المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ضمان النفوس والأموال مبناه(4)على العدل - جامع المسائل - ابن تيمية - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌بين يدي الكتاب

- ‌فتوىفي الغوث والقطب والأبدال والأوتاد

- ‌ب.• أحاديث الأبدال

- ‌الشخص الذي يدور عليه أمر من الأمورِ هو قطبُ ذلك الأمرِ

-

- ‌ قول القائل: "الغوث الذي تنتهي إليه حوائج الخلق

- ‌مازال الناسِ يُجْدِبون ويستولي عليهم العدو، وهذا الغوثُ لا ينفع ولا يَدفع

- ‌فصل

- ‌ هذه الأمصار كانت في أول الإسلام ديارَ كفر، لم يكن بها أحد من أولياء الله

- ‌إذا كان الأبدالُ الأربعون أفضلَ الأمة فمن الممتنع أن يكونوا في زمن علي بالشام

- ‌فصل

- ‌إذا كان العبد يناجي ربَّه ويخاطبه، والله يَسمعُ كلامَه ويجيب دعاءَه، فأين حاجتُه إلى الوسائط

- ‌قاعدة في الاستحسان

- ‌ نفقةَ الصغيرِ وأجرةَ مُرضِعِه على أبيه دونَ أمِّه

- ‌ جواز إجارة الظئْر

- ‌جواز الإجارة

- ‌جواز القرض والقراض

- ‌القول بالاستحسان المخالفِ للقياسِ لا يمكنُ إلاّ مع القولبتخصيصِ العلَّةِ

- ‌ القرعةَ منسوخة بآية الميسر

- ‌ العقوبةَ الماليةَ منسوخةً بالنهي عن إضاعةِ المال

- ‌تحقيق هذا الباب أنه إما أن يُعلَم استواءُ الصورتين في الصفات المؤثرة في الشرع، وإما أن يُعلَم افتراقُهما، وإما أن لا يُعلم واحدٌ منهما

- ‌ متى ثبتَ الحكم في بعض الصوَر دون بعضٍ عُلِم أن العلَّة باطلة

- ‌لا يكون الاستحسان الصحيح عدولاً عن قياس صحيح، والقياس الصحيح لايجوز العدول عنه بحالٍ

- ‌تارةً ينكرون صحةَ الاثنين

- ‌هذا استحسان بفرقٍ رآه مؤثراً

- ‌قاعدة في شمول النصوص للأحكام

- ‌ عنوان الكتاب وتوثيق نسبته إلى المؤلف

- ‌ وصف النسخ الخطية

- ‌نماذج من النسخ الخطية

- ‌فصلفي شمول النصوص للأحكام وموافقة ذلك للقياس الصحيح

- ‌ ضَمَانُ النفوس والأموال مبناهُ(4)على العدل

- ‌ النصوصُ محيطةٌ بجميع أحكام العبادِ

- ‌ قد يَقْصُر فَهْمُ كثيرٍ من الناس عن فَهْمِ ما دلَّت عليه النصوصُ

- ‌لا للإسلام نَصَرُوا ولا للأعداء كَسَرُوا

- ‌ا: ردّ القياس الصحيح

- ‌فهرس المصادر والمراجع

الفصل: ‌ ضمان النفوس والأموال مبناه(4)على العدل

ولهذا قال تعالى: (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا)

(1)

. فبيَّن أنه لا يكلف النفوس

(2)

إلاّ وسعها، لا يكلّفها من القسط الذي أُمِروا به ما يعجزون عن معرفته، ولهذا يقال: هذا أمثل من هذا وأشبه، أي أقرب إلى العدل الثابت في نفس الأمر، الذي لا يمكنُ العبادَ معرفتُه، وإنما كلِّفوا من ذلك ما يُطيقونه، وهو الأقرب إليه. ولهذا يقال لمثل هذه الطريقة: المُثْلَى، ثم كل قوم يسمون ما يرونه أقربَ إلى العدل: الطريقة المُثْلَى، ويقولون: هذا أمثل، كما قاله فرعون:(ويذهبا بطريقتكم المثلى (63))

(3)

.

ولهذا كان‌

‌ ضَمَانُ النفوس والأموال مبناهُ

(4)

على العدل

، كما قال:(وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)

(5)

، وقال (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ)

(6)

، وقال:(فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم)

(7)

.

والتماثل المأمور به معتبرٌ

(8)

بحسب الإمكان، والاجتهادُ في

(1)

سورة الأنعام: 152.

(2)

س: "أن النفوس".

(3)

سورة طه: 63.

(4)

"مبناه" ساقطة من ع.

(5)

سورة الشورى: 40.

(6)

سورة النحل: 126.

(7)

سورة البقرة: 194.

(8)

س: "معتبرا".

ص: 259

معرفة التماثل هو من باب الاجتهاد الذي اتفق عليه العلماء: مُثبِتو القياس ونُفَاتُه، وقد يكون في نوع من الأنواع، وقد يكون في عيني معيَّنه، ويُسمَّى تحقيق المناط. كَاختلافهم في المظلوم بالضرْب واللَّطْم ونحوِ ذلك

(1)

، مما لا

(2)

يُمكِن فيه أن يفعل بخصمه مثل ما فعل به من كل وجه. فأيما أقربُ إلى العدل: أن يُقتَص منه، ويُعتَبر التماثل بحسب الإمكان، كما كان

(3)

الخلفاء الراشدون وغيرهم من الصحابة يفعلون ذلك، وهو المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم

(4)

؛ أو أن يُعزَّر الظالم تعزيرًا يُرَدُّ إلى اجتهاد الوالي؟ على قولين. والأول هو المنصوص عن أحمد، وهو قول جمهور السلف، والثاني قول طائفة من متأخري أصحابه، وهو المنقول عن أبي حنيفة ومالك والشافعي، قالوا: لأنه لا يمكن فيه المماثلة، والقصاص لا يكون إلاّ مع المماثلة.

ونَظَرُ

(5)

الأول أكمل

(6)

، وهم أَتبعُ للكتاب والميزان للنصّ

(1)

انظر "إعلام الموقعين"(1/ 318 وما بعدها)، و"السنن الكبرى" للبيهقي (8/ 65 - 66).

(2)

"لا" ساقطة من س.

(3)

س: "قال".

(4)

أخرجه البخاري (6894 ومواضع أخرى) ومسلم (1675) عن أنس.

(5)

س: "نظير" تحريف.

(6)

انظر كلام المؤلف على هذا الموضوع في "مجموع الفتاوى"(11/ 547 - 548، 18/ 168 - 169، 20/ 564 - 565، 28/ 379 - 380، 34/ 162 - 163، 227، 232).

ص: 260

والقياس، لأن المماثلة [من كل]

(1)

وجهٍ متعذرة، فلو لم يبقَ إلاّ أحدُ أمرينِ: قصاصٌ قريب إلى المماثلة، أو تعزير بعيد عن المماثلة، فالأول أولى؛ لأن التعزير لا يُعتَبر فيه جنس الجناية ولا قدرُها، بل قد يُعزره بالسَّوط أو العصا، وتكون إما لَطمة بيده، وقد يزيد وينقص، وكانت العقوبة بجنس ما فعلَه،/ [161/ب] وتَحرِّيْ المماثلة

(2)

في ذلك بحسب الإمكان في ذلك أقربُ إلى العدل الذي أمر اللهُ به، وأنزل له الكتابَ والميزان.

وكذلك تنازعً العلماءُ في المُتْلَف من المال

(3)

، إذا لم يُوجَد مثلُه من كل وجهٍ، كالحيوان والآدميين والعقار والثياب والأبنية، وأكثر المعدودات والمذروعات، فمنهم من قال: لا يجب في ذلك إلاّ القيمة بنقد البلد، فيُعطَى المظلومُ الذي فُوتَ عليه حَفُه من الدراهم ما يُقاوَم به ذلك في الشُوق

(4)

. وقالوا: لأن المثل في الجنس متعذر.

ثمَ مِن هؤلاء مَن طَردَ قياسَه، فقال: وكذلك إذا تلف صيده في الحرم والإحرام، إنما تجب قيمتُه كما لو كان مملوكًا، وقالوا: لا يجوز قَرضُ ذلك، لأن موجب القراض ردّ المثل، وهذا لا مثلَ

(1)

ساقطة من النسختين، والاستدراك من "إعلام الموقعين"(1/ 321).

(2)

"وتحري المماثلة" مطموسة في س. وفي ع: "تجري" تصحيف.

(3)

انظر "مجموع الفتاوى"(30/ 332 - 333، 18/ 169)، و"إعلام الموقعين"(1/ 322).

(4)

ع: "ما يقاربه ذلك المسروق"!

ص: 261

له، فلا يجوز قرضه، وهذا قول أبي حنيفة.

ومنهم من خرج عن موجب هذا القياس في الصيد، لدلالة الكتاب والسنة وآثار الصحابة على أن الصيد يضمن بمثله من النَّعَم

(1)

، وهو مثل مُقَيَّد بحسب الإمكان، ليس مثلاً من كل وجه، وهو في النعامة بدنة، وفي بقرة الوحش بقرة، وفي الظبي

(2)

شاة.

وهذا قول الجمهور مالك والشافعي وأحمد. وهؤلاء يجوِّزُون

(3)

قرض الحيوان أيضًا

(4)

، لأن السنة دلَّت عليه، فإنه قد ثبت في الصحيح

(5)

أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف بَكْرًا، وقضى جَملاً خِيَارًا رَبَاعِيًّا، وقال:"إن خياركم أحسنكم قضاء".

ثمّ

(6)

من هؤلاء من قال: إن [كان]

(7)

القرضُ حيوانًا رد قيمته، طردا للقياس أصله في الإتلاف، فإنه قال: كما يضمن في

(1)

قال تعالى: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ)[المائدة: من الآية 95]. وفي السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الضبع بكبش. وانظر، مجموع الفتاوى" (20/ 352 - 353).

(2)

س، ع:"الضبي" تحريف.

(3)

س: "لا يجوز" خطأ.

(4)

انظر "مجموع الفتاوى"(29/ 532) و"إعلام الموقعين"(1/ 322).

(5)

مسلم (1600) من حديث أبي رافع. ورواه أيضًا مالك في "الموطأ"(2/ 680) وأحمد (6/ 390) والدارمي (2568) وأبو داود (3346) والترمذي (1318) والنسائي (7/ 291) وابن ماجه (2285).

(6)

ع: "لكن".

(7)

زيادة على النسختين ليستقيم السياق.

ص: 262

الغصب والإتلاف بالقيمة، فكذلك

(1)

في القرض، إذ لا مِثْلَ له. وهذا قولٌ في مذهب أحمد وغيره، وقال الأكثرون: بل يجب المثل من الحيوان بحسب الإمكان، كما دلّت عليه السنة، وهذا هو المنصوص عن الأئمة.

واختلفت

(2)

أقوالهم في الغَصْب والإتلاف، فتارةً يقولون:

يضمن بالقيمة، وتارةً يقولون: يضمن ما سوى الحيوان بالقيمة، وتارةً يقولون: بل الجميع يضمن بالمثل بحسب الإمكان. وهذه الأقوال الثلاثة في مذهب أحمد. وقد اختلف في ذلك قول

(3)

مالك والشافعي أيضًا، فقال الشافعي في الجدار المهدوم ظلمًا: يُعادُ مثلُه، وقال في مواضع: يضمن بالقيمة.

ولم يكن مع من يوجب القيمة في الإتلافِ من النصوص إلاّ قولُ النبي صلى الله عليه وسلم

(4)

: "من أعتقَ شِركا له في عبدٍ، وكان له من المال ما بلغَ ثمنَ العبد، فقُوِّمَ عليهِ قيمةَ عدلٍ، لا وَكْسَ ولا شَطَطَ، وأُعْطِيَ شُركاؤُه حِصَصَهم، وعَتَقَ عليه العبدُ".

قالوا: فالنبي صلى الله عليه وسلم أوجبَ في نصيب الشريك القيمةَ، ولم يُوجِبْ نصفَ عبدٍ، ولو كان العبد يضمن بالمثل لأوجبَ نصف عبد.

(1)

س، ع:"وكذلك".

(2)

س: "واختلف".

(3)

س: "يقول".

(4)

أخرجه البخاري (2521 - 2525 ومواضع أخرى) ومسلم (1501 وبعد رقم 1667) عن عبد الله بن عمر.

ص: 263

وهذا غلطٌ على الشارع، فإن هذا ليس من باب ضمانِ المتلف، بل هو من باب تملك ملك

(1)

الغير بالقيمة، فإنّ نصيبَ الشريك يملكه المعتق ثم يعتق عليه بعد ذلك، لا يتلفه قبل أن يملكه

(2)

، بخلاف ما لو قتله، فإن ذلك إتلاف. والعلماء القائلون بالسراية متفقون على أنه يعتق على ملك الغير والولاء

(3)

دون الشريك. وتنازعوا هل يَسْرِيْ عَقِبَ الإعتاق، أو لا يُعْتَق حتى يؤدي الثمن؟ على قولين مشهورين لهم: الأول هو المشهور في مذهب الشافعي وأحمد، والثاني قول مالك، وهو قول في مذهب الشافعي وأحمد، وهو الصحيح في الدليل

(4)

، كما قد بُسِط في موضعه

(5)

.

وعلى هذا فإذا أدَّى هل يُعْتَق من حينِ الأداء، أو يتبيّن أنه عتق من حين الإعتاق؟ على قولين.

وعلى هذا يَنْبني لو أعتقَ الشريكُ نصيبَه بعد عتق الأول، فعلى القول الذي ذكرنا أنه الصحيح يجوز عتقُه، وعلى الآخر لا يجوز.

وعلى هذا يَنْبني إذا قال أحدُهما: إذا أعتقتَ نصيبَك

(6)

فنصيبي حر، فعلى القول الذي بينا رجحانَه يصحُّ هذا التعليقُ، ويُعْتَقُ

(1)

كذا في النسختين، وفي "الإعلام" (1/ 324):"ممال".

(2)

ع: "يملك".

(3)

ع: "ما لو كان".

(4)

ع: "في القولين".

(5)

انظر "مجموع الفتاوى"(13/ 231 - 232).

(6)

ع: "أعتق نصيبه".

ص: 264

نصيبُ الشريكِ المعلقُ من مالِه، وعلى القول الآخر لا يصحُّ التعليقُ، ويُعْتَقُ كفُه من نصيب المعتق إن كان مُوسِرَا، وإن كان المعتق مُعسِرَا صحّ وعَتَقَ عليهما على القولين.

وأيضا فإنه يُفرَّق بين أن يكون المُتْلَفُ

(1)

عينَا كاملة أو بعضَ عينِ، فإذا كان/ [162 أ]، المتلف

(2)

بعضَ عينٍ فإنه إن وجب نُظِرَ ذلك الجزءُ، لكن بحسب القيمة إذا طلبها الشريكُ، فإن كان المشتركُ

(3)

مما ينقسم عنه، وإلّا بيْعَ إذا طلب أحدُهما ذلك، وقسمَ الثمنُ، فلو أتلفَ أحدُ الشريكينَ عينَا مشتركة تُمكِنُ قسمتُها، فالواجب جز مقسوم لا مُشاع إذا طلب أحدُهما ذلك، وإن تراضيا بالشركة وَجَبَ جزءٌ مشترك، وإن كان مما لا تُمكِن قسمتُه فإنما يَجِبُ نصفُ عينٍ إذا تراضيا بذلك، وإلّا وَجَبَ نصفُ القيمة لأجلِ وجوبِ القيمةِ.

والمقصود هنا أن الذين يُوجبون في ضمان المُتْلَفِ القيمةَ ليس معهم أصلٌ يُقِيمون

(4)

عليه قولًهم، لا كتاب ولا سنَّة، وإنما هو رأي محض، ظَنوا أن المثلَ إنما يكون في القيمة. ثمَ مَن طَردَ منهم قياسَه ظهر تناقضُه

(5)

للكتاب والسنة، ومن لم يَطْرده ظهر مناقضتُه

(1)

ع: "التلف"

(2)

ع: "التلف".

(3)

"فإن كان المشترك" مطموسة في س.

(4)

ع: "يقيسون".

(5)

س: "مع تناقضه".

ص: 265

ومخالفته لبعض النصوص أيضًا.

وهذا الأصل هو الحكومةُ المذكورة في كتاب الله

(1)

، التي حكَمَ فيها داودُ وسليمانُ إذ حَكَما في الحرث الذي نَفَشَتْ فيه غنَمُ القوم، والحرث هو البستان، وقد روي أنه كان بستانَ عنَبٍ الذي يُسمَّى الكَرْمَ، ونَفْشُ الغنمِ إنما يكون بالليل، فقضى سليمانُ بالضمان على أصحابِ الغنم، وأن يضمنوا ذلك بالمثل، بأن يَعْمُروا البستانَ حتى يعودَ كما كان. وأما مُغَلُّه مِن حِيْنِ الإتلافِ إلى حينِ الكمالِ فأعْطَى أصحاب البستان ماشيةَ أولئك، ليأخذوا من نمائِها بقدر نماءِ البستانِ، وقد اعتبرَ النَّماءَيْنِ فوجدهما سواءً. كما أن داود لمّا حكمَ لأصحاب البستانِ بالغنم نفسِها قد اعتبر قيمتَها، فوجدَها بقدر ما أُتْلِف

(2)

من البسمتان، ولم يكن لهم مالٌ غيرُها، وقد رَضُوْا بأخذِها ما لم يُطالبوا بدراهم، أو تعذَّر بيعُها بدراهم.

وقد تنازع علماءُ المسلمين في مثلِ هذه القضية على أربعة

(1)

قال تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آَتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) [سورة الأنبياء: 78 - 79]. وقد تكلم المؤلف على قصة داود وسليمان هذه في "مجموع الفتاوى"(20/ 305 - 306، 563 - 564، 30/ 333).

(2)

ع: "قيمة التلف".

ص: 266

أقوال

(1)

:

فمنهم مَن حَكَم بمثلِ حُكم

(2)

سليمان عليه السلام في النَفْشِ وفي المثل، وهذا هو الصواب، وهو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وقد ذُكِر

(3)

ذلك وجهًا في مذهب الشافعي ومالك.

والثاني: موافقتُه في النَّفْشِ دون المثل، وهذا هو المشهور من مذهب مالك والشافعي وأحمد.

والثالث: بالعكس، وهو موافقتُه في المثل دونَ النَّفْشِ، وهو قولُ من قاله من أهل الظاهر كداود وغيره.

والرابع: أن النفْشَ لا يُوجِبُ الضمانَ، ولو كان لم يكن بالمثل بل بالقيمة، وهو مذهب أبي حنيفة.

وهذا من اجتهاد العلماء في القياس والتمثيل الذي اتفقوا على صحةِ أصلِه، فإنهم متفقون على ما دلَّ عليه القرآن من أن جزاءَ سيئةٍ سيئةٌ مثلُها، وأن المعاقبةَ تكون بالمثل، وأنّ من اعتدى يعتدى عليه بمثل ما اعتدى

(4)

. فما كانت المماثلةُ فيه ظاهرةً لم يتنازعوا فيه،

(1)

انظر "إعلام الموقعين"(1/ 326).

(2)

"حكم" ساقطة من س.

(3)

ع: "ويذكر".

(4)

قال تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا)[الشورى: 40]، وقال:(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ)[سورة النحل: 126]، وقال:(فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)[البقرة: 194].

ص: 267

كما لو أتْلَفَ مَكِيلاً أو موزونًا متماثلَ الأجزاءِ، كالدرهم والحِنْطة ونحو ذلك، فإن الواجبَ هنا المِثْلُ إذا أمكن. وكذلك يجبُ في القرضِ مِثْلُ ذلك.

وكذلك لم يتنازعوا فيما ظَهرتْ فيه المماثلةُ في القصاص، كما لو قَطَعَ عُنُقَه بالسيف، فاتفقوا على أنه يُقْطَعُ عنقُه بالسيف.

ولكن تنازعوا فيما إذا قتلَه بالجرحِ في غيرِ العنقِ، أو بغير القتلِ كالتحريق والتغريق

(1)

: هل يُفْعَل به كما فَعَل- كما يقوله مالك والشافعي وأحمد في

(2)

إحدى الروايات-؛ أو لا قَوَدَ إلاّ بالحديد في العُنُق- كقول أبي حنيفة واْحمد في إحدى الروايات-؛ أو يُفرق بين الجرح المُزْهِق وغير المُزْهق- كالرواية الثالثة عن أحمد-؛ أو بين المُزْهق وما كان مُوجبًا للقَوَدِ بنفسِه كقطع اليد، وبين ما ليس من هذين النوعين- كالرواية الرابعة عن أحمد-؟

فهذا من اجتهاد العلماء في

(3)

تحقيق القياس والعدل والتماثل الذي اتفقوا على اعتبارِه، متى

(4)

تعذرتِ المماثلةُ المطلقةُ من كل وجه. والذي يدكُ عليه النصُّ والاعتبار الصحيحُ هو القول الأول، وهو أن يُفعَل به كما فَعَلَ، فإن ماتَ بذلك، وإلّا قُتِل، فإن النبي

(1)

انظر "مجموع الفتاوى"(18/ 168، 20/ 351 - 352، 28/ 314، 381)، و"إعلام الموقعين"(1/ 327).

(2)

"في" ساقطة من س.

(3)

"في" ساقطة من س.

(4)

س: "حتى" تحريف.

ص: 268

- صلى الله عليه وسلم أَمَرَ برَضْخِ رأسِ اليهوديِّ الذي رَضَخَ رأس الجارية، لما اعترفَ بأنه قتلَها

(1)

، وكان/ [162 ب] هذا قَتْلاً بالقصاصِ لا بِنَقْضِ العَهْدِ، إذْ لو قَتَلَه بمجرد نقضِ العهد- كما يُقْتَل الحربيُّ الأسِيْرُ- لقَتَلَه في العنق. وأيضًا فالعدلُ في أن يُفْعَلَ به كما فَعَلَ أقربُ من أن تُضْرَبَ عنقُه بالسيف، مع كونه حَرَّقَ الأولَ، أو قَطَعَ أربعتَه، أو مَثلً به.

وقد أباحَ اللهُ أن نُمَثلِّ بمن مَثَلَ بنا، وإن كانت المُثْلَةُ بدون ذلك منهيًّا عنها بقوله تعالى:(وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ)

(2)

، فدلَّ على أن التمثيلَ بجَدْعِ الأنفِ والأذنِ هو من العقوبة بالمثل.

وإذا قِل: هذا يُفضِي إلى أن يُؤخذ أكثر.

قيل: وما ذكرتم يُفضِي غالبًا إلى

(3)

أن يُؤخَذَ أنْقَص من الواجب. وهذا أقربُ إلى المماثلة، فإنه يكون تارةً أكثرَ، وتارةً يكون أنقصَ، ولكن هذا أقرب إلى العدل من الذي يكون دائمًا أنقص.

وإذا قيل: في غير الجرح المزهق ربما نقص منه، فيُفضي إلى جرحه مرتين.

(1)

أخرجه البخاري (6876، 6884 ومواضع أخرى) ومسلم (1672) عن أنس بن مالك.

(2)

سورة النحل: 126.

(3)

"إلى" ساقطة من س.

ص: 269

قيل: لو ضربه في العنق فلم يَمُتْ

(1)

، كان له أن يضربه ثانيةً بالاتفاق، وإن كان في ذلك ضرب مرتين، لأن هذا أقربُ إلى العدل.

والمقصودُ بهذا أن ننبه على أن الناسَ يتنازعون في التماثل الواجب، حيث اتفقوا على وجوب المثل، وأن الاجتهادَ في مثل هذا متفق عليه، فكذلك التماثلُ في غير هذا يتنازعون فيه، وذلك مما يدل على أن تنازعُ الناسِ في كثير من القياس لا يَمنعُ أن يكونَ أصل القياسِ- الذي يُقاس فيه الشيءُ بمثلِه وضدِّه- قياسًا صحيحًا، فاعتبارُه بمثله يُوجِب قياسَ الطَرْدِ الذي يُوجِب التسويةَ بينهما، واعتبارُه بضده يُوجب قياسَ العكس الذي يوجب تَضَاد حكمهما.

كما إذا اعتبرنا دم السمكِ الذي

(2)

تُباح ميتتُه بدمِ ما لا تُباح ميتتُه، فقلنا: يجب أن نفرَق بين الدمين، لأن ذلك لا يُبَاحُ إلاّ بسَفْحِ دَمِه، وهذا يُبَاحُ بدون سَفْحِ دَمِه، فدل على افتراقِ حكم الدميْنِ.

وكذلك الوتر لما ثبتَ بالسنة الصحيحة أنه يُصفَى على الراحلة

(3)

، ثبتَ بذاك الفرقُ بينَه وبينَ الواجباتِ التي لا يجوز فعلُها على الراحلة، فعُلِم أنه مُفارِق لها لا مماثل لها.

والطَرْدُ هو قياسُ الجمع، والعكسُ هو الفَرْقُ، والجمع والفرقُ

(1)

س: "يرجه"، والمثبت من ع.

(2)

س: "التي".

(3)

أخرجه البخاري (999، 1000 ومواضع أخرى) ومسلم (700) عن ابن عمر.

ص: 270

يكون بالأمور المعتبرة في الجمع، فيُجْمَعُ بين ما جمع الله بينه، ويكون الجمعُ والفرقُ بالأوصافِ المعتبرةِ في حكم الله ورسوله. فهذا كفُه من الميزان الذي أنزلَه

(1)

الله مع رسوله

(2)

، كما أنزلَ اللهُ الكتابَ.

(1)

س: "أنزلها".

(2)

ع: "رسله".

ص: 271