الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قاعدة في الاستحسان
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد، فبين أيدينا كتاب مهتم من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية في مبحث من مباحث أصول الفقه، وهو الاستحسان، حرَّر القول فيه وأجاد، وبيّن وجه الخلاف بين القائلين به والمانعين منه، ودرس تلك المسائل التي يذكر العلماء أنها استحسان على خلاف القياس، بطريقةِ لم يُسبَق إليها.
وقد كنتُ عثرت على نسخة من هذا الكتاب ضمن مجموعة سيأتي وصفها، وتأمَّلْتُ فيها فرأيت أنها بخط شيخ الإسلام ومسوّدته، بدلالة الشطب على كثير من الكلمات والعبارات والإلحاق في مواضع عديدة، وهي خالية من النقط تقريباً. وبدأت في قراءتها ونسخها، وكنت أقف على بعض الكلمات، وأقلّبها على وجوهها، حتى أصل إلى وجه الصواب فيها.
أخذ مني النسخ والقراءة وقتاً طويلاً، لأني قمتُ بنسخها في فترات مختلفة، كنت أنسخ جزءاً منها وأنصرف عنها لمدة طويلة أو قصيرة، لصعوبة الاستمرار فيها، وكثرة تلك الكلمات التي لا أهتدي لصوابها، حتى عثرتُ على بعض النصوصِ المقتبسة من هذا الكتاب
عند ابن القيم في "بدائع الفوائد"، والتي حلت لي بعض الإشكالات، ورجعت إلى كتاب "العدّة" لأبي يعلى الذي نقل منه المؤلف نصوصاً عديدة، وقرأت مبحث الاستحسان في معظم كتب الأصول عند الحنابلة والشافعية والحنفية والمالكية، وأخيراً فتّشتُ عن الموضوعات التي تناولها شيخ الإسلام هنا بالبحث والدراسة في كتبه ورسائله وفتاواه، فوجدتُ ما يُشبهها أحياناً بالنصّ والعبارة في مواضع عديدة، وقد ساعدني هذا كثيراً في فكّ الرموز والاهتداء إلى الصواب في كثير من الكلمات والعبارات التي كانت غامضة ومبهمة.
واستقام ليَ النصُ تقريباً بعدَما كلَّفَني عَرَقَ القِرْبَة، وأحببتُ نشْرَه كما هو بدون تعليق أو تخريج أو توثيق، كما نُشِرتْ رسائله وفتاواه في "مجموع الفتاوى". ثمّ عَدَلتُ عن هذا الرأي، لأن نشر الكتاب بهذا الشكل يحول دون فهم كثير من المسائل الواردة فيه، والوصول إلى حقيقتها.
وقد كان الغرض من كتابة التعليقات على الكتب في تراثنا الإسلامي الإشارة إلى ما في الأصل من خطأ أو صواب، وضبط المشكل من الأسماء والألفاظ، وشرح الغريب والحُوشِيّ منها، وإيضاح الغامض والمبهم من العبارات ليساعد ذلك على فهم النص. يقول ابن جماعة فى تذكرة السامع والمتكلم (ص 186، 191): "ولا يكتب إلاّ الفوائد المهمّة المتعلقة بذلك الكتاب، مثل تنبيه على إشكال أو احتراز أو رمز أو خطأ ونحو ذلك، ولا يسوّده بنقل المسائل والفروع الغريبة، ولا يُكثِر الحواشي كثرةً تُظلِم الكتابَ أو تُضِيع مواضعَها على طالبها".
فاتبعت هذا المنهج الوسط في تعليقي، ووضعتُ نُصْبَ عيني أموراً: منها توثيق ما نقله المؤلف من الأحاديث والآثار والمذاهب والنصوص، والإشارة إلى آرائه في كتبه ورسائله وفتاواه في الموضوعات التي بحث فيها هنا، وشرح الغريب وتوضيح الغامض من الكلمات، والإشارة إلى ما في الأصل من العبارات التي قد تُشكِل أو تُستَغْرَب، ومحاولة توجيهها.
وهذه فصول تتعلق بالكتاب جعلتُها مدخلاً إلى قراءة النصّ ودراسته، ليكون القارئ على بصيرة منه قبل الشروع فيه.
• عنوان الكتاب
لم يَرِدْ ذكر عنوان الكتاب بخط المؤلف في النسخة الفريدة التي وصلتنا، وقد كتب أحد المفهرسين أو القرّاء في أعلى الصفحة الأولى منها:"في الاستحسان والقياس" استنباطاً ممّا كتبه المؤلف في أوله بعد الخطبة: "فصل في الاستحسان القياس وموضع الاستحسان هل يقـ وتخصيص العلة
…
". ولكنه لم يلاحظ أن المؤلف شطب على العبارة التي تحتها خطّ، فكان ينبغي للشخص المذكور أن لا يذكر "والقياس" في العنوان الذي اجتهد في استنباطه. والكتاب لا يبحث إلاّ في موضوع الاستحسان، ولم يذكر من مباحث القياس إلاّ ما يتعلق بتخصيص العلة، ومسألة القياس على المخصوص من جملة القياس، وللمؤلف كتاب مستقل في معنى القياس. والذي بين أيدينا أفرده لبيان معنى الاستحسان وحقيقة
الخلاف فيه.
ولم يكن من عادة المؤلف أن يسمي كتبه ورسائله ويختار لها عناوين مناسبة في مقدماتها كما يفعله عامة المؤلفين المتأخرين، بل كان يبدأ في الكتابة في موضوع معين بعد البسملة أو الحمدلة بقوله: "فصل في
…
" أو "قاعدة في
…
"، وأحيانا يدخل في الموضوع مباشرة، أو يذكر سبب التأليف، دون أن يختار عنواناً محدداً له. وعندما يحيل في مصنفاته إلى كتبه ورسائله الأخرى يشير إلى موضوعها، أو يكتفي بقوله: "كما بُسِط ذلك في موضع آخر" ونحوه. وأكثر مؤلفاته ورسائله التي وصلت إلينا اختير لها عناوين في حياته أو بعد وفاته من قبل تلاميذه وأصحابه الذين قاموا بنسخها وتبييضها ونشرها، وعلى رأسهم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أحمد المعروف بابن رُشَيِّق (ت 749) كاتب مصنفات شيخ الإسلام، الذي كان أبصر بخط الشيخ منه، وإذا عزب شيء منه على الشيخ استخرجه
(1)
.
(1)
ترجمته في: ذيل مشتبه النسبة لابن رافع 27 وتبصير المنتبه لابن حجر 2/ 605، 606 وتاريخ ابن قاضي شهبة 2: 1/ 655، 656 والبداية والنهاية 14/ 229 وفيه "عبد الله بن رشيق"، وهو وهم أو خطأ مطبعي، وتبعه الزركلي في الأعلام 4/ 86، مع أن في الأعلام نفسه 1/ 144 صورة خط ابن رشيق هذا، وفيه اسمه الكامل كما ذكرت المصادر الأخرى، وكذا عند ابن عبد الهادي في العقود الدرية 27 والذهبي في المشتبه 317.
وهذا أحد أسباب اختلاف العناوين لمؤلفات شيخ الإسلام، فكتابٌ واحد يذكره المترجمون له بعناوين مختلفة، وتصلنا نسخه الخطية بأسماء غريبة يستنبطها الناسخ أو القارئ أو المفهرس، ويغترّ بها الباحثون فيعدّونها كتبا مستقلة. وجُل من صنع من المُحْدَثين فهرساً لمؤلفات الشيخ في دراسات مفردة أو مقدمات التحقيق لكتب الشيخ وقع في هذا الوهم. وعذرهم في ذلك أنهم في أغلب، الأحيان لم يطلعوا على هذه النسخ، ولم يقوموا بالمقارنة بينها، حتى يصلوا إلى حقيقتها، وإنما نظروا في فهارس المخطوطات التي تذكر هذه العناوين المختلفة، فظنوها كتباً مختلفة.
والواجب على من يريد معرفة العنوان الصحيح أو الأقرب إلى الصواب لكتاب من كتب شيخ الإسلام أن يرجع إلى القوائم الأساسية لمؤلفاته التي أعدَّها تلاميذ الشيخ وأصحابه. وأكثرها جمعاً واستيعاباً ثلاث قوائم عملها ابنُ رُشَيِّق المذكور، وابن عبد الهادي (ت 744)، والصفدي (ت 764).
أمّا ابن رُشَيق فله "رسالة في أسماء مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية" نشِرت منسوبةً لابن القيم (ت 751)
(1)
بالاعتماد على نسخة خطية منها توجد في دار الكتب الظاهرية بدمشق. وقد عثرتُ على نسخة أخرى منها، وهي وإن كانت ناقصة إلاّ أن فيها زياداتٍ على المطبوعة، وتحتوي على نصوصٍ اقتبسها ابن عبد الهادي في العقود
(1)
بتحقيق الدكتور صلاح الدين المنجد في مجلة المجمع العلمي العربي بدمشق 28/ 1953/371 - 395. ثم صدرت لها طبعات مستقلة.
الدرّية (ص 27 - 28) وصرَّح بنسبتها إلى ابن رشيق، وأشار إلى القائمة التي صنعها.
وكشفت المقابلة بين المخطوطة الثانية وبين المطبوعة عن أمر مهمّ آخر، وهو أن ناسخ النسخة التي كان عليها الاعتماد في النشر (وهو الشيخ جميل العظم) تصرف في إثبات العناوين تصرفاً عجيباً، حيث اختصرها وهذبها وجعلها على نمط واحدٍ، وقدم وأخّر، وحذف ما لم ير فيه فائدة، وهذا نموذج من المخطوطة الثانية والمطبوعة يظهر به الفرق بينهما:
المخطوطة المطبوعة
سورة اقرأ باسم ربك 84 - تفسير سورة اقرأ باسم ربك.
* فسَّرها وبيَّن أنها أول سورة أنزلت وبيَّن
أنها تضمنت أصول الدين، في مجلد
لطيف.
قل هو الله أحد 89 - تفسير سورة الإخلاص في مجلد.
* فسَّرها في مجلد
* وتكلم في مجلد لطيف على كونها
تعدل ثلث القرآن، وتفضيل القرآن
بعضه على بعض.
* وله قواعد في التفسير مجملة، تكلم
فيها على المصنفات وعلى المفسرين،
وما هو متصل وغير متصل، ومن يعتمد
عليه ومن لا يعتمد عليه، رأيت منها نحو
مجلد كبير.
* وكتب قاعدة كبيرة في هذا المعنى
* وله جواب في تفسير البغوي والقرطبي
والزمخشري أيها أفضل؟
* وله قاعدة في فضائل القرآن. 90 - قاعدة في فضائل
القرآن.
ولعلّ الشيخ جميل العظم أرَاد تهذيب العناوين والأسماء من أجل كتابه الذي ألّفه بعنوان "عقود الجوهر في تراجم من له خمسون تصنيفًا فمائة فأكثر"، ولو أنه حافظ على الأصل كما هو ولم يتصرف فيه لكان أجدى وأنفع وأوثق وأدقّ في وصف الكتب والدلالة على ما أراد المؤلف بيانه.
هذا ما ٍيتعلق بالقائمة التي أعذها ابن رُشَيق، والتي نُسبت إلى ابن القيم خٍطأ، فأوقعت جمهرةً من الباحثين والدارسين والمحققين في الوهم خلال خمسة وأربعين عاماً.
أما ابن عبد الهادي فذكر قائمة من مؤلفات الشيخ في العقود الدرية (ص 26 - 64) وقال في آخرها: "وسأجتهد إن شاء الله تعالى في ضبط ما يمكنني من ضبط مؤلفاته في موضع آخر غير هذا. وأبين ما صنَّفه منها بمصر، وما ألَّفه منها بدمشق، وما جمعه وهو في السجن. وأرتّبه ترتيبا حسناً غير هذا الترتيب، بعون الله تعالى وقوته ومشيئته". ولا ندري هل وجد ابن عبد الهادي فرصة لصنع هذا الفهرس أم لا؟
ورتَّب الصفدي قائمة مؤلفات الشيخ على الموضوعات في ترجمته في "الوافي بالوفيات" و"أعيان العصر"، واعتمد عليه ابن شاكر الكتبي (ت 764) في ترجمة الشيخ في "فوات الوفيات".
هذه القوائم الأساسية إذا اتفقت على عنوان الكتاب فلا يُعدَل عنه إلى غيره مما هو مثبت على مخطوطاته المختلفة إلاّ إذا كان ذلك العنوان بخط المؤلف نفسه، فيرجَّح على غيره. أما إذا اختلفت في ذكر العنوان فيكون الترجيح للاسم الذي يكون مطابقاً لإحدى النسخ الخطية القديمة التي وصلتنا.
لننتقل الآن إلى الكتاب الذي بين أيدينا، ولنبحث عن عنوانه الصحيح بعدما رأينا أن المفهرس أو أحد القراء وقع في الخطأ
عندما أثبت عنوانه "في الاستحسان والقياس"، وبيّنا سبب وقوعه في الخطأ. وإذا رجعنا إلى القوائم الأساسية التي أشرنا إليها وجدنا أن ابن رشيق لم يُشِر إلى هذا الكتاب، أو بعبارةٍ أدق: لم نجد ذكره في النسخة المهذّبة المختصرة المنشورة من الكتاب، ولعلّه ذكره في الأصل الذي لم يصل إلينا إلاّ نصفُه تقريباً بصورته الأصلية.
أما الصفدي فذكر هذا الكتاب بعنوان "قاعدة في الاستحسان" في الوافي بالوفيات (7/ 27) وأعيان العصر (1/ 35 أ [عاطف أفندي 1809]) وتبعه ابن شاكر الكتبي في فوات الوفيات (1/ 78)، وعن ابن شاكر نقل محمود شكري الآلوسي في غاية الأماني في الردّ على النبهاني (1/ 384)، وكلهم ذكروا الكتاب ضمن المؤلفات في أصول الفقه.
ووجدت عند ابن عبد الهادي في العقود الدرية (ص 45) كتاباً بعنوان "قاعدة في الإحسان"، وربّما يكون "الإحسان" تصحيفاً عن "الاستحسان"، فقد جاء ذكره في سياق كتب الفقه والأصول، وسبق أن ذكر (ص 48)"قاعدة في الإيمان المقرون بالإحسان، وفي الإحسان المقرون بالإسلام" فلا وجه لتكراره إلاّ أنني رجعت إلى طبعات أخرى لكتاب العقود الدرّية، فوجدتُ جميعها تتفق على إثبات العنوان المذكور، فترددتُ في القول بوقوع التصحيف فيه.
ولم أجد الآن نسخاً خطية من الكتاب لأحقق هذا الأمر.
ولم أجد من ذكر هذا العنوان غير المؤلفين الثلاثة (إذا استثنينا ابن عبد الهادي)، وهو العنوان الموافق لمضمون الكتاب الذي بين
أيدينا، فلم أعدِلْ عنه إلى غيره. وأثبتُّه على الغلاف، وإن كانت نسخة المؤلف خالية منه، لما ذكرتُ من أن هذا العنوان وُضِع من قبل أحد تلاميذ الشيخ وأصحابه، فيرجح على ما يستنبطه أحد المفهرسين أو القراء.
• توثيق نسبته إلى المؤلف
قرّرنا فيما سبق أن لشيخ الإسلام ابن تيمية كتاباً بعنوان "قاعدة في الاستحسان"، إلاّ أن هذا لا يكفي لصحة نسبة الكتاب الذي بين أيدينا إليه ما لم تكن هناك أذلة أخرى مقنعة تؤكد ذلك، وبعد الدراسة المتأنية له والرجوع إلى بعض المصادر يظهر لنا جليًّا أنه من تأليف شيخ الإسلام، وأنه الكتاب الذي أشار إليه المترجمون له.
أما أنه من تأليفه فأكبر دليل على ذلك أنه مسوّدة كتبها بخطه، كما هو واضح لكل من اطلع على شيء من مؤلفاته بخطه المعروف والموصوف بالسرعة وكونه في غاية التعليق والإغلاق
(1)
، حتى أن كثيرا من أصحابه عجزوا عن نقله، وكان هذا أحد أسباب ضياع كثير من مؤلفاته. يقول ابن عبد الهادي: "كان كثيرا ما يقول: قد كتبت في كذا وفي كذا، ويُسأل عن الشيء فيقول: قد كتبتُ في هذا فلا يُدرَى أين هو؟ فيلتفت إلى أصحابه ويقول: رُدُّوا خطي وأَظْهِروه لِيُنْقَلَ، فمن حرصهم عليه لا يردُّونه، ومن عجزهم لا ينقلونه، فيذهب،
(1)
تتمة المختصر لابن الوردي 2/ 408.
ولا يعرف اسمه"
(1)
.
والكتاب الذي بين أيدينا نموذج من هذا الخط الدقيق، ولعلّه بقي عند بعض أصحابه، ولم تُنسخ منه نسخ، ولا انتشر ذكره مثل بقية مؤلفاته المشهورة، فلم نجد له ذكراً في فهارس المخطوطات، بل المكتبة التي تحتفظ بهذا المخطوط الفريد لا يُوجد في فهارسها ذكرُه، ولذا بقي مجهولاً لدى الباحثين إلى يومنا هذا.
ومما يدكُ على أنه لشيخ الإسلام أن في الكتاب إشارة إلى
كتاباته الأخرى في موضعين:
1 -
بعدما قرَّر أن القياس الصحيح لا يجوز العدول عنه بحال، قال:"وهذا هو الصواب، كما قد بسطناه في مصنَّفٍ مفرد، بمناسبة أنه ليس في الشرع شيء بخلاف القياس الصحيح أصلاً"(ص 197 - 198). يشير هنا إلى رسالته في معنى القياس، وهي من مؤلفاته المطبوعة والثابتة النسبة له
(2)
.
2 -
قال: "وقد بّينّا في غير هذا الموضع أنّ الأحكام كلّها بلفظ الشارع ومعناه، فألفاظه تناولت جميع الأحكام، والأحكام كلّها معلّلة بالمعاني المؤثرة، فمعانيه أيضًا متناولة لجميع الأحكام "(ص 206 - 207). يشير هنا إلى " قاعدة في شمول النصوص للأحكام"، حيث أطال الكلام في هذا الموضوع، وقرَّر أن النصوص وافية
(1)
العقود الدرية 65.
(2)
انظر تعليقي على الموضع المذكور.
بجمهور الأحكام، ومن أنكر ذلك لم يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله وشمولها لأحكام أفعال العباد. وهذه القاعدة مذكورة ضمن مؤلفات الشيخ في "العقود الدرية"(ص 45).
وفي الكتاب موضوعات عديدة بحث فيها شيخ الإسلام في
كتبه ورسائله الأخرى، وتكلم عليها بنحو الكلام الذي نجده هنا،
ورجّح ما رجَّحه هنا، وهذا التوافق لا يدع مجالاً للشك في أن الكتاب
للمؤلف نفسه. والأمثلة على ذلك كثيرة، وقد أشرت في تعليقي إلى
هذه المواضع. وهذه نماذج منها:
الموضوع - الكتاب - مجموع الفتاوى
قياس المشركين 53 ،20/ 539 ،540 و 19/ 287
إذا صلى الإمام قاعداً كيف
يفعل المأمومون 54 - 55 ،23/ 249 و 405 ،406
الكلام على من يجعل إجارة
الظئر على خلاف القياس 61 ،20/ 531 ،532 و 30/ 197 - 200
الكلام على من يجعل الإجارة
والقراض على خلاف القياس 61، 20/ 514، 515
الكلام على خبر المصرّاة 67، 20/ 556 - 558
الكلام على من جعل حمل
العاقلة على خلاف القياس 67، 20/ 552 - 554
العلّة نوعان: تامّة ومقتضية
أولاً 69 - 70، 20/ 167، 168 و 21/ 356، 357
هل العقوبة المالية منسوخة؟ 73، 28/ 111 وما بعدها
تضعيف الغرم على مَن
دُرِئَ عنه القطعُ 73، 28/ 113، 118 - 119، 333
نهي الإمام أحمد عن التأويل
والقياس 74، 7/ 392
معنى "المجمل" في كلام
الأئمة 74، 7/ 391
محلّ سجود السهو عند الإمام
أحمد 75 - 76، 23/ 17 وما بعدها
نفي كون علّة الربا هي الوزن 78، 29/ 471
القياس الصحيح والقياس
الفاسد 79، 19/ 285 - 288
هل يقاس على المعدول به
عن سَنن القياس؟ 82 - 83، 20/ 555، 556
القصر في السفر الطويل
والقصير 87، 24/ 34 - 35، 12 - 13، 15
منع قصر المكيين مخالف
للسنّة 87، 20/ 361 - 362، 24/ 10 - 11، 26/ 130
مناقشة أدلة القائلين بالتيمم
لكل صلاة 94 - 96، 21/ 354 - 361، 435 - 438
معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أصليتَ
بأصحابك وأنت جنب؟ " 96 - 97، 21/ 404 - 405
المضارب إذا خالف: ماذا
يستحق؟ 97 - 99، 30/ 85 - 86، 91، 28/
84 -
85
تصرّف الفضولي 99، 20/ 577
القول بوقف المعقود 101، 20/ 579 - 580، 29/ 249
السنة في اللقطة 101، 20/ 577، 29/ 250
أثر عمر بن الخطاب في
المضارب واختلاف العلماء
في المسألة 102، 30/ 87، 323، 329
تصرّف الغاصب 102، 20/ 562 - 563
من غصب أرضا فزرعها فالزرع
لرب الأرض وعليه النفقة،
مناقشة من قال: إنه على
خلاف القياس 104 - 105، 29/ 124
شراء المصحف واستبداله 106، 31/ 212 - 213
بيع الأرض الخراجية، الرد
على من منع منه لأنها وقف 107 - 109، 29/ 206 - 209، 28/
588 -
589، 31/ 230 -
231، 17/ 488 - 489
قبول شهادة أهل الذمة في
الوصية في السفر 109 - 110، 15/ 299
قبول شهادة النساء فيما لا يطلع
عليه الرجال 111، 15/ 299
من نذر ذبح نفسه أو ولده
ماذا عليه؟ 112 - 113، 35/ 343 - 345
وأخيراً فإن ما نقله ابن القيم في "بدائع الفوائد"(4/ 124 - 126) من هذا الكتاب يعتبر دليلاً قاطعا على صحة نسبته إلى شيخ الإسلام، وهو وإن لم يصرّح بعنوان الكتاب فانه ينقل النصوص منه بقوله: "ونازعهم شيخنا
…
" و"قال شيخنا". وهي متطابقة تماماً مع النصوص الموجودة في الكتاب (ص 166 - 183) وقد علَّق ابن القيم على هذه المقتبسات أحيانا، وميَّز تعليقاته بقوله "قلت". واختصر بعض النصوص، وحذف بعض الكلام، فلم ينقل منه إلاّ ما يدلّ على المقصود. ولاحظت في مطبوعته تصحيفات في مواضع ينبغي أن تصحح بعد المقابلة مع هذا الأصل المنقول منه.
• تاريخ تأليفه
لا نستطيع أن نحدّد في ضوء المعلومات التي لدينا متى ألّف شيخ الإسلام هذا الكتاب، فلم تسعفنا المصادر بشيء يفيدنا في هذا الباب، ولا تحمل النسخة أيّ إشارة إلى التاريخ الذي فرغ فيه المؤلف من تأليفه. أما الموضوعات المشتركة التي بحث عنها هنا وفي رسائله
وكتبه الأخرى فلا يمكن استنباط التقدم والتأخّر في ضوئها، لأنّ المؤلف كثيراً ما يكرّر فكرة معينة في مؤلفاته وفتاواه، فلو استطعنا معرفة تواريخ بعضها فهذه لا تُرشدنا إلى تاريخ تأليف هذا الكتاب، وهل كان ذلك قبلها أو بعدها.
ولكني أكاد أجزم بأنه ألَّفه في أواخر حياته، وبالتحديد بعد سنة 712. والدليل على ذلك أن المؤلف أحال فيه (ص 197) إلى رسالته في معنى القياس، وهي عبارة عن جواب سؤال سُئِل فيه عما يقع في كلام كثير من الفقهاء من قولهم: هذا خلاف القياس. وكان السائل مجهولاً
(1)
حتى وجدت في إعلام الموقعين (1/ 383) أن ابن القيم هو الذي كان وجَّه هذا السؤال إلى شيخه، كما ذكر ذلك بنفسه. ولشدّة إعجابه بهذا الجواب أورد معظمه في كتابه المذكور (1/ 384 - 401 ثم 2/ 3 - 38) مع التعليق عليه في مواضع.
وتفيدنا بعض المصادر
(2)
أن ابن القيِّم لازم شيخه ستة عشر عاماً (أي 712 - 728) حتى رافقه في سجنه في آخر حياته. وعلى هذا فيكون كتابه في معنى القياس من مؤلفات هذه الفترة قطعاً، ويكون الكتاب الذي بين أيدينا قد ألف بعده. وهذا يناسب ما ذكره بعضهم
(3)
من أن شيخ الإسلام بعد رجوعه من مصر إلى الشام سنة 712 تفرغ للتأليف وكتابة الرسائل والأعمال العلمية الأخرى،
(1)
في مجموع الفتاوى 20/ 504 وغيره بصيغة "سُئِل شيخ الإسلام
…
".
(2)
الدرر الكامنة 3/ 401.
(3)
البداية والنهاية 14/ 67 والعقود الدرية 321.
وكانت من أخصب فترات عمره التي ألف فيها كثيرا. من كتبه.
• سبب تأليفه
أشار المؤلف في مقدمة الكتاب إلى سبب تأليفه، فذكر أن المؤلفين في الأصول خاضوا في مباحث الاستحسان وتخصيص العلّة، والقياس على موضع الاستحسان وادعوا في بعض الأحكام التي ثبتت بالنصّ والإجماع أنها مخالفة للقياس، واضطربوا فيها غاية الاضطراب. وكانت الحاجة ماسة إلى تحقيق القول فيها، لأنّ كثيرا من مسائل الشريعة أصولها وفروعها لها علاقة بهذه الموضوعات.
وهذا ما دعا المؤلف إلى الكتابة في هذا الباب وتحرير الكلام فيه، وبيان وجه الخلاف بين القائلين بالاستحسان والمانعين منه، وأن الخلاف بين الفريقين حقيقي، وليس لفظيًّا كما ذكره عامّة الأصوليين.
ويبدو لي أنه عندما وجد أبا يعلى وأبا الخطاب الكلوذاني وابن عقيل وغيرهم من الأصوليين الحنابلة سايروا الحنفية في القول بالاستحسان وتعريفه بأنه مخالفة القياس لدليل، ونصّوا على أنه مذهب الإمام أحمد، ونقلوا عنه مسائل قال فيها بالاستحسان-: أراد أن يبيّن وجه الحق والصواب في هذه القضية، وأن الإمام أحمد وغيره من أصحاب الحديث لم يقولوا بالاستحسان الذي قال به الحنفية، وأن هناك خلافاً منهجيا كبيراً بين الفريقين في هذا الباب، وأن المسائل الاستحسانية التي نقلت عن الإمام أحمد ليست مخالفة للقياس، وأن القياس الصحيح لا يجوز العدول عنه بحال من الأحوال.
هذه الأمور وغيرها كانت تحتاج إلى البسط والتفصيل والحجاج والمناقشة، فنشط لها المؤلف، وألّف هذا الكتاب الذي أتى فيه بنظرات جديدة حول الموضوع، وتناوله بطريقةٍ لم يُسْبَق إليها.
• منهج المؤلف فيه
للمؤلف منهج متميّز لا يحيد عنه في جميع مؤلفاته، فهو يعتمد على الكتاب والسنة وأقوال السلف في الكلام على أي مسألة، سواء كانت في العقيدة أو الأصول أو المصطلح أو التفسير أو الفقه أو غيرها، وينقل المذاهب والآراء من المصادر المعتمدة لدى أصحابها، ولا ينسب إليهم إلاّ ما يقولون به ملتزماً الأمانة العلمية في ذلك. ثم يُعلّق على كلامهم ويناقشهم بالحجج والبراهين، ويبين وجه خطئهم، ومدى قربهم أو بعدهم من منهج السلف. ويحرّر القول في المسألة تحريراً بالغاً، ويردّ على جميع الشُبَه والاعتراضات التي قد ينخدع بها العامة والخاصة، ويستطرد أحياناً إلى موضوعات أخرى يأتي فيها بفوائد علمية جليلة. كل ذلك بأسلوب سهلٍ ميسَّر يجري كالماء سلاسةً وعذوبة، يكاد يفهمه الجميع: المتعلم منهم وغير المتعلم. وقد انتقد المؤلف الأسجاع والزخارف اللفظية التي يلجأ إليها عامة الكتاب والأدباء، فقال: "وأما تكلف الأسجاع والأوزان والجناس والتطبيق ونحو ذلك مما تكلفه متأخرو الشعراء والخطباء والمترسلين والوعاظ فهذا لم يكن من دأب خطباء الصحابة والتابعين والفصحاء منهم، ولا كان ذلك مما يهتمّ به العرب، وغالب من يعتمد ذلك يزخرف اللفظ بغير فائدة مطلوبة من المعاني،
كالمجاهد الذي يزخرف السّلاح وهو جبان" (1).
فهو ينزّه أسلوبه عن الزخارف والأسجاع والتعقيدات اللفظية والمعنوية، ويكتب بأسلوب سلس فصيح يُعبِّر بوضوح عن المعاني والأفكار التي يرمي إليها، ولا يُبقِي أيّ غموض أو إبهام فيها.
هذه ملامح عامة من منهجه وأسلوبه في الكتابة، نجدها بارزةً في هذا الكتاب أيضًا مثل بقية مؤلفاته، فهو ينقل أولاً عن الأصوليين ما قالوه في هذا الباب، ثم يعلق على كلامهم ويناقشهم، ويبيّن وجه الخطأ والصواب عندهم، ويحرّر المسألة تحريراً بالغاً بأسلوبه الذي عرفناه، مستنداً في كل ذلك إلى الكتاب والسنّة وأقوال السلف الصالح، كما سنرى ذلك فيما بعد إن شاء الله.
• مصادره
إن أهمّ مصدرٍ رجع إليه المؤلف عند كتابته في هذا الموضوع: كتاب "العدَّة" لأبي يعلى، فقد نقل عنه نصوصا عديدة في مواضع مختلفة، وصرَّح فيها باسم أبي يعلى أو لقّبه بالقاضي، وكان اعتماده عليه دون غيره من كتب الأصول لأنه من أجمعها عند الحنابلة، وكلُّ من جاء بعده مثل الكلوذاني وابن عقيل وغيرهما اعتمدوا عليه في مؤلفاتهم، ولذا أحال إليه المؤلف ونقل عنه نصوصا في مبحث الاستحسان (ص 167، 175 - 176)، ومبحث تخصيص العلة (ص 180 - 182) ومبحث القياس على المخصوص من القياس (ص 198 - 200،
ــ
(1)
منهاج السنة النبوية 4/ 158، 159 (ط. بولاق).
200 -
201، 202 - 203، 204). وهي عند أبي يعلى في العدّة (5/ 1605 و 1607 - 4/ 1386 - 1388، 1394، 1397 - 1401، 1402، 1403، 1408). وكذلك ما يتعلق باستحسانات الإمام أحمد بن حنبل برواية صالح والميموني والمَزُوْذِيّ وبكر بن محمد (ص 172 - 174) يبدو أنه منقول عن العدة (5/ 1604 - 1605) أيضًا. وكذا ما ذكره عن الإمام أحمد برواية [أحمد بن] الحسين بن حسّان، وما ذكره عن ابن شاقلا في "شرح الخِرَقي "، وما ذكره عن أبي الحسن الخرزي في "جزء فيه مسائل من الأصول" (ص 181 - 182) -: كله بواسطة كتاب "العدّة"(4/ 1386 - 1387).
وهناك مؤلفون آخرون في الأصول أشار إلى آرائهم وإن لم يقتبس نصوص كلامهم، وهم:
- أبو الخطّاب الكلوذاني (ص 174، 180، 182)، وآراؤه المشار إليها في كتابه "التمهيد"(4/ 92، 69).
- ابن عَقيل) ص 174، 180، 184)، وآراؤه المذكورة في كتابه "الواضح "(1/ 144 أ، 144 ب، 145 أ).
- أبو الحسين البصري (ص 178)، كلامه في كتابه "المعتمد"(2/ 839).
- الجصّاص الرازيّ (ص 178)، قوله في كتابه "الفصول في الأصول"(ق 297 أ- ب).
- أبو حامد المروزيّ وأبو الطيب الطبري (ص 184) كلاهما
من أئمة الشافعية، لا أدري هل ذكر المؤلف رأيهما بالاعتماد على كتبهما أو بواسطة مصدر آخر؟
أما المسائل الفقهية فلا يذكر المؤلف مصادره فيها غالباً؟ لأنه كان حافظاً لها. وقد صرح بالنقل عن مختصر الخرقي (ص 215، 216) في موضعين فقط. وكذلك الأمر بشأن الأحاديث والآثار، فإنها كانت على طرف لسانه، حتى قيل:"كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث "
(1)
. وفي موضع واحد فقط قال بعد إيراد حديث: "رواه البخاري "(ص 225).
وأشار في موضع إلى كتب الإمام مالك وأصحابه، بشأن ورود لفظ الاستحسان فيها (ص 165)، كما أشار إلى كلام الشافعي في إبطال الاستحسان (ص 166).
هذه بعض المصادر التي نقل عنها أو أشار إليها، وسنرى فيما بعد أنه لم يقتصر على النقل والاقتباس، بل علَّق على كلّ نصّ بما يُؤيِّده أو يُفنِّده مع ذكر الدليل على ذلك.
• تحليل مباحث الكتاب ورأي المؤلف في الاستحسان
خصّص المؤلف هذا الكتاب لدراسة مبحث الاستحسان، فبيَّن معناه، وذكر اختلاف العلماء فيه، وفضَل القول في تحرير محل النزاع بينهم، وذكر أنواع الاستحسان عند القائلين به، وهل الاستحسان تخصيص العلة أم لا؟ ودرس تلك المسائل التي يقال إنها استحسان
(1)
العقود الدرية 25.
على خلاف القياس، وبيّن وجهَ ذم بعض الأئمة له تارةً والقول به أخرى، وجاء فيه بتحقيقات من عنده، ونظرات في هذا الموضوع لم يُسبَق إليها.
وقبل أن نقوم بتحليل هذه المباحث ودراسة آراء المؤلف فيها، ينبغي الإشارة إلى أن بعض الباحثين لم يتعرضوا لموضوع الاستحسان عند شيخ الإسلام
(1)
، بسبب عدم عثورهم على هذا الكتاب، وحاول آخرون أن يجمعوا نتفاً من كلامه من كتبه ورسائله، ومنهم الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي الذي توصل بعد دراستها إلى أن شيخ الإسلام جعل الاستحسان قسمين
(2)
:
1 -
الاستحسان بمجرد الرأي، وهذا يَرُده، ويعتبر القول به شرعاً في الدين بما لم يأذن به الله، ويعتبر كل استحسان خالف النصَّ بالرأي استحسانا باطلاً لا يجوز القول به ولا اعتباره.
2 -
الاستحسان لدليل، وهو العدول عن القياس لما هو أقوى منه، وهذا القسم يقول به ابن تيمية.
واستند في ذلك إلى قوله: "فنجد القائلين بالاستحسان الذين تركوا القياس لنمن خيراً من الذين طردو القياس وتركوا النص"
(3)
.
(1)
الدكتور صالح بن عبد العزيز آل منصور في رسالة الدكتوراه التي قُدِّمت إلى كلية الشريعة بجامعة الأزهر سنة 1396، وطبعت بعنوان "أصول الفقه وابن تيمية"(القاهرة 1400).
(2)
انظر: أصول مذهب الإمام أحمد 512 - 513 (الرياض 1397).
(3)
مجموع الفتاوى 4/ 46.
وأنه رُوي عن أحمد مسائل قال فيها بالاستحسان، ونقل جملة من تفسيرات الاستحسان، وذكر أن مردّ القول به إلى ترجيح أحد الدليلين على الآخر. ولم يعترض على شيء من ذلك حيث قال بعد نقل كلام الحلواني:"وهذا الكلام منه يقتضي أن الاستحسان ترجيح أحد الدليلين على الآخر، وهذا معنى قول القاضي. ولفظ الاستحسان يؤيد هذا، فإنه اختيار الأحسن، وإنما يكون في شيئين حسنين، وإنما يوصف القول بالحسن إذا جاز العمل به لو لم يعارض"
(1)
.
أما الأستاذ حمزة زهير حافظ فأشار أوّلاً إلى ذكر شيخ الإسلام لأمثلة الاستحسان التي وردت عن الإمام أحمد، ونسبة القول به إلى أصحاب أبي حنيفة، وإنكار الشافعي له، وعقّب عليه بقوله:"ولم يبين مقصد الشافعي من إنكاره"
(2)
.
ثم نقل عن المسودة كلام الحلواني السابق وتعليق شيخ الإسلام عليه، وقال: "كلام ابن تيمية هنا ينبّهنا على نقطة مهمة، وهي: أن تركنا للقياس في مواضع معينة لا يعني القدح في هذا الأصل الشرعي، بل إن القياس في المسألة التي تركناه فيها دليل قويٌ في نفسه، لولا أن جاء دليل أقوى منه، فقدمناه عليه. وهذا لا يقدح مطلقاً فيه. بل إن ابن تيمية أشار إلى أن اتباع القياس حسن، ولذلك وصف الدليل
(1)
المسودة 451 - 454.
(2)
الاستحسان بين المثبتين والنافين: 112 (رسالة ماجستير قدّمت إلى كلية الشريعة بجامعة الملك عبد العزيز بمكة المكرمة).
المعارض الذي يكون أقوى منه وصفه بأنه حسن"
(1)
.
ثم تعرّض لموضوع: هل الاستحسان من باب تخصيص العلة أم لا؟ ونقل عن المسوَّدة نصًّا في ذلك. وجاء باحث آخر، وهو الدكتور عمر بن عبد العزيز، فتوصل بعد دراسته لرسالة شيخ الإسلام في معنى القياس إلى أنه منع من إطلاق "المخالف للقياس" على ما ثبت شرعاً على الوجه المخصوص، وأن المسائل الفقهية التي قيل بمخالفتها للقياس بيَّن شيخ الإسلام موافقتَها له، ولكنّه بعد ذلك جعله من القائلين بالاستحسان، الذي يلتقي في بعض أنواعه مع المعدول به عن القياس، أو ما يسمى بالمخالف للقياس، واعتبر هذا موقفاً آخر، وحاول التوفيق بين الموقفين وقال: "إن اعترافه بالاستحسان وإنكاره للمخالف للقياس ينسجمان انسجاماً لا يشوبه شبهة التعارض
…
ذلك أنه إنما أنكر اسم "خلاف القياس" لما ثبت شرعاً، لإفضائه إلى اللوازم الستة التي سبق ذكرها، إذ كان فيه إشعار بثبات ذلك القياس بالنسبة لهذا الذي أفرد بحكم آخر بدليل شرعي آخر
…
أما الاستحسان فإنه يُشعِر بأن دور القياس المعدول عنه قد انتهى بالنسبة لهذا الذي أفرد بحكم، وأنه ما ينبغي أن يدخل هذا الفرد في نطاقه، ويأخذ حكمه، فلا يستلزم أيًّا من تلك اللوازم الستة الباطلة. أضف إلى، ذلك أن اسم الاستحسان يُشعِر بالمدح والثناء"!!
(2)
.
(1)
المصدر السابق: 113.
(2)
المعدول به عن القياس- حقيقته وحكمه وموقف شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية منه: 45 (المدينة المنورة 1408).
هذه آراء بعض الباحثين الممتازين في بيان موقف شيخ الإسلام من الاستحسان، حيث ذكروا أنه من القائلين به إذا كان الاستحسان لدليل، وهو العدول عن القياس لما هو أقوى منه، وأن الاستحسان هو اختيار الأحسن، وأن ترك القياس في مواضع معينة لا يعني القدح فيه، فإنّه يحرك لدليل أقوى منه. ولو أنهم اطلعوا على هذا الكتاب لعرفوا أن جميع ما توصلوا إليه خلاف ما قرَّره شيخ الإسلام هنا، وأن ما استنبِط من كلامه ليس رأيَه الصريح في هذه القضية، بل هو نقل عن الآخرين وتوجيهٌ لأقوالهم وبيان لما يقصدون إليه.
وسنعرض فيما يلي مباحث الكتاب لنعرف موقف شيخ الإسلام من الاستحسان ومن القائلين به والمانعين منه، ومدى موافقته لأحد الفريقين، وكيف ينظر إلى تلك المسائل التي قيل فيها: إنها استحسان على خلاف القياس.
بدأ المؤلف كتابه بخطبة الحاجة، وبيان سبب التأليف الذي سبق الحديث عنه، ثم ذكر التعريف المشهور للاستحسان وهو أنه مخالفة القياس لدليل، وبيَّن اختلاف العلماء فيه على ثلاثة مذاهب: فالظاهرية والمعتزلة والشيعة ينكرون هذا اللفظ مطلقا، وأبو حنيفة وأصحابه يقرّون به بهذا المعنى، ويجوّزون مخالفة القياس للاستحسان، ويعملون بالقياس فيما عدا صورة الاستحسان. والشافعي وأحمد ومالك وغيرهم يذمّون الاستحسان تارة ويقولون به تارةً. وكان الشافعي من أعظم الأئمة إنكاراَ له، وقد تكلم في إبطال الاستحسان وبسط القول في ذلك، ومع هذا فقد قال بلفظ الاستحسان في بعض
المواضع. ونُقِل عن أحمد أنه قال: "أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئا خلافَ القياس قالوا: نستحسن هذا وندع القياس. فَيَدَعُون الذي يزعمون أنه الحق بالاستحسان. وأنا أذهب إلى كل حديث جاء ولا أقيس عليه".
بيَّن المؤلف مراد أحمد من هذا القول، وهو أنه يستعمل النُّصوص كلَّها، ولا يقيس على أحد النصين قياساً يُعارضُ النص الآخر، كما يفعل الحنفية، حيث يقيسون على أحد النصين، ثمَّ يستثنون موضع الاستحسان إمّا لنصَّ أو غيره، فينقضون العلَّة التي يدّعون صحتها مع تساويها في محالّها. أمّا أحمد فيوجب طرد العلَّة الصحيحة، ويقول: إن انتقاضها مع تساويها في محالِّها يُوجب فسادها، وبالتالي فساد القياس المبنيّ على تلك العلة المزعومة. ثم شرح المؤلف الفرق بين المنهجين بذكر بعض الأمثلة على ذلك، وتوصَّل إلى أن منهجَ فقهاء الحديث كيحيى بن سعيد والشافعي وأحمد وغيرهم العملُ بالنّصين الواردين في المسألة، وعدمُ قياسِ أحدهما على الآخر قياساً يناقض الآخر، أو جعلُ أحدهما منسوخاً بالثاني.
بعد بيان هذا الفرق بين المنهجين ذكر المسائل التي قال فيها أحمد بالاستحسان، وأشار إلى أن أبا يعلى فهم منها ومن النص السابق عن أحمد أن المسألة على روايتين عنه: إبطال الاستحسان والقول به، وأنّ أبا يعلَى وأتباعَه كأبي الخطاب الكلوذاني وابن عقيل وغيرهما نصروا القولَ بالاستحسان كقول الحنفية، وفسّروه
كتفسيرهم، ووافقوهم في ذكر أنواعه، وهي: الاستحسان للكتاب، والاستحسان للستة، والاستحسان للإجماع، مع ذكر الأمثلة على ذلك.
انتقل المؤلف بعد ذلك إلى نقطة أخرى، وهي: هل الاستحسان تخصيص العلَّة؟ فنقل أوّلاً اختلاف العلماء في جواز تخصيص العلَّة ومنْعِه، ثمَ ذكر أن القاضي أبا يعلى وابن عقيل وغيرهما يمنعون تخصيص العلَّة مع قولهم بالاستحسان، وأن أبا الخطاب الكلوذاني يختار تخصيص العلَّة موافقةً للحنفية. ونقل نصوصاً من كتاب أبي يعلى وحجج الفريقين ومناقشاتها مع ذكر الأمثلة على ذلك. ثم ذكر قولاً ثالثا في هذا الموضوع، وهو تقديم النص وخبر الواحد على قياس الأصول عند من يقول بذلك في حالة التعارض بينهما. وقولاً رابعاً، وهو أنه يجوز تخصيص العلَّة المنصوصة دون المستنبطة.
وفي آخر هذا البحث ذكر أن النزاع بين الفريقين القائلين بجواز تخصيص العلة ومنعه إنما هو في علةٍ قام على صحتها دليل كالتأثير والمناسبة، وأما إذا اكتفي فيها بمجرد الطرد الذي يُعلم خلوُّه عن التأثير والسلامة عن المفسدات فكلهم متفقون على أن التخصيص يُبطِلُ تلك العلّة، وأنه لا عبرة بها عند أحد من العلماء.
رأينا أن المؤلف نقل إلى هنا آراء الآخرين ونصوصهم في هذا الباب، ولم يعلّق عليها إلاّ في موضع واحد عندما بين مراد الإمام أحمد من قوله السابق ذكره. ولما انتهى من سرد المذاهب والأقوال بدأ في المناقشة والنقد وإبداء رأيه في الخلاف الذي دار حول هذا
الموضوع، فذكر أن التحقيق في هذا الباب أن العلة قد تطلق على العلّة التامة المستلزمة لمعلولها بحيث يمتنع تخلف الحكم عنها، فهذه لا يتصور تخصيصها ونقضها، ومتى انتقضتْ بطلتْ. وقد يُراد بالعلّة ما كان مقتضيا للحكم، أي أن فيها معنًى يقتضي الحكم ويطلبه وإن لم يكن موجباً، وتُسمَى المؤثّرة أو المقتضية أوّلاً، فهذه إذا انتقضت لفرقٍ مؤثر يُفرق به بين صورة النقض وغيرها من الصور لم تَفسُد. فمن قال: إنّ العلة لا يجوز تخصيصها مطلقاً لا لفواتِ شرطٍ ولا لوجود مانعٍ فهو مخطئٌ قطعاً، وقوله مخالف لإجماع السلف، فكلهم يقولون بتخصيص العلّة لمعنًى يُوجِب الفرق.
ومورد النزاع في الاستحسان هو تخصيص العلّة بمجرّد دليلٍ لا يُبيِّن الفرقَ بين صورة التخصيص وغيرها، وهذه العلَّة إمّا أن تكون مستنبطةً أو منصوصةً:
أ- فإن كانت مستنبطةً وخُصَّت بنصٍّ، ولم يبيّن الفرق المعنوي بين صورةِ التخصيص وغيرِها، فهذا أضعف ما يكون. وهذا هو الذي كان يُنكرِه كثيراً الشافعي وأحمد وغيرهما على من يفعله من أصحاب أبي حنيفة. لأن العلَّة المذكورة لم تُعلَم صحّتُها إلاّ بالرأي، فإذا عارضَها النصُّ كان مُبطِلاً لها، والنصُّ إذا عارضَ العلَّة دلَّ على فسادِها، كما أنه إذا عارض الحكم الثابت بالقياس دلَّ على فساده.
ب- وإن كانت منصوصة، وقد جاء نصن بتخصيص بعض صُور العلَّة، فهذا مما لا ينكره أحمد والشافعي وأصحابهما. كما إذا جاء نصّ في صورة، ونصّ يخالفه في صورةٍ أخرى، لكن بينهما
شَبَهٌ لم يقم دليلٌ على أنه مناط الحكم، فهؤلاء يُقرّون النصوصَ، ولا يقيسون منصوصاً على منصوص يخالف حكمه. ولكن الذين يدفعون بعض النصوص ببعض يقولون: الصورتان سواءٌ لا فرقَ بينهما، فيكون أحد النصين ناسخاً للآخر. ومثل هذا كثيرا ما يتنازع فيه فقهاء الحديث ومخالفوهم ممن يقيس منصوصاً على منصوصٍ، ويجعل أحدَ النصين منسوخاً لمخالفته قياسَ النص الآخر.
وله أمثلة ذكر المؤلف كثيرا منها وقال: فهذا ونحوه من دفع النصوص البينة الصريحة بلفظ مجملٍ أو قياس هو مما كان ينكره أحمد وغيره.
بقيت صورة، وهي أن يجيء نصّان بحكمين مختلفين في صورتين، وهناك صُوَرٌ مسكوت عنها، فهل يقال: القياس هو مقتضى أحد النَّصين، فما سكتَ عنه نُلحِقه به وإن لم نَعرِف المعنى الفارق بينه وبين الآخر؟ فهذا هو الاستحسان المتنازع فيهْ الذي يقول به أصحاب أبي حنيفة وكثير من أصحاب أحمد. أما الآخرون فيقولون: لابدّ أن يُعلَم الجامع أو الفارق، فليس إلحاق المسكوت عنه بأحد النصّين أولى من إلحاقه بالآخر. وإذا عُلِم المعنى في أحد النصَّين ولم يعلم في الآخر، وجاز أن يكون المسكوت عنه في معنى هذا ومعنى هذا لم يُلحق بواحدٍ منهما إلاّ بدليل.
والتحقيق أنه إما أن يُعلَم استواء الصورتين في الصفات المؤثّرة في الشرع، وإما أن يُعلَم افتراقهما، وإمّا أن لا يُعلَم واحدٌ منهما.
ففي الحالة الأولى متى ثبت الحكم في بعض الصور دون بعض عُلِم
أن العلَّة باطلة، فإن الشارع حكيم عادل لا يفرّق بين المتماثلين، فلا تكون الصورتان متماثلتين ثم يخالف بين حكميهما. فإنْ علم أنّه فرَّق بينهما كان ذلك دليلاً على افتراقهما في نفس الأمر، وإن لم يُعرَف الفرق. وإن عُلِم أنه سوى بينهما كان ذلك دليلاً على استوائهما.
وإن لم يُعلَم هذا ولا هذا لم يجز أن يجمع ويُسَوّى إلاّ بدليلٍ يقتضي ذلك.
وأحمد إنما قال بالاستحسان لأجل الفارق بين صورة الاستحسان وغيرها، وهذا من باب تخصيص العلّة للفارق المؤثر، وأنكر الاستحسان إذا خُصَّت العلَّة من غير فارقٍ مؤثرٍ، فإن مثل هذا الاستحسان المعدول به عن القياس المخالف له يقتضي فرقاً وجمعاً بين الصورتين بلا دليل شرعي.
توضيح ذلك: أن القياس إذا لم ينصّ الشارع على عقته، ولكن رأى الرائي ذلك لمناسبة أو مشابهة ظنَّها مناط الحكم، ثمَ خص من ذلك المعنى صوراً بنص يعارضه كان معذوراً في عمله بالنصّ، لكن مجيء النصّ بخلاف تلك العلّة في بعض الصور دليل على أنها ليست علّةً تامةً قطعاً، فإنّ العلَّة التامة لا تقبل الانتقاض.
وإن كان مورد الاستحسان أيضًا معنى ظنه مناسباً أو مشابهاً، فانه يحتاج حينئذٍ إلى إثبات ذلك بالأدلة الدالة على تأثير ذلك الوصف. فلا يكون قد ترك القياس إلاّ لقياسٍ أقوى منه، لاختصاص صورة الاستحسان بما يوجب الفرق بينها وبين غيرها، فلا يكون حينئذٍ لنا استحسان يخرج عن نص أو قياس. وعلى هذا فلا يكون
الاستحسان الصحيح عدولاً عن قياس صحيح، والقياس الصحيح لا يجوز العدول عنه بحال. هذا هو الصواب كما قرَّره المؤلف في رسالته في معنى القياس أيضًا.
وتنبني عليها مسألة أخرى ذكرها الأصوليون وفضَل المؤلف الكلام حولها، وهي مسألة القياس على صور الاستحسان المعدول بها عن سنن القياس، وهي من جنس تخصيص العلَّة والاستحسان، فمن جوَّز التخصيص والاستحسان من غير فارق معنوي قال: المعدول به عن سنن القياس لا يجب أن يكون لفارقٍ معنوي، فلا يقاس عليه، وهم أصحاب أبي حنيفة. أما أصحاب مالك والشافعي وأحمد فقالوا: إذا عُرِف المعنى الفارق الذي لأجله ثبت الحكم فيها يجوز القياس عليها.
وما ذُكر فيه أنه خالف القياس في صور الاستحسان، فلابدّ أن يكون قياسه فاسداً، أو يكون تخصيصه بالاستحسان فاسداً إذا لم يكن هناك فارقٌ مؤثر. هذا هو الصواب في هذا الباب، وهو الذي ينكره الشافعي وأحمد وغيرهما على القائلين بالقياس والاستحسان الذي يخالفه، فإنهم لا يأتون بفرقٍ مؤثر بينهما.
وحقيقة هذا كلّه أنه قد يثبت الحكم على خلاف القياس في نفس الأمر، فمن يقول بالاستحسان من غير فارقٍ مؤثر، وبتخصيص العلة من غير فارق مؤثر، وبمنع القياس على المخصوص من جملة القياس-: يثبت أحكاماً على خلاف القياس الصحيح في نفس الأمر. وهذا هو الاستحسان الذي أنكره الشافعي وأحمد وغيرهما،
فهم تارةً ينكرون صحَّة القياس الذي خالفوه لأجل الاستحسان، وتارةً ينكرون مخالفة القياس الصحيح لأجل ما يدّعونه من الاستحسان الذي ليس بدليل شرعي، وتارةً ينكرون صحة الاثنين، فلا يكون القياس صحيحاً، ولا يكون ما خالفوه لأجله صحيحاً، بل كلاهما ضعيف.
وبعدما انتهى المؤلف من بيان حقيقة الخلاف في هذه القضية عقد فصلاً لدراسة تلك المسائل التي يدّعون فيها أنها تَثبُت على خلاف القياس الصحيح، أو أن العلَّة الشرعية الصحيحة خُصَّتْ بلا فرق شرعي من فوات شرط أو وجود مانع، أو أن الاستحسان الصحيح يكون على خلاف القياس الصحيح من غير فرق شرعي.
فذكر أن الأمر بخلاف ذلك كما قاله أكثر الأئمة: الشافعي وأحمد وغيرهما، وإن كان الواحد من هؤلاء قد يُناقض نفسه أيضًا فيخصّ ما يجعله علَّةً بلا فارق مؤثر، كما أنه يقيس بلا علّةٍ مؤثرة.
وكان قصده من ذلك ضبط الأصول الكلية المطردة المنعكسة، وبيان أن الشريعة يى فيها تناقض أصلاً، والقياس الصحيح لا يكون خلافه إلاّ تناقضا. وبعد دراسة كل مسألة من هذه المسائل الاستحسانية ذكر أنها ليست مخالفةً للقياس أصلاً، أو أن هناك فرقاً مؤثراً، أو أن الاستحسان فيها ليس صحيحاً بسبب عدم وجود فارق مؤثر.
هذا تحليل موجز لمباحث الكتاب، وخلاصة رأي المؤلف في الاستحسان، وبهذا نعرف أنه تناول هذه المسألة بطريقةٍ جديدة، ولم يوافق على ما قاله عامة الأصوليين إنّ الخلاف فيها لفظي، فقد حرّر
وجه النزاع بين القائلين بالاستحسان والمانعين منه، وبيّن سبب ذم بعض الأئمة له ثم القول به في بعض المسائل، وقرَّر أن الاستحسان الصحيح لا يمكن أن يكون على خلاف القياس الصحيح، وأن القياس الصحيح لا يجوز العدول عنه بحال.
• قيمته العلمية
تظهر قيمة الكتاب العلمية عندما يوضع في قائمة الكتب والدراسات التي تتعلق بموضوع معين، والتي تُرتّب تاريخيًّا حسب تأليفها وظهورها، ثم يقارن بينه وبين غيرها من حيث الجدّة والأصالة والابتكار. فكل كتاب يحتوي على آراء جديدة مع الاحتجاج لها، ومناقشات تدل على شخصية المؤلف، بمنهج علمي متميز، وأسلوب طريف مثير-: يُنسَب إليه فضلُ السبق، ويُعترَف لمؤلفه بالإمامة، ويكون موضع العناية والاهتمام من قبل المؤلفين والباحثين. والكتب التي تكون على العكس من ذلك مهما بلغت شهرتها وكثرت نسخها الخطية والمطبوعة، لا يخفى ضعف قيمتها على النقّاد، وزيفها وانتحالها- أحياناً- على المدقّقين الذين يقومون بالموازنة بينها وبين غيرها.
ونحن إذا نظرنا إلى هذا الكتاب نجد أن المؤلف جاء فيه برأي جديد في الموضوع لم يُسْبَق إليه، ورد على من يقول: إن في الشريعة أحكاماً على خلاف القياس مبنية على الاستحسان، كما سبق تفصيله وبيان وجهة نظره فيما مضى. وعلى هذا فتكون للكتاب قيمة علمية كبيرة تجعله من أهم الكتب التي ألّفت في هذا الباب، لتميزه
وأصالته ونقده للرأي السائد في الموضوع.
• أثره
مضى على تأليف هذا الكتاب سبعة قرون، وبقي بصورة المسوّدة التي وصلتنا. ولعلها لم تُبيض، فلا نجد من الكتاب نسخة أخرى في فهارس المخطوطات التي بين أيدينا. ولا نعرف مؤلفاً رجع إليه أو اقتبس منه إلاّ العلّامة ابن القيم في كتابه "بدائع الفوائد"(4/ 124 - 126)، ولكنه لم ينقل الفكرة الأساسية، التي بنى عليها المؤلف كتابه، ولم يذكر منه إلاّ تعريف الاستحسان وأنواعه عند القائلين به، والمسائل التي قال فيها الإمام أحمد بالاستحسان، وقوله في رواية أبي طالب:"أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئا خلاف القياس قالوا: نستحسن هذا وندع القياس، فيدعون الذي يزعمون أنه الحق بالاستحسان" هل يَدُلّ على إبطال الاستحسان أم لا؟ وتعليق المؤلف على كلام أبي يعلى وأتباعه في المراد من هذا القول.
وهذه المباحث كلها في بداية الكتاب، وتعتبر تمهيداً للدخول في الغرض الأساسي من تأليفه، وهو بيان حقيقة الاستحسان الذي يقول به الحنفية ويمنعه الإمام الشافعي وأحمد وغيرهما من فقهاء الحديث، ودراسة المسائل التي نُسِبَ إليهم فيها القول بالاستحسان مع ذمهم له، وهل هي مخالفة للقياس كما قيل؟
ولو أن ابن القيم نقل هذا الكتاب بكامله كما فعل مع رسالة
أخرى لشيخه في معنى القياس في "إعلام الموقعين"(1/ 383 - 401، 2/ 3 - 38)، واطلع عليه المؤلفون في الأصول، لكان له أثر كبير في كتاباتهم حول هذا الموضوع. ولكنهم لم يعرفوا الكتاب والنصوص المقتبسة منه، فلم يفيدوا منه شيئا.
أما الباحثون المحدثون فلم يعرفوه كذلك لكونه مجهول العنوان والمؤلف. ولعلّ نشره يثير هممهم، فيدرسون في ضوئه موقف شيخ الإسلام من الاستحسان، ومنهجه في تناول هذا الموضوع، ويصلون به إلى حقيقة الخلاف بين أهل الرأي وأهل الحديث في هذا الباب. وأتوقع أن يكون لهذا الكتاب أثر طيب في المستقبل إن شاء الله.
• وصف النسخة الخطية
توجد في دار الكتب الظاهرية بدمشق مجموعة برقم [91 مجاميع] تحتوي على أكثر من ثلاثين رسالة وكتاباً معظمها لشيخ الإسلام ابن تيمية، وبعضها لغيره، منها:
- أوّل كتاب "إثبات صفة العلو" لابن قدامة (ق 21 - 22)
- الجزء الأول من حديث أبي عبد الله محمد بن مخلد الدوري (ق 36 - 44)
- الجزء التاسع من الفوائد المنتقاة من حديث أبي الحسن علي ابن أحمد بن عمر بن حفص المقرئ الحمامي عن شيوخه (ق 203 - 210)
- قطعة من كتاب "السنن" للأثرم (ق 213 - 220)
- ثبت لأحد تلاميذ البرزالي والمزي (ق 293 - 307)
- رسالة في الاستعاذة (نقلَا من أوّل تفسير الرازي)(ق 309 - 324) وماعداها من تأليف شيخ الإسلام، وبعضها بخطه، ولا توجد على أكثرها عناوين، ولذا فنحن نشير إلى الأوراق التي هي بخطه دُون ذكر عناوينها، لأنها تحتاج إلى دراسة متأنية، ومقابلتها على مؤلفاته ورسائله المطبوعة، والرجوع إلى القوائم الأساسية التي أشرنا إليها لمعرفة عناوينها الصحيحة. وهذه الأوراق هي:(1 - 8، 53 - 78، 119 - 137، 150، 157 - 164. 165 - 181، 182 - 183، 184 - 188، 189 - 191، 263 - 266، 325 - 333). أما الرسائل الأخرى فقد كتبت بخطوط مختلفة، وبعضها ناقصة الأول والأخير، وترتيب الأوراق في بعض المواضع منها مضطرب.
ونسخة هذا الكتاب الذي بين أيدينا تقع في آخر هذه المجموعة النفيسة التي لا تقدّر بثمن (ق 325 - 333). وهي مسوّدة المؤلف نفسه، ولعلّها لم تبيَّض فبقيت مسوّدة كما كتبتْ لأول مرة. وقد ذكر البرزالي
(1)
أن لشيخ الإسلام تصانيف كثيرة وتعاليق مفيدة
(1)
كما نقل عنه ابن عبد الهادي في العقود الدرية 373 وابن كثير في البداية والنهاية 14/ 137.
في الأصول والفروع، ثم قسمها ثلاثة أقسام، وقال:
1 -
كَفَلَ منها جملة، وبُيضَتْ وكُتِبتْ عنه، وقُرِئتْ عليه أو بعضها.
2 -
وجملة كبيرة لم يُكَملْها.
3 -
وجملة كَملَها، ولم تُبيضْ إلى الآن.
وبعد دراسة هذه النسخة نستطيع أن نقول: إنها من القسم الثالث، فإنّنا لم نعثر على نسخة أخرى من الكتاب في أي مكتبة، ومما يؤيد ذلك أن المؤلف شطب فيها على كثير من الكلمات والعبارات وأبدلها بغيرها، وأضاف إليها تعليقات واستدراكات طويلة في هوامش بعض الصفحات من جميع الجهات. ومن أغرب هذه الإضافات ذلك الاستدراك الطويل في الورقة (331 أ) الذي يستمرّ في هوامش الصفحة، ثم ينتقل الكلام إلى هوامش الصفحة الماضية (330 ب) ثم هوامش الصفحة التي قبلها (330 أ)، وينتهي بالسطر الذي كتبه المؤلف معكوساً، للدلالة على أن ما فيه نهاية لهذا التعليق الطويل، وليس مرتبطاً بالكلام الموجود بداخل الحوض في تلك الصفحة، ولعلّ هذا التعليق كتب بعد الانتهاء من تأليف الكتاب.
لا تُوجد لهذه النسخة صفحة عنوان، ولا كتب المؤلف عنوان الكتاب بخطه (كما ذكرنا ذلك في تحقيق عنوان الكتاب)، ولا توجد لها خاتمة يُذكَر فيها عادة اسم الناسخ أو المؤلف وتاريخ النسخ أو التأليف.
هذه المسوّدة وغيرها من الكتب التي وصلت إلينا بخط شيخ الإسلام يقع القارئ أو المحقق بإزائها في حيرة، فهو يكتب غالباً بدون نقطٍ وإعجام، ولايميّز الحروف بداخل الكلمة ويمزج بعضها ببعض، ويكتب بسرعة وفي غاية التعليق والإغلاق، حتى عجز كثير من أصحابه عن نقله (كما سبق ذكره فيما مضى). فقراءة كل كلمة فيه تحتاج إلى تقليبها على الوجوه الممكنة، ولا مساعد في ترجيح أحد الوجوه على غيرها إلاّ السياق والموضوع. فالباء والتاء والثاء والفاء والقاف والنون والياء في بداية الكلمات تكتب عنده بطريقة واحدة تقريباً، و"من" و"في" تتشابهان في مواضع كثيرة، ويكتب "الذي" و"الذين" و"الدين" برسم واحدٍ تقريبا، ويُسقِط بعض الحروف من الكلمة، فمثلاً كلمة "القهقهة" كتبها مرتين "القهقه".
ويتبع الرسم القديم في كتابة كثير من الكلمات بحذف الألف أو الهمزة أو غيرهما، مثل: صلح (صالح)، السلم (السلام)، يحتج (يحتاج)، مسله (مسألة)، ادعا (ادّعى)، صلوته (صلاته)، اسحق (إسحاق)، وحا (وجَاءا)، العا معنا (ألغَى معنًى)، ثلثه (ثلاثة)، ملك (مالك)، فيعطا (فيُعطَى)، واحراه (وإجراؤه). ولا تظهر الميم عنده إذا وقعت تِلْوَ حرف الباء أو التاء أو الياء ونحوها، فيكتب "اتها"(= أتمَّها)، "انا"(= إنّما)، " ائه "(- أئمة)، "الا"(= الماء)، (الحظور" (= المحظور)، الانع (= المانع) وغيرها.
هذه بعض الأمثلة لطريقة كتابته للكلمات، ويكفي القارئ أن يلقي نظرةً على نماذج من الأصل، ويتأمل فيها بنفسه، ويبذل مجهوده
في قراءتها، ويقارن بينها وبين قراءتي لها.
ولا يخفى أن نسخة الكتاب بخط المؤلف تُوفِّر على المحقّق الوقتَ والجهد في جمع النسخ ودراستها والمقابلة بينها ومعرفة علاقة بعضها ببعض. ولكن المخطوطة التي نحن بصددها زادت مشاكلها فوق ما كنت أتصور، وكان تقديم نصٍّ سليم لها من أصعب الأمور، وقد بذلتُ كلّ ما في وسعي لقراءتها قراءة صحيحةً، ونَسْخِها ملتزماً الرسمَ الإملائي الحديث، ولم أزد إلاّ النقط والإعجام والفواصل والهمزات وتغيير الفقرات، وأبقيت الكلمات التي يبدو أنّ فيها خطأ إعرابيًّا أو صرفيًّا كما هي، وأشرتُ إليها في التعليق. أما الكلمات والعبارات التي شطب عليها المؤلف وأبدلها بغيرها فلم أنبِّهْ إليها، لأنها كثيرة في هذه المسوَّدة، ولا فائدة من ذكرها.
وفي الختام أرجو أنني قد وُفِّقتُ في قراءة هذه المسوَّدة قراءةً سليمة، وأدعو الله أن ينفع بها الباحثين في علم الأصول خاصة، والقرّاء والمثقفين عامة، إنه سميع مجيب.
محمد عزير شمس
نماذج من الأصل
نصّ الكتاب
الحمد لله، نستعِينُه ونستغفِرُه، ونعوذ بالله من شُرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، من يَهدِه الله فلا مُضِل له، ومن يُضلِلْ فلا هاديَ له، ونشهد أن لا إله إلاّ الله وَحْدَهُ لا شريكَ له، ونشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وسَلَّم تسليماً.
فصلٌ في الاستحسانِ وتخصيصِ العلَّة، وموضع الاستحسانِ هل يُقاسُ عليه أم لا، وما يرد من الأحكامِ الثابتةِ بالنصّ والإجماع ويُقالُ: إنها مخالِفةٌ للقياس. فإن هذه قواعدُ كَثرُ اضطرابُ الناسِ فيها، والحاجةُ ماسَّةٌ إلى تحقيقها في كثير من مسائلِ الشريعةِ أصولها وفروعِها.
أما الاستحسان فالمشهور من معانيه أنه مخالفةُ القياسِ لدليلٍ
(1)
، وقد يُرادُ به غيرُ ذلك
(2)
. والعلماء في لفظه ومعناه المذكور على
(1)
وهو ما عبَّر عنه أبو الحسن الكرخي بقوله: "الاستحسان هو أن يعدل الإنسان عن أن يحكم في المسألة بمثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه، لوجه هو أقوى من الأول يقتضي العدول عن الأول ". (المعتمد لأبي الحسين البصري 2/ 840. ونحوه عن الكرخي في أصول السرخسي 2/ 200 والتبصرة للشيرازي 493 وشرح اللمع له 2/ 969 والوصول إلى الأصول لابن برهان 2/ 321 والإحكام للآمدي 4/ 137 والبحر المحيط للزركشي 6/ 91). وقال الجصاص: هو ترك القياس إلى ماهو أولى منه (الفصول في الأصول: ق 294 ب). وقال أبو زيد الدبوسي: هو اسمٌ لضرب دليل يعارض القياس الجلي (تقويم الأدلة: ق 225 ب). ويراجع: أصول البزدوي بشرحه كشف الأسرار 3/ 4 وأصول السرخسي 2/ 200.
(2)
انظر تعريفات أخرى للاستحسان في المصادر السابقة وفي الحاوي=
ثلاثة أقوال:
منهم من ينكر هذا اللفظ مطلقاً، وهم نُفاةُ القياسِ، كداود وأصحابه
(1)
، وكثير من أهل الكلام من المعتزلة والشيعة وغيرهم، فليس عندهم في أدلَّة الشرع لا قياس ولا استحسان.
ومنهم من يُقِر به بهذا المعنى، ويُجوِّز مخالفةَ القياس للاستحسان، ويعمل بالقياس فيما عدا صورة الاستحسان. وهذا هو المعروف عن أبي حنيفة وأصحابه
(2)
.
= للماوردي 11/ 636 والتلخيص للجويني 3/ 310 والمستصفى 1/ 275 والمحصول 3/ 2/166؛ والعدة لأبي يعلى 5/ 1607 والتمهيد للكلوذاني 4/ 92 والواضح لابن عقيل 1/ 144 ب وشرح مختصر الروضة 3/ 191؛ وإحكام الفصول للباجي 687 وشرح تنقيح الفصول للقرافي 451 والموافقات 4/ 116 والاعتصام 2/ 142 وغيرها.
(1)
عقد ابن حزم بابا في إبطال الاستحسان في كتابه الإحكام في أصول الأحكام 6/ 16 - 21، واختصره في كتابه ملخص إبطال القياس والرأي 50 - 51.
(2)
إذا كان الاستحسان عند الأحناف هو ترك القياس إلى ما هو أولى منه، أو العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل شرعي (كما سبق)، فمن الغريب حقًّا أن يذكروا مسائل فيها قياس واستحسان، أخذوا فيها بالقياس وتركوا الاستحسان. وهي إحدى عشرة مسألة نقلها أمير كاتب الإتقاني من كتاب الأجناس للناطفي، مخطوطة في مكتبة لاله لي برقم 690 (ق 260 ب- 261 أ). وبعدما ذكر السرخسي في أصوله 2/ 204 - 206 ثلاثاً منها وحاول توجيهها قال:"وهذا النوع يعز وجوده في الكتب، لا يوجد إلاّ قليلا".
ومنهم من ذمَ الاستحسان تارةً، وقال به تارةً، كالشافعي وأحمد بن حنبل ومالك وغيرهم، ففي كتب مالك وأصحابه ذِكر لفظِ الاستحسان في مواضع
(1)
. والشافعيّ قال: من استحسن فقد
(1)
روى أصبغ عن ابن القاسم عن مالك أنه قال: "تسعة أعشار العلم الاستحسان"(الإحكام لابن حزم 6/ 16 والموافقات 4/ 118 والاعتصام 2/ 138). وواضح أنه لم يقصد به الاصطلاح، بل أراد- كما ذكر محمد بن خويز منداد-: القول بأقوى الدليلين، فالذي يذهب إليه هو الدليل، إن كان يسميه استحساناً. (إحكام الفصول 686). وقد نقلت عن الإمام مالك مسائل معدودة قال فيها بالاستحسان ولم يُسبَق إليها، منها: الشفعة في الثمار (المدونة 14/ 134)، والشفعة في الدار المشتركة التي أقيمت في الأرض المحبوسة (المدونة 14/ 109)، والقصاص في الجرح العمد بالشاهد واليمين (المدونة 6/ 216، 217)، وأن عقل الأنملة من الإبهام نصف عقل الإصبع (المدونة 16/ 116 والمنتقى 6/ 92). ولعل الإمام كان يعني هذه المسائل الاستحسانية حين قال في رواية القعنبي:"ليتني جُلِدتُ بكل كلمة تكلمتُ بها في هذا الأمر بسوط ولم يكن فرطَ مني ما فرط من هذا الرأي، وهذه المسائل قد كانت لي سعة فيما سُبقتُ إليها". (جامع بيان العلم وفضله 2/ 145). ولا نجد للاستحسان آثراً بارزاً في أصول الفقه عند المالكية، فبعضهم نسبه للحنفية والحنابلة فقط، ثم نفاه وأبطله، واعتبر النزاع فيه لا طائل تحته، وبعضهم ربطه بالمصالح المرسلة. (انظر: إحكام الفصول 687 - 689 وأحكام القرآن لابن العربي 2/ 746 ومختصر ابن الحاجب بشرح العضد 2/ 288 والموافقات 4/ 116 - 118 والاعتصام 2/ 137 - 150).
شَرَّعَ
(1)
، وتكلَّم في إبطالِ الاستحسانِ، وبسطَ القولَ في ذلك
(2)
. وكان من أعظم الأئمة إنكاراً له، وهو الذي عليه أصحابه في أصول الفقه. ومع هذا فقد قال بلفظ الاستحسان، كما قال: أستحسن أن تكون المتعةُ ثلاثين درهما"
(3)
. ولهذا حُكِيَ للشافعي في الاستحسان قولان: قديم وجديد.
وكذلك أحمد بن حنبل، نقل عنه أبو طالب
(4)
أنه قال: أصحاب أبي حنيفة إذا قالوا شيئا خلافَ القياسِ قالوا: نستحسنُ هذا
(1)
كذا نُقل عنه في عامة كتب الأصول. وقد قال في الرسالة: "إنما الاستحسان تلذذ"(ص 507)، و"أنّ حراماَ على أحدٍ أن يقول بالاستحسان إذا خالف الاستحسان الخبر"(ص 504).
(2)
في كتاب إبطال الاستحسان من الأم 7/ 267 - 277 (ط. بولاق) وأحكام القرآن له 1/ 264.
(3)
الأم 5/ 62، 7/ 235 وأحكام القرآن للشافعي 1/ 201. ومن المسائل التي قال فيها الشافعي بالاستحسان: ثبوت الشفعة إلى ثلاثة أيام (الأم 3/ 231 ومختصر المزني بهامشه 3/ 47)، وترك شيء من الكتابة (الأم 7/ 362، 364 ومختصر المزني 5/ 275)، وأن لا تُقطع يُمنى سارقٍ أخرج يدَه اليسرى فقُطعت (الأم 6/ 133، 139 ومختصر المزني 5/ 169)، وانظر مسائل أخرى في: الحاوي للماوردي 16/ 166 والبحر المحيط للزركشي 6/ 95 - 97 ورفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب للسبكي 2/ق 374.
(4)
هو أحمد بن حميد المشكاتي، صحب الإمام أحمد، وروى عنه
مسائل كثيرة، وكان أحمد يكرمه ويعظمه. توفي سنة 244. (طبقات
الحنابلة 1/ 39).
ونَدَعُ القياسَ. فَيَدَعُون الذي يزعمون أنه الحق بالاستحسان. قال: وأنا أذهبُ إلى كل حديث جاءَ، ولا أقيسُ عليه
(1)
.
قال القاضي أبو يعلى
(2)
: وظاهر هذا يقتضي إبطالَ القولِ بالاستحسان، وأنه لا يُقاسُ المنصوصُ عليه على المنصوص عليه.
قلت: مراد أحمد أنّي أستعمل النصوصَ كفَها، ولا أقيس على أحد النصينِ قياسا يُعارِضُ النصَّ الآخر، كما يَفعلُ مَن ذكرَه، حيث يقيسون على أحد النصّينِ، ثم يستثنون موضعَ الاستحسان إما لنص أو غيرِه، والقياسُ عندهم يُوجبُ العلَّة الصحيحة، فيَنْقُضون العلَّةَ التي يدعون صحتها مع تساوِيْهاَ في مَحَالها./
وهذا من أحمدَ يُبين أنه يُوجِب طردَ العلَّةِ الصحيحة، وأنّ انتقاضَها مع تَساوِيْها في مَحالها يُوجب فسادَها. ولهذا قال: لا أقيسُ على أحدِ النصينِ قياساً يَنقضُه النص الآخر، فإنّ ذلك يدكُ على فساد القياس.
وهو يستعمل مثل هذا في مواضع، مثل حديث أم سلمة وفيه
(1)
انظر: العدّة 5/ 1605 والتمهيد للكلوذاني 4/ 89 والمسودة 452.
(2)
في العدة 5/ 1605. وعلق عليه أبو الخطاب الكلوذاني في التمهيد 4/ 89 بعدما نقل كلام شيخه أبي يعلى: وعندي أنه أنكر عليهم الاستحسان من غير دليل، ولهذا قال: يتركون القياس الذي يزعمون أنه الحق بالاستحسان. فلو كان الاستحسان عن دليلِ ذهبوا إليه لم يكره، لأنه حق أيضًا. وقال: أنا أذهب إلى كل حديث جاء، ولا أقيس، معناه: أني أترك القياس بالخبر.
قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أرادَ أحدُكم أن يُضَحيَ ودخلَ العَشْرُ فلا يَأْخُذْ مِنْ شَعرِه ولا مِن بَشرَتِه شيئاً"
(1)
، مع حديث عائشة: كنتُ أَفْتِلُ قلائدَ هَدْي رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ثم يَبْعَثُ به وهو مُقيم، فلا يَحْرُمُ عليه شيء ممّاَ يَحْرُمُ على المُحْرِم
(2)
.
والناس في هذا على ثلاثة أقوال:
منهم من يُسوي بين الهَدْيِ والأضْحية في المنع، ويقول: إذا أرسل المُحْرِمُ هَدْيا لم يَحِل حتى يَنْحَر، كما يُروى عن ابن عباس
(3)
وغيره.
ومنهم من يُسوي بينهما في الإذن، ويقول: بل المضحّي لا يُمنَع عن شيء كما لا يُمْنَع المُهْدِيْ، فيقيسونَ على أحدَ النصينِ ما يعارضُ الآخر.
وفقهاء الحديث كيحيى بن سعيد والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم عملوا بالنصين، ولم يَقِيْسُوا أحدهما على الآخر، كما أن الله لمّا أحلَّ البيعَ وحرمَ الربا
(4)
لم يَقِسِ المسلمون أحدَهما على
(1)
أخرجه مسلم (1977) وأبو داود (2791) والترمذي (1523) والنسائي 7/ 211، 212 وابن ماجه (3149).
(2)
أخرجه مالك في الموطأ 1/ 340، 341 ومن طريقه البخاري (1700، 2317) ومسلم (1321).
(3)
الرواية عنه في المصادر السابقة في الحديث المذكور. وانظر السنن الكبرى للبيهقي 5/ 234.
(4)
في قوله تعالى: (وأحل الله البيع وحرم الربا)[البقرة: 275].
الآخر، وإنما هذا قياس المشركين. وكذلك لمّا أحل المُذَكَى وحَزَم الميتةَ
(1)
لم تقِيسُوا أحدَهما على الآخر، بل هذا قياسُ المشركين
(2)
.
وكذلك لما جاء
(3)
الكتابُ والسنةُ بالقُرْعَة
(4)
، وجاءا بتحريم القمار
(5)
لم يقيسوا هذا على هذا، بل أجازوا القُرعةَ، وحزَموا
(1)
في الآية الثالثة من سورة المائدة.
(2)
ذكر المؤلف هذين المثالين في مجموع الفتاوى 20/ 539. 540 فقال: الشرع دائما يُبطل القياس الفاسد، كقياس ابليس، وقياس المشركين الذين قالوا: إنما البيع مثل الربا، والذين قاسوا الميت على المذكَى وقالوا: أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ فجعلوا العلة في الأصل كونه قتلَ آدمي. ونحوه في مجموع الفتاوى 19/ 287.
(3)
كتب المؤلف أولَا: "جاءت السنة بالقرعة"، ثم شطب على "السنة بالقرعة" وكتب:(الكتاب والسنة بالقرعة)، وبقيت "جاءت" بالتاء.
(4)
قال تعالى: (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ)[آل عمران: 44]. ومن الأحاديث الواردة في القرعة: حديث عائشة الطويل الذي أخرجه البخاري (4750 ومواضع أخرى) ومسلم (2770) وفيه: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج أقرعَ بين أزواجه، فائتُهن خرج سهمها خرج بها رسول الله سيَئ معه".
(5)
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(المائدة:90). وانظر: أحكام القرآن للشافعي 2/ 157 والأم 7/ 336. ومن الأحاديث الواردة في تحريم القمار: حديث أبي هريرة الذي أخرجه البخاري (4860) ومسلم (1647)، وفيه: "من قال لصاحبه تعالَ أقامِرْكَ فليتصدقْ ". قال الذهبي في كتاب الكبائر 167: "فإذا كان مجرد القول معصية موجبةً=
المَيْسِرَ والاسْتِقْسَام بالأزْلَام، بخلاف من جَعلَ القرعةَ من القِمارِ أو من الاستقسام بالأزلام، ولم يُعلّق بها حكماً. وأحمد أكثر الفقهاء عملاً بالقرعة
(1)
، لما كان عنده فيها من النصوص والآثار.
وكذلك عند أحمد وغيره من فقهاء الحديث لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناسَ إذا صَلَّى الإمامُ قاعداً أن يُصَلُّوا قُعوداً أجمعينَ
(2)
. ثم لمَّا افتتحوا الصلاةَ قياماً أتَمَّها بهم قياما"
(3)
. عمل بالحديثين، ولم يَقِسْ على أحدهما قياساً يُناقِضُ الآخرَ ويجعلُه منسوخا"
(4)
، كما فعل
= للصدقة المكفّرة، فما ظنُّك بالفعل؟! وهو داخل في أكل المال بالباطل".
(1)
منه قوله بالقرعة بين الزوجات عند السفر (المغني 7/ 40)، وبين الزوجات في الطلاق المبهم (المغني 7/ 251)، وبين الناس في قسمة السهام (المغني 9/ 123)، وبين رجلين إذا ادَّعيا لقطة (المغني 5/ 646)، وبين المعتَقين عن دبر (المغني 9/ 358).
(2)
أخرجه مالك في الموطأ 1/ 135 ومن طريقه البخاري (689) ومسلم (411) عن أنس بن مالك. وفي الباب عن عائشة وأبي هريرة، وكلاهما متفق عليه.
(3)
أخرجه البخاري (687) ومسلم (418) من حديث عائشة في قصة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه، وفيه:"فجعل أبو بكر يصلّي وهو قائم بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم، والناس بصلاةِ أبي بكر، والنبي صلى الله عليه وسلم قاعد".
(4)
قال ابن قدامة في المغني 2/ 222: "أشار أحمد إلى أنه يمكن الجمع بين الحديثين بحمل الأول على من ابتدأ الصلاة جالساً، والثاني على ما إذا ابتدأ الصلاة قائما ثم اعتل فجلس. ومتى أمكن الجمع بين الحديثين وجب ولم يحمل على النسخ".
طائفةٌ من الفقهاء، كالشافعي
(1)
والحميدي
(2)
وغيرهما
(3)
. واستدل هو وغيره بأن الصحابة بعده لفَا صَلَّوا جلوساً أمروا مَن خلفهم بالجلوس، وقد شهدوا صلاته في آخر عمره، مثل أُسَيْدِ بن الحُضير
(4)
، وهو من أفضل السابقين الأولين من الأنصار، وقد فعل ذلك في عهد أبي بكر، فإنه قُتِلَ في قتالِ المرتدّين من حنيفة أتباعِ مُسيلمة الكذاب
(5)
./
(1)
قال في الرسالة 254 بعدما ذكر الحديثين: "فلما كانت صلاة النبي في مرضه الذي مات فيه قاعداً والناسُ خلفه قياماً-: استدللنا على أن أمْرَه الناسَ بالجلوس في سقطتِه عن الفرس، قبلَ مرضه الذي مات فيه، فكانت صلاته في مرضه الذي مات فيه قاعداً والناس خلفَه قياما-: ناسخةً لأن يجلس الناسُ بجلوس الإمام ". وانظر: الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي: 111 - 114.
(2)
نقل البخاري قول الحميدي عقب الحديث (689) من صحيحه.
(3)
في الأصل: "وغيره ".
(4)
قال الحافظ في الفتح 2/ 175: "قد أمَّ قاعداً جماعةٌ من الصحابة بعده صلى الله عليه وسلم، منهم أسيد بن حضير وجابر وقيس بن قهد وأنس بن مالك، والأسانيد عنهم بذلك صحيحة أخرجها عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم، بل ادعى ابن حبان وغيره إجماع الصحابة على صحة إمامة القاعد". وانظر: مصنف عبد الرزاق 2/ 462 ومصنف ابن أبي شيبة 2/ 326، 327 والسنن الكبرى للبيهقي 3/ 78 وبعدها، والمغني 2/ 225. وقد قرر المؤلف في مجموع الفتاوى 23/ 249 و 405، 406 ما قرره هنا.
(5)
قلت: هذا غريب، فقد توفي أسيد بن الحضير في عهد عمر بن-
وقد قال أحمد بالاستحسان المخالف للقياس في مواضعَ، كقوله في رواية صالح
(1)
في المضارب: إذا خالفَ فاشترَى غَيْرَ ما أَمَرَ به صاحب المال، فالرِّبْحُ لصاحب المال، ولهذا أُجْرَةُ مثلِه، إلاّ أن يكون الربحُ يُحيطُ باجرةِ مثلِه فيَذْهَبَ. وكنتُ أذهبُ إلى أنَّ الربحَ لصاحب المال، ثم اسْتَحْسَنْتُ
(2)
.
= الخطاب سنة 20 أو 21، ولم أجد من ذكر مشاركته في قتال المرتدين من بني حنيفة، فضلاً عن وفاته فيه. (انظر: طبقات ابن سعد 3/ 603 والاستيعاب 1/ 175 والإصابة 1/ 49 وسير أعلام النبلاء 1/ 340 والمصادر المذكورة بهامشه). ثم راجعت كتب التاريخ في قصة قتل مسيلمة الكذاب باليمامة والأحداث التي جرت بين حزبه وبين المسلمين سنة 11، فلم أجد فيها ذكراً لأسيد. (انظر: تاريخ الطبري 3/ 281 - 301 والفتوح لابن أعثم 1/ 26 - 40 [ط. بيروت] والمنتظم 4/ 79 - 83 والبداية والنهاية 6/ 323 - 327). وسرد ابن الأثير في الكامل 2/ 248 - 249 أسماء أكثر من أربعين شخصاً من المسلمين قُتِلوا باليمامة، ليس من بينهم أسيد.
(1)
هو ابن الإمام أحمد، يكنى أبا الفضل. توفي سنة 266. (طبقات الحنابلة 1/ 173).
(2)
النص في مسائل الإمام أحمد رواية صالح 1/ 448 بغير هذا اللفظ، ففيه:"وسألته عن المضارب إذا خالف، قال: بمنزلة الوديعة، عليه الضمان، والربح لرب المال إذا خالف، إلاّ أن المضارب أعجبُ إليَ أن يُعطى بقدر ما عمل". وفي مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود 199: "سمعتُ أحمد سُئل عن المضارب إذا خالف، قال: يختلفون فيه". والنص- كما هنا- نقله المؤلف من العدّة 5/ 1604، ونقله ابن القيم في بدائع الفوائد 4/ 124 عن المؤلف، وهو كذلك في الواضح=
وقال في رواية الميمونيّ
(1)
: أَسْتَحْسِنُ أن يَتَيَمَّم لكلِّ صلاةٍ، ولكنّ القياسَ أنه بمنزلةِ الماءِ حتى يُحدِثَ أو يَجِدَ الماءَ
(2)
.
وقال في رواية الْمَرُّوْذِيّ
(3)
: يجوزُ شِرَى
(4)
أرضِ السَّوَادِ
(5)
،
= لابن عقيل 1/ 144 أ، والمسودة 452. وذكر ابن قدامة في المغني 5/ 40 هذه المسألة وعلَلها بقوله:"لأنّ رب المال رضي بالبيع، فأخذ الربح، فاستحق العامل عوضاَ، كما لو عقده بإذنه، ولأنه عمل ما يستحق به العوض ولم يسقَم له المسمى، فكان له أجرة مثله كالمضاربة الفاسدة".
ويأتي الكلام على المسألة في ص 213.
(1)
هو عبد الملك بن عبد الحميد بن مهران، أبو الحسن الرقي، من جلّة أصحاب الإمام أحمد. كان الإمام يكرمه ويجلّه ويفعل معه مالا يفعل مع أحد غيره. توفي سنة 274. (طبقات الحنابلة 1/ 212).
(2)
انظر: العدّة 5/ 1604 والتمهيد للكلوذاني 4/ 87 والمسوّدة 451 والمغني 1/ 263. وفي مسائل الإمام أحمد رواية أبي داود 16: "قلت لأحمد: التيمم لكل صلاةٍ أم للحدث إلى الحدث؟ قال: لكل صلاةِ أعجب إليّ ". وسيأتي الكلام على المسألة في ص 208 وما بعدها.
(3)
هو أحمد بن محمد بن الحجاج، أبو بكر المروذيَ، من أصحاب الإمام أحمد. كان إماماً في الفقه والحديث، كثير التصانيف. توفي سنة 275. (طبقات الحنابلة 1/ 56).
(4)
هو مقصور وممدود (شِراء)، والقصر أشهر، وكان الكسائي يقول: مقصور لا غير، انظر مناظرته مع اليزيدي فيه أمام الرشيد في: المصباح المنير (شرى). ووهم من ضبطه "شَرْي".
(5)
هي أرض العراق التي افتتحها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب، سميت بذلك لخضرة زروعها وأشجارها، والخضرة: السواد. (معجم=
ولا يَجوزُ بيعُها، فقيل له: كيف تُشْتَرَى ممن لا يَملِكُ؟ فقال: القياسُ كما تقول، ولكن هو استحسان. واحتج بأن أصحابَ النبي صلى الله عليه وسلم رَخصُوا في شِرَى المصاحفِ وكَرِهُوا بَيْعَها، وهذا يُشبِهُ ذاك
(1)
.
وقال في رواية بكر بن محمد
(2)
فيمن غَصَبَ أرضاً وزرعها: الزَّرعُ لرب الأرضِ، وعليه النفقةُ، وليس هذا شيئاً يُوافِقُ القياسَ.
أَستَحْسِنُ أن يَدْفَعَ إليه نَفَقَتَه
(3)
.
وقد جعل القاضي أبو يعلى المسألةَ على روايتين، ونصَرَ هو وأتباعُه كأبي الخطَاب
(4)
وابن عَقِيل وابن
= البلدان 3/ 272).
(1)
انظر: العدة لأبي يعلى 4/ 1182، 1394، 1398، 1605 والتمهيد للكلوذاني 4/ 87 والواضح لابن عقيل 1/ 144 أوالمسودة 452 وبدائع الفوائد 4/ 124. والآثار في كراهية بيع المصاحف أخرجها عبد الرزاق في المصنف 8/ 110 - 113 والبيهقي في السنن الكبرى 6/ 16 وابن أبي داود في المصاحف عن ابن عباس وابن عمر وبعض التابعين، ورخص بعضهم في بيعها. وسيأتي الكلام على المسألتين فيما بعد (ص 221).
(2)
أبو أحمد النسائي الأصل، البغدادي المنشأ. صحب الإمام أحمد وأخذ عنه، وروى مسائل كثيرة، وكان الإمام أحمد يقدمه ويكرمه.
(طبقات الحنابلة 1/ 119).
(3)
انظر: العدة 5/ 1605 والتمهيد للكلوذاني 4/ 87 والمسودة 452 وبدائع الفوائد 4/ 124. وراجع المغني 5/ 234 - 236 حيث نقل الرواية وتكلم على المسألة. وسيأتي مزيد البحث عنها في ص 219.
(4)
هو محفوظ بن أحمد الكَلْوذاني صاحب كتاب "التمهيد في أصول-
[الزاغوني]
(1)
القولَ بالاستحسان كقول أصحاب أبي حنيفة وفسر هؤلاء وهؤلاء الاستحسان الذي يقولون به بأنه ترك الحكم إلى حكم هو أولى منه. وقيل: هو أولى القياسين
(2)
. قالوا- وهذا لفظ القاضي
(3)
-: والحجةُ التي يُرجَعُ إليها في الاستحسانِ فهي الكتابُ تارةً، والسُّنةُ أُخرى، والإجماعُ ثالثةً. والاستدلال بترجحِ
(4)
شَبَهِ بعضِ الأصولِ على بعضِ.
كما
(5)
قلنا بالاستحسان لأجْلِ الكتابِ في شهادة أهل الكتاب على المسلمين في الوصية في السَّفَر إذا لم نَجدْ مسلما"
(6)
.
= الفقه ". توفي سنة 510. (ذيل طبقات الحنابلة 1/ 116).
(1)
لم يكتب المؤلف بعد "ابن" من المقصود به، ولعله "ابن الزاغوني " فهو من أبرز العلماء اتباعًا لمنهج أبي يعلى في الأصول والكلام، وقد وصل إلينا كتابه "الإيضاح في أصول الدين". توفي سنة 527.
(ترجمته في ذيل طبقات الحنابلة 1/ 180).
(2)
العدّة 5/ 1610 والتمهيد 4/ 92 والواضح 1/ 144 أ- ب.
(3)
العدّة 5/ 1607 - 1609.
(4)
كذا في الأصل وبدائع الفوائد، وفي العدة:"يرجح".
(5)
كذا في الأصل، وفى العدّة:"فمما".
(6)
لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ)(المائدة: من الآية 106)،. وانظر: المغني 9/ 183 وتفسير القرطبي 6/ 346، وسبب نزول الآية عند البخاري (2780) من حديث ابن عباس. وسيأتي الكلام على المسألة فيما بعد، ص 225.