
2 المرجع السابق: ص61.
3 المرجع السابق: ص201.